القسم الثاني

ولم يَنْتَهِ حنوش من كلامه حتى وصلنا إلى مكانٍ سادَ فيه السكوت، وتولى عليه النظام التام، وفي صدر المكان رجلٌ مُهَابٌ جالس على كرسي، ومن حوله الجنود، وفي أيديهم آلات متنوعة الأشكال، وفي القرب منه جمعٌ كبيرٌ من الناس، كلهم شاخصون إليه، فسألت حنوش عن هذا المشهد المَهِيب، فقال: هذا هو مكان القصاص الابتدائي، وهذه الجموع هي الأنفس التي ستُحاكَم الآن، وهذا الرجل الجالس على كرسي الحكم، هو المأمور الذي يُنفِّذ الأحكام على المذنبين بأمرٍ من العِزَّة الإلهية.

ثم أشار إليَّ حنوش بأنْ أجلس بجانبه إلى أن يأتي دوري بالمحاكَمة، فجلست أنتظر محاكمة البشر.

وبعد هنيهة نادى ذلك المأمور بصوتٍ عالٍ: أحضِرُوه إلى هنا. وحالًا أحْضَرَ الجنود رجلًا تظهر على مُحَيَّاه العَظَمة والكبرياء، ذا وجهٍ عبوس، يُسْتَدَلُّ من حركاته التذمر والأَنَفة لكونه مساقًا كمجرم، فسألت حنوش عن هذا الرجل، فقال: هذا أحد ملوك الشرق العظام. ولما وَقَف أمام المأمور، أمر له بمائة جلدة بقضبانٍ من حديد مَحميَّة، فلما سمع بهذا القصاص وهذا الحُكْم كبُر عليه الأمر، وصاح موجِّهًا كلامه للمأمور: أنا أُقَاصُّ؟! أنا ملكٌ جليل القدر، أُجَازَى من رجلٍ صعلوك مثلك؟! اعرف من الذي أمامك، إن ألوفًا من الجند وملايين من الخلائق كانت طَوْع إشارتي.

فتأثَّر المأمور لهذه العظمة الفارغة، وأجابه بقوله: اصمت أيها الظالم، إنك في مكانٍ لا فَرْقَ فيه بين الملِك والجندي. كتِّفُوه أيها الجنود، وألقُوه على الأرض، الآن أريد أن «أفرك رقبتك» جزاءً على مطاوَلتك وعدم طاعتك، هل تظن نفسك أن مُلْكَك سيدوم في العالم الأول والآخر، لو كنتَ عادلًا نزيهًا شفوقًا على رعيتك، محبًّا تَقَدُّمَها ونجاحَها في العالم الأرضي، لَكنتَ الآن مُكْرَمًا معززًا سعيدًا، ولكنك كنتَ ظالمًا غليظ القلب، تَصُم آذانَك عن نداء المظلومين والمصابين من جور مأموريك وأعوانك وجواسيسك، وكنتَ فوق هذا مستبدًّا لا تقبل نصيحةَ نَصُوح ولا مَشورة مُخْلِص، ولا تريد أن يشاركك أحدٌ في سياسة الرعية، فألغيتَ مجالس الشورى، وأبْعَدْت عنك كل ذي نفسٍ أبيَّة، وقَرَّبْتَ إليك كل مدَلِّسٍ منافق، قلْبُه كالصخر الأصم، حتى أصبحَتْ بلادك في مؤخرة البلدان من حيث العلم والتمدن والصناعة والزراعة، فنخر عَظْمَها سوسُ الفساد من جَرَّى حكمك، الذي أبعد الأمان عن السكان، وأصبحوا لا يأمنون على عِرْضِهم ومالهم وأرواحهم. هذه العظمة التي تريد أن تتظاهر بها الآن، هل كُنْتَ تتظاهر بها عندما يأتيك أحدُ معتمدي الدول، ويُرْغِمك على المصادَقة على مطاليب تكون فائدتها راجعةً إلى بلاده، ومضارُّها على رعاياك، يظهر أنك «لا تجيء إلا بالكسر مثل البطيخ».

دمَّرْتَ بلادك من كثرة الضرائب التي فرضْتَها على الرعية التعيسة، وجعلت فلَّاحها في حالةٍ من أتعس الحالات، هل نسيت يا أيها النحس أنك كنت تقتني في دار مُلْكِك ما يزيد عن الألف امرأة تسجنها وتجعلها رهن شهواتك الحيوانية، وتحرمها من الحياة العائلية السعيدة «تشتهي الرزق»، إن الوحوش الضارية أعَفُّ نفسًا منك، فكيف مع هذا يمكنك أن تدير أعمال المُلك وتَسُوس الرعية، وأنت غائصٌ ببحر الفساد، وساقط على حضيض الفحشاء، كان الواجب عليك أن تكون قدوةً صالحة لرعيتك، «يا قليل الهيبة» في نظام العائلة التي يتوقَّف عليها عَمار البلاد وإسعاد العباد.

كم قَتَلْتَ مِنْ أقرب الناس إليك، كم ظلمت منهم من الأبرياء، وأَوْدَيْت بحياتهم في ظلمات السجون، لمجرد ظنٍّ فاسد، أو من وشاية واشٍ، كل ذلك لخوفك على هذه الروح الشقية.

لو كنت عادلًا لما كُنْتَ تخاف من أحد، لو كنت شَفُوقًا رَحُومًا لما كان أحدٌ يسطو على حياتك، وكنت تسير في الشوارع والأسواق بلا حرَّاسٍ ولا جنود، لو كنت محبًّا لبلادك لَكنت في غنًى عن ذلك التحفُّظ والحذر وقَلَق البال، ولكن الظالم سيبلى بالظلم.

كم اغتصَبْتَ من أملاك الفقراء، وجعلتها من أملاكك الخاصة يا غاشم! كم اغتصبت من العذارى البَتُولات، وضحيتهن على مذبح شهواتك الرديئة، وفرَّقْتَهُنَّ عن أهلهن! كم سَفَكْتَ من الدماء في الحروب التي أنتجَتْها مطامعُك وعنادك، فعادت نهايتها عليك بالفشل والخراب!

ملَّكْتَ بلادك فعلًا للغرباء بما أعطيتَهم من الامتيازات، وأصبحت حاكمًا عليها بالقول فقط، وأمست الرعية في أسوأ حال.

خسِئْت أيها المنافق الغاشم، تحمَّل الآن العذاب المر أيها الوحش؛ لتكون عِبرةً لغيرك، واخفض من كبريائك وأنانيتك. انزلوا عليه أيها الجنود بسياط الغضب المحميَّة.

فلما نزلوا عليه صَرَخَ المسكين: «آه دخيلك» ارحمني، أنا الخاطئ حقيقةً، أنا الجاني، أنا الظالم، إنني أعترف بهذا كله، فقط ارحمني واعفُ عني، الآن عرفت أنني أستأهل كل عذاب، الآن تمَثَّلَتْ أمامي كل أعمالي الوحشية، الآن أسمع في أذني أصوات المظلومين والمنكوبين الذين كنت السبب في بلواهم، وأصوات اليتامى والقاصرين يصرخون، الآن شعرت بوخذ الضمير، أنا المسئول وحدي عن شقاء رعيتي وتأخُّر بلادي، أنا كنت قادرًا على السير بموجب القوانين الدستورية، وعلى إبعاد الخونة المدلِّسين المنافقين عني، وألَّا أجعل ميزة بين المسلم والنصراني واليهودي والدرزي، ولكن آهٍ من الذين كانوا يخدعونني ويزينون لي كل أعمالي ويقدِّسونها! آهٍ لو كنت أظفر بواحدٍ منهم الآن، لَكنت أمتص دمه، وأشفي غليلي، وأبَرِّد نار قلبي.

أيها المأمور العادل، أسألك أن تعفو عني وتنجيني من هذا الضرب المؤلم المميت، آمان.

فجاوبه المأمور: إن أيام الرحمة قد مضت، فَلْتَمُتِ الآن بعذابك أيها المجرم. فصرخ المأمور ثانيًا: «تمِّمُوا القصاص أيها الجنود، وانزلوا عليه بشدة لتُشفى قلوب المظلومين الذين ينظرون إليه الآن.»

آه يا أخي فنيانوس، إني لا أقدر أن أصف لك حالة هذا الملك المسكين، فيا ليته كان خسر كل مُلْكِه وعاش حقيرًا وضيعًا في دنياه، ولا رأى هذا العذاب المُرَّ القاسي، إن لحمه قد نُثِرَ عن عظمه، وأصبح بحالةٍ تقشعرُّ لها الأبدان، وقد غاب عن الوجود من شدة الألم، ما ضرَّه لو كان عَدَلَ في حكمه، وهَدَمَ ذلك السور الواقف بينه وبين رعِيَّتِه، وتقرَّب منها ونادى تعالوا إليَّ أيها المظلومين فأنا أُنْصِفُكم! ما ضرَّه لو كان جعل بجانبه مجلسًا يستشيره في شئون الدولة! فهل كان ذلك يخفض من منزلته؟! أو جمع من أطراف البلاد أفرادًا تقيمهم الرعية نوَّابًا عنها ليساعدوه ويُطْلِعوه على مطاليب الرعية، ويبينوا له ما تحتاجه البلاد من المشروعات النافعة.

لو كان أنفق نصف ما ينفقه على الهدايا العظيمة إلى القياصرة والملوك، على تعزيزِ بَحْريةِ الدولة، أو على الأقل على إشباع بطون العساكر التي أضناها الجوع والعُرْي والمرض والويلات، لَكان نهض بوطنه نهضةً يستحق عليها الجزاء الحسن، أما وإنه قد اهتم لنفسه، وقال بعد حياتي لا حياة، وبَدَّدَ أعظم الأموال في غير محلها، ورشا بها الجرائد العظيمة في بعض الممالك الغريبة؛ كي تمدحه وتُطْنِب بصفاته، وضغط على حرية أصحاب الجرائد في بلاده وأخرس ألسنتهم؛ لئلا ينشروا عنه عيبًا أو يكشفوا سترًا؛ فاستحق هذا القصاص.

فَلْتعتبِر ملوك الشرق وسلاطينه، وَلْيُشفِقوا على رعاياهم، ويسيروا على طريق العدل، ويتقرَّبوا من الرعية؛ وَلْيُنصِفوا المظلوم من ظالمه ولا يحابوا، وَلْيخافوا الله ويقتصروا على امرأةٍ واحدة؛ لكي يتمكَّنوا من رفع منار العدل في الرعية، وينشطوا الصنائع، ويُقَوُّوا الزراعة والتجارة، ويرفعوا عن عاتق الفلاح المسكين تلك المظالم التي لا تُحتَمَل ولا تُطاق، حتى لا يصيبهم ما أصاب رصيفهم من العذاب وتبكيت الضمير والشقاء الذي لا يُحتمل في القصاص الابتدائي، والله أعلم كيف يكون القصاص النهائي.

•••

وبعد هنيهة أتوا بشخصٍ «كاتع رقبته مثل أبو زهرا»، فعرفته من أول نظرة، إنه راهب، ولما وقف أمام المأمور أمر له بخمس جلداتٍ «على كعابه تكون سخنة»، فلما سمع الراهب هذا القصاص جثا على ركبتيه وقال بخشوعٍ كلي: أي ذنبٍ فعلته يا سيدي حتى استوجبْتُ هذا القصاص؟ قد تركت العالم ومَلَاذَّه وزخارفه، وانفردت في الدير منقطعًا إلى العبادة والصوم، وبعد هذا كله أُجازَى بمثل هذا الجزاء.

فقال له المأمور: اصْمُتْ «يا دقن التيته»، نَسِيتَ الآن ما كنت تفعله من الأمور المغايرة للقانون الرهباني، أول كل شيء كانت قناني العرق المثلث تُعَدُّ بالعشرات تحت سريرك مع توابعها، كالمحالي والمكسرات، وكنت لا تشرب أقل من ٤٠٠ درهم عرق كل يوم، أهذا من قانون الرهبنة؟! وثانيًا نسيت عندما كنت تتلصص من خلف السياج «يا منقوم».

فجاوَب الراهب وقال: لست أنا يا سيدي، فإنك غلطان، بل هذا أبونا الرئيس. فأجابه: أبونا الرئيس يأتي دوره، فأمره لا يعنيك، وأيضًا أي شغلٍ لك عند شركاء الدير حتى كنتَ أكثر الأحيان «تظمط» إلى هناك، أَلَا تعلم أنك تطوَّعت لخدمة الله والقريب، أين مواظَبتك على العمل في الحقل؟ أين مواصَلتك المطالَعة والتنقيب في العلوم والصنائع لكي تفيد الناس بها؟ هل خُلقت فقط لكي تملأ بطنك «مخلوطة وتطرق طلم» ولتمسيد الدقن، واستماع كلمة «مَجِّدْ لله يا بونا»؟ الله يتمجد بالعمل لا بالكسل، الله يتمجد بضرب المعول في الحقل، وزرع البنادورة والقلقاس، لا بالقعود تحت السنديانة. الله يتمجد عندما تكون مع رفاقك الرهبان دائبِين على اقتباس العلوم والمعارف لتنفعوا بها الناس، بمثل هذه الأعمال تُمَجِّد الله، لا بجمع المال وتسْتِيف الليرات في الكمر، ماذا ينفعك المال؟ وأي لزومٍ له ما دُمْتَ ناذرًا العفة والطاعة؟ هل أولادك يعْوُون من الجوع؟ كنت تحسد على الأقل رهبان الإفرنج الذين يؤسِّسون المدارس والمعالم والكنائس في كل مكان، ويفيدون بني البشر، ويخفِّفون عنهم المتاعب المتأتية عن الجهل والغباوة.

فبكى الراهب المسكين وقال: كل ما قُلْتَهُ حقٌّ أيها المأمور، «خطيَّتِي عظيمة»، ولكن مسألة «التلصُّص» من خلف السياج أنت غلطان فيها، فاعفُ عني وارحمني.

فقال المأمور: لا رحمة الآن، انزلوا عليه أيها الجنود. فنزلوا عليه بالقضبان المحمية خمس جلدات، حتى فَقَدَ رُشْدَه وحملوه إلى الداخل بحالةٍ تعيسة، فَلْيعتبر الرهبان من هذا القصاص، وَلْيعلموا أنهم وُجِدوا لِحَمْل أثقال البشر، لا لتكثير الصلاة وترديدها كالببغاء، بدون أن يعلموا مضامينها ومقاصدها السامية، كُنْتُ أَوَدُّ ألَّا أرى هذا القصاص الذي وَقَعَ على راهبٍ من أولاد وطني، الذين أُحِبُّهم وأعتبر دعوتهم الشريفة، ولكن ما العمل وقد قُدِّرَ لي أن أبقى مكسور الخاطر في تلك الدنيا وفي هذه.

•••

وساد السكوت برهةً من الزمن، ثم خَرَقَ هذا السكوت صوتُ المأمور بقوله: أحضروا المجرم إلى هنا. فحالًا أُحْضِر شخصٌ تلوح على مُحَيَّاه علائم الرزانة والهدوء، وأول ما وقع نظري عليه عَرَفْتُه، وقلت لحنوش: أليس هذا الرجلُ أحَدَ متصرفي جبل لبنان؟ قال: نعم، ومن أين لك معرفته؟ قلت: أعرفه عندما كنت في العالم الأول. ثم أشار عليَّ بالسكوت فسَكَتُّ.

ولما وَقَفَ المتصرف بين يدَي المأمور فاتحه بقوله: إن ما استوجب قصاصك الآن هو خيانتك لوظيفتك، وعدم قيامك بالواجب نحو ذلك الجبل المقدس، فقد أفْسَدْتَ فيه، وارتشيت، واستبددت، وعَسَفْتَ، وكنْتَ تجعل الحق باطلًا والباطل حقًّا، كُنْتَ كأحد جواسيس الأستانة تشي بمَن تريد أن تُلْحِق به ضررًا من سكان لبنان، وكنت تَنُمُّ برؤسائه أنهم يتظاهرون بالمَيْل إلى الدولة تظاهرًا ويميلون في الباطن إلى دول أوروبا، كُنْتَ تفعل كل هذا غير خائفٍ من توبيخ الضمير ولا من غضب الله.

ثم أمر الجنودَ بأن يجلدوه ٧٠ جلدة بقضبان الانتقام، فصرخ المتصرف قائلًا: تَصَبَّر أيها المأمور ولا تعْجَل عليَّ بهذا الحكم القاسي، أمْهِلْني لأدافع عن نفسي، فإني أعلم أنني بريء مما اتهمتني به، وسينظر سيدي ذلك متى سَمَحَ لي بالكلام.

فلما رأى المأمور تواضُع الرجل وخضوعه، سَمَحَ له بالدفاع عن نفسه.

فقال المتصرف: أَمَرْتَ أيها المأمور الجليل بمجازاتي ومُقَاصَّتي بناءً على ما تراءى لك من أنني المُسَبِّب تأخُّرَ لبنان، وأنني وحدي المرتشي الخائن وظيفتي وذمتي، وأن كل ما حصل في لبنان في أيامي من الفوضى في الأحكام، وما أنتجته هذه الفوضى من تزعْزُع أركان العدالة فيه أنا المسئول عنه، مع أن الواقع بخلاف ذلك. إن خوفي من هذا القصاص المخيف المرعب الذي أَمَرْتَ به يجعلني أن أبوح بكل شيء؛ لأبرئ نفسي وأَرْفَع عن عاتقي تلك الأوزار والذنوب التي رَمَيْتَني بها.

أنت تعلم يا حضرة المأمور العادل أن الوظائف في حكومتنا لا تُنَال بالأهلية والاستحقاق، بل بالمحسوبية والتوصيات والرشوة، ولما انتهت مُدَّة سلفي المتصرف «فلان»، سعَيْت بوسائط عديدة منها مُحلَّل ومنها مُحرَّم، وأهَمُّها وُعُودي للبعض بالمال الكثير بعد نوال الوظيفة على سبيل الرشوة وإن تكن دَيْنًا، وغير ذلك مما لا لزوم لِذِكْره الآن، حتى حَصَلْتُ على هذه الوظيفة، التي كنْتُ أسمع أن الذي ينالها يسعد إلى آخِر يوم من حياته؛ لأن المتصرف في ذلك الجبل الجميل كالسلطان في الأستانة، مُطْلَق التصرف، يفعل ما يشاء، ومن جملة الوسائط التي استعملتها والتي أعْتَرِف بها أمامك أني جعلت نفسي لاتينيًّا، مع أنني كنت غير لاتيني، أو بالحري كنت على لا شيء؛ لأنه من الواجب — كما لا يخفى — أن يكون متصرف لبنان لاتينيًّا، ولو اقتضى الأمر أن يكون المتصرف يهوديًّا لما كنْتُ تأخَّرت عن أن أجعل نفسي كذلك لكي أنال الوظيفة.

ولما كان تعيين المتصرف الذي يقدِّمه الباب العالي أولًا لسفراء دول الغرب كفرنسا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا، موقوفًا على قَبُول هؤلاء ورضاهم، جَعَلْتُ همي بعد ترشيحي لهذه الوظيفة إرضاء هؤلاء السفراء، واستعمَلْتُ ما استطعته من السياسة والدهاء، ولما كنت أزور سفير روسيا كنت أعِدُه بأنني سأسير في ذلك الجبل على ما يوافق نفوذ روسيا ومصلحتها؛ لأن روسيا هي صديقة دولتنا الأبدية القرار، فيصدِّق السفير كلامي ويمد إليَّ يدَ المساعَدة لتعْيِيني، ومثل ذلك كنْتُ أفعل مع باقي السفراء، حتى أحُوزَ على رضاء الجميع، وأتخلص من المعارضة؛ لأنه كثيرًا ما كان يحصل في مثل هذا الوقت اختلاف ما بين السفراء على تعيين المتصرف؛ لأن كلًّا منهم يسعى ليجعل المتصرف مُنَفِّذًا لمصالح دولته، غيْرَ مهتم لصالح ذلك الجبل الذي تعَهَّدَت الدول بحمايته وحِفْظ استقلاله.

وفي اليوم الذي تمَّ فيه تعييني متصرِّفًا على لبنان باتفاق السفراء مع الباب العالي، أنْعَمَت الحضرة السلطانية على عبدها المطيع …

هنا قاطَعه المأمور بقوله: أَلَا تخْجَل من أن تقول عبدها؟ حذَارِ أن تعيد مثل هذه الكلمة، عُدْ إلى حديثك.

– أنعمت عليَّ الحضرة السلطانية برتبة الوزارة؛ لكي تُظْهِر سيادتها على الجبل من طرَفٍ خفي، وأُعْلِن ذلك رسميًّا، ثم طُيِّر الخبر حالًا إلى لبنان بواسطة بعض المكلَّفين بذلك من وجوه لبنان ورؤسائه، وكان ذلك قبل أن تُرْسِل الحكومة الخبرَ رسميًّا إلى لبنان.

ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وقد توارَدَتْ عليَّ أنباء التَّهاني من بعض كبار لبنان ورؤسائه، وكلها تُعْرِب عما خالَج أفئدة اللبنانيين من الفرح والسرور بتعييني متصرفًا عليهم؛ نظرًا لما يعْهَدُونه بي من الدراية والحكمة والاستقامة، وغير ذلك من الصفات الشريفة، مع أنه لم يَسْبِق لي أن عَرَفْتُ أحدًا منهم، ولا سمعوا باسمي من قبل، فاستدلَلْتُ من هذا على فسادٍ وصغارةٍ في المحيط اللبناني المرتقي.

وقبل تعييني كانت تمضي عليَّ سنوات لا تَرِدُني فيها رسالةٌ برقيةٌ من أحد، ولا أسمع فيها كلمة تعظيمٍ ولا تكريم؛ لأن في الأستانة من البشوات أمثالي ألوف، وقد أصبحوا بسعر الفجل، فاستكبَرْتُ بعد تعييني هذا الأمر، ونفخَتْني العظمة وشمخت بأنفي، وبعد أن كنت بشوشَ الوجه رقيق الجانب شأن بعض أكابر الأتراك، «عقدت نونتي وصار ذنبي يفرط الجوز»، وأنت لا تجهل الطبع البشري المنحوس.

ومن ذلك الحين دخلت في طورٍ جديد من أطوار حياتي، فكَثُرَ زُوَّاري، وتقَرَّب الناس مني، فصرت كيفما سِرْتُ يأخذ القوم سلامي، ويحَيُّوني ويكرموني الإكرام الزائد.

هذا وقد أرسل بعض وجهاء لبنان على إثر تعييني إلى بعض معارفهم في الأستانة من البشوات، وذوي المكانة لكي يُعَرِّفوهم بي، لينالوا حظوةً في عيني عندما أصِلُ إلى لبنان وطنهم، فتعرَّفْتُ بمدة أسبوعٍ واحد على أكثر وجوه لبنان وأمرائه ومتوظفي الحكومة فيه، وأنا لم أَزَلْ في الأستانة منتظرًا الأوامر بالسفر.

وعند ورود البريد من لبنان ومصر وصَلَنِي من الجرائد والرسائل ما يكفي لإيقاد فُرْن يومًا كاملًا، ففضضْتُها كلها، ووجَدْت فيها القصائد الرنانة بمدحي وتهنئتي وتفخيمي، وقرأت المقالات الضافية والفصول الطوال عن صفاتي وعدلي، ثم عن جمالي وجسمي وطولي وعرضي، وعن كيفية نومي وأكلي وشربي، وعن مشروبي من الخمور، وعن عدد أولادي وبناتي، وقد زادوا فيهم وأطنبوا — على الأخص — بمعارفي الواسعة، وتضَلُّعي في عدة لغات كالإفرنسية والإنكليزية واللاتينية وغيرها، مع أنني لا أعرف من هذه اللغات إلا اسْمَها، ولا أُدْرِك من العلوم والمعارف إلا عِلْمَ المجامَلة التركية وبعض اصطلاحات بالإفرنسية.

فهذه المظاهرة وهذه الخفة التي ظَهَرَتْ من أرباب أقلامهم، وقادة أفكارهم وكبارهم، جعلَتْنِي أطْمَع بهم، وداخَلَنِي شيءٌ من الاحتقار لأولئك الناس الذين يَعُدُّون نفوسَهم كبارًا.

والأجمل من كل ذلك هو أن أحَدَهُم لما عَلِمَ بتعييني متصرفًا على لبنان، وَقَفَ على الإثر في غُرْفَته، وارتجل شعرًا بمدحي، وهنَّأ لبنان واللبنانيين فيَّ، فهل يُنْتَظر بعد هذا من إنسانٍ ضعيف ألَّا يأخذه البطر والتكبر، وألَّا يطمع بمثل هؤلاء الناس ويحتَقِرَهم ويستَبِدَّ بهم.

فصار المأمور يُقَلِّب شفتيه ويرْفَع حاجِبَيْه علامة الاستغراب، وأنا من جهةٍ أحترق غيظًا لثبوت هذه التهم على إخواني، الذين كُنْتُ أود ألَّا أسمع عنهم في هذا العالم مثل هذه الأخبار المُحْزِنة. آه «يا حسرتي» عليك يا لبنان! آه «يا حرقة قلبي» على عِزِّك الماضي ومَجْدِك القديم! يا أيها الجبل الذي ينْطَح بهامته السحاب، يا من قد نَظَرَتْ عيناي النورَ في ربوعك، وانتفخ صدري لأول مرة من نسيمك المحيي، اغفر لنا هذه الذنوب التي نقترفها باسمك، بحَقِّ أرزك، بحق قِمَمِك العالية، بحق وهادك وبطاحك، بحق نبوعك وعيونك، بحق جمالك وبهائك، بحق كَرْمك وزيتونك، وتوتك وليمونك، انعَطِف علينا، واجعلنا أن نعتصم بالإخاء، ونتكاتف على محبتك وخدمتك، وألَّا نُعَظِّم الغريب ليُذِلَّ بعضنا بعضًا، نادِ أولادك المهاجرين الذين تَرَكُوك، لا بغضًا فيك، بل كرهًا للفساد السياسي الحاصل بين بَنِيك، نادِهم ليعُودوا إليك ويَحْتَمُوا تحت كنفك ويعتزوا بك، قد أضناهم البعاد وتولَّدت في قلوبهم الحسرات؛ نادِهِم كي يعودوا حاملين الهدايا من المحبة الحقيقية، والأُلْفة الأخوية، والحرية التي أعطانا إياها الله، الحرية المقدسة البعيدة عن الزيغ والتطرف؛ ليَسْعَدوا بقربك ويُمَجِّدوا الخالق في معابدك وأَدْيِرَتك الدهرية، واذْكُرْني — أنا المسكين الخاطئ الذي فارَقْتُ الحياة الجسدية — وأنا بعيدٌ عنك ومشتاق إلى لُقْيَاك، وادْعُ لي بالسعادة الدائمة لأحيا إلى الأبد.

ثم عاد المتصرف إلى الكلام وقال: وقَبْل أن أبارح الأستانة أخَذْتُ من الحكومة التعليمات الكافية لِحِفْظ سلطة الدولة في ذلك الجبل، ومع هذا أخَذْتُ أيضًا وصايا كثيرة من بعض أصحاب النفوذ ببعض الوجوه في لبنان لأجل الوظائف، وبعد إتمام كل ما يَلْزَم وصدور الأمر بالسفر سافرت، ولما وَصَلْتُ إلى برت سعيد، استقْبَلْتُ بعض الرسائل البرقية الترحيبية من لبنان، وعند وصولي إلى ميناء بيروت احتاط الباخرةَ أسطولٌ كبير من الزوارق والقوارب، حاملة الذوات، والوجوه، والحكام، والمأمورين، والمتوظفين، الذين تركوا أشغالهم وأتوا من أمكنةٍ بعيدة للسلام عليَّ، والأخذ بخاطري ورضاي، وقد صعدت إلى البر بين الجماهير الكثيرة المصطَفَّة على الرصيف، فقابَلَنِي هناك — بصفةٍ رسمية — حكَّام ولاية بيروت، وبعض الجنود الذين أخذوا سلامي.

ولكيلا أطيل الشرح وأُثْقِل عليك، صعدنا إلى مركز المتصرفية في الجبل، وكان على كل الطريق التي مررت فيها جموع وخلائق لا تُحصى ولا تُعَدُّ، وصوْت البارود يُدَوِّي دويًّا يُصِمُّ الآذان، فتُجاوِبُه الأصدية من تلك الوديان، وكبار الرجال والوجهاء والأمراء كلهم بخِدْمتي، يحيطون بي من كل جانب، والفرسان أمامي تلعب بالجريد، وكلهم يَدْعُون لي ولعائلتي بطول العمر، ويُنْشِدون الأناشيد الحماسية لرِفْعَة مقامي، وكيفما حَوَّلْت نظري أجد التحية والتعظيم وإحناء الرءوس.

حينئذٍ أَخَذْتُ أتأمل بعبودية هذا الشعب، وصِغَر نفس كباره الذين يُجْبِرون العامة على هذا التظاهر المعيب، ويُفْنُون قوى هذه الطبقة النشيطة التي كلها استعدادٌ للأعمال العظيمة في سبيل رضائي، مع صرف الأموال وتعطيل الأشغال، فقلت: ماذا رأوا مني حتى عامَلوني هذه المعاملةَ كفاتحٍ عظيم، إنهم لم يَرَوْا بَعْدُ شيئًا من خيري ولا من شري، بالحقيقة إنهم أذلاء.

نعم، كنت أَسْمَع عن مثل هذا عندما كُنْتُ في الأستانة، ولكن ليس السمع كالعيان، رأيت أكبر ذاتٍ في لبنان يَقِفُ بين يدي صاغرًا ذليلًا، يتمنى أن يكون في خدمتي أينما ذَهَبْتُ، ويفتخر أن يُسَمَّى من ياوران المتصرف.

وبعْدَ أن حلَلْتُ في سراي الحكومة، وأخَذْتُ الراحة الكافية وحان وقت تلاوة الفرمان، اجتمع في بتدين مركز المتصرفية جميع الحكام والوجوه، وكثير من رؤساء الطوائف، وجمٌّ غفير من الشعب، ولما تُلِيَ الفرمان رُفِعَت الأيدي وأمَّن الجميع، وهتفوا بالدعاء، وهم غير عالمين بأن تلاوة مثل هذا الفرمان — الذي لا يفرق شيئًا عن فرمانات الولاة في ولايات المملكة، والذي هو على نَصٍّ واحد يُعطى به الوالي الحكم المطلَق تقريبًا — هو برهانٌ كافٍ على محاوَلة الدولة نَزْعَ امتياز لبنان، ومَحْو استقلاله الإداري؛ لأنها تعْلَم أنْ لا مُطَالِب بهذه الحقوق؛ لأن الشعب ضعيف وجاهل، والكبار منه لا يَهتمُّون إلا بالوظائف والعظمة الفارغة.

أما سعيهم لنوال الوظائف فهو غريب؛ إذْ إن كلًّا منهم يعمل كل واسطة، ويُنْفق الأموال الطائلة، وربما رَهَنَ أرزاقه لأجل الوظيفة؛ كل ذلك لكي يتظاهر أمام أقرانه بالعظمة، ويستبد بذويه وأهل بلده، متخذًا قوة الحكومة لتنفيذ غايته في الناس، مع أنه عندما يَقِف الواحد منهم أمامي يكون كأنه واقف أمام العزة الإلهية، وقد يكون الشخص منهم أغنى وأعلم مني، عارفًا بالقوانين، ذكيًّا متضلعًا بجملة لغات، وربما يكون في بيته كالملِك عائشًا برغدٍ وهناء، ذا أرزاقٍ كثيرة، تُغْنِيه عن مثل هذا التذلل، ومع ذلك فهو يُفَضِّل أن يكون خادمًا لي — أنا الغريب عنه — من أن يكون مخدومًا مُعَزَّزًا في بيته، مستقلًّا حرًّا، كل ذلك لكي يتظاهر بالفخفخة المعيبة، ويُقَطِّب حاجبَيه في وَجْه أقرب الناس إليه، وينتقم ممَّن يَحْسَبُهم أعداءه.

وقبل أن جِئْتُ لبنان، لم أكن أظن أن الشعب يسْتَرْسِل في الرشوة إلى هذا الحد، كنت أرى «خيالة الإنكليز» الليرات تتوارد عليَّ فرقًا وفيالق حتى بهرت عيني.

أما الوسائط لذلك فكثيرة، إنهم يغتنمون فرصة الأعياد والمواسم، ويرسلون إليَّ التحاويل، أو يتركون القيم المهمة بعد زيارتهم لي، ومثل ذلك تَفْعَل نساء الوجهاء والكبراء مع امرأتي، فيأتينها بالهدايا الثمينة والأموال الوفيرة، ويتوسطنها في أمورٍ كثيرة، والذي يرى نفسه مُقَصِّرًا بالمال يعمل وسائط أخرى، كالالتجاء إلى الرؤساء الروحيِّين واستنجادهم لما لهم من النفوذ، وهؤلاء كلٌّ منهم يعمل على مُناصَرة أبناء طائفته والمحافَظة على حقوقها المهضومة، فأُصبح أنا — بعد هذه الأعمال — تائهًا في بَحْر هذا المحيط المضطرب، الذي يصلِّي ويتعبد كثيرًا، وأُضْطَر إلى استعمال الخداع والدهاء، فأَعِدُ هذا وذاك اليوم وأُخْلِف بوعدي في الغد، وأنتحل الأعذار، وأجامل الرؤساء وألاطفهم، وأساير كلًّا على حسب هواه، وبَعْض الأحيان أتظاهر بالغضب، وأمتنع عن مقابلة الناس هربًا من إيفاء الوعود، أو أتمارض وأحتجب عن الأنظار.

وآخرًا لَمَّا أتعب من هذه الأعمال المضنية وهذا التصنُّع المقلِق للبال، الذي لا يتعبون هم منه، آخُذ لي منهم مُعِينًا وأسميه «كاخيه الباشا»، وأجعله واسطة بيني وبين الشعب من جميع الطبقات، فهو الذي يستلم الرشوة، وهو الذي يعْزِل ويوظِّف، ويصبح هو المسئول عن كل شيء، وبالاختصار هو القاضي الماضي، فأرتاح أنا من جميع أعمالي فائزًا بالغنيمة.

أما الوشايات التي يستعملونها ضد بعضهم فحدِّث عنها ولا حرج، قد تصلني مكاتيب غُفَّل كُلُّها قَذْف وطعْن وفَضْح أسرارِ بعضهم بعضًا، هذا عَدَا عما أسمعه في أذني، وقد صِرْت أخيرًا لا أصدِّق أحدًا ولا أُكَذِّب أحدًا، أسْمَع الكلمة من هذه الأذن وتَخْرُج من الأذن الثانية.

وما كنت أعتبر من اللبنانيين إلا المُتَنَحِّين عن الوظائف، فهؤلاء قد كان لي منهم بعضُ الأصدقاء، أقضي معهم أوقاتًا طويلة للإفادة والاستفادة، وكنت أرى فيهم عِفَّة نفس وحب الاستقلال الذاتي، وأدبًا ومعرفةً، إلا أن التنغص كان مالئًا أفئدتهم، والتذمر ظاهرًا على وجوههم، من كثرة ما يَرَوْنَه من الحيف والظلم والفساد في الأحكام، ولكن يا للأسف فإن مثل هؤلاء قليلون في لبنان.

أما الاستقلال الذي يتبجَّحون به ويتشدقون بذكره، فهذا اسمٌ لغير مسمًّى؛ لأن القانون الذي هو حبرٌ على وَرَقٍ لا يَصْنَع وَحْدَه استقلالًا إذا كانت الرجال صغارًا، فلو كُنْتُ وجدت في لبنان رجالًا أعزاء النفوس، أصحاب حزمٍ وعزم، ذوي أمانةٍ ومَحَبَّةٍ لوطنهم، لا تُهِمُّهم الوظائف، لَكنت أعضدهم وأعمل معهم على حِفْظ استقلالهم، وأعيش وإياهم إلى آخِر حياتي، وأستغني عن الأستانة وعن كل بلاد غير لبنان، الذي هو أشرف بقعة، وأَجْمَل موضعٍ في الشرق كله، وأهنأ عيشًا من سواه، ولكن أهل البلاد متغافلون، لا يطالبون بحقوقهم المعطاة لهم من أعظم دول الغرب، والذي لا يطالب بحقوقه تضيع لا محالة، فلماذا يجعلون علاقتهم مع الأستانة وَحْدَها؟ لماذا يُخَوِّلون الحق للمتصرف وَحْدَه بمخابَرة الباب العالي في كل أمور لبنان؟ مع أن مجلس الإدارة هو فوق المتصرف، وعلاقة حكومة لبنان بالأستانة كعلاقتها بحكومة فرنسا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا تمامًا، فإهمال نوَّاب الأمة هذه الواجبات وهذه الحقوق، وانشغالهم بالمفاسد والوشايات، وتزاحُمهم على الوظائف، يجْعَل للدولة حقًّا شرعيًّا بالمُداخَلة في شئونهم ومعامَلتهم كمعامَلة باقي رعاياها، مع أن استقلال لبنان مكفول من الدول المارِّ ذِكْرُها، ولا يتعيَّن حاكم إلا بمصادَقتها جميعًا.

هذا وللبنانيين الذين هاجروا إلى مصر وأميركا جرائد قد أنشَئوها في ديار غُرْبتهم؛ خدمةً لمصالحهم وصالِح الوطن الذي أقاموا فيه، وقد جَعَلَتْ أكثر اهتمامها بشئون لبنان، ولما تعينْتُ متصرفًا، أظْهَرَتْ كل شهامة وعزة نفس، ولامَتِ الشعبَ على مظاهَراته بإكرامي قبل أن يرى أعمالي، وهي مهتمة بالجبل وحكومته أكثر من المقيمين فيه، ولكنها في أكثر الأحيان تبني أقوالها وانتقاداتها على الوهم، فتارةً تسلقني بألسنةٍ حِداد، وطورًا تمدحني وتُثْنِي على أعمالي، ثم تعود إلى ذمي تبعًا لما يتراءى لها عن بُعْد، وقد تُدْرِج كلَّ ما يَرِدها من الأخبار إن كان كذبًا أو صحيحًا، وتبني عليه العلالي والقصور، ولكنها جاعلة الحق كله على مجلس الإدارة، فكثيرًا ما طَعَنَتْ على أعضائه وانتقدتهم انتقادًا مرًّا جعلهم صغارًا في عيون نفوسهم، ولا أنكر أن كلام تلك الصحف قد أفاد وجَعَلَ بعض التأثير.

ولا خفاك أن المال الذي كُنْتُ أجمعه من الرشوة والهدايا والعطايا من سراة اللبنانيين وكبارهم، الذين يمتصون دم الشعب اللبناني، ويسلبون أمواله من طريق الرشوة والاستبداد، كنت أَدْفَع فائضه إلى الأستانة؛ لأنها تَعْلَم حالة الجبل وأهْلَه، فتفرض عليَّ إيفاء «البركة» أي العشر.

فهل تجد بعد هذا الإيضاح أيها المأمور الكريم أنني مذنب ومستَحِق القصاص؟ والله لو كُنْتَ مكاني في متصرفية لبنان، محاطًا بالمفاسد والمخاصمات، لَكُنْتَ تفعل فعلي، وتقول: «اللي من إيده الله يزيده»، وتجمع الأموال التي تأتيك عفوًا، وتتنعَّم بها إلى ما شاء الله.

فهذه هي مصيبتي في لبنان واللبنانيين، فعسى أن تكون هذه الإيضاحات كافية لتبرئتي، وإعفائي من هذا القصاص الشديد الذي حَكَمْتَ عليَّ به، فقد أظْهَرْتُ للمأمور العادل كلَّ دقائق الأمور، وتبَيَّن له أن الحق على اللبنانيين أنفسهم لا عليَّ.

فأجابه المأمور بعد أن فَرَكَ جبهته: إنَّ كل هذه الأعذار التي قَدَّمْتَها لا تُبَرِّئك من تبعة المسئولية، فإن الحاكم يجب عليه أن يكون مُخْلِصًا للشعب، محبًّا له، شفوقًا عليه، غيورًا على مصالحه، وإذا كان الشعب على الحالة التي ذَكَرْتَها عنه، فيجب عليك تربيته بصرامة القانون، لا أن تجاريه وتسير معه في طريق الغش والفساد، وتساعد على سقوطه. ثم صرخ المأمور بالجنود، وأَمَرَهُم بتنفيذ القصاص، فحالًا سقطوا على المتصرف المسكين بالجلد، فوقع على الحضيض فاقِدَ الرشد، وصَرَخْتُ أنا صرخةَ الفرح، وقُلْتُ: «سلِّم ديَّاتكم»، فإنه باستحقاقٍ نال هذا الجزاء؛ لأنه كان يَعِدُ كثيرًا ولا يفي، بالقول فَتَحَ ميناء جونيه، وعمَّر البلاد، ووَسَّع نطاق الزراعة، وأنشأ المعاهد العلمية، وجعل لبنان جنة، وبالفعل خرَّب لبنان، وجعله كإحدى الولايات العثمانية.

فالْتَفَتَ المأمور إلى الجهة التي صَدَرَ منها صوتي، وقال: مَنْ هو الذي تجاسَر على الكلام؟ أَحْضِرُوه إلى هنا، فحالًا رأيت حنوش ومنوش سائقِيَّ إلى أمام المأمور، فقال: اجلدوا هذا الإنسان جلدةً واحدة؛ لأنه كثير الغلبة. «فنفضوني» جلدة، يا الله، حسيت روحي طلعت من أظافر رجلي «ريتو ما حدا يدوق» موت أحمر، ثم أَرْجَعُوني إلى مكاني مقطوع الظهر، ومنوش من جهةٍ يقول لي: تستاهل «يا ديوس».

•••

أخيرًا حمل الجنود المتصرف التعيس إلى الداخل، وهو بحالةٍ تنفطر لها الأكباد، ثم رجعوا ومعهم رجل على رأسه عمامة وعيناه «معمصتان»، وعليه هيئة السرساب، وقد عَرَفْتُ لأول نظرة أنه أحد إخواننا مشائخ الإسلام، ولما اقْتَرَبَ من المأمور صرخ فيه: تحضَّر لاستقبال القصاص أيها المذنب نحو وطنك، والعامل على تفريق قلوب الشرقيين، بحثِّك أولادك الإسلام على عَدَمِ الاتحاد مع إخوانهم المسيحيين، وتبشيرك بالجامعة الدينية بدلًا من الجامعة الوطنية، قد حَكَمْتُ عليك بثلاثين جلدة من يد سطانائيل الجبار، بقضبانٍ ملتهبة من نار الانتقام.

فلما سمع الشيخ بهذا القصاص شَهِقَ شهقةً، وغاب عن الصواب برهة، ثم عاد فأفاق وهو يفرك عينه ويبكي وقال: أيها المأمور الشفوق، إن هذا الحكم الذي صَدَرْتَه عليَّ لَهو جائر لا يُحتمل، وأنا لَسْتُ أَوَّلَ من نادى بالاتحاد الديني، فقد تَعَلَّمْتُ من الذين سبقوني أن لا أمان لغير المسلم؛ فلذلك حَرَّضْتُ أولاد جنسي على ألَّا يؤمنوا لغير المسلمين؛ ولهذا يعود الذنب على الأولين، ولو كُنْتُ أعلم أن هذا التعصب ذَنْبٌ لكُنْتُ عَدَلْتُ عنه.

فأجابه المأمور: لا بد من تنفيذ الحكم. وأمر سطانائيل بالجلد، فرفع هذا يده، ونزل على الشيخ، ومن أول جلدة سقط المسكين لا حراك به.

وقد أثر فيَّ منظره، حتى أبكاني وأخذتني الشفقة عليه؛ لأنه بعد تلك الجلدة لم يَنْبِس ببنت شفة، حينئذٍ قلت بفكري: متى يزول هذا التباعد الواقع بين المسلم والنصراني، إنني أرى النصارى تتقرب من الإسلام وتتساهل معهم، فقد فتحوا المدارس وأَنْشَئوا الجرائد، وكل ذلك خدمةً للجامعة الوطنية، ومَدُّوا أيديهم إلى إخوانهم المسلمين، وقالوا لهم: تعالوا نَتَّحِد، ونهدم أركان ذلك السد الذي بيننا والحائل دون اقترابنا. ولكن كلما زاد المسيحيون تقربًا، زادوا هم تباعدًا، فأصبح كل فريقٍ يشتغل لنفسه، ولكن ليس لخدمة البلاد بل لتقهقرها.

فيا أيها المشائخ الأجلاء، اعتبروا بقصاص رصيفكم، واعملوا على تقريب المسلم من أخيه المسيحي، وأَوْصُوا شعبكم بالاتحاد معهم، والتكاتف على النهوض؛ لأن كَلِمة من فَمِكُم تفعل ما لا تفعله مائة جريدة ومجلة في مئات من السنين، فأحْسِنوا النية بالمسيحيين إخوانكم بالوطنية، واعملوا معًا على الانضمام تحت لواء الجامعة الوطنية، وحرِّضوا الحُكَّام الذين تتسلطون عليهم ليحكموا بالعدل والمساواة، ويُنَفِّذوا القانون على الجميع بدون تمييز، ودعوا الدين مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا ضمن المعابد ولا تمزجوه بالسياسة، وهذا القول يُوَجَّه إلى رؤساء النصرانية أيضًا.

واعلموا — حفظكم الله — أن النهوض من كبوتنا — نحن الشرقيين — وحل المسألة الشرقية، متوقفٌ على الأمة الإسلامية؛ لأنها هي الدعامة القوية في جسم الأمة الشرقية، ومتى سارت في مقدمة باقي المِلَل تحت علم الجامعة الوطنية فأنا الكفيل بالفوز القريب، ولكن إذا بَقِيَت على ما هي عليه من الابتعاد وعدم التقرب من باقي الشعوب الشرقية بداعي الدين فالسقوط قريب؛ لأن أفاعي الغرب فاغرة أفواهها لابتلاع بلادنا، فنضيع أخيرًا بين تلك الأمم الغربية، ونخسر كل شيء لنا.

•••

وبعد أن نفَّذوا الحكم على الشيخ حملوه إلى الداخل، وهو لا حراك فيه من شدة الألم الذي أصابه، وعادوا وهم سائقون رجلًا ذا هيئةٍ كئيبة، فقلت لحنوش: من هذا؟ قال: أحد البخلاء. ولما وَقَفَ أمام المأمور أَمَرَ بجلده أربعين جلدة على بطنه، فلما سمع البخيل هذا الحكم، جثا على ركبتيه، ورفع يده، وقال: ارحمني يا سيدي، وأشفق على مسكنتي، إنني كنت في حياتي «كافي الناس خيري وشري»، لا أتداخل بأمر أحد، ولا أسيء إلى أحد. فأجابه: اصمت يا بخيل، تكفيك هذه الوصمة — وصمة البخل — تطلب الآن الشفقة يا ذا النفس الساقطة، كان الأحرى بك أن تُشْفِق على نفسك التي حَرَمْتَها من مَلَاذِّ العالَم المحلَّلَة، مع وجود المال الكثير معك، أنزِلوا عليه أيها الجنود — بدون إبطاء — أربعين جلدة من «كعب الدست»؛ لأن وجوده كان في ذلك الكون كالعدم، فكَمْ رَدَّ من أمامه جائعًا فقيرًا، وكم خيَّب طلب سائلٍ مُحْتَاج، وتَمَنَّعَ عن دفع بارةٍ واحدة للمشاريع الخيرية، كم حَرَمَ أَهْلَه وذويه من أكثر لزوميات الحياة كالإقامة في البيوت الصالحة للسكن، وكالكساء اللازم، وكالمأكولات المغذية النظيفة، كم نادى الدينار: أنت معبودي، أنت سندي ومرغوبي، فابْقَ في جيبي ولا تتزحزح. فسقط الجنود عليه بالضرب حتى أُغمي عليه، وفي وسط هذا الإغماء كان يتقيأ الليرات الإنكليزية والفرنساوية والعثمانية، ومنها ليرات من أبي الخمسة وبشالك ومتاليك وزهراويات مقدَّحة، وغير ذلك من العملة القديمة، التي يَظْهَر أنه جمعها من عهدٍ بعيد، فقلت: ليت شعري! هل أنْقَذَتْه أمواله من هذا العذاب المر، فقد أهان نفسه في العالم الأول وفي الأخير، وحَرَمَها من الطيبات، وأَضَرَّ غيره بجمعه تلك الأموال، التي كان يجب أن تكون متوزعةً بين أيدي الناس ليستفيدوا منها، وينتفعوا بصرفها.

•••

ثم حملوا المنحوس إلى الداخل، «والمصاري تهر» من جميع منافذ جسمه … وعاد الجنود بشخصٍ ذي عيون كعيون النمس، فقلت لحنوش: لا شك أن هذا الرجل لص. فقال: وهو عند قولك. فلما انتصب أمام المأمور، أَمَرَ له بعشر جلدات على يديه، ومِثْلها على رجليه، فانتفض اللص عند سماعه هذا القصاص، وحنى رأسه وبكى، ثم نظر إلى المأمور وخاطبه قائلًا: إن ذنبي لا يستأهل هذا القصاص الشديد، ارْفُق بحالي، وتحَنَّنْ على ضعفي، فإن جسمي لا يقوى على حمل هذا القصاص. فقال له المأمور: اسْكُتْ «يا حرامي»، تقول إن جسمك لا يقوى على حمل هذا القصاص، مع أنك كُنْتَ تحمل بأسة البريم، وبالة المقصور الأميركاني، وتذهب بها كأنك «موش حامل شي»، نسيت كل ذلك يا ابن الحرام، نسيت عندما كنت تَمُدُّ يدك إلى جيوب الناس، وتنشل منها الريال «والسينكونتا ميل ريس»، وربما يكون المسروقة منه بحاجةٍ إلى إعالة عائلته، كم مرةٍ سَرَقْتَ الدجاج من «القن» بواسطةٍ لم يسْبِقْكَ إليها أحد، حيث كنت تربط حبة الحمص بخيطٍ وترميها إلى داخل القن، فتنقرها الدجاجة وتبتلعها وتبقي الخيط بيدك، فتسحبها من القن بهدوءٍ وسكينة؛ لأن الدجاجة لا تقوى على الصياح لوجود حبة الحمص مع الخيط بحلقها، نسيت عندما كنت تسطو على عرائش عنب بيض الحمام، وتحرم أصحابها من أكل عنقودٍ منها.

ثم صرخ المأمور: نفذوا الحكم أيها الجند حالًا. فما كاد الجنود ينزلون عليه بالسياط المحمية حتى سَقَطَ على الأرض كالقتيل.

وقد لَحَظْتُ على قميصه ماركة «برج إيفل» فتأكد عندي أنها مسروقة من معمل القمصان، الذي يخص معلوف شركاء في سان باولو، وقد يظهر أنه كان «ماسكهم زباين»؛ لأنه علم أنهم قد اشتروا المغسلة بما فيها من العمار والأرض والآلات، فطمع وقال: إن سرقة قميص لا تؤثر شيئًا.

لعنة الله على الحرام، ما أقبحه! لأنه مهما تحاشى اللص كَتْم سرقته، فلا بد من أن تظهر يومًا ولو في غير دنيا.

•••

وعلى حسب العادة، أدخلوا اللص إلى الداخل، وأتوا برجلٍ عبوس بلحيةٍ طويلة، وعليه علائم الحدة والعنفوان، فقلت لحنوش: أليس هذا أحد الكهنة؟ فقال: نعم. فقلت: الكهنة أيضًا يُحاكَمون؟ قال: كهنة، ورؤساء كهنة، ومنسونيورات، وخورفسقفات، وأرشمندريتات، وجميع طبقات الإكليروس، الكل يقفون أمام المأمور بدون استثناء.

فلما اقترب من المأمور قال له: يا أبانا، أريد أن تُجلَد ١٤ جلدة، فلا تأخذ على خاطرك؛ لأن العدالة تقضي بذلك. فنظر إليه الخوري وقال بحدة: أي عدالةٍ هذه، لا أفتكر أنني عملت شيئًا يقتضي القصاص. فأجابه المأمور: طوِّل بالَك يا أبانا، لا تأخذ المسألة بحدة، نعم، أنت لا تفتكر أنك عملت ذنبًا؛ لأنك كُنْتَ تحل وتربط لنفسك. «اندفوه» أيها الجنود بالقضبان السود، ولكن بهدوء، «لأن أبونا طبعاته حدين». وغمزهم، فعاود الخوري إلى الاعتراض، وقال: كيف أقبل هذا القصاص المُحِطَّ من قدري الآن، وكنت في زماني أَقِفُ بوجه مطرانيَّ غيرَ مهتمٍّ له ولا لأحدٍ في الكون، وأيضًا قد سافرت إلى أميركا من غير إذن، فكيف أنت الآن تعمل على إهانتي واحتقاري؟

فجاوَبَهُ المأمور: خُذ المسألة برواق يا محترم، وافحص ضميرك، تَجِدْ أنك تستأهل القصاص، هل كنت تقوم بواجب الإنسانية نحو المنكوبين والضعفاء والفقراء، وتعزيهم في مصائبهم؟ هل أغَثْتَ يومًا فقيرًا ونَشَلْتَه من مصيبته ولو مؤقتًا؟ إن وظيفتك تقضي أن تكون للفقراء نصيرًا، وللحزانى مُعَزِّيًا، وللخُطاة موبِّخًا، وللمرضى مُسَلِّيًا، وللمصابين مُقَوِّيًا، سَيِّدك أوصاك بالكرز والإرشاد دائمًا بدون الْتفاتٍ إلى الماديات، فهل سِرْتَ حسب وَصِيَّته؟ لا أظن ذلك. كنت تُسَرُّ كثيرًا عندما تَسْمَع الطعن والقذف بحق رصيفك الكاهن، وتلتذ مِثْلَ إذا «سقسقوا على بطنك موي باردة»، لماذا هذا كله؟ كم مرةٍ صعدْتَ على المذبح وقلبك كله حقد؟ كم مرةٍ لبست وجهك بالمقلوب عندما تكون في الكنيسة؟ ولا تخاطب الناس إلا «بالنبر والقفط»؟ كم مرةٍ ضربت الشماس «المعتر» لغير ذنب؟ أما يكفيه أنه خادم «بلاش»، نسيت لما كنت تنظر من تحت لتحت، عندما تكون الصينية دائرة على الجمهور لترى إذا كانت موفقة أم لا؟ نسيت لما كُنْتَ تأكل نصف القُدَّاس وتنهيه بربع ساعة؟ نسيت مزاحمتك أنت والخوري طاميش على تكبير الجرس حتى صَيَّرْتَ جرس كنيستك قنطارًا ونصف قنطار؟ كم سَبَّبْتَ بذلك تسقيط صدور الشبان الذين كانوا يبصقون الدم؟ كل ذلك من تكبير جرسك يا حبيبي، كم مرة ضربت الخورية بعصاة الغليون بدون شفقةٍ ولا رحمة؟ كم مرة ذهبت لعند المطران ووشيت بالخوري روكز؟ كم من الأحزاب عملت؟ وكم من المشاكل أَوْجَدْتَ؟ وأهم شيءٍ كان متمكنًا منك العناد، العناد يا أبانا، كان من الواجب أن تكون رقيق الجانب، متساهلًا متواضعًا، تغفر لمن يسيء إليك لتستحق أن تُدعى كاهن الله، كاهن المسيح، الذي هو معدن الوداعة والشفقة والحنان، «ولكن النبيدات كانوا عامينلك قلبك، كنت تشم ريحة النبيذ الطيب سفر سنة.»

فلما سمع الكاهن هذا الكلام، تنهَّد وطفرت الدموع من عينيه، وصار يقرع صدره ويقول: خطيئتي عظيمة أيها المأمور، إنني نادمٌ على جميع خطاياي، اعْفُني من هذا القصاص. فأجابه المأمور: هذا غير ممكن، ما كُتب فقد كُتب.

فأجابه الكاهن: ما دام العفو مُحَالًا فإني أقبل القصاص إكرامًا لجروحات المسيح. فقال له المأمور: مِثْل ما تريد يا أبانا. حالًا «ندفه» الجنود ١٤ جلدةٍ مؤلمة أَفْقَدَتْه صوابه، فحملوه أخيرًا إلى الداخل، وعادوا برجلٍ حركاته كحركات «أبي زهرة».

•••

فقلت لحنوش: لا شك أن هذا الرجل صحافي. قال: هو عند قولك. فلما وَقَفَ أمام المأمور أظْهَر الخضوع، وحيَّاه تحيةً معتبرة، ثم لفظ خطابًا وافتتحه بقوله: أطال الله بقاء مأمورنا المُعَظَّم وحاكِمِنا المكرَّم، ومَتَّعَنا بعدله وحِلْمِه، فإنه — حفظه الله — مَعْدِن الرحمة والشفقة، كريم النسب، غيور ووطني صادق …

فقاطعه المأمور بقوله: ما هذا «الطق الحنك»؟ هل تريد أن تنشئ جريدةً هنا؟ أَمَا كفاك تدليسًا وتبخيرًا في تلك الدنيا حتى جئت الآن تعيدها؟ هل تظن أن هذه العملة تُسْلَك هنا كما تَسْلُكها هناك؟ «ألْبِخوه» أيها الجنود ٣٠ جلدة من قضبان الرصاص. فصرخ الصحافي وقال: العَفْو يا سيدي، فإني لا أعرف لي ذنبًا يستحق هذا القصاص، هذا جزاءُ مَن كرَّس نفسه لخدمة العموم؟ يا الله ما هذا الظلم؟ فصاح به المأمور: اصْمُت يا ثعلب، إن ذنبك عظيم لا يُغتفر، نسيتَ أنك قلْتَ: إنني سأخدم وطني ومُوَاطِنيَّ الخدمة المنزهة، وأُضَحِّي مصلحتي الذاتية حبًّا بالمصلحة العمومية. ثم بعد مدةٍ قصيرة أَخْلَفْتَ بوعدك هذا، وبِعْتَ مبدأك باشتراكٍ واحد، كم مرة تظاهرْتَ بالغيرة على الدين وأنت جاحِد لا تؤمن بشيء؟ كم مرة اتخذت الطوائف وسيلة لتنفيذ غاياتك وترويج جريدتك عند البسطاء، وناديت: الأرثوذكسية قد أُهِينت، انهضوا يا قوم، وقِفُوا بوجه الجريدة التي تقصد إهانة الملة والدين؟

ثم تميل إلى جهةٍ أخرى وتنادي بأعلى صوتك: يا بني مارون، إن الصحافي الفلاني قد أهان طائفتكم، أهان رؤساءها، كل ذلك لِكَيْ تُلْقِي الشغب والفساد في الناس يا كاذب، كم مرة كَتَبْتَ مقالات الطعن والقدح بقلمك وذَيَّلْتَها بإمضاء سوري، أو وطني حر، أو «ب. ع.» أو «خ. ر.»؟ كم مرة خُنْتَ ضميرك وسكتَّ — حبًّا بذاتياتك — عن المطالَبة بحقوق الشعب الذي تَجَنَّدْتَ لخدمته؟ كم مرة تظاهَرْتَ بالغيرة على الوطنية ثم انْقَلَبْتَ عليها لما لم تَجِد فائدة مادية؟ أين مبدؤك؟ أين عهودك يا منافق؟ إذا كنت لم تَخْجَل من القرَّاء أفلا تخجل على الأقل من رصفائك، وتخاف من أن تصغر في عيونهم؟ أنسيتَ ادِّعاءك ومظاهرتك بالترفع، مع أنك كنت «أحمر من أبي حيط» لا تعرف كيف تفتكر ولا كيف تكتب، إن ثوب الغش والتمويه رقيقٌ شفاف، فلا يلبث أن يُظْهِر كل شيءٍ تحته.

وأهم ما كنت تفعله النميمة، والمساعي الشريرة، والكذب، ومحبتك ضرر رصفائك، حتى كنت تشتهي لهم الموت ليخلو لك الجو — كفى كفى — نَفِّذوا القصاص أيها الجنود بكل سرعة. فلما سقطوا عليه صرخ: «دخيلك أمان جانم»، إنني أتوب يا سيدي، أتوب، اعفُ عني، ارحمني، فإني لا أعود ثانيًا إلى التدليس، ولا أغير مبدئي، ولا أَكْذِب، ولا … ولا … فجاوَبَه المأمور: لا يلزمنا جريدة هنا، هذا الكلام كان يَصِحُّ قَبْلَ الآن، امتَنِع عن الكلام وإلا ضاعَفْتُ لك القصاص. ولم يُنْهُوا جلده حتى صار صاحبنا في عالم الغيب مما أصابه من الأوجاع؛ لأن الضرب كان بالأكثر على أصابع يده اليمنى التي كان يقبض بها القلم، فحملوه بعدئذٍ إلى الداخل.

•••

وعاد الجنود ومعهم رجلٌ مهاب، على عينَيه نظارات، يمشي بتأنٍّ، فقُلْتُ لحنوش: من هذا؟ قال: أحد الأطباء.

ولما اقترب من المأمور قال: إنني أستغرب كثيرًا يا حضرة المأمور من استدعائي للمحاكَمة؛ لأن طبيبًا مثلي حائزًا على شهادة الدكترة بالطب، فضلًا عن الألقاب العلمية مثل: «ب. ع.»، و«د. ف.» وما أشبه ذلك من الحروف … لا يَفْعَل شيئًا يستوجب المحاكمة، فقد يصعب علَيَّ الوقوف هنا كمذنب، وأراني متأثرًا جدًّا من هذه الإهانة التي لحقتني الآن.

فجَاوَبَهُ المأمور بقوله: «لا تأخذ على خاطرك» يا جناب الدكتور، فلو لم تكن مذنبًا لما كنت دُعِيتَ إلى الوقوف أمامي الآن، فإن التشكيات من أعمالك كانت تتصاعد إلى هذه الدنيا بتواتر من المرضى الذين كُنْتَ تداويهم، وخصوصًا الفقراء منهم؛ لأنك ما داوَيْتَ مريضًا إلا «وتجيب آخرته» كونك لم تُرَاعِ حالة الأشخاص، وظروف المكان والزمان، فكنت تصف الدواء كما تعَلَّمْته من المدرسة، بدون أقل فلسفةٍ ولا تفكير بحالة المريض الوراثية، ومعيشته العائلية، فضلًا عن حرفته وما يتعلق بها، وكثيرًا ما كُنْتَ تصف الدواء قبل أن تَتَحَقَّق المرض، مستخِفًّا بحياة البشر الثمينة، التي كان يجب عليك — بعد أن عاهدت نفسك على القيام بهذه المهنة الشريفة — صيانتُها والاعتناءُ بها، وإنقاذها من الأمراض على قَدْر استطاعتك.

فأجابه الطبيب: إن ما بلغك أيها المأمور هو غير صحيح، واسمح لي بأن أقول لك: إن في قولك مُبالَغة.

فأجابه المأمور: إن ما أقوله حق، وليس فيه أقل مبالغة، ولا لزوم للأخذ والرد، فقد حكمت عليك الآن بجزاء …

فقاطَع الطبيب المأمور بقوله: قبل أن تَحْكُم علي أيها الفاضل تَبَصَّر بالأمر جيدًا؛ لأنني — كما سبق القول — بريء مما اتُّهِمْتُ به، وإذا كنت لم تزل بريبةٍ من قولي، فيمكنك أن تختبرني بأحد المرضى هنا، فإذا وَجَدْتَ بعدئذٍ فيَّ قصورًا وعدم خبرة في فن الطب فلَكَ ما تريد من القصاص، فإذا أجَبْتَ سؤلي ولَّيتني ممنونية كبرى.

فقال المأمور: «أستغفر الله يا دكتور»، فإن ما طَلَبْتَه عدل. والْتَفَتَ إلى الجنود وقال لهم: اذهبوا وأحْضِروا ذاك الرجل المريض المرتمي في الداخل. وفي الحال أَتَوْا برجلٍ ذي هيئةٍ كئيبة من الخمول، عيناه كبرك الدم، ووجهه منتفخ ذو احمرار مائلٍ إلى الزرقة، رجلاه ضَخْمَتَان، وعلائم الانحطاط باديةٌ عليه، فقلت لحنوش: مَنْ هذا المصاب بهذه العاهات؟ قال: هذا أحد المدمنين على شرب المسكر.

ولما اقْتَرَبَ العليل أشار المأمور إلى الطبيب لكي يفحصه بتدقيق، ولا «يتحجج» بشيء، فإن كل لوازم التطبيب كالسماعة والقراعة وميزان الزئبق وغيرها موجودة.

فاقترب الطبيب، وأخذ يفحص العليل، وبعد أن تَمَّمَ ذلك الْتَفَتَ إلى المأمور وقال: إن العليل مصابٌ بداء الزهري.

فنظر إليه المأمور مبتسمًا وقال: غلطان يا جناب الدكتور. دَقِّقْ جيدًا بالفحص، فأعاد الطبيب ثانيًا ثم قال: لا يُستبعَد أن يكون داؤه مرض النقرس؛ لأن هذا الداء يشبه ببعض أطواره داء الزهري.

فأجابه المأمور: إذَنْ لم تَتَحَقَّقْ للآن مرض العليل؟

فقال الطبيب: لا أُخفي — حضرة المأمور — أن الأمراض الباطنية تَصْعُب معرفتها قبل أن تُجَرَّبَ فيها الأدوية.

أجابه: إذن تريد أن تداوي المريض «عالخيري»، ما شاء الله يا حضرة الدكتور. فقال الطبيب: اسمح لي لأعيد الفحص مرةً أخرى وأدقق جيدًا.

أجابه: لك ما تريد يا دكتور، بشرط أن تكون هذه المرة هي المرة الأخيرة.

وبعد أن أعاد الفحص للمرة الثالثة، وقلَّب العليل ظهرًا لبطن، «وحرق مسينو بالمقلوب»، قال: أظن أن مَرَضه غير قابل للشفاء، نظرًا لتراكم اﻟ…

فحالًا قاطعه المأمور بقوله: كفى، كفى. «بيَّنت غزلتك». هل لك بعد هذا أن تُكذِّب ما قيل عنك إنك دجال، وكل بيتٍ تدخله يتبعك إليه عزرائيل؟ هل تظن أن المدرسة والألقاب تصنع أطباء؟ ليتك تعلَّمت الدباغة لكان أفيد لك، فإن للطب أناسًا خُلِقُوا له وهو خُلِقَ لهم.

ولكي أُبيِّنَ لك ماهية مَرَضِ هذا الرجل، سأحضر في الحال الطبيب القانوني الماهر الدكتور «شمروخ»؛ لكي يَفْحَصَه أمامك، ويُنَبِّئك عن مرضه، ثم يشرحه لترى الأعضاء المصابة بأم عينك، وبعد ذلك أُنفِّذ الحكم عليك قصاصًا لك، وعبرةً لسواك.

فبُهِتَ الطبيب، واصفر لون وجهه، وألقى بنظره إلى الأرض.

وأرسل المأمور حينئذٍ، ودعا الدكتور شمروخ، فحضر للحال، وأَمَرَهُ بفحص المريض ففحصه حالًا، وقال: إنه مصاب في كل أعضائه الرئيسية بالتهاباتٍ حادة، وأسبابُ ذلك معاطاته المُسْكِر.

فتنحنح المأمور والْتَفَتَ إلى الطبيب «ب. ع.» وقال له: ما رأيك؟

فجاوبه بنظرةٍ من «تحت لتحت» بدون أن يقول كلمةً واحدة.

وبعد ذلك صَرَخَ المأمور بالسكِّير، وقال له: أيها الشقي المجرم، إن جزاءك الآن التشريح، حتى تُكَفِّر عن ذنبك بإفادة الطب، بتمثيل أعضائك الداخلية للعيان.

فصاح المسكين قائلًا: ارحمني أيها المأمور المحترم، إنني نادمٌ من كل قلبي.

فأجابه المأمور: تطلب الرحمة يا شقي، كنت ترحم على الأقل امرأتك وبنيك، عندما كنت تتركهم النهار بطوله بدون زاد، وتأتي في المساء «عميان» من السكر، فتُطْعِمهم بَدَلَ الخبز ضربًا ولكمًا، وبدلًا من أن تقابلهم بالكلام اللَّيِّن والعاطفة الأبوية، كنت تنفجر كالبركان بالسباب والشتائم والقول المعيب، حتى اضطررتهم أخيرًا إلى التسول، وقُدْتَهُم إلى التعاسة، وجَعَلْتَهُم من أولاد الأزقَّة، وصيَّرت امرأتك التي يجب أن تكون وإياها جسدًا واحدًا، بحالةٍ لا يرضاها لها العدو فضلًا عن الصديق، وفَوْق كل ذلك فقد هَدَمْتَ بناء جسدك بما أَدْخَلْتَه فيه من الكحول، وجعلته أن يتلاشى وينحط، الأمر الذي ألبسك جناية القتل.

فقال السكير وهو يتلعثم: إنني أتوب يا سيدي، اعفُ عني، فإني لا أعيدها مرةً ثانيةً، «وعيب علي» إذا كنت أذوق العرق بعد أو النبيذ أو الكاشاصا أو الويسكي، وغير البيرا وقليلٍ من الفرموت قبل الأكل لا أشرب، فأشْهِد علي بذلك، والله خير الشاهدين.

فقال له المأمور: «إنشا الله تضل بخير». وحالًا أمر الجرَّاح بتشريحه، وبأسرع مِنْ لَمْح البصر بَنَّج الجراح السكير، ومَدَّدَه على طاولة، وشَقَّه من أعلى صدره إلى أسفل بطنه، ثم نادى رصيفه لكي يساعده، وينظر إلى العلل التي أَوْرَثَها شرب المسكرات، فأول ما تناول فحص الرئة، فكانت متكمشةً من الخلل الحاصل من وقوف حركة الدم فيها، وعَدَم تمكنها من الحصول على الهواء النقي، لانسداد شُعبها، وفي أثناء الزفير والشهيق كان يسمع صوتًا كصوت الصفارة تمامًا، وكان لون الرئة قاتمًا قبيحًا.

ثم مدَّ يده إلى القلب فوجده مضطربًا، وضرباته غير منتظمة، وهو أشبه بحالة صاحبه المتعبة، ثم فحص المعدة فوجدها مفحَّمة محترقة من تأثير الكحول عليها، وهي لا تقوى على هضم الطعام، فتتركه للأمعاء بدون أن تأخذ منه شيئًا مما يحتاجه الجسم من الغذاء.

وبعد ذلك أخذ بفحص الكبد، ذلك العضو الكبير الحجم، والأكثر قبولًا لأضرار المسكر؛ نظرًا لقربه من المعدة، فوجد الالتهاب قد تطرَّق إلى كل أجزائه، وأصبح منظره مخيفًا، وهو أشبه بكتلة من اللحم المنتن الفاسد.

ثم فحص دم العليل فوجد المادة الليفية ضعيفة فيه؛ ولذلك لا يمكن لهذه المادة بَعْدُ أن تمسك قوام الدم في حالة نزفه، ولو كان من أصغر جُرحٍ في الجسم.

وفي أثناء العملية تصاعَدَتْ رائحةٌ كريهة من جوف السكير، ملأت المكان حتى تعسَّر على الناس التنفس؛ ولذلك سُمِعَ صوت من الداخل يقول: «ما هذا يا حضرة المأمور؟! فقد زهقت أرواحنا من هذه الرائحة الكريهة، وصِرْنَا نخاف أن تتفشى الأوبئة بيننا، فاعلم أن المسئولية عليك وحدك.»

فالتفت المأمور إلى الداخل وقال: مَن هذا الذي تجاسر ورَفَعَ صوته؟ فقال جندي: إنه أحد المحامين. قال: تحفَّظوا عليه ريثما ننهي محاكمة الطبيب.

وأخاط الجرَّاح جِرَاحَ السكير، وعمل كل ما هو واجب لحفظ حياة العليل، ثم تحوَّل إلى فحص الرأس، فشقه من الجهة الخلفية، فظهر الدماغ للعيان يشبه خارطة مرتسمًا عليها خطوط وزوايا وتعرُّجات وعلامات.

فقال الجرَّاح لرصيفه: انظر كيف فعل الخمر بالرأس، انظر كيف أن خطوط الفطنة والإدراك قد فُقِدَتْ بالكلية، وزوايا الحافظة قد تكسرت، انظر الاضطراب الحاصل فيه، انظر إلى الأوعية الدموية كيف هي مائتة، ومكان العقل فيه قد صار في ظلمةٍ مُدْلَهِمَّة، وقد أصبح كدماغ الخنزير تمامًا.

وبعد هذا كله ضَمَّدَ الجرح، وأعاد كل شيءٍ إلى حاله الأصلي، ومَنَعَ البنج عن السكير، فأفاق وهو غير شاعرٍ بشيء، إلا أن المأمور أَمَرَ بأن تُفْرَكَ جراحه بالملح قصاصًا له على ما أتاه من الذنوب والمعاصي مِنْ جَرَّى إدمانه على شُرْب المسكر.

فنفَّذ الجنود الحُكْمَ على التعيس، وهو يصرخ ويستغيث، ولا مِنْ مُغِيث، ثم حملوه إلى الداخل، وذَهَبَ الدكتور شمروخ من حضرة المأمور، وبقي الطبيب المذنب وَحْدَه، ففاتحه المأمور بقوله: كيف حال الدكتور بعد هذا الفحص؟ أين شهادتك؟ أين «ب. ع.» و«بلوط»؟ قد حَكَمْتُ عليك بخمسين حقنة مورفين تحت الجلد، وإن فُهْتَ بكلمةٍ واحدة جَعَلْتُها مُضَاعَفة.

فعَضَّ الدكتور على إصبعه، وبكى بكاءً مرًّا، ثم قال: هذا جزاء الكسل والإهمال، فإني أستحق القصاص، وبعد هنيهة أتوا بالحقن، وابتدءوا بحقنه، فتخدَّر جسمه وتَوَرَّم، ولسان حاله يقول: طابخ السم آكله.

•••

بعد هذا نظرت إلى حنوش، ذلك الصديق المحبوب، وقلت له: يا أخي حنوش، إن أمثال هذا الطبيب كثيرون على الأرض، فإن الواحد منهم يكتفي بالحصول على شهادة المدرسة التي يتعلم فيها، ولا يعود بعد خروجه منها يُتْعِب نفسه بالدرس والتنقيب والتمرين لاكتشاف المفيد من العلاجات لتخفيف ويلات البشر.

كم كُنْتُ أرى الطبيب يَدْخُل إلى بيت العليل بوجهٍ عبوس، وجبهةٍ قاطبة، كأنه ذاهبٌ إلى خصامٍ وقِتَال، فيسرع حالًا إلى جَسِّ نبض المريض، ثم يطلب منه مد اللسان، فيراه وقبل أن يحقق جيدًا ما هو مَرَضُه يأخذ القلم، ويكتب الوصفة على التخمين، ويذهب غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلى جسم المريض، إذا كان بحاجةٍ إلى غسلٍ وتنظيف، ولا يستفحص عن المأكول والمشروب الذي يأكله، ولا عن المَسْكَن إذا كان صالحًا لإقامة المريض فيه، ولا يتحرى الأسباب التي قادت الشخص إلى المرض ويَمْنَعها، ولا يوصي أهْل البيت بضرورة تجديد هواء غرفة المريض، ومَنْع الاجتماعات عنده وكثرة اللغط والتدخين؛ كل هذه الأمور المهمة يُهْمِلُها الطبيب جانبًا، ويَتَّكِل على مِلْعَقة الدواء! فماذا تنفع الأدوية إذا كان لا يمنع أسباب الأمراض، ويساعد المصاب على إزالتها؟! فالعقاقير الطبية مهما كانت خالصةً من الغش نافعة، فإنها لا تفيد شيئًا إذا لم تُقْرَنْ مع المعيشة «الهيجينية»؛ أي: الاقتصار على المآكل البسيطة المُغَذِّية، واستنشاق الهواء النقي، والسكن في الأمكنة الجيدة المناخ، مع نظافة الجسم وإراحة العقل، والرياضة الخفيفة.

كل هذا يا حبيبي حنوش هين بجانب مداواة الأطباء للفقراء، قد يداوونهم ويُطَبِّبُونهم، ويكتبون في الجرائد وعلى أبواب بيوتهم أنهم يداوون الفقراء مجانًا. نعم، يداوونهم مَجَّانًا ولا أُنْكِر ذلك، ولكن كيف تكون هذه المداواة وأين؟ هل يذهبون إلى بيوتهم كما يذهبون إلى بيوت الأغنياء؟ كلا، بل يجب على المريض الفقير — مهما كان مَرَضُه — أن يذهب إلى محل عيادة الطبيب، مسكين ذلك الفقير المصاب بذات الرئة أو بالحمى، فإنه يلتزم أن يَتْرُك فراشه، ويذهب ماشيًا على قدميه المائتين والهواء البارد، ينشر عليه عباءة من القشعريرة فتزيد في مرضه، مسكين الفقير المصاب بداء المفاصل المُضْطَرُّ إلى المداواة، فإنه يذهب متوكيًا على عصاه، تسنده أمه أو امرأته أو ولده، ويذهبون به إلى المُدَاوِي الذي يكتب له الوصفة من غير أن يعزيه بكلمةٍ أو يُطَمِّنه بابتسامة، فيأخذ المسكين زجاجة الدواء معه ظانًّا أنه أتى بترياق الحياة، فيصل إلى بيته منهوك القوى، لا يقوى على الكلام، ثم يأتوه بملعقة ربما تكون بيد الأولاد يلعبون بها في الأرض، أو تكون من نحاس وعليها الصداء المسم، فيتناول بها الدواء لجهله، ويتركها على كرسي أو يرمي بها على طاولةٍ قذرة فتتلوَّث بالجراثيم؛ فيزيد بذلك مصاب العليل بزيادة العلل، وقد لا يكون عنده قدح من الزجاج ليشرب به، فيستعمل الوعاء الذي تستعمله العائلة، ويكون مع هذا كله نائمًا على فراشٍ ناشف في غرفةٍ مظلمة، يوقدون فيها النار ويشعلون في الليل قنديلًا من زيت البترول، وينام فيها أكثر من أربعة أو خمسة أنفس.

مسكين الفقير الذي يُصَاب بألم الأضراس، فإنه لا يجد من يداويه ويخفف عنه أوجاعه المُرَّة؛ لأن أطباء الأسنان لا يداوون الفقراء مجانًا، فبعد أن تُنَكِّد عيشَه الأوجاعُ يذهب إلى أحد الحلاقين، فينزع له ضرسًا أو ضرسين في وقتٍ واحد، فيخسر بذلك أهم عضو في جسمه، ويُفْرَط عقد أسنانه الذي عليها تتوقف لذة الحياة، وجمال الوجه، وراحة المعدة، وحُسْن التغذية.

تصَوَّر يا عزيزي حنوش هذه الحالة المحزنة، وقُلْ: مسكين الفقير الجاهل، مسكين؛ ما أشقاه عند حلول المرض على جسمه، مسكين الفقير الذي يكون في بلادٍ ليس في رؤسائها وحُكامها وأطبائها رحمةٌ ولا شفقة، فقد يُداس ويُسْحَق.

هذا، ولا أنكر أنه يوجد بعض الأطباء ذوي عواطف شريفة، تطفح الرحمة من قلوبهم، برعوا في مِهْنَتهم، فلا يصفون الدواء قبل تحقيق الداء، فيطبِّبون الفقير بعناية كما لو كانوا يطبِّبون الغني، وكثيرًا ما أنفقوا من جيوبهم ثَمَنَ الدواء، وسَعَوْا في ترغيب الفقراء الذين يخافون من المستشفيات وذِكْرِها — لاعتقادهم أنَّ مَنْ يدخل إليها لا يخرج منها إلا مائتًا — إلى الذهاب إليها؛ لأنها أصلح للمعالَجة من البيوت، ولكن هؤلاء الأطباء الرحماء قليلون.

•••

بعد أن حملوا الطبيب إلى الداخل، أمر المأمور بإحضار المحامي الذي تجاسَرَ على الكلام في أثناء محاكَمة الطبيب، فذهب بعض الجنود لإحضاره، وبعد هنيهة عادوا وهم يقولون: إن المحامي عاصٍ، لا يريد أن يحضر إلى هنا، فقد تطاول على مَقَامِكم بالكلام، ونسب إليكم الظلم والاستبداد والإخلال بالحكم. فأَمَرَ بإحضاره بالقوة الجبرية إذا تَمنَّعَ ثانيًا عن الحضور، فدخل الجنود ثانيًا، وكان قد اجتمع حول المحامي أَكْثَر رصفائه المحامين، وتعصبوا ضد الجنود، ولما وَجَدَ الجنود ذلك استعملوا القوة، وأتوا بالمحامي وهو يصرخ ويَصْخُب، ويقول: إنني لا أقبل بحكم المأمور؛ لأنه ظالمٌ شرير مستبد، أريد أن أميز الدعوى إلى المحكمة العليا.

ولما أوقفوه أمام المأمور انتهره هذا بقوله: إني سأزيد بقصاصك أيها الوقح لمخالفتك النظام، ولتطاولك عليَّ بالكلام، ولعصيانك الجنود، ولما سَبَّبْتَه من الشغب، وخرق حرمة النظام، هل تظن أنك تقدر على استعمال وظيفتك في هذه الدنيا كما كُنْتَ تستعملها على الأرض «طويلة على دقنك»؟ فأجابه المحامي: إن الحرية المعطاة لنا من لدن الخالق تُخَوِّلُنا أن نطالب بحقوقنا أينما كنا، ومهما كُنْتَ مستبدًّا فلا تقوى على إسكاتنا والضغط علينا، أنت ظالم أيها المأمور، أنت غشوم.

فتأثَّر المأمور لهذه الإهانة، وصاح: كتِّفُوه أيها الجنود، واضربوه «بنبُّوت الغفير» خمس ضربات. فصرخ المحامي ورَفَسَ الأرض وقال: إن الضرب للبهائم، لا «للأوادم»، احذر من أن تنفذ هذا القصاص عليَّ؛ لأنه مخالفٌ للشريعة، هل تَظُنُّ أنك تقدر على أن تسوق الكل بعصا واحدة، ألا تعلم أن المحامين — ولو كانوا بعضَ الأحيان يستعملون الحِيَل والموارَبة — هم دعامة الأمة ورجالها العظام؟! انظر إلى كل الحكام والوزراء والقضاة في العالم، فإنهم كلهم كانوا محامين، تَيَقَّظْ جيدًا فإن البند الماية والسابع والأربعين من القانون يجعل لي الحق بتمييز دعواي، والقساوة التي استَعْمَلْتَها نحو الأنفس قد هيجت في القلوب نار الثورة، التي ربما لا يتمكَّن أحدٌ من إخمادها إلا بعد أن تسيل الدماء أنهارًا.

فالتَفَتَ المأمور إلى الجنود وهو متهيجٌ بالغضب، وقال: انزلوا عليه بنبابيت السنديان القاسية. فسقطوا عليه حالًا وهو يصرخ: فَلْيمت الاستبداد، فَلْيسقط المأمور، وَلْتعش «الأبوكاتية».

وفيما هم على هذه الحالة، إذْ سُمْعَ صراخ وصياح في الداخل، ثم تَعاظَم كثيرًا، وكنت أسمع هذه التقاطيع: فَلْيَمُت المأمور، فَلْيسقط الظلم والظالمون. حينئذٍ أَقْبَلَ أحد الجنود يرتجف خوفًا وهو يقول: ثورة يا سيدي المأمور في الداخل، قد أَصْلَوْا نارها «الأبوكاتية» انتقامًا لرصيفهم الذي أَمَرْتَ بضربه، قد هيَّجوا الأنفس كلها بما أَلْقَوْه من الخطب الحماسية ضدك، والحالة حَرِجة جدًّا، فأَسْرِع لتدارُك الأمر قبل استفحاله.

فوقف المأمور مذعورًا، وأَمَرَ بالنفير، فاجتمع الجنود من كل جهة، ولما وَجَدَ أن الحالة زادت خطارة أَعْلَنَ الحُكْمَ العرفي، وقال: ويلٌ للمحامين، ويلٌ للمنافقين … أما كفاهم قلة دِينٍ وتلاعب بحقوق البشر على الأرض حتى اتصل بهم الأمر إلى إقلاق الراحة، وتهييج الأنفس في هذه الدنيا أيضًا، إنني «سأربي القمل في رءوسهم».

ولم يَمْضِ إلا القليل من الوقت حتى اشتبك الجنود مع الثائرين، وعَلَتِ الضوضاء، وتواترت الطلقات النارية، وصار الجنود يُلْقُونَ القبض على كل مَن يَرَوْنَه أمامهم، فوَقَعَت الرعبة في القلوب، وتعاظَمَ الخطب، وانْقَطَعَ التواصل بين الأنفس.

•••

فأسرع حنوش ومسكني بيدي وقال: اتبعني بعَجَلٍ حتى لا تُصَابَ بمكروه؛ لأن الحالة حَرِجة، والأحكام العرفية شديدة الوطأة. فذهب بي إلى مكانٍ ساد فيه السكوت، فشعرت بانشراحٍ بعد تلك الشدة، ثم قال لي: أنت الآن يا أبا الأجران مشرفٌ على طريق السعادة، وسترى أجواق الصديقين صاعدة فوق هذه السُّحب البيضاء الجميلة إلى العلى، حيث السعادة الدائمة، فإني سأتركك برهة وأعود إلى المكان الذي كنَّا فيه لأرى ماذا جرى بأمر الثورة.

فقلت له: إياك تهملني يا صديقي حنوش، فإني أخشى أن تذهب وتتركني قبل أن أُحاكم. فقال: هذا لا يمكن، فإني سأعود إليك قبل أن أذهب إلى أرضكم لجلب الأرواح. فقلت له: أيها الصديق الذي ليس في صداقته غش، إذا كلَّفتُك بغرضٍ ما هل تُتِمُّه لي؟ أودُّ أن أبعث معك رسالة إلى صديقٍ لي على الأرض اسمه فنيانوس، وأظنك ما نسيته، فإنه ذلك الشاب الذي كان يبكي ويتفجع ساعة موتي، وقد وَعَدْتُه بأن أُطْلِعَه على بعض ما يحدث لي في هذه الدنيا، والآن أحب أن أكتب ما شاهَدْتُه، فهل لك أن تَفْعَل معي هذا الجميل وتنقل إليه رسالتي.

قال: إن طلبك هذا صَعْب المنال يا أبا الأجران؛ لأن المراقبة شديدة على الملائكة الذين يذهبون إلى أرضكم، فكم من الناس غيرك حاولوا إرسال بعض الأخبار عن هذه الدنيا إلى تلك الديار ولم يفلحوا، ولكن … ولكن اكتب أنت الآن ما تريد أن تكتبه، وبعد عودتي ننظر في الأمر، لعلنا نهتدي إلى طريقة تكون سليمة العاقبة.

بعد هذا ذهب حنوش وبقيت وحدي في ذلك المكان الجميل، الذي لم تَرَ عيني أبهج منه، فأخذت أكتب وقد جادت قريحتي، وصار فكري يسبق قلمي بسرد الحوادث وتِبْيانها، وبقيت مجدًّا في التحرير إلى أن سردت كل ما جرى لي، وما رأيته من اليوم الذي فارقتك فيه إلى الآن، وفيما أنا أكتب كنت أسمع أصوات الصاعدين إلى العلى من الناحية اليمنى، يرتِّلُون ويترنمون بالتسابيح المطربة الشجية، وقد حَجَبَتْ عن ناظري الغيومُ البيضاءُ رؤيةَ هؤلاء الصِّدِّيقين السائرين مع السحب نحو السعادة، وهذه الأنغام الرقيقة المنعشة للنفس كانت كأصوات الأجراس التي تُقرع في ليلةٍ ذات أرياح، فتارةً تقوى وتارةً تَضْعُفُ تبعًا لسير الرياح، وتترك في الفضاء الواسع صدًى حفيفًا لتلك الأصوات الجميلة.

وكانت أصحاب تلك الأصوات تتراءى كالأشباح من وراء السحب الشفافة بأثوابها البيضاء، وما أشبهني في هذا الوقت بصاحب الرؤيا الغريبة.

وفيما أنا على هذه الحالة سمِعْتُ من الجهة الخلفية صراخًا وضوضاء، فأيقنت أن الثوَّار قد أقبلوا إلى هذا المكان، فارتَعَدَتْ فرائصي، واضطربت بكلِيَّتي، وأصابتني في الحال قشعريرة، واستولى عليَّ الخوف لوجودي منفردًا في هذا المكان، فوقفت مكاني رافعًا نظري إلى فوق، فشاهدت عن بُعْد سحابةً بيضاء سائرة نحو العلى، ملتَفَّة حول جوقة ترنم وتُسبح بأصواتٍ منعشة رخيمة، وكانت من أطرب ما سمِعَتْه أذني، وشد ما كانت دهشتي عندما ظَهَرَ لي من خلال تلك السحب راهبات جاثيات، متشحات بالبياض، وعلى رءوسهن الأكاليل، رافعات أيديهن إلى العُلى، ومن شدة بهجتي وسروري بمرآهن الملائكي، صَرَخْتُ وأنا على هذه الحالة المطربة، تعالَيْ إليَّ أيتها العذارى الطاهرات، اقتَرِبْنَ مني وأَبْعِدْنَ عني الخوف والفزع، اقْتَرِبْنَ يا من كنتن رحمةً للإنسانية، فإن بقربكن شجاعة لي وقوة. ولما سَمِعْنَ ندائي اقتربن قليلًا، وهن ملتفتاتٌ إليَّ بوجوههن الطافحة بِشْرًا ومحبة، وقُلْنَ: تَشَجَّعْ أيها الأخ ولا تَخَفْ، فإنك في مكانٍ أمين.

وما كِدْنَ يُنْهِينَ كلامهن حتى صَعِدْنَ إلى الأعالي ببطءٍ وهدوء، فرفَعْتُ يدي وصرخْتُ بأعلى صوتي: قِفْنَ أيتها الصديقات، قِفْنَ لأُمَتِّعَ نظري بمرآكن المعزِّي، طُوباكُنَّ يا ذوات الشفقة والحنان، أما كفاكن أتعابًا على الأرض بحملكُنَّ مصائب البشر، حتى جئتُنَّ إلى هنا وكنتُنَّ سببًا لتحفيف ويلاتي وتشجيعي. قِفْنَ قليلًا لأُسَبِّحَ معكن الخالق لعله يستجيبني ويُخلصني. مهلًا أيتها النقيات، ولا تتوارَيْنَ عن نظري بسرعة، مهلًا يا من كَرَّسْتُنَّ ذواتكن لفادي البشر، وكنتن على الأرض رحمةً للعالم، إن السعادة لمثلكن، يا من وُجِدْتُنَّ في محيطٍ لا يعرف إلا كلمة أنا، أنا، كل شيءٍ يتطلبه لنفسه، فلا يشبع ولا يرتوي، أعْمَتْهُ الأنانية، وجعلَتْهُ يدوس أخاه في الإنسانية، ولا يبالي بسقوطه، فكنتُنَّ بين هذه الخشونة تنادِينَ ليس لنا بل للفقير، لليتيم، للبائس، للمتوجع، للمنقطعين، للمرذولين من الهيئة، للإنسانية أجمع، لا تتطلبن شيئًا إلا القوت.

آه ما أشرف عواطفكنَّ وأرَقَّ إحساساتكنَّ! كم جبرتنَّ من القلوب المنكسرة بكلامكن المعزي! كم داويتُنَّ من المرضى الذين تُركوا من أهلهم وأصدقائهم وكنتن لهم خير مُوَاسٍ وأكبر مُعِينٍ! كم وقفتُنَّ على الأبواب متسولات مستعطيات لِتُطْعِمْنَ اليتامى الفقراء! كم كنتن تذهبن إلى المقابر، وتجثون على قبور المنقطعين وتصلين عن نفوسهم، وتضعن من زهور الحقل ضَمَّات على تلك القبور العارية فتنعشنها! أنتن إذا نَظَرَ إليكن الجاحد الذي لا يؤمن بالثواب والعقاب يعود إلى الإقرار بذلك، إذ يَسْمَعُ صوتًا في قلبه يقول له: من المستحيل أن تذهب أعمالٌ كأعمالكن في العالم الآتي بدون جزاء، فإذا كان لا يوجد ثواب وعقاب، فلا فرق إذَنْ بينكن وبين مَن كَرَّسْن ذواتهن للرذيلة والفحشاء.

طوباكن، طوباكن يا مَن كنتن قدوة طاهرة للفتيات. طوباكن يا مَن أنكَرْتُنَّ ذواتكن ونذرتن الفقر الاختياري حبًّا بالله والقريب. اصعدن إلى الأعالي واجلسن في الأماكن المُعَدَّة لكنَّ، اصعدن وصَلِّين لأجل أبي الأجران هذا الخاطئ الرافع يديه الآن نحوكنَّ؛ لكي يكون معكن يومًا يسبح الله ويمجده، صلين لأجل أخي فنيانوس كي لا يَحِيد عن سبل الحق. اطلبن من الرب؛ لأن طلباتكن مستجابة لكي يُلْهِم من بيدهم الأمر والنهي في العالم ليتجنبوا أسباب الحروب المخيفة. اطلبن على الأخص لكي يَسْكُب على قلوب ولاة أمورنا نعمة العدل؛ لترتفع عن عاتق الرعية المَظالِم والمغارم. تضرعن لأجل المهاجرين السوريين المتفرقين في أَرْبِعة أقطار المسكونة؛ كي لا تنطفئ في قلوبهم نار المحبة لبلادهم، حتى يعودوا يومًا إليها، ويَشْفُوا قلوب والديهم من لوعة الفراق. اطلبن للشبان منهم سلامة من الأشراك المنصوبة لهم التي تجلب الأمراض والعاهات؛ ليعودوا أيضًا إلى أرضٍ لهم فيها مَنْ هُنَّ بانتظارهم ليكنَّ لهم شريكات في الحياة …؟

تضرَّعن لأجل وقوف المهاجَرة السورية عند حدٍّ، فقد أصبحت البلاد خالية خاوية من الرجال، وكُلُّ ذَكَرٍ من سن الخامسة عشرة إلى سن الخمسين قد هَجَرَ البلاد، إنها لَحالة مخيفة ومحزنة معًا لم يُدَوِّن مثلها المؤرخون.

ولبِثْتُ رافعًا نظري وباسطًا يديَّ، ومناديًا إلى أن توارين عن عيني، فالتفَتُّ إلى الوراء وأنا أمسح دموعي المتساقطة، وأتنهد تنهُّدات عميقة، وقد نشف ريقي من كثرة النداء، فرأيت حنوش قادمًا، ولما وَصَلَ ورآني على هذه الحالة المؤثرة سألني عما أصابني، فأخبرته بالأمر، ثم قال: هيا بنا لنعود إلى المكان الذي كنا فيه كي تنتظر المحاكمة، وأخبرك أن الثوَّار قد فازوا ببعض مطاليبهم، وعُيِّنَ مأمور جديد غير ذلك الذي سَبَّب الثورة بكثرة ضَغْطه وقساوته، واعلم يا أخي أبا الأجران أنه لولا الثورات لما استقامت حكومة، فإن الثورة في أكثر الأحيان تكون دواءً شافيًا من مرض الظلم والجور، أنا لا أُنْكِر أن ذلك المأمور المعزول كان طيب القلب، ولكنه كان قاسيًا لا يرحم ولا يُشْفِق، وقد استعمل الضرب والجلد في الوقت الذي أُبْطِل في كل مكان، واسْتُعِيض عنه بالعقوبات غير المؤذية.

وقبل أن نترك هذا المكان سمعنا أصواتًا كالأصوات السابقة، صادرة من بين الغيوم، فالتفَتُّ إلى مصدر الأصوات، فرأيت أجواقًا محمولة على السحب رافعة أعلام الصليب الأحمر، فصرخت ثانية وبسطتُّ يدي نحوهم وقلت: أنتم أيضًا تستحقون السعادة، أنتم يا مَن انضممْتُم تحت رسم الصليب، وخضتم الحروب لتخفِّفوا ويلاتها، باستحقاق وعدل نلتم السعادة يا مَن خدمتم هذه الراية الشريفة، هذا الرسم الذي تطمئن لرؤيته القلوب، وترتاح إليه النفوس، فسلام وألف سلام على مبادئكم السامية الشريفة وعواطفكم الرقيقة.

•••

ثم رجعت مع حنوش إلى المكان السابق الذي كنا فيه، فوجدنا الحالة قد انتظمت وعاد كل شيء إلى مجراه، وكانت الجنود في تلك الساعة تستعدُّ لاستقبال المأمور الجديد الذي يُرْجى أن يكون رحومًا شفوقًا، حتى لا أنال منه ما كُنْتُ أتوقعه من المأمور السابق؛ لأنني — كما تعلم — كنت من الذين تعاطوا المسكرات ومن محبي «الدمعة».

وقد هيأت هذه الرسالة وتوسَّلت إلى حنوش لكي يوصلها إليك، فقَبِلَها بعد أن تردد طويلًا، ولي تمام الثقة بوصولها ليدك.

وسيذهب حنوش قبل أن أتحاكم، ولا أعلم ما الذي ينالني من القصاص، فادع لي وصلِّ لأجلي وزُرْ قبري كلما سنحت لك الفرص، فإني أشعر من هنا براحة.

والآن أستودعك الله يا فنيانوس الحبيب، يا أعز الناس إليَّ، أستودعك الله إلى وقتٍ نلتقي فيه في هذه الدنيا؛ حيث نكون معًا في السعادة. ابتعِد عن كل ما يحرمك إياها، لا تسكر ولا تظلم، كن شفوقًا مخلصًا محبًّا للجميع، لا تحرم المحتاج من مساعدتك، كن قويًّا نشيطًا ذا ضمير حيٍّ، حافِظْ على صحة جسدك كما تحافظ على صحة نفسك؛ لكي تعيش سعيدًا على الأرض، لا تُهْمِل واجباتك، اصنع البر وساعِد على إنماء الفضيلة وحارِب الظلم والظالمين.

هذه وصيتي لك، وسلامي إلى جميع السوريين المحبوبين، وخاصة إلى أم موسى التي لها عليَّ أتعاب «وشوتفة».

وأختم رسالتي بتقبيل وجنتَيك تكرارًا.

أخوك بالرب
شعيا أبو الأجران
عن عالم البقاء، في ١ كانون الثاني سنة ١٩٠٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤