الفصل الثامن

أدرياميسين وحساء البسول لعشية عيد الميلاد

من بين المواد الكيماوية١ المُدرَجة على قائمة البرنامج الوطني لعلم السموم للمواد المُسرطِنة، ثمة جُزيء بسيط المظهر يُسمَّى سيسبلاتين cisplatin، والذي يتشكل عندما تتحد إحدى ذرات البلاتين باثنتين من ذرات الكلور chlorine ومجموعتَي أمونيا. وعلى الرغم من أنه جرى تصنيعُه لأول مرة في العام ١٨٤٤م٢ من قِبَل كيميائي إيطالي كان يُجري تجاربه على أملاح البلاتين، فقد حظي السيسبلاتين باهتمامٍ قليلٍ طوال أكثر من قرن من الزمان. وبعد ذلك، وفي أوائل ستينيات القرن العشرين، تبيَّن أنه يمتلك تأثيراتٍ بيولوجيةً قوية.
ومثل الكثير من الاكتشافات العلمية، فقد تحقَّق هذا الاكتشاف عن طريق المصادفة؛ غزوة للبحث في فرضيةٍ ما تنحرف بشكل غير متوقع في اتجاه آخر، ومن ثَم تجيب عن أسئلة لم يكُن أحدٌ يعرف كيف يطرحها. وفي مُختبَره في جامعة ولاية ميشيغان، كان بارنيت روزنبرغ Rosenberg يستكشف الطريقة التي تتصرف بها الخلايا في وجود الكهرباء.٣ لقد اندهش من مدى الشبه بين الشكل الخيطي الممدود لخلية تخضع للانقسام الفتيلي وبين خطوط الحقل المغناطيسي field lines التي تظهر عند وضع مغناطيس تحت ورقة مرشوش عليها بُرادة الحديد. لم تكُن الطرق التي تنقسم بها الخلية مفهومةً جيدًا، وبالتالي فقد تساءل عمَّا إذا كانت العملية تنطوي على تأثير كهرومغناطيسي.
ولاختزال المشكلة وتبسيطها، وضع قطبَين كهربيَّين معدنيَّين في طبق يحتوي على عضيات وحيدة الخلية، هي الإشريكية القولونية Escherichia coli، ومن ثَم تمرير تيار كهربي، فلم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى توقفَت البكتيريا عن الانقسام. وعلى أيِّ حال، فقد استمرت كل واحدة منها في الاستطالة، مُنتِجةً جِبْلة protoplasm جديدة امتدَّت مثل معكرونة السباغيتي حتى صار طول الخلية أكبر من عرضها بنحو ثلاثمائة ضعف. وعندما أوقف التيار الكهربي، بدأت الخلايا تنقسم بشكل طبيعي مرةً أخرى. كان الأمر يشبه الضغط بإصبعه على مفتاح يمكنه تشغيلُ أو إيقافُ الانقسام الفتيلي.
وبعد مُضيِّ عقود، كان لا يزال يتذكر تلك اللحظة، وقال: «يا إلهي، لا يصادف المرء أشياءَ من هذا القبيل في كثير من الأحيان.»٤ وقد بدأ يفكر في السرطان على الفور: «إذا تمكنَّا من التحكم في نمو الخلايا بواسطة حقل كهربي، فسيمكننا السيطرةُ على بعض الخلايا من خلال تردُّد frequency معيَّن، وعلى خلايا أخرى بتردُّد آخر، وبالتالي سنستطيع مهاجمة وَرَمٍ ما عن طريق اختيار تردُّد فريد من نوعه، والذي يؤثر في الخلايا السرطانية وحدها، وليس الخلايا الطبيعية.» لكنه اكتشف بعد ذلك مفاجأةً أكبر؛ فلم تكُن الكهرباء هي ما أوقف الانقسام الفتيلي، كان القطبان الكهربيان اللذان استخدمهما في هذه التجربة مصنوعَين من البلاتين، وهو عنصر كان قد اختاره بالتحديد لأنه خامل كيميائيًّا، ولكن من خلال عملية التحليل الكهربي electrolysis، دخلت بعض أيونات البلاتين إلى المحلول حيث اتحدَت مع ذرات أخرى لتشكيل السيسبلاتين.
واصل روزنبرغ تجاربه، فقام باختبار آثار الجُزيء٥ على التوالانيات metazoans، وهي مخلوقات مثلنا تتكون من خلايا متعددة. كان قبضةٌ صغيرةٌ من السيسبلاتين النقي كافيةً لقتل فأر، لكن استخدامه بجرعات مُخفَّفة للغاية من شأنه أن يقلِّص حجم الساركومات. كان في وسع السيسبلاتين أيضًا أن يوقف أنواعًا أخرى من السرطان، كما اكتشف العلماء طريقة عمله٦ بمرور السنين. قبل أن يمكن لخليةٍ ما أن تتكاثر، يجب أن يرخي الحلزون المُزدوِج التواءاته بحيث يمكن نسخُ المعلومات الجزيئية ونقلُها إلى الجيل المُقبل. يسبِّب سيسبلاتين تشكُّل جسور بين طاقَي الحلزون. تؤدِّي هذه القيود الكيميائية إلى إيقاف الانقسام الفتيلي ومن ثَم تُصيب الخلية بحالة من الاضطراب، فتحاول التعافي عن طريق إطلاق إنزيمات خاصة لإصلاح الدنا (DNA). وعندما يفشل ذلك، يبدأ الموت الخلوي المُبرمَج وتدمر الخلية نفسها. من الممكن أن يؤثر السيسبلاتين في أيِّ خلية في الجسم، ولكنْ لأن الخلايا السرطانية تنقسم بمعدَّلاتٍ أسرعَ فهي تتحمل العبء الأكبر للهجوم. وبمجرَّد أن يَجريَ تدميرُ السرطان، تترنح بقية أجزاء الجسم عائدةً إلى حالة الصحة بأفضل ما في وسعها.
بعد التجارب السريرية التي أُجريَت في سبعينيات القرن العشرين لتحديد مقدار السيسبلاتين الذي يمكن إعطاؤه للبشر من دون قتلهم، جرت الموافقةُ عليه من قِبَل إدارة الغذاء والدواء. صار العقار يُعرف باسم بنسلين السرطان.٧ وبسبب تأثيره على الخلايا الأخرى السريعة الانقسام — بُصيلات الشَّعر، وخلايا بطانة الجهاز الهضمي، ونخاع العظام — كانت هناك آثار جانبية مُقزِّزة.٨ يعاني المرضَى من غثيان تقشعرُّ له الأبدان، كما يسقط شعرهم. وقد يحدث تلفٌ في الكُلى والأعصاب، وباعتبار أن السيسبلاتين يعبث بدنا الخلية، فهو يثير خطر التسبُّب في سرطان ثانوي إلى جانب ذلك الذي طُلب من طبيب الأورام علاجُه. عادةً ما كانت المقايضة تستحقُّ العناء؛ فبالنسبة إلى سرطان الخصية، تقترب نسبة الشفاء من ١٠٠ في المائة، أمَّا الأورام الأخرى فهي أقلُّ استجابة، لكن هذه المادة الكيميائية، التي غالبًا ما تُعطَى جنبًا إلى جنبٍ مع العلاج الإشعاعي، قد تُبطئ نموَّ سرطانات الأعضاء الأخرى ومن ثَم تساعد على إطالة الحياة، بل وقد تنقذها في بعض الأحيان.
كان السيسبلاتين، كما علمنا في الأيام التي أعقبت جراحة نانسي، واحدًا من العوامل التي تُستخدَم لمحاولة قتل أيِّ نقائل متبقية قد تكون مختبئةً بداخل جسدها، والتي تظلُّ قادرةً على الانبعاث لسنوات عديدة. وقد أُعطِيَت أيضًا عقار الدوكسوروبيسين doxorubicin، وهو — مثل السيسبلاتين — يعمل عن طريق إعاقة تنسخ replication الدنا. يمتلك الدوكسوروبيسين بدوره حكايةً غريبة؛٩ فمقطع «روبي» ruby في اسمه يأتي من أصله الذي هو صبغة حمراء تُنتجها سلالة معيَّنة من البكتيريا. جرى اكتشافُ هذه الميكروبات التي تقطن التربة في إيطاليا، لذلك يُسمَّى العقار أيضًا باسم الأدرياميسين Adriamycin، على اسم البحر الأدرياتيكي، وهو اسمٌ جميل، لكنه مُدرَج أيضًا على القائمة الرسمية للمواد المُسرطِنة المُشتبَه فيها، وبالإضافة إلى آثاره الجانبية المُسبِّبة للغثيان، فقد يؤدِّي إلى تقليل عدد كُريات الدم البيضاء،١٠ مما يزيد من قابلية الإصابة بالعدوى. وتتمثل أسوأ المضاعفات في احتمال تلف القلب، حيث أشارت تقارير إلى أن ذلك الخطر يزيد١١ عندما يجري الجمعُ بين أدرياميسين والباكليتاكسيل paclitaxel، وهو عقار آخر مُثبِّط للانقسام الفتيلي كان سيُعطَى لنانسي. لكن أيًّا من هذا ليس أسوأ من الموت. جرى عزل الباكليتاكسيل أو تاكسول Taxol أولًا١٢ من لحاء شجر الطقسوس الباسيفيكي، واسمه العلمي الطقسوس القصير الأوراق Taxus brevifolia. لم يأتِ هذا الاكتشافُ عن طريق المصادفة، لكنه كان نتيجةً لبرنامج حكومي للفحص المنهجي لآلاف النباتات لاكتشاف المواد التي تتسم بكونها سامةً للخلايا cytotoxic لكن الجسم البشري يمكنه احتمالُها، حتى ولو بالكاد. وتلك هي الطبيعة الوحشية للمعالجة الكيميائية.
اشتُقت أولى العوامل المُستخدَمة في المعالجة الكيميائية١٣ من غاز الخردل mustard gas، الذي اكتُشفت آثاره المضادَّة للتفتُّل antimitotic في ضحايا الحرب الكيميائية. إن عقار الموستارجين mustargen، الذي يُستخدَم في علاج لمفومة هودجكن وأنواع أخرى من السرطان، يُطلَق عليه أيضًا اسم الخردل النيتروجيني، وهو مشمول باتفاقية الأسلحة الكيميائية للعام ١٩٩٣م.١٤
يتسم كل وَرَم بكونه فريدًا من نوعه، فهو أشبه بنظام بيئي من الخلايا المتنافسة التي تتطور باستمرار، وتتكيف مع التهديدات الجديدة. إن مواجهة السرطان بمزيج من الأدوية المختلفة يزيد من احتمالات قتله، وقد اتسم الهجوم ذو الثلاثة محاور في حالة نانسي بكونه شرسًا على وجه الخصوص. ظنَّ الأطباء في البداية أن مصدر النقائل السرطانية في جسدها هو سرطانة شبيهة ببطانة الرحم،١٥ وهو سرطان الرحم الأكثر شيوعًا، والذي يمتلك معدَّلًا جيدًا جدًّا لبقاء ضحاياه على قيد الحياة. ولكن عندما جاء تقريرُ ما بعد الجراحة من مُختبَر الباثولوجيا، صارت القصة أكثر تعقيدًا. ومن بين جميع العُقد اللمفاوية التي جرى استئصالُها، بدت اثنتان فقط سرطانية، وأشار تقييم الأطباء إلى أن السرطانة الغُديَّة التي اكتُشفت في بطانة الرحم منخفضة الدرجة، مما يعني أن الخلايا لم تخضع لعدد كبير جدًّا من الطفرات، وأنها ظلَّت متمايزةً بصورة جيدة. كانت لا تزال في معظمها تشبه خلايا بطانة الرحم، كما كان غزو بطانة الرحم سطحيًّا. لم يكُن أيٌّ من ذلك منطقيًّا … كيف أمكن لسرطان ضعيف الإرادة مثل هذا أن ينتشر بهذه السرعة؟
يبدو أن الإجابة كانت تكمن في سليلة polyp، لا يزيد حجمُها على سنتيمتر واحد، والتي جرى استئصالُها من أنسجة بطانة الرحم ومن ثَم فحصها مُختبَريًّا. كانت تلك الخلايا أقلَّ تمايزًا بكثير وتشبه ما يسميه الأطباءُ بالوَرَم المَصلي الحليمي،١٦ وهو نوع يوجَد كثيرًا في سرطان المِبيَض، وهو واحد من أكثر أنواع السرطان خباثة. لكنْ لا الجرَّاح ولا عالِم الباثولوجيا رأى علاماتٍ تدلُّ على وجود السرطان في المِبيَضَين، اللذين أُزيلا خلال عملية استئصال الرحم hysterectomy. إن ما سار بمثل هذا التصميم بطول الرباط المستدير وصولًا إلى المنطقة الأربية كان على ما يبدو نوعًا نادرًا للغاية من السرطان يُسمَّى سرطانة الرحم المَصلية الحليمية.١٧ إن النذر اليسير الذي جرى نشرُه عن هذا الوَرَم لا يكاد يمكن أن يكون أكثر تثبيطًا، وكما كتب أحد علماء الأورام «تمتلك سرطانة الرحم المَصلية الحليمية ميلًا١٨ إلى الانتشار المبكر داخل البطن وعبر الجهاز اللمفاوي حتى عند قدوم المريضة لأول مرة.» وخلافًا لسرطانات المِبيَض المَصلية التي لا يمكن تمييزُها عنها هستولوجيًّا، فإن سرطانة الرحم المَصلية الحليمية هي مرض مقاوم للمعالجة الكيميائية chemoresistant منذ بدايته، أمَّا معدَّل البقاء على قيد الحياة فيبعث على الكآبة، حتى عندما لا تمثِّل سرطانة الرحم المَصلية الحليمية سوى مكوِّن ضئيل … ويمكن أن يحدث الانتشار الواسع النطاق للنقائل والوفاة حتى في تلك الحالات التي يكون الوَرَم فيها مقتصرًا على بطانة الرحم أو على سلسلة في بطانة الرحم. وبالتالي، فإن هذا التشخيص الجديد، وهو «سرطانة غُديَّة مختلطة مع مناطق من النوع الحليمي المتوسط الدرجة»، لم يكُن واضحًا تمامًا. كانت الخلايا الموجودة في العُقيدة تفتقر إلى واحدة من الخصائص المميزة المألوفة؛ وهي النتوءات الصغيرة أو الحلمات التي يُطلِق عليها علماء الباثولوجيا اسم السعفات الحليمية papillary fronds. ولأن كل نوع من السرطان يختلف عن الآخر، فقد كانت سرطانة الرحم المَصلية الحليمية هي التصنيف الأقرب احتمالًا هنا.
وعندما نظرتُ إلى السجلات الطبية بعد ذلك بسنوات، وجدتُ أن هناك تلميحاتٍ إلى سرطانة الرحم المَصلية الحليمية، أو شيء يشبهها. منذ البداية تقريبًا، ثمة جملةٌ في أول تقرير للتشريح المَرضي، والتي أشارت إلى أن الخلايا التي جرى فحصُها بعد ظهور الوَرَم مباشرةً تمتلك «بِنيةً حليميةً مِجهريَّة». وحتى لو كان الأطباء اشتبهوا من هذه الملاحظة بأن سرطانة الرحم المَصلية الحليمية كانت أحد الاحتمالات، فهم لم يخبرونا بذلك. كان من الغريب معرفةُ أن هذا هو الوَرَم الخبيث الذي ينمو بداخله، فسرطانة الرحم المَصلية الحليمية هي عادةً سرطان يصيب النساء الأكبر سنًّا والأنحف جسدًا منها،١٩ والذي يصيبهن بعد فترة طويلة من بلوغ سنِّ الإياس، كما يشيع بصفة خاصة بين الأمريكيات ذوات الأصول الأفريقية. ليس من المُعتقَد أن يكون الوَرَم مرتبطًا بزيادة التعرُّض لهرمون الإستروجين ومسألة عدم إنجاب أطفال، فكما ذكر اثنان من المؤلِّفين صراحةً «لا توجد عوامل خطر للإصابة به.»٢٠ ووفقًا لما ورد في إحدى المقالات، فإن عددًا قليلًا لا يتجاوز ٥ إلى ١٠ في المائة٢١ من النساء اللاتي يُصَبن بالمرحلة الرابعة من سرطانة الرحم المَصلية الحليمية، وهو ما كانت عليه نانسي، يبقين على قيد الحياة بعد خمس سنوات.
وبعد أن قرأنا التشخيص، وجدتُ مقالًا٢٢ بعنوان «ليس الوسيط هو الرسالة»، والذي كتبه عالِم البيولوجيا التطورية، ستيفن جاي غولد (Gould)، بعد تشخيصه في سنِّ الأربعين للإصابة بوَرَم «الظهارة» المتوسطة. وهذا السرطان النادر، المرتبط بالتعرُّض لمادة الأسبستوس، عادةً ما يصيب الأنسجة المحيطة بالرئتين. أمَّا في حالة غولد، فقد كانت الإصابة في الصفاق (peritoneum)، وهو بطانة التجويف البطني. وبمجرَّد أن تعافى من الجراحة وبدأ المعالجة الكيميائية، بدأ غولد البحث كالمجنون، وسرعان ما اكتشف أن هذا السرطان يُعتبر غير قابل للشفاء، وأن متوسط الفترة بين التشخيص والوفاة هي ثمانية أشهر. كان هذا يشير ظاهريًّا إلى أنه من المرجَّح أن يموت في غضون سنة واحدة، لكن غولد بدأ تفريغ الإحصاءات. إن الوسيط median، كما أوضح في مقاله، يختلف كثيرًا عن المتوسط mean، أو المعدَّل. وهو نقطة تقع في منتصف الطريق بين مجموعة من الأرقام.

إذا كانت لديك مجموعةٌ من سبعة أشخاص، وأُخبرتَ بأن الطول الوسيط هو ١٧٢٫٧سم، فأنت تعلم أن ثلاثةً من الأشخاص أقصر من هذا الطول وثلاثةً منهم أطول قامة. أمَّا ما لا تُخبرك به هذه القيمة فهو النهايتان الدنيا والقصوى. قد يكون نطاق الأطوال نمطيًّا، أيْ يميل للتجمُّع حول الوسيط، لكنك قد تجد أيضًا بعض الأشخاص القصار القامة بشكل غير طبيعي، والذين يقلُّ طولهم عن ١٥٢٫٤سم، أو أشخاص طوال للغاية، أو أي مزيج من الاثنين، ومع ذلك يظلُّ الطول الوسيط هو ١٧٢٫٧سم ما دام ذلك هو طول الشخص الأوسط في المجموعة.

أمَّا فيما يتعلق بعُمر البقاء على قيد الحياة، كما أراد غولد طمأنة نفسه، فمن المرجَّح أن يكون هناك فائضٌ من العمالقة أكثر من الأقزام. إن أقلَّ رقم يُحتمَل أن تجده هو الصفر — أيْ تشخيص المريض عند الوفاة — لكن أعلى رقم يتسم بطبيعته بكونه غيرَ محدَّد. وعند رسمه على مخطَّط بياني تمثل فيه ثمانية أشهر نقطة المنتصف، سيكون التوزيع غير متناظر؛ متكدسًا على الجانب الأيسر بين الصفر والثمانية ولكنه ممدود على الجانب الأيمن، بما في ذلك وصول فترات البقاء على قيد الحياة إلى اثنَي عشر شهرًا، أو أربعةٍ وعشرين شهرًا، أو أكثر من ذلك بكثير. وخلال قراءاته عن السرطان، وجد غولد أن هناك بالفعل أشخاصًا بقوا على قيد الحياة سنواتٍ عديدة، وقد طمأن نفسه بأنه يمتلك ما يكفي من الأسباب للاعتقاد بأنه ينتمي إلى ذلك الجانب الأيمن الممتدِّ من ذيل المخطَّط البياني.

كان الرجل شابًّا صحيح البدن، وباعتباره أستاذًا بجامعة هارفارد كان لديه وصولٌ إلى أفضل سُبُل الرعاية الطبية، بما في ذلك علاج تجريبي جديد. وقد كتب قائلًا: «يعلم جميع علماء البيولوجيا التطورية٢٣ أن الاختلاف في حدِّ ذاته هو جوهر الطبيعة الوحيد غير القابل للاختزال. إن الاختلاف هو الواقع الراسخ، وليس مجموعةً من التدابير المَعيبة باتجاه نزعة مركزية. ليس المتوسط والوسيط سوى مفهومَين تجريديَّين.» وقد انتهى غولد بالفعل عند الطرف القاصي من ذيل المخطَّط البياني، فقد عاش بعدها لمدَّة تناهز العشرين عامًا، حيث تُوفِّي في العام ٢٠٠٢م، قبل عام واحد من تشخيص نانسي، بسرطان نقيلي في الرئة، قال أطباؤه إنه كان غيرَ ذي صلة بالوَرَم الأول. بيدَ أن نانسي لم تكُن فكرةً مجرَّدة، فقد كانت شابَّةً صحيحة البدن، كما بدا أن أطباءها كانوا من بين الأفضل في مجال تخصُّصهم، ولذلك تمسَّكنا بهذه الفكرة عندما بدأت تتلقى المعالجة الكيميائية.

وفي شهر ديسمبر، وقبل الشوط الأول من علاج نانسي، تُوفِّي والدُها بالسكتة الدماغية التي أعادتها إلى منزل عائلتها في لونغ آيلاند قبل ثلاثة أشهر فقط. لقد أرادت بكل خلية من خلايا جسدها — على حدِّ تعبيرها — أن تعود إلى هناك، لكن الأطباء نصحوها بألَّا تفعل، وبالتالي فقد شاهدنا شريط فيديو للجنازة بدلًا من ذلك. وعندما أفكر الآن في تلك الأيام، تذكرتُ أنها بعد سنة من اكتمال المعالجة الكيميائية والإشعاعية التي خضعَت لها، كتبَت مقالةً قصيرةً بعنوان «أدرياميسين وحساء البسول لعشية عيد الميلاد».

وكما استهلَّت مقالها، كان اليوم هو ٢٢ ديسمبر، حيث بدأت من فورها الشوط الثاني، مما سيكون سبع جلسات من التسريب الوريدي تستغرق كلٌّ منها يومَين، بواقع واحدة كل ثلاثة أسابيع. كانت زينة عيد الميلاد معلَّقةً في استراحة قسم المعالجة الكيميائية، وفي مكتب المُمرضات كان هناك منزل من خبز الزنجبيل جرى مَلؤه في وقت سابق من موسم الأعياد بالحلوى والكعك للمَرضَى، والذي كان شِبهَ فارغ الآن.

ولجعل الحقن العديدة غيرَ مؤلمة بقدر الإمكان، جرى تركيب منفذ للمعالجة الكيميائية تحت تَرقُوتها اليمنى. ثمة نفطة اصطناعية صغيرة تحت جلدها، غُطِّيت بغشاء مطاطي من السيليكون يمكن من خلاله إدخالُ الإبر، والموصَّل داخليًّا بقسطرة بلاستيكية مثبَّتة في أحد أوردتها. ظلَّ هذا الجهاز في مكانه طوال الأشهر القليلة المُقبلة حتى اكتمال العلاج.

وعندما رأت واحدًا من «مقاعد الدرجة الأولى» شاغرًا، وهو كرسي جلدي مريح يتيح رؤيةً واضحةً لجبال سانغري دي كريستو حيث تنزَّهنا معًا في كثير من المرات، كانت السماء رمادية اللون، وتُنذر بتساقط ثلوج عيد الميلاد. وعندما استقرت في مجلسها، سحبت كرسيًّا، ثم بدأت جولةً أخرى من الروتين الجديد لحياتنا. جاء أولًا الرذاذ المخدِّر لإماتة الحسِّ حول المنفذ، ومن ثَم الأدوية التمهيدية، والسوائل، ومضادَّات الغثيان، وكلها استعدادًا للحقنة الممتلئة بالدوكسوروبيسين، والذي يُعرف أيضًا باسم أدرياميسين، كان ذلك يذكِّرها بمشروب كول-أيد (Kool-Aid) الأحمر، كما كان هو اللون الذي سيتحول إليه بولُها. وفي أثناء قيام جسدها بامتصاص هذا الذيفان الخلوي (cytotoxin) الأول، كانت تفكر في عشية عيد الميلاد، والتي ستحُلُّ بعد يومَين فقط، حيث سيأتي إلى منزلنا عددٌ قليلٌ من الأصدقاء لتناوُل سلطانية من حساء البسول والتامالي،٢٤ وهو أحد تقاليد مدينة سانتافي. وصلت المُمرضة بحقنة السيسبلاتين، وحاولَت نانسي أن تتقبل هذه المواد الكيميائية التي تتدفق عبر هذا الثقب في صدرها باعتبارها هدية، أو حبل إنقاذ، بغضِّ النظر عن مدى كونها مُقزِّزة. حاولَت أن تتخيل صدمة جميع تلك الخلايا السرطانية التي تنقسم بصورة جنونية عندما يجري فجأةً تعطيلُ حمضها النووي (الدنا DNA)؛ جميع الأفكار المبهجة حول طوفان من الموت المبرمج لخلايا الوَرَم.
احتاج الأمر إلى البقاء لمدَّة أربع ساعات في هذه الغرفة لكي يجري إعطاءُ الأدوية المقرَّرة لذلك اليوم. وبعد ذلك، عُدنا بالسيارة إلى البيت لقضاء الليل والعودة في اليوم التالي لأخذ عقار الباكليتاكسيل، والذي يحتاج لأربع ساعات أخرى من الجلوس. في وقت متأخر من بعد الظهر، عندما اقتربت المُمرضة وهي تحمل جرعةً من عقار نيولاستا (Neulasta) الذي يحفِّز نخاع العظم لاستبدال خلايا الدم البيضاء التي تقتلها المعالجة الكيميائية، علمنا أنها أكملت الشوط الثاني من دورة العلاج. كانت أمامها ثلاثة أسابيع للتعافي قبل العودة مرةً أخرى.

كانت الليالي الأولى من هذه الفترات الفاصلة هي أصعبها. كانت تستيقظ في الظلام، وتتسلل أحيانًا بهدوءٍ شديدٍ إلى درجة أنني لم أكُن أسمعها وهي تنهض للذهاب إلى الحمَّام. وفي صباح أحد الأيام، أخبرتني بأنها شعرَت بالضعف إلى درجة أنها استلقَت على بساط الحمَّام لفترة طويلة قبل أن تعود إلى الفراش. لماذا لم تُنادِني؟ وكيف ظلِلْتُ نائمًا طوال ذلك الوقت؟ قرأتُ بعد ذلك بسنوات أنه بسبب التأثيرات السامة لأدوية المعالجة الكيميائية، يُنصَح أفراد الأُسرة بالنوم في غرفة منفصلة وبعدم مشاركة الحمَّام مع المرضَى. لم نكُن نعرف ذلك، ولا أعتقد أنني كنت سأهتمُّ لو علمت.

وفي وقت مبكر من عشية عيد الميلاد، شعرَت نانسي بأنها أفضل قليلًا، وقبل وصول ضيوفنا غادرنا منزلنا للسير عبر الشوارع المُظلمة وغير المُعبَّدة، التي تحفُّها فوانيس الفاروليتو (farolitos) التقليدية الصغيرة المصنوعة من أكياس الورق، والرمال، والشموع. وتقول الأسطورة إنها تضيء الطريق أمام الطفل يسوع. توقَّفنا عند واحد من المشاعل، والتي تُعرف بأضواء عيد الميلاد (luminarias)، لتدفئة أيدينا وأرجُلنا. كانت تشعر بآلام في عظامها بسبب عقار النيولاستا. وقد تجنَّبنا السير في طريق كانيون، والذي بدأ يزدحم بالفعل، وظلِلْنا في الشوارع الجانبية. عندما وصلنا إلى أسيكيا مادري، وهو الزقاق الضيق الذي يمتدُّ بطول قناة الريِّ القديمة للمدينة، وصلنا إلى شيء لم نشاهده من قبلُ مطلقًا. داخل فناء المدرسة، كان هناك رجل يُطلِق فوانيس الفاروليتو الطائرة، وهي بالونات من المناديل الورقية تضيئها الشموع، التي تصعد لأعلى ثُم تُضحِّي بنفسها مشتعلةً في السماء. كنتُ تقليديًّا بما يكفي لأنْ أشعر بأن هذه اللمسة العصرية تمثل تطفُّلًا. كان في وسعي أن أعتمد على نانسي لرؤية شيء جيد في ذلك.

اقتربنا من ذلك الساحر، وشاهدنا التجمُّع، وإذا بضوء يطفو إلى أعلى فجأةً كبالون مصغَّر يطير بالهواء الساخن. مدهش! ظلِلْنا نتابعه حتى يصعد الضوءُ إلى ما يتجاوز مدى البصر، وبعد ذلك نشاهد بالونًا آخر. كان من المستحيل على أيِّ شخص يقترب ألَّا يشاهد مسار الضوء هذا.

كان ضيوفنا سيَصِلون في غضون ساعة واحدة. فجأةً، صرت أتحرَّق شوقًا لإشعال النار في منزلنا، وتناوُل الطعام وزيارة الأصدقاء. صعدنا التلَّ المؤدِّي إلى المنزل. وفي السماء، رأيتُ ضوءًا ساطعًا في السماء … ما هذا؟ إنه يتحرك مبتعدًا عني ببطء. ماذا عساه أن يكون؟ واصل فانوس الفاروليتو تحليقَه للأعلى، وهو يسطع بضوء وهَّاج بدا كما لو أنه لن يخفت أبدًا. ظلِلْت أراقبه، وكنت أعلم أن والدي يمكنه أن يراه أيضًا.

مرت ثلاثة أسابيع — لا أتذكَّر أنني فعلت أيَّ شيء للاحتفال بالعام الجديد — وبالتالي فقد عُدنا إلى المعالجة الكيميائية مرةً أخرى. كيف يتحول ما لا يمكن تصوُّرُه إلى أمر روتيني بمثل هذه السرعة؟ وعلى الرغم من تقبُّلها الكامل لهذه الضربة العشوائية لحياتها وامتنانها تجاه الأطباء، تشكَّكَت نانسي في كل شيء، وكنتُ بجوارها للمساعدة في البحث. هل يجب أن تجريَ معالجتُها بالتوبوتيكان topotecan؟٢٥ كانت قد قرأَت أن هذا العقار قد استُخدِم في علاج السرطانة المَصلية الحليمية، وأن معدَّلات الاستجابة لكلٍّ من الدوكسوروبيسين والسيسبلاتين أقلُّ من المرغوب. أم إن إضافة عقار الباكليتاكسيل من شانها أن تَقلِب المَوازين؟ أجاب الجرَّاح بسرعة (كان هو وطبيبُ الأورام قد أعطَيَانا عناوين البريد الإلكتروني الخاصة بهما) قائلًا: «إن توليفة السيسبلاتين / أدرياميسين هي الأفضل من دون شك.» وأَرفَق برسالته ملخَّصات لثلاث ورقات بحثية٢٦ من مجلة علم الأورام السريري ومجلة علم الأورام النسائية للمقارنة بينها. فكرتُ في التقرير الجراحي الذي كتبه، الذي كان واضحًا ودقيقًا ومتنورًا. كان هذان من الأطباء الذين يتابعون أحدث الأبحاث ويعبِّرون عن أنفسهم بلباقة وبشكل مُقنِع.
وفي أحد الأيام، أعطانا طبيبُ الأورام المُعالِج لنانسي ورقةً بحثيةً٢٧ نُشرت قبل بضعة أشهر فقط، بعنوان «فرط تعبير الجين HER2/neu: هل جرى الكشف عن كعب أخيل السرطانة المَصلية الحليمية في الرحم؟» كان HER2/neu هذا هو جين يشفر للمستقبلات التي تستجيب لعوامل النموِّ البشروية٢٨ في بني الإنسان، وهي جُزيئات الإشارة التي تحفِّز الانقسام الفتيلي. عادةً ما يُسمَّى الجين HER2 فقط.٢٩ تمتلك بعض خلايا سرطان الثدي عددًا كبيرًا من نُسخ هذا الجين؛ فبدلًا من نُسختَين اثنتين، واحدة من كلٍّ من الوالدَين، يوجَد خمسون أو مائة منها، ويصبح غشاء الخلية متخَمًا بالمستقبلات. يُعَدُّ وجود عشرات الآلاف من المستقبلات أمرًا طبيعيًّا، وبالتالي فإن خلية سرطان الثدي الإيجابية للجين HER2 قد تحتوي على مليونَي مستقبلة. ومن خلال الاستجابة المُفرطة للإشارات المحفِّزة للنمو، تتكاثر الخلايا بتصميم مجنون. ثمة عقار يُطلَق عليه اسم هيرسيبتين Herceptin،٣٠ والذي جرى تصميمُه للبحث عن المستقبلات وتثبيطها في سرطان الثدي، وربما في غيره من أنواع السرطان أيضًا.
وعلى الرغم من كونها أكثرَ دقةً من القوة الغاشمة للمعالجة الكيميائية، فإن هذه «العلاجات المستهدفة» الجديدة لم تكُن دائمًا محدَّدة الهدف كما تبدو عليه. كان لا يزال هناك إضرار غير مرغوب فيه بالخلايا السليمة، وكما هي الحال في الأدوية الأخرى، يطور السرطان الترياقات والاستراتيجيات المضادَّة، والطفرات التي تمنحه مقاومةً ضدَّها. ولكن بالنظر إلى ما كنَّا نسمعه، فإن الاحتمالية الموصوفة في الدراسة الجديدة بدَت لنا كأخبار واعدة بصورة استثنائية. وجد المؤلِّف أن كثيرًا من خلايا سرطانة الرحم المَصلية الحليمية تُفرط بدورها في تعبير الجين HER2 — حتى بصورة أكثر مما يفعل سرطان الثدي — وأنها تتلاشى في وجود الهيرسيبتين. لم يكُن المؤلِّف يشير إلى نتائج موفقة جرى التوصُّل إليها في عيادة سريرية، بل تحققت هذه التجارب في المُختبَر، لكن سبيلًا آخر قد انفتح أمامنا، وبنفس السرعة قد أُغلق مجدَّدًا. طلب الأطباء إجراء اختبار تشخيصي على خلايا نانسي السرطانية، لكن النتيجة كانت سلبية، فقد كانت مستويات الجين HER2 في جسدها طبيعية. لم يَعُدْ الهيرسيبتين خيارًا مطروحًا أمامنا، لكننا تساءلنا عن الاحتمالات الأخرى التي قد تكون متاحة، أي النتائج البحثية الأحدث من أن تظهر في المجلات العلمية.
وقد ساعدَنا في البحث بعضُ زملائي الذين يكتبون مقالاتٍ عن العلوم والصحة في صحيفة «نيويورك تايمز»؛ ساندرا بليكسلي Blakeslee، ودينيس غرادي Grady، وجين برودي Brody، ولورانس ألتمان Altman، وهو طبيب قرَّر في وقت مبكر من حياته العملية أن يكتب عن الطبِّ بدلًا من أن يمارسه. كان ألتمان هو المُراسل الصحفي الذي يجري الاتصالُ به من قِبَل الصحيفة عند الحاجة إلى مقالة تشرح أيَّ مرض يصيب رئيس الولايات المتحدة (وقد ورد اسمه في حلقة من مسلسل الجناح الغربي The West Wing٣١ عندما عقد الرئيس الخيالي (برتلت) مؤتمرًا صحافيًّا حول إصابته بمرض التصلُّب المتعدد Ms). عندما قررنا طلب رأي خارجي، وبالتحديد من مركز إم دي أندرسون للسرطان في هيوستن، أرسل ألتمان رسالةً عبر البريد الإلكتروني إلى جون مندلسون Mendelsohn، رئيس المركز، ومن ثَم تحدَّد لنا موعدٌ في الأسبوع الأخير من شهر يناير. كنا أوفرَ حظًّا من معظم الناس من نواحٍ عديدة.

من الصعب على أيِّ شخص مُصاب بالسرطان أن يقاوم جاذبية مركز أندرسون. كان شعار المركز هو «نجعل السرطان تاريخًا»، وسرعان ما وصلتنا حُزمة رائعة من المعلومات. كان الكُتيِّب الكبير، المُزدان بصور لأطباء ومرضَى مبتسمين، يصف المدى الذي يمكن لمركز أندرسون أن يتجاوز به توقعاتك من المستشفى المحلي. ومن خلال مكتب علاقات النزلاء المرضَى وخدمات سفر المرضَى، يمكن للمرء أن يحجز تذاكر الطيران بأسعار مخفَّضة مع عدم فرض غَرامات على إجراء تغييرات في اللحظة الأخيرة. كان هناك بوَّاب مخصَّص، وكانت الغُرف الفندقية متاحةً في قلب المركز، في دار جيسي ﻫ. جونز التابع لجمعية الروتاري الدولية. كانت الخرائط وتراخيص وقوف السيارات متضمَّنةً في مغلَّف يحتوي على تعليمات بخصوص التجوال عبر الحرم الواسع لمركز أندرسون. جرت طمأنةُ المرضَى بالقول: «لا تنزعجوا من حجمنا الهائل»؛ «نحن هنا لإرشادك في رحلتك عبر ممرات مركزنا.»

يوجَد هناك مركز للتعلُّم يضمُّ العديد من الكتب وأشرطة الفيديو المرجعية الطبية، ومكتبة لمواد الترفيه إذا كنتَ تفضِّل قراءة رواية جيدة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت هناك غرفة للهوايات اليدوية، وغرفة للموسيقى / الألعاب. يأتي الناس إلى مركز أندرسون لأنه يدير واحدًا من أكبر مراكز البحوث وأكثرها احترامًا في العالم. وإذا كانت هناك معلومات جديدة يمكن معرفتُها عن سرطانة الرحم المَصلية الحليمية أو عن تجارب العلاجات التجريبية لها، فمن المؤكَّد أن أطباء مركز أندرسون على علم بها.

في عشية وصولنا، تناولنا عشاءً خفيفًا لكنه ربما كان صحيًّا في مطعم دار الروتاري، ثم عدنا إلى الغرفة لانتظار الصباح. كانت شاشة التلفاز تعرض قناة أندرسون الخاصة، وعندما ضبطنا البثَّ عليها، كانت تذيع تدريباتٍ عن التأمُّل والتصوُّر: أغمض عينيك وتخيَّل الضوء الذهبي للصحة وهو يتدفق عبر جسدك. لم يكُن الأمر يبدو علميًّا تمامًا، ولكن أي شيء من شأنه تخفيفُ الإجهاد لا يمكن إلا أن يكون جيدًا. وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي، توجَّهنا إلى موعدنا مع أستاذ في الأورام النسائية، وهو واحد من أكبر وأهم العلماء في هذا المجال، والذي يشغل أيضًا منصب المساعد الخاص لرئيس مركز السرطان. وبحلول ذلك الوقت، كانت نانسي قد سقط عنها كل شَعرها البُني الكثيف، لكنها بدَت جميلةً في وشاحها كما كانت دائمًا. ثمة مريضةٌ أخرى، كانت جديدةً على مرض السرطان، جاءت لتسأل عمَّا سيبدو عليه شكلُها عندما يسقط شَعرها. هل سيحدث ذلك مرةً واحدةً أم تدريجيًّا؟ بيدَ أنها سرعان ما ستشعر بالقلق إزاء أمور أخرى.

كان قد جرى مسبقًا إرسالُ السجلات الطبية والشرائح المِجهريَّة من نيو مكسيكو، كما كان الطبيب قد اطَّلع على التقارير الجراحية والباثولوجية وعلى بروتوكول المعالجة الكيميائية. وكما قال: «سرطانة الرحم المَصلية الحليمية … يا له من وَرَم صعب المراس.» توجَّهَت نانسي لإجراء فحص طبي سريع، وعندما عادت مع الطبيب جلسنا جميعًا في مكتبه. وافق الطبيب على كل ما فعله أطباء الأورام في سانتافي، قائلًا إن هذا بالتحديد ما كانوا سيفعلونه في مركز أندرسون، وأضاف: «إنك تحصلين على أحدث سُبُل الرعاية المتوافرة.» غادرنا المبنى ونحن نشعر بالارتياح، وكذلك بقليل من خيبة الأمل. كانت موافقته على العلاج مُطَمْئنة، لكننا كنا نأمُل في أن يُنعِم علينا ببعض الحقائق المُختبَرية الجديدة، أو بأخبار عن تجربة سريرية واعدة، أو أيِّ نوع من سحر مركز أندرسون.

ومع احتياجنا لأنشطة نشغل بها ما تبقَّى من اليوم، قُمنا بجولة في مركز ليندون ب. جونسون للفضاء في جنوب وسط هيوستن وشاهدنا مركز التحكم القديم للبعثات الفضائية، والذي كان مركز عمليات المَركبة الفضائية أبولو ١١ (Apollo 11) عندما سار أول إنسان على سطح القمر. كان كل شيء يبدو مُمكنًا في ذلك الوقت. وعندما عُدنا إلى المدينة، زُرنا كنيسة روثكو.٣٢ قبل ذلك بسنوات، عندما كنَّا نعيش في نيويورك، كان مارك روثكو Rothko وجاكسون بولوك Pollock اثنين من فنَّانينا المفضَّلين في متحف الفنِّ الحديث. كانت لوحات بولوك التي رسمها بطريقة التنقيط دائمًا ما تتركني أشعر وكأنني أُحدِّق في الأنشطة المحمومة للدماغ البشري؛ أي الأفكار وهي تحلِّق وتلتمع في حركات تتأرجح بين النظام والفوضى. كانت رسوم بولوك تُثيرني، في حين أن روثكو، مع كتله الضبابية الكبيرة من الألوان، كان يمنحني شعورًا بالسكينة. وبداخل الكنيسة الصغيرة ذات الشكل الثُّماني الأضلاع، وصل روثكو بهذا الصفاء إلى حدِّ التطرُّف؛ ثمانية جدران من اللوحات السوداء الهائلة. ظلِلْنا نُنعم النظر إليها في محاولة للعثور على أنماط محدَّدة، أو على بعض المعاني الخفيَّة.
١  National Toxicology Program, Report on Carcinogens, 12th ed. (Research Triangle Park, NC: U.S. Department of Health and Human Services, 2011).
٢  Michele Peyrone, “Ueber Die Einwirkung Des Ammoniaks Auf Platinchlorür,” Justus Liebigs Annalen Der Chemie 51, no. 1 (January 27, 2006): 1–29. For a short biography of the discoverer, see George B. Kauffman et al., “Michele Peyrone (1813–1883), Discoverer of Cisplatin,” Platinum Metals Review 54, no. 4 (Oct 2010): 250–56.
٣  Barnett Rosenberg, Loretta Van Camp, and Thomas Krigas, “Inhibition of Cell Division in Escherichia coli by Electrolysis Products from a Platinum Electrode,” Nature 205, no. 4972 (February 13, 1965): 698-99. Also see Gregory A. Petsko, “A Christmas Carol,” Genome Biology 3, no. 1 (2002); and Rebecca A. Alderden, Matthew D. Hall, and Trevor W. Hambley, “The Discovery and Development of Cisplatin,” Journal of Chemical Education 83 (2006): 728.
٤  “Interview with Barnett Rosenberg,” Sesquicentennial Oral History Project contributor, available online at Michigan State University Archives and Historical Collections, February 2, 2001.
٥  Barnett Rosenberg, Loretta Vancamp, et al., “Platinum Compounds: A New Class of Potent Antitumour Agents,” Nature 222, no. 5191 (April 26, 1969): 385-86.
٦  انظر، على سبيل المثال:
Huifang Huang et al., “Solution Structure of a Cisplatin-Induced DNA Interstrand Cross-Link,” Science 270, no. 5243 (December 15, 1995): 1842–45. For a review of chemotherapy drugs and crosslinking, see Andrew J. Deans and Stephen C. West, “DNA Interstrand Crosslink Repair and Cancer,” Nature Reviews Cancer 11, no. 7 (July 2011): 467–80; and Laurence H. Hurley, “DNA and Its Associated Processes as Targets for Cancer Therapy,” Nature Reviews Cancer 2, no. 3 (March 2002): 188–200.
٧  Stephen Trzaska, “Cisplatin,” Chemical and Engineering News 83, no. 25 (2005): 3.
٨  “Cisplatin,” American Cancer Society website, last revised January 14, 2010.
٩  Klaus Mross, Ulrich Massing, and Felix Kratz, “DNA-Intercalators: The Anthracyclines,” in H. M. Pinedo and Carolien Smorenburg, eds., Drugs Affecting Growth of Tumours (Basel, Boston: Birkhäuser Verlag, 2006), 19.
١٠  “Doxorubicin,” American Cancer Society website, last revised November 7, 2011.
١١  Giorgio Minotti et al., “Paclitaxel and Docetaxel Enhance the Metabolism of Doxorubicin to Toxic Species in Human Myocardium,” Clinical Cancer Research 7, no. 6 (June 1, 2001): 1511–15.
١٢  Frank Stephenson, “A Tale of Taxol,” Research in Review, Fall 2002, available online at the Florida State University Office of Research website.
١٣  Alfred Gilman and Frederick S. Philips, “The Biological Actions and Therapeutic Applications of the B-Chloroethyl Amines and Sulfides,” Science 103, no. 2675 (April 5, 1946): 409–36. For more about the story, see Vincent T. DeVita and Edward Chu, “A History of Cancer Chemotherapy,” Cancer Research 68, no. 21 (November 1, 2008): 8643–53; and Bruce A. Chabner and Thomas G. Roberts, “Chemotherapy and the War on Cancer,” Nature Reviews Cancer 5, no. 1 (January 1, 2005): 65–72.
١٤  Convention on the Prohibition of the Development, Production, Stockpiling and Use of Chemical Weapons and on their Destruction (New York: Organisation for the Prohibition of Chemical Weapons, 2005). Available on the OPCW website.
١٥     endometrioid adenocarcinoma.
١٦     papillary serous tumor.
١٧     uterine papillary serous carcinoma.
١٨  Alessandro D. Santin et al., “Trastuzumab Treatment in Patients with Advanced or Recurrent Endometrial Carcinoma Overexpressing HER2/neu,” International Journal of Gynecology & Obstetrics 102 (August 2008): 128–31.
١٩  David M. Boruta II et al., “Management of Women with Uterine Papillary Serous Cancer,” Gynecologic Oncology 115 (2009): 142–53; Amanda Nickles Fader et al., “An Updated Clinicopathologic Study of Early-stage Uterine Papillary Serous Carcinoma (UPSC),” Gynecologic Oncology 115, no. 2 (November 2006): 244–48; C. A. Hamilton et al., “Uterine Papillary Serous and Clear Cell Carcinomas Predict for Poorer Survival Compared to Grade 3 Endometrioid Corpus Cancers,” British Journal of Cancer 94, no. 5 (March 13, 2006): 642–46; Sunni Hosemann, “Early Uterine Papillary Serous Carcinoma: Treatment Options Tailored to Patient and Disease Characteristics,” OncoLog 50, nos. 4-5 (April-May 2010): 4–6; and Carsten Gründker, Andreas R. Günthert, and Günter Emons, “Hormonal Heterogeneity of Endometrial Cancer,” in Lev M. Berstein and Richard J. Santen, eds., Innovative Endocrinology of Cancer, vol. 630 of Advances in Experimental Medicine and Biology (New York, NY: Springer, 2008), 166–88.
٢٠  Felice Lackman and Peter Craighead, “Therapeutic Dilemmas in the Management of Uterine Papillary Serous Carcinoma,” Current Treatment Options in Oncology 4, no. 2 (2003): 99–104.
٢١  Boruta et al., “Management of Women with Uterine Papillary Serous Cancer.” Also see Brij M. Sood et al., “Patterns of Failure after the Multimodality Treatment of Uterine Papillary Serous Carcinoma,” International Journal of Radiation Oncology, Biology, Physics 57, no. 1 (September 1, 2003): 208–16; and Hadassah Goldberg et al., “Outcome after Combined Modality Treatment for Uterine Papillary Serous Carcinoma: A Study by the Rare Cancer Network,” Gynecologic Oncology 108, no. 2 (February 2008): 298–305.
٢٢  S. J. Gould, “The Median Isn’t the Message,” Discover 6 (June 1985): 40–42.
٢٣  Gould, “The Median Isn’t the Message”.
٢٤     Tamales: طبق حار من اللحم المفروم الملفوف بعجين مطبوخ بالبخار ومُغطًّى بأوراق الموز أو الأفوكادو، يُقدَّم مع حساء البسول Posole المكوَّن من دقيق الذرة ومكوِّنات أخرى مثل اللحم والدجاج والخُضَر (المطبخ المكسيكي). (المترجم)
٢٥  Robert W. Holloway, “Treatment Options for Endometrial Cancer: Experience with Topotecan,” part 2, Gynecologic Oncology 90, no. 3 (September 2003): S28–33.
٢٦  Holly H. Gallion et al., “Randomized Phase III Trial of Standard Timed Doxorubicin Plus Cisplatin Versus Circadian Timed Doxorubicin Plus Cisplatin in Stage III and IV or Recurrent Endometrial Carcinoma,” Journal of Clinical Oncology 21, no. 20 (October 15, 2003): 3808–13; David Scott Miller et al., “A Phase II Trial of Topotecan in Patients with Advanced, Persistent, or Recurrent Endometrial Carcinoma: A Gynecologic Oncology Group Study,” Gynecologic Oncology 87, no. 3 (December 2002): 247–51; and Scott Wadler et al., “Topotecan Is an Active Agent in the First-line Treatment of Metastatic or Recurrent Endometrial Carcinoma,” Journal of Clinical Oncology 21, no. 11 (June 1, 2003): 2110–14.
٢٧  Alessandro D. Santin, “HER2/neu Overexpression: Has the Achilles’ Heel of Uterine Serous Papillary Carcinoma Been Exposed?” Gynecologic Oncology 88, no. 3 (March 2003): 263–65.
٢٨  تتسم الآلية بكونها أكثرَ تعقيدًا مما تبدو عليه. انظر:
“Targeted Therapies for Breast Cancer Tutorial: Inhibition of HER2,” National Cancer Institute website.
٢٩  أتى هذا الاسم الغريب بعد أن اكتشف مُختبَران هذا الجين بصورة مستقلة (في البشر والفئران):
Alan L. Schechter, Robert A. Weinberg, et al., “The Neu Oncogene: An erb-B-related Gene Encoding a 185,000-Mr Tumour Antigen,” Nature 312, no. 5994 (December 6, 1984): 513–16; and A. Ullrich et al., “Human Epidermal Growth Factor Receptor cDNA Sequence and Aberrant Expression of the Amplified Gene in A431 Epidermoid Carcinoma Cells,” Nature 309, no. 5967 (June 31, 1984): 418–25.
٣٠  ذُكرت القصة وتطوراتها في:
Robert Bazell, Her-2: The Making of Herceptin, a Revolutionary Treatment for Breast Cancer (New York: Random House, 1998).
٣١  Lawrence K. Altman, M.D., “Very Real Questions for Fictional President,” Doctor’s World, New York Times, October 9, 2001.
٣٢     Rothko Chapel: ليست كنيسةً بالمعنى التقليدي، بل ملاذٌ للفنون وللتأمُّل. (المحرِّرة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤