الفصل السابع عشر

«فتاة الرعد»

لو كان المريخيون يطمحون إلى الدمار فحسب، لأبادوا مساء الاثنين جميع سكان لندن وهم ينتشرون رويدًا رويدًا في كل المقاطعات المحيطة بالمدينة. تدفق الحشد المهتاج ليس فقط على طول الطريق عبر «بارنيت»، بل أيضًا عبر «إدجوير» و«وولثام أبي»، وعلى طول الطرق المؤدية شرقًا إلى «ساوث إند» و«شوبيرينيس»، وجنوب نهر «التيمز» حتى «ديل» و«برودستيرز». لو أن أحدًا استطاع في ذلك الاثنين من شهر يونيو أن يتدلى من منطاد وسط الزرقة المتقدة فوق لندن، لبدت كل الطرق شمالًا وشرقًا وكأنها مرقطة بنقاط سوداء من أثر اللاجئين المتدفقين؛ كل نقطة تجسِّد كربًا نفسيًّا ومعاناة بدنية. استعرضتُ على نحو تفصيلي في الفصل الأخير قصة شقيقي في الطريق نحو «تشيبينج بارنيت» حتى يدرك القراء المهتمون كيف كانت تبدو تلك النقاط السوداء المحتشدة. للمرة الأولى في تاريخ العالم يتحرك مثل هذا الحشد من البشر ويشتركون في المعاناة معًا. لم تكن الحشود الأسطورية للقوطيين والهونيين سوى قطرة في ذلك السيل. ولم يكن ذلك الزحف منظمًا، بل كان فرارًا جماعيًّا — مهولًا مرعبًا — يفتقر إلى النظام والهدف؛ ستة ملايين فرد عُزَّل غير مزودين بالمؤن يتحركون بسرعة. كانت تلك بداية انكسار الحضارة، ومذبحة البشر.

كان راكب المنطاد سيرى أسفله مباشرة شبكة الشوارع في كل مكان حيث المنازل والكنائس والميادين والحدائق — التي أصبحت مهجورة حينئذ — منتشرة مثل خريطة هائلة مرقطة ناحية الجنوب. وفوق «إيلينج» و«ريتشموند» و«ويمبلدون»، بدا المشهد وكأن قلمًا مهولًا قد قذف ما فيه من حبر فوق الخريطة. وبثبات ودونما توقف، ازدادت كل بقعة وامتدت لتنطلق منها تفرعات هنا وهناك؛ تارة تحشد نفسها قبالة أرض مرتفعة، وتارة تتدفق سريعًا على إحدى القمم في وادٍ مكتشف حديثًا، تمامًا مثلما تنتشر بقعة الحبر فوق ورق النشَّاف.

وبعيدًا فوق التلال الزرقاء التي تعلو جنوب النهر، تحرك المريخيون المتلألئون جيئة وذهابًا، وفي هدوء ونظام أخذوا ينشرون سحابتهم السامة فوق هذه البقعة من المدينة وفوق تلك، ثم يقضون عليها مجددًا باستخدام البخار بعد أن تؤدي الغرض المطلوب منها ويستولون على المدينة المنتزعة. لا يبدو أنهم يسعون إلى الإبادة بقدر ما كانوا يسعون إلى التثبيط الكامل للهمم والقضاء على أي مقاومة. فجروا أي مستودع للبارود كانوا يعثرون عليه، وقطعوا خطوط التلغراف، ودمروا السكك الحديدية هنا وهناك. كانوا يريدون تعجيز البشر. ويبدو أنهم لم يكونوا في عجالة بشأن مد نطاق عملياتهم، إذ لم يبتعدوا عن الجزء المركزي في لندن طوال ذلك اليوم. يجوز أن عددًا كبيرًا من الناس في لندن التزموا البقاء في منازلهم صباح الاثنين، ومؤكد أن الكثيرين لقوا حتفهم في منازلهم مختنقين بفعل «الدخان الأسود».

حتى نحو منتصف النهار، كان حوض السفن في لندن مشهدًا مثيرًا للدهشة؛ إذ كانت السفن البخارية والسفن من جميع الأنواع موجودة بدافع إغراء المبالغ الهائلة من النقود التي يعرضها اللاجئون، ويُذكر أن العديد ممن سبحوا خارج تلك السفن قد دفعتهم خطاطيف الزوارق ولقوا حتفهم غرقًا. نحو الساعة الواحدة بعد ظهر ذلك اليوم، ظهرت الآثار الضامرة لإحدى سحب البخار الأسود بين قناطر جسر «بلاكفرايرز». عندها أصبح حوض السفن مسرحًا للفوضى الجامحة والقتال والاصطدام، ولبعض الوقت تكدست العديد من القوارب والزوارق الكبيرة في القنطرة الشمالية لجسر «تاور بريدج»، واضطر البحارة وقادة الزوارق إلى الدخول في قتال عنيف مع من احتشدوا حولهم من ناحية النهر. كان الناس يتسلقون ركائز الجسر نزولًا من أعلاه.

عندما ظهر أحد المريخيين — بعد مرور ساعة — وراء «برج الساعة» وخاض مياه النهر، لم يكن شيء سوى حطام السفن يسبح فوق «لايمهاوس».

سأرجئ الحديث عن سقوط الأسطوانة الخامسة بعض الوقت. سقط النجم السادس في «ويمبلدون». رأى شقيقي — الذي ظل يراقب المشهد بجوار السيدتين داخل العربة في أحد المروج — وهجه الأخضر بعيدًا فيما وراء التلال. وفي يوم الثلاثاء شقت المجموعة الصغيرة — التي كانت لا تزال عازمة على عبور البحر — طريقها عبر الريف المكتظ بالحشود نحو «كولتشستر». تأكدت الأخبار الخاصة باستيلاء المريخيين على لندن بأسرها حينئذ، إذ شوهدوا في «هايجيت»، بل قيل إنهم شوهدوا في «ناسدن». لكن شقيقي لم يرهم حتى اليوم التالي.

في ذلك اليوم بدأت الحشود المتفرقة تدرك الحاجة الملحة للتزود بالمؤن. ومع زيادة شعورهم بالجوع لم يعد أحد يكترث بحقوق الملكية. خرج المزارعون ليذودوا عن حظائر الماشية ومخازن الحبوب والخضراوات اليانعة حاملين الأسلحة في أياديهم. توجه عدد من الناس الآن — مثل شقيقي — ناحية الشرق، بل إن بعض البائسين عادوا أدراجهم باتجاه لندن بغرض الحصول على طعام. كان هؤلاء القوم في الأساس من الضواحي الشمالية، وكل معرفتهم عن الدخان الأسود كانت مما سمعوه من الآخرين. تناهى إلى أسماعه أن نحو نصف أعضاء الحكومة قد اجتمعوا في «بيرمنجام»، وأن كميات ضخمة من المواد شديدة الانفجار كانت تُعَد للاستخدام في زرع ألغام عبر الأجزاء الداخلية من البلاد.

كان مما سمعه أيضًا أن شركة «ميدلاند ريلواي» قد استبدلت بالعمال الذين فروا وسط موجة الذعر في اليوم الأول عمالًا آخرين، وأنها استأنفت العمل، وكانت تشغل القطارات المتجهة شمالًا من «سانت ألبانز» من أجل تخفيف الزحام في المقاطعات المحيطة بلندن. كانت هناك أيضًا لافتة في «تشيبينج أونجار» تقول إن كميات كبيرة من الدقيق متوافرة في المدن الشمالية، وإنه في غضون أربع وعشرين ساعة سيوزَّع الخبز بين الجوعى في المناطق المجاورة. لكن تلك المعلومة لم تثنِه عن خطة الفرار التي وضعها، وتوجه الثلاثة شرقًا طوال ذلك اليوم، ولم يسمعوا عن توزيع الخبز شيئًا سوى هذا الوعد. والحقيقة أن الآخرين لم يسمعوا شيئًا عنه أيضًا. سقط النجم السابع تلك الليلة فوق تل «بريمروز». سقط النجم بينما كانت الآنسة إلفنستون تراقب الوضع؛ ذلك أنها اضطلعت بتلك المهمة بالتناوب مع شقيقي.

في يوم الأربعاء وصل الفارّون الثلاثة — بعد أن قضوا الليل في أحد حقول القمح غير اليانع — «تشلمسفورد»، وهناك استولت مجموعة من السكان تطلق على نفسها اسم «لجنة الإمدادات العامة» على الحصان دون أن تعطيهم شيئًا في المقابل باستثناء وعد بالحصول على نصيب من المال في اليوم التالي. هنا انتشرت شائعات عن وصول المريخيين إلى «إيبينج»، وأخبار عن الدمار الذي لحق بمصانع بارود «والثام أبي» في محاولة بائسة لتفجير أحد الغزاة.

كان الناس يراقبون المريخيين من أبراج الكنائس. آثر شقيقي — وصادف أن كان ذلك من حسن حظه — مواصلة الطريق على الفور إلى الساحل بدلًا من انتظار الطعام، بالرغم من أن الثلاثة كانوا يتضورون جوعًا. مع حلول منتصف النهار مروا على «تيلينجام» التي بدت — على نحو غريب للغاية — مهجورة وساكنة تمامًا إلا من بعض اللصوص المتسللين بحثًا عن الطعام. بالقرب من «تيلينجام» رأوا البحر فجأة، ورأوا أكثر حشد مذهل من كافة أنواع السفن التي يمكن تخيلها.

بعد أن عجز البحَّارة عن الوصول إلى نهر «التيمز»، قدِموا إلى ساحل «إسكس»، وإلى «هاريتش» و«والتون» و«كلاكتون»، وبعدها إلى «فولنيس» و«شوبيري» لنقل السكان. وقفوا في منحنى منجلي الشكل تختفي نهايته وسط الضباب باتجاه «نيز». وعلى مقربة من الشاطئ شوهد العديد من قوارب الصيد — إنجليزية، وأسكتلندية، وفرنسية، وهولندية، وسويدية — وزوارق بخارية من نهر «التيمز»، ويخوت، وقوارب كهربائية، وعلى مسافة كانت توجد سفن ذات حمولات كبيرة، وحشد من عمال المناجم رثي الهيئة، والتجار المتأنقين، والسفن المخصصة لنقل الأنعام، وقوارب نقل الركاب، وحاويات النفط، وسفن الشحن العابرة للمحيطات، وسفينة لنقل الجند بيضاء قديمة، وسفن ركاب بيضاء ورمادية أنيقة من «ساوثامبتون» و«هامبورج»؛ وعلى طول الساحل الأزرق لنهر «بلاك ووتر»، استطاع شقيقي أن يميز دون وضوح حشدًا غفيرًا من القوارب يتفاوض أصحابها حول السعر مع الأفراد الواقفين على الشاطئ؛ حشدًا امتد هو الآخر على طول نهر «بلاك ووتر» حتى كاد يصل إلى «مالدون».

على بعد نحو ميلين استقرت سفينة حربية مدرعة على عمق كبير في المياه حتى إنها بدت لشقيقي كسفينة غائصة في المياه. كانت هذه «فتاة الرعد». كانت السفينة الحربية الوحيدة على مرمى البصر، غير أنه بعيدًا نحو اليمين أعلى السطح المستوي للبحر — إذ كانت الرياح هادئة تمامًا ذلك اليوم — ظهر دفق متلوٍّ من الدخان الأسود يشير إلى المدرعات الحربية التالية في «تشانيل فليت»؛ تلك المدرعات التي ظلت واقفة في صف ممتد على استعداد للتحرك في الجانب الآخر من مصبِّ نهر «التيمز» أثناء الغزو المريخي، ومع ما كانت عليه من انتباه، فإنها عجزت عن فعل أي شيء للحيلولة دون ذلك الغزو.

عند رؤية منظر البحر استسلمت السيدة إلفنستون للشعور بالهلع على الرغم من تطمينات شقيقة زوجها. لم يحدث من قبل أن غادرت إنجلترا. كانت تفضل الموت على الحياة وحيدة في بلد أجنبي. من الواضح أن المرأة المسكينة قد تخيلت أنه لا فرق بين الفرنسيين والمريخيين. كان شعورها بالهلع والخوف والإحباط يتزايد شيئًا فشيئًا على مدار اليومين اللذين استغرقتهما رحلة الفرار. كانت تفكر في العودة إلى «ستانمور». لطالما كان كل شيء على ما يرام في «ستانمور»، ولربما أيضًا وجدوا جورج هناك.

بصعوبة بالغة نجحا في إنزالها إلى الشاطئ حيث نجح شقيقي بعدها بقليل في لفت انتباه بعض الرجال على متن باخرة من نهر «التيمز». أرسلوا قاربًا، وعقدوا اتفاقًا لنقل الثلاثة مقابل ستة وثلاثين جنيهًا. قال الرجال إن الباخرة متجهة إلى «أوستيند».

كانت الساعة نحو الثانية عندما وجد شقيقي نفسه — بعد دفع أجرة الركوب على سلم السفينة — آمنًا بصحبة مرافقتيه على متن قارب بخاري. وجدوا طعامًا على متن القارب وإن كان بأسعار باهظة، وتمكن الثلاثة من تناول وجبة في مقدمة القارب.

كان على متن القارب عدد كبير من الركاب بعضهم أنفق آخر ما لديهم من مال في دفع أجرة السفر، لكن الربَّان ظل واقفًا عند نهر «بلاك ووتر» حتى الخامسة بعد الظهر يملأ القارب بالركاب حتى اكتظ سطح القارب على نحو منذر بالخطر. كان من الممكن أن ينتظر أكثر من ذلك لولا صوت المدافع التي انطلقت تلك الساعة في الجنوب. وفيما بدا أنه ردٌّ على ذلك، أطلقت المدرعة الحربية طلقة صغيرة ورفعت صفًّا من الأعلام. وانطلق دفق من الدخان من مداخنها.

بعض الركاب رأوا أن صوت الإطلاق قادم من «شوبيرينيس» حتى لوحظ أنه يعلو تدريجيًّا. في الوقت نفسه، وعلى مسافة بعيدة في الجنوب الشرقي ارتفعت صاريات ثلاث سفن حربية مدرعة واحدة بعد أخرى من البحر تغطيها سحب من الدخان الأسود. لكن انتباه شقيقي تحول سريعًا إلى إطلاق النيران البعيد في الجنوب. خيِّل له أنه رأى عمودًا من الدخان يرتفع من بين الضباب الرمادي البعيد.

كانت السفينة البخارية الصغيرة تتحرك في طريقها نحو الشرق وساحل «إسكس» يزداد زرقة وضبابية عندما ظهر أحد المريخيين — صغير الحجم غير واضح المعالم من بعد — يشق طريقه على طول الساحل الطيني من ناحية «فولنيس». عندها أخذ الربَّان يلعن تأخيره بأعلى صوته في غضب وخوف، وبدا أن رعبه قد انتقل إلى البحارة. وقف جميع الركاب على جانب السفينة أو فوق المقاعد يحدقون في ذلك الهيكل البعيد — الذي كان يفوق الأشجار وأبراج الكنائس طولًا — وهو يتقدم بخطى واسعة تحاكي خطى البشر.

كان هذا أول مريخي يراه شقيقي، فوقف — ودهشته تفوق خوفه — يشاهد ذلك العملاق وهو يتقدم قاصدًا السفن ويخوض في المياه أكثر فأكثر مع انحدار الساحل. بعدها وعلى مسافة أبعد ظهر مريخي ثان يخطو خطوات واسعة فوق بعض الأشجار الصغيرة، وبعدها ظهر مريخي آخر يخوض بعمق في بركة طينية بدت وكأنها عالقة في منتصف المسافة بين البحر والسماء. كانوا جميعًا يتقدمون نحو البحر وكأنهم يعترضون فرار حشد السفن المكتظة بالركاب بين «فولنيس» و«نيز». وعلى الرغم من الجهد المحموم لمحركات القارب الصغير، والزبد الذي كانت تطرحه عجلات القارب وراءه، فإنه تقهقر في حركة بطيئة مثيرة للفزع بسبب تقدم المريخيين المنذر بالسوء.

بالنظر جهة الشمال الغربي، رأى شقيقي هلالًا كبيرًا من السفن يتحرك مع تحرك ذلك الهلع الوشيك؛ سفينة تمر وراء أخرى، سفن بخارية تصفر وتطلق كميات هائلة من البخار، أشرعة تُرفع، وزوارق بخارية تندفع هنا وهناك. أُخذ شقيقي للغاية بهذا المشهد وبالخطر المتسلل بعيدًا نحو اليسار، حتى إنه لم يعد ينظر باتجاه البحر. حينها تحركت السفينة البخارية (إذ غيرت اتجاهها كي تتلافى الاجتياح) حركة مفاجئة طرحته من المقعد الذي كان يقف عليه. كان هناك صياح في كل مكان حوله، ووقع أقدام، وهتاف بدا غير مجاب بالكاد. ترنحت السفينة متسببة في تقلبه على يديه.

انتصب على قدميه ورأى إلى اليمين وعلى بعد أقل من مائة متر من سفينتهم المتمايلة كتلة حديدية ضخمة تشبه نصل محراث يشق المياه قاذفًا بها على كلا الجانبين في موجات هائلة من الزبد انطلقت نحو السفينة البخارية، رافعة نصالها عديمة الحيلة في الهواء، ثم دافعة إياها مجددًا لتغوص في الماء حتى يوشك الماء على غمر السطح.

أعمى سيل من الماء شقيقي هنيهة. وعندما استعاد القدرة على الرؤية مجددًا رأى أن الوحش قد تجاوزهم وأنه يندفع نحو اليابسة. ظهر سطح حديدي ضخم من ذلك الهيكل المسرع، ومنه برز أنبوبان أطلقا طلقة دخان ونار. كانت هذه «فتاة الرعد» تتقدم بسرعة من أجل إنقاذ السفن التي يحيق بها الخطر.

أمَّن شقيقي موقع قدميه على سطح السفينة المزدحم بأن تشبث بجانب السفينة، ونظر إلى المريخيين مرة أخرى، فرأى ثلاثة منهم قريبين بعضهم من بعض يقفون على مسافة بعيدة جدًّا في البحر حتى إن دعاماتهم الثلاثية كادت تكون مغمورة بالكامل في المياه. على هذه الحالة ومن هذه المسافة البعيدة، بدوا أقل إثارة للرعب بكثير من الجسم الحديدي الضخم الذي تتمايل في أثره السفينة البخارية على نحو بائس. يبدو أنهم كانوا يشاهدون ذلك الخصم الجديد في دهشة. ربما ظنوا أن هذا الخصم العملاق أشبه بواحد مثلهم. لم تطلق «فتاة الرعد» أي طلقات، بل اكتفت بالتقدم نحوهم بأقصى سرعتها. ربما يكون عدم إطلاقها شيئًا هو ما مكنها من الاقتراب من العدو على هذا النحو، فهم لم يفهموا شيئًا عن ماهيتها. لو أن قذيفة واحدة أُطلقت، لأغرقوها على الفور تحت الأعماق باستخدام الشعاع الحراري.

كانت تنطلق بتلك السرعة حتى إنها في غضون دقيقة بدت في منتصف الطريق بين السفينة البخارية والمريخيين؛ بدت كتلة سوداء متضائلة قبالة الامتداد الأفقي المنحسر لساحل «إسكس».

فجأة أدنى المريخي الأول أنبوبه وأطلق قذيفة شظايا من الغاز الأسود نحو السفينة الحربية المدرعة. ارتطمت القذيفة بميسرة السفينة وارتدت على هيئة دفق قاتم اتجه نحو البحر؛ سيل ممتد من الدخان الأسود تفادته السفينة الحربية المدرعة. بدت «فتاة الرعد» أمام المشاهدين في السفينة البخارية — من مكانهم في المياه والشمس في أعينهم — أنها بالفعل وسط المريخيين.

رأوا الهياكل المخيفة تنفصل وتبرز من المياه مع تقهقرها نحو الشاطئ، بينما رفع أحدها مولِّد الشعاع الحراري الشبيه بآلة التصوير. أمسك به موجهًا إياه بميل إلى أسفل، وانبعثت غيمة من البخار من المياه ما إن لمسها. لا بد أنه اخترق جانب السفينة مثلما يخترق قضيب حديدي متقد إحدى الأوراق.

ارتفعت ومضة من اللهب من بين البخار المتصاعد، ثم تمايل المريخي وترنح. وفي دقيقة أخرى طُرح المريخي أرضًا، وانطلقت كتلة كبيرة من المياه والبخار عاليًا في الهواء. تردد صوت مدافع «فتاة الرعد» من بين البخار، تنطلق واحدًا بعد آخر، وتسببت إحدى الطلقات في تناثر المياه عاليًا قرب السفينة البخارية، ثم ارتدت باتجاه السفن المسرعة إلى الشمال، وحطَّمت أحد مراكب الصيد إلى شظايا صغيرة.

لكن أحدًا لم ينتبه كثيرًا لذلك. فعند مشاهدة انهيار المريخي صاح الربَّان صيحة مبهمة، وصاح حشد الركاب على متن السفينة البخارية معًا، ثم أطلقوا صيحة ثانية. بعدها تحرك شيء طويل أسود، وومضات اللهب تنبعث من منتصفه، والنيران تنطلق من فتحات التهوية والمداخن.

كانت «فتاة الرعد» لا تزال تعمل؛ يبدو أن تروس القيادة لم تمس بسوء، والمحركات كانت تعمل. توجهت مباشرة إلى مريخي ثان، وكانت على مسافة مائة متر منه عندما استُخدم الشعاع الحراري. انطلق صوت دوي عال وشوهد وهج براق، وتحركت أسطح السفينة ومداخنها إلى الأعلى. ترنح المريخي من أثر الانفجار، وفي دقيقة أخرى اصطدم به الحطام المتوهج للسفينة — التي لا تزال تندفع إلى الأمام — بالمريخي وسحقته كما لو كان قطعة من الكرتون. صاح شقيقي صيحة لا إرادية، وبعدها حجبت كتلة من البخار المغلي كل شيء مجددًا.

صاح الربَّان: «اثنان!»

كان الجميع يهللون. دوت السفينة البخارية من أولها لآخرها بأصوات التهليل المحموم الذي انطلق من إحدى السفن أولًا ثم تلتها في ذلك الحشود الغفيرة للسفن والقوارب التي كانت تشق طريقها في البحر.

ظل البخار عالقًا فوق المياه عدة دقائق يحجب المريخي الثالث والساحل تمامًا. وطوال كل هذا الوقت كان القارب البخاري يتقدم بثبات نحو البحر وبعيدًا عن القتال، وعندما انتهت الجلبة أخيرًا تدخَّلت غيمة منجرفة من البخار الأسود، ولم يستطع أحد رؤية شيء من «فتاة الرعد» أو المريخي الثالث. لكن السفن الحربية المدرعة المواجهة للبحر كانت قريبة جدًّا الآن وتقف ناحية الشاطئ بمحاذاة القارب البخاري.

واصل القارب الصغير تقدمه في البحر، وتراجعت السفن الحربية المدرعة شيئًا فشيئًا نحو الساحل الذي كان لا يزال محجوبًا عن الأنظار بفعل غيمة من الضباب بعضها بخار وبعضها غاز أسود يدوران ويمتزجان أحدهما مع الآخر على نحو أشد ما يكون من الغرابة. كان حشد النازحين يتحركون مشتتين نحو الشمال الشرقي، والعديد من قوارب الصيد الصغيرة تبحر بين السفن الحربية المدرعة والقارب البخاري. بعد فترة وقبل أن تصل السفن الحربية إلى موقع الغيمة الآخذة في الاختفاء، استدارت نحو الشمال، وفجأة غيرت اتجاهها لتجتاز ضباب الليل الكثيف نحو الجنوب. زادت ضبابية المشهد على الساحل، وفي النهاية أصبح غير واضح المعالم بسبب غيمات البخار المنخفضة التي كانت تتجمع حول الشمس الدالكة.

وفجأة من بين السديم الذهبي لشمس المغيب انطلق هدير المدافع، وتحركت بعض الظلال السوداء. تنازع الجميع من أجل الوصول إلى حاجز القارب البخاري، وألقوا نظرة على النيران المتوهجة ناحية الغرب، لكن لم يكن باستطاعة أحد أن يميز شيئًا بوضوح. تصاعدت كتلة من الدخان في خط متمايل وحجبت قرص الشمس. تقدم القارب البخاري في طريقه وسط شعور غير متناه من القلق.

غاصت الشمس وسط السحب الرمادية، وأظلمت السماء، وظهر نجم الليل مهتزًّا أمام الناظرين. كان قد مر وقت طويل على الغسق عندما صاح الربَّان وأشار بيده. حدق شقيقي النظر. اندفع شيء إلى الأعلى نحو السماء … اندفع إلى الأعلى في خط منحن وبسرعة هائلة فوق السحب التي تنتشر في السماء ناحية الغرب؛ شيء مستو وعريض وضخم انطلق في خط منحن كبير وأخذ يتضاءل شيئًا فشيئًا ثم اختفى ثانية وسط سماء الليل. ومع اختفائه حلَّ الظلام على الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤