الفصل الرابع عشر

في لندن

كان شقيقي الأصغر في لندن عندما نزل المريخيون في «ووكينج». كان طالب طبٍّ يستعد لامتحان وشيك، ولم يسمع شيئًا عن وصول المريخيين حتى صباح السبت. تضمنت صحف الصباح يوم السبت — إلى جانب مقالات خاصة مطولة عن كوكب المريخ وعن الحياة على سطح الكواكب وغيرها — برقية مختصرة مصاغة بعبارات غامضة، وربما كان إيجازها أكثر ما يلفت النظر فيها.

ذكر الخبر أن المريخيين — الذين أزعجهم اقتراب أحد الحشود — قتلوا عددًا من الأشخاص بمدفع سريع الطلقات. اختتمت البرقية بالكلمات: «على الرغم مما يبدو من هول المريخيين، فإنهم لم يبرحوا الحفرة التي سقطوا فيها، والواقع أنهم يبدون عاجزين عن ذلك. يرجع هذا على الأرجح إلى القوة النسبية لطاقة الجاذبية الأرضية.» وعن هذه الكلمات الأخيرة، استفاض كاتب المقال الرئيسي بلهجة مطمْئِنة.

لا شك أن جميع الطلاب في صف علم الأحياء — الذي ذهب إليه شقيقي ذلك اليوم — كانوا مهتمين للغاية، لكن لم تكن هناك أي أمارات على وجود إثارة غير عادية في الشوارع. ذكرت صحف المساء القليل من الأخبار تحت عناوين كتبت بخطوط عريضة. لم يكن هناك ما يقولونه باستثناء تحركات القوات حول المرعى، واحتراق غابات الصنوبر بين «ووكينج» و«وايبريدج»، وذلك حتى الساعة الثامنة. بعدها أعلنت صحيفة «سانت جيمسيس جازيت» حقيقة انقطاع الاتصالات التلغرافية. اعتُقد أن سبب ذلك هو سقوط أشجار صنوبر محترقة فوق شبكة الخطوط. لم يكن هناك المزيد من الأخبار عن القتال تلك الليلة؛ ليلة ذهابي إلى «ليذرهيد» وعودتي منها.

لم يشعر شقيقي بالقلق علينا، لأنه علم من الوصف الوارد في الصحف أن الأسطوانة سقطت على بعد ميلين من منزلي. كان قد عقد العزم على أن يزورني تلك الليلة حتى يتمكن — على حد قوله — من رؤية تلك «الأشياء» قبل موتها. أرسل لي برقية — لم تصلني قط — نحو الساعة الرابعة، وقضى تلك الأمسية في إحدى قاعات الموسيقى.

ضربت عاصفة رعدية لندن أيضًا مساء السبت، ووصل شقيقي إلى «ووترلو» مستقلًّا إحدى سيارات الأجرة. وعلى الرصيف الذي يتحرك منه قطار المساء عادة، علم — بعد فترة من الانتظار — أن حادثًا حال دون وصول القطارات إلى «ووكينج» تلك الليلة. لم يتبين طبيعة ذلك الحادث؛ الواقع أن سلطات السكة الحديدية لم تكن على علم واضح بالأمر في ذلك الوقت. لم يكن هناك سوى أقل القليل من الاضطراب داخل المحطة؛ ذلك أن المسئولين — الذين لم يدركوا أن شيئًا آخر بخلاف العطل بين نقطة اتصال «بايفليت» و«ووكينج» قد حدث — كانوا يشغلون القطارات التي غالبًا ما تمر عبر «ووكينج» من طريق «فيرجينيا ووتر» أو «جيلدفورد». كانوا مشغولين بعمل الترتيبات اللازمة لتغيير مسار رحلات «ساوثامتون» و«بورتسميث سانداي ليج». ترصّد أحد مراسلي الصحف المسائية لشقيقي — الذي ظنه مدير حركة القطارات لما يحمله من شبه بسيط معه — وحاول إجراء حوار معه. قليلون من الأشخاص — باستثناء مسئولي السكة الحديدية — ربطوا تعطل حركة القطارات بالمريخيين.

قرأت — في وصف آخر للأحداث — أنه في صباح الأحد «اهتاجت لندن بأثرها من الأخبار الواردة من ووكينج». والحق أنه لم يكن هناك ما يبرر تلك العبارة المفرطة في المبالغة. الكثيرون من سكان لندن لم يسمعوا بأمر المريخيين حتى وقع ما وقع من ذعر صباح الاثنين. ومن سمعوا استغرقوا بعض الوقت ليستوعبوا كل تلك البرقيات التي صيغت في عجالة في صحف الأحد. غالبية السكان في لندن لا يقرءون صحف الأحد.

فضلًا عن ذلك فإن عادة الطمأنينة الشخصية متأصلة لدى سكان لندن، والأخبار المروعة في الصحف أمر عادي للغاية، حتى إنهم يقرءونها دون رجفة: «نحو الساعة السابعة الليلة الماضية خرج المريخيون من الأسطوانة، وتحركوا مستترين بدروع معدنية حيث أتوا على محطة «ووكينج» ومعها المنازل المجاورة، وذبحوا كتيبة كاملة من سلاح الفرسان. لم ترد أي تفاصيل بعد. لم يجد المدفعان طراز ماكسيم أي نفع في مواجهة دروعهم، فضلًا عن أنهم عطلوا المدافع الميدانية. كان الفرسان يعدون بجيادهم داخل «تشيرتسي». يبدو أن المريخيين يتحركون ببطء نحو «تشيرتسي» أو «وينزر». سادت حالة من القلق الشديد غرب «سَري»، بينما تقام المتاريس لتعوق تقدمهم نحو لندن.» هذا ما أوردته صحيفة «صانداي صن»؛ بينما شبه مقال بارع مفصل أُعد في عجالة لافتة للنظر في صحيفة «ريفيري» الحادث بمعرض حيوانات برية أُطلق سراحها داخل إحدى القرى.

لم يعرف أحد في لندن يقينًا طبيعة المريخيين المدرعين، وكانت لا تزال هناك فكرة ثابتة عن أن تلك الوحوش لا بد أن تكون متثاقلة الحركة؛ فتعبيرات مثل «تزحف» و«تتسلل بمشقة» كادت ترد في جميع التقارير السابقة. لم تُكتب أي من البرقيات من قِبل شاهد عيان على تقدمهم. أصدرت صحف الأحد طبعات منفصلة كلما وردت أخبار جديدة، بل وأحيانًا في ظل غياب تلك الأخبار. لكن لم يكن هناك ما يقال للناس حتى وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة عندما أدلت السلطات بما لديها من أنباء لوكالات الأخبار. ذُكر أن الناس في «والتون» و«وايبريدج» وجميع الضواحي يتدفقون على الطرق المؤدية إلى لندن؛ كان هذا كل شيء.

ذهب شقيقي إلى الكنيسة في مستشفى «فاوندلينج» في الصباح وهو لا يزال على غير علم بما حدث الليلة السابقة. وهناك سمع تلميحات عن الغزو، وصلوات خاصة كي يحل السلام. وأثناء خروجه اشترى نسخة من صحيفة «ريفيري». تملكه الفزع من الأخبار، وذهب مجددًا إلى محطة «ووترلو» ليتحقق من عودة الاتصالات. يبدو أن الحافلات والعربات والدراجات والأعداد الهائلة من الأشخاص الذين يسيرون في الشوارع مرتدين أفضل ملابسهم لم يتأثروا بالأخبار الغريبة التي ينشرها بائعو الصحف. كان الناس متشوقين؛ أو إن كانوا خائفين، فخوفهم لم يكن إلا على السكان المحليين. في المحطة سمع للمرة الأولى أن خطوط «وينزر» و«تشيرتسي» تعطلت. أخبره الحمَّالون أن العديد من البرقيات المهمة استُقبلت في الصباح من محطتي «بايفليت» و«تشيرتسي»، لكنها توقفت فجأة. لم يستطع شقيقي أن يحصل منهم إلا على أقل التفاصيل الدقيقة.

كانت أقصى معلوماتهم: «ثمة قتال وقع حول «وايبريدج».»

سادت حركة القطارات حالة من الاضطراب الشديد الآن. كان عدد كبير من الأشخاص الذين ينتظرون وصول أصدقاء من أماكن على شبكة «ساوث-ويسترن» يقفون حول المحطة. جاء رجل مسن أشيب وأخذ يكيل سبابًا لاذعًا لشركة «ساوث-ويسترن» في وجه شقيقي. قال: «لا بد أن ينفضح أمرهم.»

وصلت بضعة قطارات من «ريتشموند» و«بيوتني» و«كينجستون» تحمل أشخاصًا خرجوا لقضاء يوم من التنزه في الزوارق ووجدوا الأهوسة مغلقة وحالة من الذعر تسود الأجواء. تحدث رجل يرتدي سترة رياضية تجمع بين اللونين الأزرق والأبيض إلى شقيقي، وكان يحمل الكثير من الأخبار الغريبة.

قال له: «هناك جموع غفيرة تصل إلى «كينجستون» في عربات ومعها صناديق محملة بأشياء قيمة وغيرها. إنهم يفدون من «مولسي»، و«وايبريدج»، و«والتون» قائلين إنهم سمعوا أصوات مدافع في «تشيرتسي»، وصوت إطلاق كثيف للنيران، وإن الجنود أمروهم بالفرار في الحال لأن المريخيين قادمون. سمعنا إطلاق مدافع في محطة «هامتون كورت»، لكننا خلناه رعدًا. ماذا يعني كل هذا؟ المريخيون لا يستطيعون الخروج من حفرتهم؛ أليس كذلك؟»

لم يستطع شقيقي أن يجيبه.

بعدئذ وجد أن الشعور المبهم بالذعر قد امتد إلى روَّاد قطارات الأنفاق، وأن من خرجوا للتنزه يوم الأحد بدءوا يعودون من كل متنزهات «ساوث-ويسترن» — «بارنز»، و«ويمبلدون»، و«ريتشموند بارك»، و«كيو»، وغيرها — في ساعات مبكرة على غير العادة، لكن الأخبار التي كانوا يحملونها لم تزد على كونها شائعات مبهمة. بدا الانفعال على كل شخص موجود بمحطة السكك الحديدية.

نحو الساعة الخامسة بلغ هياج الحشد المجتمع في المحطة كل مبلغ مع فتح خط الاتصال — الذي يكاد يكون مغلقًا دائمًا — بين محطتي «ساوث-إيسترن» و«ساوث-ويسترن»، ومرور شاحنات النقل المحملة بالمدافع الكبيرة والشاحنات المكدسة بالجنود. كانت تلك هي المدافع التي أُحضرت من «ووليتش» و«كاثام» لتغطية «كينجستون». كان ثمة تبادل للمزحات: «سيلتهمونكم!» و«نحن مروِّضو الوحوش!» وغيرها. وبعد فترة وجيزة وصلت فرقة من الشرطة إلى المحطة، وبدءوا يخلون الأرصفة من العامة، وخرج شقيقي إلى الشارع مجددًا.

كانت أجراس الكنيسة تقرع من أجل صلاة المساء، وظهرت فرقة من فتيات «جيش الخلاص» تغنِّي في طريق «ووترلو رود». وفوق الجسر كان عدد من المتسكعين يشاهدون زَبَدًا بنيًّا غريبًا ينجرف مع التيار على هيئة رقع منفصلة. كانت الشمس تغرب لتوها، وارتفع «برج الساعة» و«مبنى البرلمان» في واحدة من أكثر السماوات التي يمكن تخيلها صفاءً؛ سماء ذهبية مخططة بأشرطة عرضية من السحب الأرجوانية الضاربة للحمرة. كان هناك حديث عن جثة عائمة. أخبر رجل — ذكر أنه جندي احتياطي — شقيقي أنه شاهد الهليوجراف يومض ناحية الغرب.

في شارع «ويلينجتون» قابل شقيقي اثنين شديدي البنيان في وجوههما غلظة اندفعا لتوِّهما من شارع «فليت» ومعهما جرائد طُبعت للتوِّ وإعلانات لافتة للنظر. صاح أحدهم للآخر في شارع «ويلينجتون»: «كارثة مروعة! قتال في «وايبريدج»! وصف تفصيلي! هزيمة المريخيين! لندن في خطر!» اضطر شقيقي لدفع ثلاثة بنسات من أجل الحصول على نسخة من تلك الجريدة.

عندها فقط أدرك شيئًا عن قوة تلك الوحوش وهولها. علم أنهم ليسوا مجرد قلَّة من كائنات صغيرة الجسم بطيئة الحركة، وإنما عقول تتحكم في أجسام آلية ضخمة، وأن بوسعها التحرك على جناح السرعة وتسديد ضربات لها من القوة ما تعجز أعتى المدافع عن التصدي لها.

جاء في وصف المريخيين أنهم «آلات ضخمة تشبه العناكب، يبلغ طولها نحو ثلاثين مترًا، تضاهي سرعتها سرعة القطار السريع، ولديها القدرة على إطلاق شعاع ذي حرارة هائلة». اتخذت سريات المدفعية — مدافع ميدانية على وجه الخصوص — المحجوبة عن الأنظار مواقعها في البلدة حول مرعى «هورسيل»، وتحديدًا بين ضاحية «ووكينج» ولندن. شوهدت خمس آلات تتحرك باتجاه نهر «التيمز»، وأسفرت المصادفة السعيدة عن تدمير إحداها. وفي الحالات الأخرى أخطأت القذائف الهدف، وأبيدت سريات المدفعية على الفور بفعل الأشعة الحرارية. قيل إن هناك خسائر فادحة بين الجنود، لكن نبرة البرقية كانت مدعاة للتفاؤل.

دُحضَ المريخيون؛ فهم ليسوا منيعي القوة. تقهقروا مجددًا إلى المثلث الذي تقبع فيه أسطواناتهم حول «ووكينج». كان مرسلو الإشارات بما لديهم من أجهزة الهليوجراف يتقدمون نحوهم من جميع الجوانب. كانت المدافع تُنقل سريعًا من «وينزر» و«بورتسميث» و«ألدرشوت» و«ووليتش»؛ بل من الشمال أيضًا، ومن بينها مدافع مزدوجة السبطانة زنة خمسة وتسعين طنًا قادمة من «ووليتش». وإجمالًا، اتخذت مائة وستة عشر مدفعًا في المجمل مكانها لتغطي لندن. لم تشهد إنجلترا من قبل مثل هذا الحشد الهائل أو السريع للمعدات العسكرية.

انعقدت الآمال على أن أي أسطوانة جديدة تسقط سوف يُقضى عليها في الحال بواسطة مواد شديدة الانفجار كانت تُصنَّع وتوزَّع على جناح السرعة. ورد في الأنباء أن الوضع بلا شك هو الأكثر غرابة وخطورة، لكن استُحِث السكان على التصدي للذعر وتفاديه. المريخيون قطعًا كائنات غريبة ومفزعة إلى أقصى حد، لكن لا يمكن أن يزيد عددهم على أقصى تقدير عن عشرين كائنًا في مواجهتنا نحن الملايين.

كانت السلطات على حق حين افترضت — من حجم الأسطوانات — أنه لا يمكن أن يكون هناك أكثر من خمسة منهم داخل كل أسطوانة؛ أي خمسة عشر إجمالًا. وقد أُبيد واحد منهم على الأقل، وربما أكثر. تلقَّى العامة تحذيرًا بضرورة الابتعاد عن الخطر، واتُّخذت تدابير مشدَّدة لحماية الناس في الضواحي الغربية الجنوبية التي يحيق بها الخطر. وهكذا ومع تكرار التأكيد على أن لندن آمنة وعلى قدرة السلطات على التعامل مع الوضع، كانت نهاية تلك الأنباء.

كُتبت الأنباء بالخط العريض على ورق طُبع لتوه حتى إنه كان لا يزال رطبًا، ولم يكن ثمة متسع من الوقت لإضافة كلمة أو تعليق. قال شقيقي إنه لمن الغريب أن ترى كيف انتُزعت المحتويات العادية للصحف بهذه الشراسة ليحل محلها ذلك البيان.

على طول شارع «ويلينجتون» كان الناس يقلِّبون الأوراق الزهرية في حركة مضطربة، ويقرءون ما بها، وفجأة أصبح شارع «ستراند» صاخبًا بأصوات جمع غفير من الباعة المتجولين يتعقبون هؤلاء النازحين الأوائل. جاء الناس يتدافعون في الحافلات لتأمين نسخهم من الصحف. مؤكد أن تلك الأنباء أثارت الناس أيما إثارة، أيًّا ما كان شعورهم السابق بعدم الاكتراث. ذكر شقيقي أن مصراعي متجر خرائط في شارع «ستراند» قد نُزعت، وأن رجلًا كان يرتدي ملابس أيام الآحاد — ويرتدي حتى القفَّازين ذوي اللون الأصفر الزاهي — شوهد داخل النافذة يثبِّت في عجالة الخرائط الخاصة بمدينة «سَري» على الزجاج.

واصل شقيقي تقدمه في شارع «ستراند» ومنه إلى ميدان «ترافالجار» والجريدة في يده، وشاهد بعض النازحين من غرب «سَري». كان هناك رجل برفقة زوجته وولدين وبعض قطع الأثاث في عربة جر كالتي يستخدمها بائعو الخُضَر. كان يسوق العربة من اتجاه جسر «وستمنستر»، وخلفه بمسافة قصيرة عربة قش بها خمسة أو ستة أفراد يبدو الوقار عليهم، ومعهم بعض الصناديق والصُّرر. كانت وجوههم هزيلة، ومظهرهم العام يناقض بوضوح مظهر راكبي الحافلات الذين يرتدون أفضل الملابس في يوم عطلتهم. أطل الأفراد متأنقو الملابس عليهم من داخل سيارات الأجرة. توقفوا في الميدان وكأنهم لا يعرفون أي طريق يسلكون، وأخيرًا انعطفوا شرقًا عبر شارع «ستراند». خلف هؤلاء جاء رجل يرتدي ملابس العمل مستقلًّا دراجة قديمة الطراز ذات عجلات ثلاث إحداها صغيرة الحجم في المقدمة. كان رثَّ المظهر شاحب الوجه.

استدار شقيقي متجهًا نحو محطة «فيكتوريا»، والتقى عددًا من هؤلاء الأشخاص. خُيِّل إليه أنه قد يراني. لاحظ وجود عدد كبير من رجال الشرطة ينظمون حركة المرور. كان بعض اللاجئين يتبادلون الأخبار مع ركاب الحافلات، وأكد أحدهم أنه شاهد المريخيين؛ «مراجل تنتصب فوق ركائز طويلة، وتخطو خطوات واسعة كالبشر.» كان الشعور بالإثارة والحماسة يسيطر على أغلبهم من جراء التجربة الغريبة التي مروا بها.

بعيدًا عن محطة «فيكتوريا» انتعشت حركة البيع في الحانات مع وصول هؤلاء الوافدين. وعند كل ناصية شارع، كانت مجموعات من الأفراد يقرءون الصحف ويتحدثون بنبرة مشوبة بالإثارة أو يحدقون في هؤلاء الزوَّار غريبي الهيئة. بدا أن عددهم يزداد مع حلول الليل حتى إن الطرق في النهاية — على حد قول شقيقي — صارت مثل الشارع الرئيسي لمدينة «إبسوم» في يوم سباقات الخيول. تحدث شقيقي مع العديد من هؤلاء اللاجئين وحصل على أجوبة غير مُرضية من أغلبهم.

لم يكن بوسع أحدهم أن يخبره شيئًا عن «ووكينج» عدا رجل واحد أكد له أن «ووكينج» قد دُمِّرت بالكامل الليلة السابقة.

قال: «أتيتُ من «بايفليت». جاء رجل يركب دراجة في الصباح الباكر، وكان ينتقل من منزل إلى آخر يحثنا على مغادرة المكان. بعدها جاء الجنود. خرجنا لإلقاء نظرة، ورأينا سحبًا من الدخان ناحية الجنوب … لا شيء غير الدخان؛ لم نر بشرًا يسلك هذا الطريق. بعدها سمعنا صوت المدافع في «تشيرتسي»، وتوافد الناس من «وايبريدج». لذا أوصدت منزلي، وجئت إلى هنا.»

في ذلك الوقت ساد الشوارع شعور قوي بأن السلطات تستحق اللوم بسبب عجزها عن القضاء على الغزاة دون إحداث كل هذا الهرج والمرج.

نحو الساعة الثامنة سُمع بوضوح صوت إطلاق نيران كثيف في كل مكان جنوب لندن. لم يستطع شقيقي سماعه بسبب الزحام المروري في الطرق الرئيسية، لكنه عندما سلك الشوارع الخلفية الهادئة المؤدية إلى النهر استطاع أن يميز الصوت بوضوح شديد.

سار من «وستمنستر» إلى مسكنه قرب منتزه «ريجنتس بارك» نحو الساعة الثانية. كان قلقه عليَّ قد بلغ به كل مبلغ، وتملكه الانزعاج بسبب فداحة الورطة. وجد عقله مشغولًا — كما كان الحال معي يوم السبت — بالعمليات العسكرية. فكَّر في كل تلك المدافع المترقبة الساكنة، وفي الريف الذي ارتحل أهله فجأة، وحاول أن يتخيل صورة «المراجل التي تنتصب فوق ركائز طويلة» والبالغ طولها ثلاثين مترًا.

كانت هناك مجموعات من اللاجئين يمرون من شارع «أوكسفورد»، وكثيرون في طريق «مارليبون رود»، لكن الأخبار كانت تنتشر ببطء شديد حتى إن شارعي «ريجنت» و«بورتلاند بليس» كانا مكتظين بمن اعتادوا التنزُّه مساء الأحد وإن كانوا يتحدثون في مجموعات، وبالقرب من منتزه «ريجنتس بارك» كان هناك عدد كبير من القرَناء يخيم عليهم الصمت وهم «يتنزهون» معًا أسفل مصابيح الغاز المنتشرة على نحو ما كان يحدث هنا دائمًا. كان الليل دافئًا ساكنًا، وقابضًا للصدر بعض الشيء؛ استمر صوت المدافع بلا توقف، وبعد منتصف الليل بدا أن هناك برقًا ورقيًّا ناحية الجنوب.

قرأ شقيقي الصحيفة، وأعاد قراءتها ثانية وقلقه من أن يكون قد أصابني مكروه يسيطر عليه. تملَّكه الضجر، وبعد تناول العشاء خرج مرة أخرى يهيم في الشوارع بلا هدف. عاد إلى مسكنه، وحاول عبثًا أن يصب تركيزه على أوراق الاختبار الذي كان بصدده. ذهب إلى الفراش بعد منتصف الليل بقليل، وأفاق من أحلام مزعجة كانت تراوده في الساعات المبكرة من يوم الاثنين على صوت طرق على الأبواب، وأقدام تجري في الشوارع، وقرع طبول بعيد، وقرع أجراس. تراقصت انعكاسات ضوء حمراء فوق السقف. ظل شقيقي ممددًا برهة وهو يتساءل هل طلع النهار أم أن العالم قد جن جنونه، ثم وثب من الفراش، وهرع نحو النافذة.

كانت غرفته تقع في عليّة المنزل، وعندما دفع برأسه خارج النافذة، كانت هناك في كل مكان في الشارع عشرات الأصوات لنوافذ تُفتح، وأطلَّت منها رءوس يرتدي أصحابها ثياب النوم التي خلت من حُسن الهندام. كان الناس يصيحون بما لديهم من استفسارات. صاح أحد رجال الشرطة وهو يطرق على الباب: «إنهم قادمون! المريخيون قادمون!» ثم انتقل مسرعًا إلى الباب التالي.

جاء صوت قرع الطبول ونفخ الأبواق من ثكنات شارع «ألباني»، واجتهدت كل الكنائس الواقعة على مدى السمع من أجل إيقاظ السكان عن طريق دق أجراس الإنذار في عنف وعشوائية. سُمعت أصوات أبواب تُفتح، وتحولت نوافذ المنازل المقابلة نافذة بعد أخرى من العتمة إلى الإنارة الصفراء.

ومن نهاية الشارع جاءت عربة مغلقة مسرعة، وفجأة أصدرت صوت ضجيج في الزاوية ارتفع حتى بلغ ذروته أسفل النافذة، ثم اختفى شيئًا فشيئًا مع ابتعادها. وخلفها مباشرة جاءت سيارتا أجرة كانتا في طليعة موكب طويل من السيارات المسرعة في طريقها إلى محطة «تشوك فارم» في الأغلب — حيث كان يجري تحميل قطارات «نورث-وسترن» المميَّزة — بدلًا من نزول المنحدر إلى «يوستن».

ظل شقيقي يحدق طويلًا من النافذة في دهشة بالغة يشاهد رجال الشرطة وهم يطرقون الأبواب بابًا بعد باب وينقلون رسالتهم المبهمة. ثم انفتح الباب خلفه، ودخل أحد النزلاء مرتديًا قميصًا وبنطالًا وخفًّا، وحمالتا بنطاله سائبتان حول خصره، وشعره مشعث من أثر النوم.

سأل الرجل: «ماذا يحدث؟ حريق؟ علام هذا الضجيج؟!»

أطل الاثنان برأسيهما من النافذة، وحاولا جاهدين سماع ما كان يصيح به رجال الشرطة. كان الناس يأتون من الشوارع الجانبية، ويقفون في مجموعات يتحدثون عند مفارق الطريق.

قال النزيل المرافق لشقيقي: «علام كل هذا؟»

أجابه شقيقي بعبارات تفتقر إلى الوضوح، وبدأ يرتدي ملابسه وهو يهرع مع كل قطعة يرتديها إلى النافذة كي لا يفوته شيء من ذلك المشهد الذي يزداد إثارة. وحينئذ جاء رجال يبيعون الصحف في موعد مبكر عن موعدها المعتاد وهم يصيحون في الشارع: «لندن على شفا الاختناق! اقتحام أسوار «كينجستون» و«ريتشموند»! مذابح مروِّعة في وادي «التيمز»!»

في كل مكان من حوله — في الغرف الواقعة في الطوابق الدنيا، وفي المنازل على جانبي الطريق وفي الجانب الآخر منه، وفي الخلف وفي العديد من الشوارع الأخرى في ذلك الجزء من «مارليبون» و«وستبورن بارك» و«سان بانكريس»، وغربًا وشمالًا في «كيلبيرن» و«سان جونز وود» و«هامستيد»، وشرقًا في «شورديتش» و«هايبري» و«هاجرستون» و«هوكستون»، بل في كل مكان في لندن من «إيلينج» وحتى «إيست هام» — كان الأهالي يفركون أعينهم، ويفتحون النوافذ ليحدقوا في الطرقات ويطرحوا أسئلة بلا هدف، ثم يرتدون ثيابهم في عجالة مع هبوب أول نسمات عاصفة «الخوف» عبر الشوارع. كانت تلك باكورة الذعر الكبير. استيقظ أهل لندن — الذين خلدوا إلى فرشهم مساء الأحد خُمُلًا غير عابئين بشيء — في الساعات الأولى من صباح الاثنين على إحساس قوي بالخطر.

لم يكن بوسع شقيقي متابعة ما يحدث من النافذة، ولذا نزل إلى الشارع بينما تزداد الشمس سطوعًا بين حواجز شرفات المنازل مع طلوع النهار. تزايدت أعداد الفارِّين على أقدامهم وفي السيارات كل دقيقة. سمع الناس يصرخون: «دخان أسود!» ثم سمعهم مجددًا: «دخان أسود!» كانت الإصابة بعدوى ذلك الخوف الجماعي أمرًا محتومًا. وبينما كان يخالج شقيقي شعور بالتردد على عتبة الباب، رأى بائع صحف آخر يقترب، فاشترى نسخة في الحال. كان الرجل يلوذ بالفرار مع البقية، ويبيع الصحيفة الواحدة مقابل شلن … يا له من خلط غريب بين الشعور بالذعر والرغبة في تحقيق الربح!

وفي تلك الصحيفة قرأ شقيقي تلك البرقية الكارثية الصادرة عن رئيس الأركان:

«بوسع المريخيين أن يُطلقوا سحبًا هائلة من بخار أسود سام باستخدام الصواريخ. لقد أبادوا سريَّات المدفعية، وأتوا على «ريتشموند» و«كينجستون» و«ويمبلدون»، وهم الآن يتقدمون شيئًا فشيئًا نحو لندن يبيدون كل شيء في طريقهم. إيقافهم أمر مستحيل. لا منجى من «الدخان الأسود» إلا بالفرار العاجل.»

كان هذا كل شيء، لكنه كان كافيًا. كان سكان المدينة الكبرى البالغ عددهم ستة ملايين نسمة يتحركون في اهتياج ويركضون مسرعين؛ حينها كان الجميع يتجه شمالًا.

تعالت الأصوات: «دخان أسود!» «حريق!»

أصدرت أجراس الكنيسة المجاورة جلبة حادَّة، وتحطمت عربة جر كانت تتحرك حركة عشوائية — وسط سيل من الصرخات واللعنات — عندما اصطدمت بحوض المياه في الجانب الآخر من الشارع. أضاءت الأنوار الصفراء الخافتة داخل المنازل وانطفأت، وبعض سيارات الأجرة المارة لم تطفئ أنوارها. وفي السماء كان الفجر يزداد سطوعًا في صفاء وثبات وهدوء.

سمع شقيقي وقع أقدام تركض جيئة وذهابًا داخل الغرَف، وصعودًا ونزولًا على الدَّرَج خلفه. خرجت مالكة المكان إلى الباب ترتدي مبذلًا غير مربوط بإحكام وشالًا؛ تبعها زوجها وهو يصيح بأعلى صوته.

حالما بدأ شقيقي يدرك خطورة الوضع، عاد مسرعًا إلى غرفته، ووضع كل ما لديه من مال — نحو عشرة جنيهات — في جيوبه، وخرج مرة أخرى إلى الشوارع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤