الفصل الثامن

العدمية

العدمية Nihilism اسم قديم كان وما زال يُطلَق على المذاهب الفلسفية القائلة بأن لا شيء موجود ولا شيء يمكن أن يُعلم — على نحو مذهب غورغياس اليوناني أستاذ ثوسديدس كبير المؤرخين، ومذهب فيختي الألماني تلميذ كنْت وأستاذ شلنج. وقد أنالها تورجنيف الروسي معنًى جديدًا؛ إذ نَعَت بها في رواياته أشخاصًا تناولتهم الحالة الفكرية الشائعة يومئذٍ في طبقة المتعلمين الرُّوس. ولئن أَلِفَ الناس الخلط بين الفوضوية والعدمية والنظر إليهما سويًّا كمنتهى التطرف والحدة الثوروية، فَلِأَنَّ حكومة القيصر الأوتقراطية أوجدت هذا الخطأ وأذاعته لتبرير ما تأتيه من ضغط ومقاومة، فوحَّدت في أحكامها جماعة المتنوِّرين الأحرار ودعاة التهويش واللانظام.

على أن العدمية في وجهها الأوَّلي غير الفوضوية وإن أشبهتها. أمَّا وجه الشبه ففي كونهما معًا مغالاة في إثبات الفردية وإنكارًا لكل سلطة وقيد وشريعة، وأمَّا وجه الاختلاف ففي أن العدمية بدأت مسالمة بُعيد جلوس القيصر إسكندر الثاني سنة ١٨٥٥ وبقِيَت فكرية معنوية إلى سنة السبعين. وكان القيصر المذكور ارتقى العرش مجاهرًا بميله إلى الإصلاح والتسويَة بين رعاياه، فما تمَّ له في سنوات حكمه الأولى إخراج بلاده من حروبٍ اشتبكت بها مع الدول حتى تحوَّل إلى الإصلاح الرئيسي الذي طالما نادى به وهيَّأه كُتَّاب الرُّوس في القرن المنصرم، فجاء لوطنهم أهم حوادث التاريخ في ذلك القرن؛ وهو أن القيصر ألغى نظام الاسترقاق سنة ١٨٦١، والثلاثون مليونًا الذين كانوا يعملون للموالي ولا أرض لهم ولا حرية أصبحوا مستقلين عن سادتهم، ورأى الأحرار في ذلك فاتحة عهد جديد فبُعِثت المواهب والقوى، وبرزت العقول الراجحة، وكثر عدد المفكرين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين والشعراء والروائيين، وقاموا يحاربون ليس الأثرة السياسية بل الأثرة الأدبية في جميع أنواعها، ويحرِّرون الفرد من قيود الدين وطغيان المجتمع ومزاعم الوسط، بما فيها المزاعم الثوروية الذائعة يومذاك في أوروبا الغربية. وبعد أن هاجموا العقيدة والاصطلاح هاجموا العيلة مشعرين المرأة التي قضت حياتها أَمَةً بأنَّ جميع صنوف الحرية — ابتداءً من حرية الحبِّ — حِلٌّ لها.

•••

ومن أساطين هذا المذهب ومن أنبلهم غاية وأكثرهم بديعية بطرس لفروف، الذي يرى أن الحوادث الاجتماعية في تطوُّرها العلمي أو الأخلاقي والفلسفي الثلاثي إنما منها ما يظلُّ في نمو مستمر، ومنها ما يقف جامدًا فيتقهقر إلى رجعية الانحلال والفساد. وبين ذلك النمو الحي والبقاء الميت يتعدَّى الماضي على المستقبل فيختلُّ التوازن، ويظهر في ذلك الطور حدث جديد هو ما يُسمُّونه المرض الاجتماعي. وليس لعلوم الاجتماع من غرض سوى معالجة هذا المرض وضبط التوازن في آلة المجتمع. ولقد كان حكماء الماضي يرون الخلاص بالاحتفاظ بالتقاليد، وإذا بالأحفاد يجدون في ذلك العلة الكبرى؛ إذ لا جمود في الخليقة. ولَمَّا كان المجتمع تابعًا للطبيعة في سُنَّة التحوُّل تحتَّم عليه إحداث نُظم تلائم احتياجات معقولة هي كل يوم في ازدياد.

يهدم التطوُّر صورًا قديمة ويُبدع صورًا جديدة على يد أشخاص يخلقهم التطوُّر نفسه وقلَّ مَن فَهمهم في محيطهم، وكلما تعالَوْا إلى المثل الأعلى أفرط العامة في الاستخفاف بهم ودفعهم عنهم؛ لأنهم «لا يُشبِهون جميع الناس». على أن نفوذ هؤلاء الأفراد وفوزهم النهائي إنما يتعلَّق بما عندهم من شجاعة وإقدام واعتقاد بأن الحرية الفردية المطلقة يجب أن تكون دعامة المدنية الجديدة الحقة؛ لأن الإنسان حر، ولو كانت فكرة الحرية وهْمًا لوجب الأخذ بها لأنها وهْم ضروري للرقي.

وللرقي عنده وجهان: النظري والعملي. والعمل على غير معرفةٍ وبال؛ فيجب تفهُّم الرقي في معانيه كلها سواء أَوُجِدَتْ عندنا أم رأيناها حوالينا، حتى إذا ما تشبَّع الفكر منا معرفةً واستنارةً انضممنا إلى أقلية المجاهدين في اتجاهٍ معين ضد سخافة العصر واستئثار الماضي.

الفردية في هذا المذهب عظيمةٌ أهميتُها خالدٌ أثرُها؛ فالأفراد أحدثوا الحاضر الذي كان بالأمس يُخال مستحيلًا وقد أصبح اليوم وقوعه عجيبًا؛ فعلى كلٍّ أن ينهض مناديًا بفكرته قائمًا بتنفيذها بنشاط وقوة، ولتحمل بعد ذلك موجةُ القدرية التاريخية شخصيته ونتائج أعماله إلى محيط الشخصيات والأعمال العامة؛ فذلك لا ينفي أن إقدام الفرد الواحد أو إحجامه إنما هو في بناء المستقبل جزء لا ينحل.

ومع اعتراف لفروف بأن المشاكل الحاضرة موفورة التعقيد صعبة الحل، وأن الشرط الأعظم للإصلاح هو تبديل النظام الساري بنظام يُرضي مطالب العمَّال وسواهم؛ أي إنه مع قوله بالحرية والمساواة في معناها العصري، فهو يُعلِّق على الوحدة العائلية أهمية كبيرة. ورغم إنكاره جميع أنواع الحكم ومجاهرته بأن السيطرة الدينية لن تعود إلى ما كانت عليه، فهو أبعد المفكرِّين عن حذف الأخلاق الحميدة من الحياة الاجتماعية، بل هو يدعو كلًّا إلى تثقيف نفسه وإصلاحها لتكون حياته مثالًا ولتُرَى نظرياته محققَّة في أعماله. أمَّا غرضه من تعظيم الفرد في فرديته وخبرته وعمله واستقلاله، فهو تهيئة عيشة حسنة هنيئة لملايين الأشخاص الضئيلة المجهولة المؤلِّفة المستقبل طوعًا أو كرهًا. وهو لا ينفكُّ عن مخاطبة الفرد قائلًا: «جاهد لذلك المستقبل ولا تنسَ أن المندحر إنما هو ذاك الذي يعترف باندحاره.»

جهاد الأفراد لخير الإنسانية دين وغاية عند لفروف. وهو وإن كان عدميًّا متطرفًا، إلا أن مبادئه الأخلاقية ومثل حياته الشخصية غيَّرت معنى العدمية التي لم تعد تعني النفي والإنكار على الإطلاق، بل نفي «المرض الاجتماعي» الحاضر وإنكار «تعدِّي الماضي على المستقبل». بَيْدَ أنه راسخ الإيمان يثق بمستقبلٍ خيِّر فيدعو إلى تهيئته بصوتٍ محرِّض مقنع.

وأيُّ متعلِّمٍ زكيٍّ في هذا العصر وفي كل عصر لا يكون عدميًّا بعض العدمية على طريقة لفروف؟ أيُّ مُستنيرٍ يعلم أن التطور ناموس الحياة ولا يُبصر الجثث الاصطلاحية التي ينحني المجتمع أمامها، والزوائد الخرافية التي تشين الأديان، والخلل في محاسن القوانين والشرائع؟ أيُّ نفس تتألم وترى الآخرين يتألمون فلا تنهض محتجَّة سرًّا أو علنًا؟ ومن ذا الذي يُسمِّيه الناس عظيمًا فتتناقل ذكرَه الأجيال إن لم يكن ذاك الذي يقضي على قديم ضار ويوجِد جديدًا نافعًا في عالم الأدب أو العلم والتشريع والاجتماع والاختراع؟ ولكنْ ما كل جديد بالنافع ولا كل ثائر بالصائب؛ فكم من تمرُّد ليس إلا تطاولًا ومباهاة! وكم من مُعدِم كالجزار أو الجلاد يفعل ليتقاضى الأجرة! وكم من مدمِّر لا يسوقهُ سوى ما دفع ذلك الخامل إلى إحراق هيكل أفسس البديع يوم ولادة الإسكندر!

•••

ولئن لم يكن جميع دعاة الثورة وأشياعها من درجة لفروف، فإن تلك العدمية لم تكن من الرُّوس مكابرةً وتعنُّتًا، بل نتيجة لازمة لما قاسى الشعب من الجور وهضم الحقوق، ولم تجئ سنة السبعين حتى انتهى للعدمية طور الفكر وابتدأ طور العمل؛ ذلك أن الإصلاحات التي وعد بها القيصر ظل بعضها حِبرًا على ورق، ونُفِّذ البعض الآخر تنفيذًا ناقصًا جاء بآلام جديدة دون أن يشفيَ الآلام الماضية؛ فأخذ العدميون ينتشرون في المدائن والقرى مختلطين بالشعب ليُحيوا حياته ويطَّلعوا على احتياجاته فيبتون بينه روح الثورة بالمنشورات والخطب والأحاديث والتعاليم. بينا كان المنفيون اختيارًا أو إرغامًا يوصلون إلى الأمم صوت الشعب طالبًا الانعتاق من نير الأوتقراطية. وقد انضمت النساء إلى الرجال في نشر المذهب الجديد وإنهاض تلك الجماهير الكثيفة من هُوَّة الذل المألوف والعبودية المقبولة. وتعدَّدت مراكز التآمر في أنحاء أوروبا، ومن أهم تلك المراكز مدينة زوريخ؛ حيث كثرت الطالبات الروسيات الثائرات، فجاءهنَّ الأمر القيصري بمغادرة سويسرا والعودة إلى الروسيا، فعُدْن يُذِعْنَ تلك الآراء المُهيِّجة في الداخل، وكانت دعوتهنَّ الممتزجة بدعوة الرجال صراخًا وعويلًا يستحث النفوس على الكفاح لخلاص الوطن وخلاص الإنسانية؛ فالتهبت القلوب، واستبسلت الجماهير، وامتدت تلك العدوى الوطنية إلى الكهول والشيوخ من ذوي الوجاهة والحيثية والمستقبل المكفول كالقضاة والضباط وسواهم.

وخشيَ القيصر تفاقم الشر فأوقف تنفيذ المشروعات الإصلاحية مطلِقًا يد الحكومة في الضغط والمقاومة لقمع الهياج؛ فاشتدت العدمية من جهة أخرى لا سيما بتأثير باكونين محرِّض الفلاحين على المطالبة بإتمام الإصلاحات الدستورية، وعصيان بولونيا، وانتشار الاشتراكية في أوروبا؛ فإذا بالعدمية فوضوية مجازفة مستهترة، وإرهاب دموي جنوني يناصب الكيان السياسي، غير متبصِّر ولا هائب في ارتكاب الجنايات، واغتيال ذوي المكانة، والتدمير والفتك المعتزم. وقد بلغ حده الأقصى في مقتل القيصر نفسه سنة ١٨٨١.

ومرَّت الأيام والعدميون يُرهَبون بالاغتيال والهدم والتشويش ويُرهَبون بالتعذيب والنفي والإعدام، وبقيت الحكومة تطاردهم ذرافاتٍ ووحدانًا وتقضي على الزعماء والرؤساء منهم، حتى أدركوا الحقيقة القاسية وهي أنهم في هذا الصراع الهائل مغلوبون؛ فقلَّ عددهم شيئًا فشيئًا، وضعفت حدَّتهم، واختفت حركتهم متوحدة والحركة الفوضوية إزاء الرأي العام.

ولكن أيعني الاختفاءُ الفناءَ؟ تُرى ألم يبقوا عاملين سرًّا في الروسيا وفي مختلِف البلدان بعد انسحابهم من ميدان الإرهاب العلني؟ ألم يكن لهم ولو يد خفية تجهيزية في الانقلاب الأعظم الذي لم تُسْتَجْلَ منه بعدُ العوامل الكثيرة المشتبكة؟

منذ نصف قرن تقريبًا كتب محرِّض كبير من محرِّضي الرُّوس — وأعني به هرزن الذي تُوُفِّيَ في باريس — كتب يقول ما معناه: «إن مطلب الروسيا هو مطلب أوروبا بأسرها؛ الثورة الاجتماعية. غير أن أوروبا التي نفدت حيويتها في نهضتين عزَّزت بهما تاريخها لا تعيش الآن إلا بعلاقتها بالماضي الذي تتعثر فيه أنَّى توجهَت؛ فلن تصطلح حتى يصلحها أحد بلدَين؛ فإما ولايات أمريكا المتحدة، وإما الروسيا التي دخلت حديثًا في ميدان التاريخ، والمستقبل لهذه حتمًا لأنها طليقة من التقاليد ولم تنمُ بعدُ النُّموَّ الموافق لطبيعتها، ولسوف تغتنم الفرص لإظهار ما عندها من القوى الفتيَّة والمَقدرة المدهشة فيبتدئ فيها الإصلاح والتعديل.»

من ذا يعرف لهرزن هذا الرأي ولا يحسبه نبوءة بعد الانقلاب البلشفيكي؟ لستُ لأزعم أن البلشفية أصلحت العالم، ولكنها من الحول والتهديد بحيث قبلت أن تُفاوضنا وتتعاهد معها الحكومات الأخرى ومنها الملكية المحافظة. وكيف لا يجيء بمثل هذه النبوءة مَن وقف على طبيعة الشعب الروسي وممكناته المتنوعة المكنونة؟ أذكر أني حضرت خلال الصيف المنصرم في كازينو سان استفانو حفلة خيرية لمساعدة المهاجرين الرُّوس، وقد تشكَّل جوق رجال منهم ليُنشدوا بلغتهم بعض الأناشيد القومية. من ذا يستطيع التعبير عما تلازب في ذلك الإنشاد من جموح وشكيمة، وفاعلية وانفعال، وغم وذل ونصر باهر؟ من ذا يستطيع وصف تلك الوجوه يبدو فيها تارةً الخشوع والتوسُّل، وطورًا العتو والوعيد؟ تهبُّ من أصواتها الأعاصير وتنفجر الصيحات، فيتزلزل المكان وتكاد تخرُّ الجدران، فيدرِّبها ترنيم هادئ على وتيرة واحدة كلُّه حزن وتجلُّد وخضوع. ولا تلبث الريح الزعزعان أن تعود إلى الصعق والعصف الشديد ممثلة هدير البحار، وولولة العناصر، ووعورة المنحدرات، ورعب الآفاق الجوفاء. ولعلِّي أدركت في تلك الساعة — بل في لحظة من تلك الساعة — قوة النفس السلافية المصطخبة الصاخة، ولعلي فهمت في تلك اللحظة من الاضطرابات الثوروية والحدة البلشفية والأهوال النهلستية ما لا تشرحه المجلدات. وقد يكون أننا في تلك اللمحات السريعة نسبر من غور النفس ما لا نصل إليه عن طريق الاستقراء والتدليل.

•••

كلَّا، ليس المتفائلون بالمغبونين ولا المتشائمون بالمتعسفين؛ فإن كل جماعة عكفت على جانب من الفطرة البشرية الكثيرة التناقض والتنوع. ألا ترى أن ذاك القائد الذي لا يأبه لمشهد الأشلاء يُغمَى عليه إذا شمَّ رائحة الجبن، وذاك المحارب الذي اعتاد النوم على الصخور والحصى يأرق إذا تاهت وريقة ورد على أنسجة فراشه الوثير، وذلك المحرِّض الذي لا يرتوي إلا بدم الأبرياء يقضي ضحية امرأة لعوب مثل غامبتا ولاسال وغيرهما. ومَن لا يذكر وقفة إمبراطور ألمانيا على مرتفع ينظر إلى ساحة القتال في غد معركة كبيرة، وما وقعت عيناه على الخراب والقتلى حتى هطلت دموعه قائلًا: «لم أُرِد هذا!» فدعت صحف الحلفاء تلك الدموع ﺑ «دموع التمساح». ولكنها ربما كانت دموعًا صادقة كما صدقت بعدها حملات الألمان على أراضي بلجيكا وفرنسا؛ لأن التناقض في الطبيعة ولأن الحرب هي الحرب. هي صورة الحياة في أشد الهيجان والحدة فالصراع صارم لجوج. وإنْ أنت تمهَّلت رحمةً بعدوِّك سبقك هو إلى الفتك بك دون رحمة ولا تمهُّل!

اجتمعتُ بعد الصلح بكاهن توفَّر فيه الصلاح والذكاء والعلم، كان حارب على خط النار ونال الميداليات والأوسمة. وإذ قلتُ له إنما كنت أتأثر له بنوع خاص بين أخبار الحرب هو خبر التطاعن بالسلاح الأبيض؛ ابتسم وأخذ يصف لي لذة الطعن والتجريح عندما تخترق الحربة جسم العدو، وأنَّ من ذاق هذه اللذة مرة أو مرتين لا يستطيع الإمساك عن البحث عنها بهوس في المعارك غير مبال بالخطر. وزاد بما يؤيِّد الرأي القديم، وهو أن الإنسان إن لم يكن له من الدين أو من الأخلاق الفردية أو من القانون وازع وتمكَّن من أخيه، فالضواري دونه فظاعةً وحيلةً في ابتداع أساليب التعذيب، ليس للدفاع عن نفسه أو للانتقام والتشفِّي فحسب، بل أحيانًا للَذَّة القسوة والإيلام، أو لمجرد اللهو وقتل الوقت. وإن أكبر آفات الحرب المشروعة في نظره هي إطلاق تلك الغريزة الوحشية في الإنسان، وتشجيعه على إرضائها وتشديدها بمختلِف صنوف التشجيع.

إن أهل المذاهب التدميرية يريدون للجميع ما حُرِّم على الأكثرين؛ فهم ككل اختصاصي لا يرون من الأشياء سوى نقطة واحدة يحسبون بها الخلاص وبدونها الهلاك، والغاية عندهم تبرر الواسطة، وقد يوجد بينهم الثوروي الفاضل المدفوع بعاطفة حب الإنسانية؛ فتكون الأحوال وحدها مسئولة عن حدته، وعما يأتيه أو يشير بإتيانه من الجرائم؛ لأن من الناس الصلاح لا خوفًا ولا طمعًا بل بنزوعهم الفطري إلى الصلاح نزوع الموسيقِي إلى الموسيقَى والشاعر إلى الشِّعر، والرياضي إلى الرياضيات. ولكن أولئك أقلية صغيرة هي خميرة الدهور، والأكثرية الساحقة تحتاج إلى قانون يلجمها ويهذبها. إن الأنانية مصدر كل عمل، ولا يُعقل أن ينفع المرء ويجاهد لمصلحة الآخرين دون أن يفكِّر في مصلحته الشخصية. وعندما يهتدي إلى ذلك الموضع الحساس من حياته فكثيرًا ما يجاهد لنفسه باسم الجمهور؛ ذلك لأن الحسد يجاور الحاجة في الإنسان، وكما أن في قلبه جوعًا إلى التودُّد والإعزاز وتوقًا إلى أن يكون محبًّا محبوبًا، ففيه كذلك قوة كبيرة للكره والتنافس؛ فقد يتمرَّد ويشكو ويثور لأنه مظلوم يطلب حقه، وقد يفعل أيضًا لأنه خامل تلهبه الغيرة ولا يستطيع الوصول إلى مرتبةِ مَن هو فوقه، فيجرِّب المشاغبة والنقض والحرق والتشنيع، فإن نال بغيته فذاك، وإلا فقد حَرَم غريمه من النعمة؛ وذاك في النفس المنتقمة سرور كبير. وحتى بين المتآمرين على الهدم ترى كلًّا يشدُّ الحبلَ إلى جهته.

حسنٌ أن نعطف على التعساء وأن نتوجع للفواجع التي تمرِّر حياة الآخرين وحياتنا أيضًا. حسنٌ وواجب أن نسعى كلٌّ في بابه لإسعاد إخواننا وتحرير أنفسنا، على شريطة أن نعرف الطبيعة البشرية ونُلِمَّ بكيفية معالجتها؛ إذ لا منفعة بحُسن النية إذا هي قُرِنت بالجهل؛ فمرض الولد وسوء أخلاقه كثيرًا ما ينتج عن حب الوالدة الجاهلة، وحب الدين مع التعصب أشعل المحرقات وأجرى الدماء، وحب الوطنية والإنسانية عند روبسبير وسواه جزَّ أعناق النساء والأطفال والشُّبان والشيوخ. فهل جنت الإنسانية والوطنية والعقائد من وراء ذلك رُقيًّا خصوصًا؟

ذلك هو الإنسان. وتعاليم الأديان الكبرى السبعة لم تصقل منه بعد عشرات الدهور غير القشرة الخارجية. ونظرةٌ إلى أحوال العالم تُرينا كبائر الطمع والحسد والنهب والتضليل حبًّا بالأذى وطلبًا للسيادة سواء بين الأفراد والأفراد، والجماعات والشعوب، والأحزاب والدول. وإن كان هناك من يحب الانزواء والمسالمة بفطرته فمن ذا يكفي الناس شرَّ الناس؟ من ذا يكفي العقلاء شرَّ المتطاولين إن لم يكن النظام وممثلوه؟ أيُّ نظام؟ النظام الاجتماعي المقارب لنظام الطبيعة! فإن عنصر الحياة نفسه تدفُّقٌ وانتظام معًا، وإذا تعذَّر تعريف نوع النظام فهذا لا ينفي أن استبداد الفرد الواحد يؤثِّر على استبداد الجميع بالجميع.

•••

أعترف بضعف هذا المنطق ووهن هذه الحجة إزاء إغارات الساخطين، وأعترف بضرورة الثورات أحيانًا؛ ففي السلم لا تجرؤ الأفراد على العمل مهما رثَّت الأنظمة وبليت، وبعض المشاكل الاجتماعية لا يُحلُّ بغير هجمات الكواسر، كما أن بعض الأمراض المزمنة لا يُشفى بغير العمليات الجراحية؛ فعند وضع دعائم المستقبل على أنقاض الماضي لا بد من قوة أولئك العتاة ووحشيتهم التي لا تتأثر لدموع النساء، ولا تخجل بضرب الفئوس.

تأتي الأزمات فترى الأمةُ نفسها عند هُوَّةٍ فاغرةٍ؛ فينصح الحكماء والعقلاء بالرجوع إلى الوراء والسير بتبصُّر حول حرف اللُّجَّة، ولكن المجموع يتدافع هدَّادًا كالبحر فيقتحم الحواجز والسدود، وتقع منه الصفوف الأولى فتملأ الهاوية ويسير الباقون فوق الجثث. والإنسانية غير ضنينة بأبنائها لأن قواها غير متناهية.

الثورات ضرورية لجرف النُّظم البائدة، الثورات ضرورية لتجديد القوى وإيحاء الجرأة والإقدام، ولكنها لا تنفع لغير ذلك. إن المذاهب الثورية من الاجتماع بمثابة الزعازع من الطبيعة والزلازل والطوفانات. ولئن كان لكلٍّ من هذه القوى فائدته في الخليقة رغم ما يجرُّ من خراب ودمار، فهل يمكن أن تكون مقذوفات البركان الفوَّار نظامًا للساكنين حواليه؟!

كروبتكن! كروبتكن! أنت الذي كنت من أهل الوحي والرؤيا قبل أن تصير مليك المؤامرات السياسية، وتناسيتَ مرتبتك لتمتزج بالشعب شاعرًا بجوع الجائع، ووحشة المنفى، ويأس المحكوم عليه، وعار المرأة الساقطة! أنت الذي عرفت أُبَّهة بلاط القياصرة١ وإكرام المجامع العلمية قبل أن تُسجن في الحصن المطلِّ على نهر النيڤا، وتهرب مجازفًا بحياتك إلى حيث عشتَ فقيرًا محتاجًا تبتاع قوتك بعمل يدك! لقد أنكرتَ البلشفية، فهل قضيتَ راضيًا عن المذاهب الفوضوية؟ هل ظللتَ على يقينك حتى حافَّة القبر؟ هل قضيتَ راضيًا واثقًا بأن المستقبل لجماعتك؟

وهْمَان كبيران يقودان الحياة؛ في أحدهما يحسبُ المرء نفسه حرًّا في العبودية على شرط أن تُغيِّر اسمها وشكلها — وإن ظلَّ جوهرها ثابتًا لا يتغيَّر. وفي الآخر يعتقد المرء بصلاح البشر الفطري اعتقادًا مطلقًا. فهل تستطيع أن تقول الآن بعد أن شفَّت بصيرتك بنور الخلود أيُّ الوهمين أقلُّ خطرًا؟ وأنت الذي كنت زعيم الوهم الثاني، هل تستطيع أن تُنبِّئنا لماذا لا نفتأ نؤلم بعضنا بعضًا؟ ولماذا — ما دام الناس صُلَّاحًا — قضيتَ أنتَ عمرك في محاربة «الصالحين»؟

١  كان كروبتكن مثل باكونين يحمل لقب برنس، ولكنه كان رفيعًا بشخصيته لا بلقبه، لا سيما وأن «برنسات» الروسيا لا يزيدون أهميةً عن «برنسات» إيطاليا أبناء إخوة الباباوات أو «أمراء» لبنان على شيوع الألقاب بينهم دون قانونٍ شأنها في البلدان الأخرى. وهذا اللقب ليس أرفع من squire الإنجليزية، ولقد سأل سائل في العدد ٢٥٨ من «اللطائف المصورة» لمناسبة مقتل للبرنس سعيد حليم: هل أمير معرَّب برنس، وإذا كان لقب برنس خاصًّا بالعائلة المالكة فكيف كان بسمارك برنسًا؟ والجواب أن أمير تعادل برنس دون أن تترجمها حرفيًّا؛ فإن Princeps اللاتينية معناها الأول، وهي تطلق على أبناء الملك المالك وأحفاده، فيقف اللقب عند ذرية معينة لا يعود يحمله سوى الولد البكر. ثُم صار الملوك يهبون الألقاب منحةً ومكافأةً، وكذلك صار بسمارك برنسًا. أما لفظة أمير فكانت في البدء تطلق على من كان عمله الأمر في الجيش. وما زلنا نجد أثرها في أميرالاي أو قائد الألاي وأميرال؛ أي قائد البحر … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤