الفصل الأول

مداخل تحليل الخطاب

هدفي في هذا الفصل أن أصِفَ بإيجازٍ عددًا من المداخل المُطبَّقة في الآونة الأخيرة وحاليًّا في تحليل الخطاب، باعتبار ذلك سياقًا وأساسًا لتفصيل القول في مدخلي في الفصول ٣–٨، لقد أصبح تحليل الخطاب اليوم مجالًا دراسيًّا بالِغَ التنوُّع، حيث نجد مداخل منوعة في كل مبحث من عددٍ من المباحث (وبعض جوانب هذا التنوُّع مذكورة في فان دييك، ١٩٨٥م، أ)، وهكذا فإن استقصاء المداخل في هذا الفصل يقوم بالضرورة على الاختيار؛ إذ اخترت عددًا من المداخل التي تجمع، إلى حدٍّ ما، بين التحليل الدقيق للنصوص اللغوية وبين التوجُّه الاجتماعي للخطاب، ويتفق هذا مع هدفي في الفصول اللاحقة لتحقيق جمع فعَّال ويقبل التطبيق بين التحليل النَّصي وطرائق التحليل الاجتماعي الأخرى، كما أنني تعاملتُ مع المداخل بصورة انتقائية، مُركِّزًا على جوانبها التي تقترب أكثر من غيرها من أولوياتي في هذا الكتاب.

ومن الممكن تقسيم المداخل المستقصاة إلى مجموعتَين وفقًا لطبيعة توجُّهها الاجتماعي إلى الخطاب، مميِّزًا بين «المداخل غير النقدية» والمداخل «النقدية»، ولكن مثل هذا التقسيم ليس مُطلَقًا، فالمداخل النقدية تختلف عن المداخل غير النقدية في أنها لا تقتصر على وصف الممارسات الخطابية، بل تبيِّن أيضًا كيف يتشكَّل الخطاب بفعل علاقات السلطة والأيديولوجيات، والآثار البنَّاءة للخطاب في الهُويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، ونظم المعرفة والعقيدة، وإن لم يكن أيهما واضحًا في العادة للمشاركين في الخطاب. فأما المداخل التي وصفتها بأنها غير نقدية أساسًا فتتضمَّن الإطار اللازم لوصف خطاب قاعة الدرس عند سنكلير وكولتارد (١٩٧٥م)؛ والعمل «الإثنومنهجي» في مجال «تحليل المحادثة»؛ ونموذج الخطاب العلاجي عند لابوف وفانشيل (١٩٧٧م)، إلى جانب مدخل حديث لتحليل الخطاب، وضعه باحثان في علم النفس الاجتماعي هما بوتر ووذريل (١٩٨٧م)، وأما المداخل النقدية التي أدرجتها فهي: «اللغويات النقدية» عند فاولر وآخَرين (١٩٧٩م) والمدخل الفرنسي لتحليل الخطاب الذي بناه بيشوه على أساس نظرية الأيديولوجيا عند ألتوسير (بيشوه، ١٩٨٢م). ويُختَتم الفصل بملخَّص للقضايا الرئيسية في تحليل الخطاب، وهي المستخلصة من هذا الاستقصاء، والتي سوف تمثِّل نقطة انطلاق إلى عرض مدخلي الخاص في الفصل الثالث.

(١) سينكلير وكولتارد

عمل سنكلير وكولتارد (١٩٧٥م) وكذلك كولتارد (١٩٧٧م) على وضع نظام وصفي عام لتحليل الخطاب، ولكنهما قرَّرا التركيز على قاعة الدرس؛ لأنها حالة ثابتة الشكل، ومن المحتمل أن تخضع ممارسة الخطاب فيها لقواعد واضحة، ويقوم نظامهما الوصفي على وحدات يفترض أن ترتبط فيما بينها بالعلاقة نفسها مثل الوحدات في الأشكال المبكِّرة للنحو المنهجي (هاليداي، ١٩٦١م): والوحدات مرتبة بمعيار طبقي، بمعنى أن الوحدات الأعلى طبقة تتكوَّن من الوحدات في الطبقة الأدنى، وهكذا، ففي النحو، تتكوَّن الجملة من عبارات، وهي تتكون من مجموعات، وهلُمَّ جَرًّا. وعلى غرار ذلك نجد أن خطاب قاعة الدرس يتكوَّن من خمس وحدات ذات طبقات تنازلية — الدرس، والتعامل، والتبادل، والخطوة، والفعل — بمعنى أن الدرس يتكون من تعاملات، تتكوَّن كلٌّ منها من مبادلات، وهلُمَّ جرًّا.

ولا يكاد سنكلير وكولتارد يذكران شيئًا عن «الدرس»، ولكنهما يقولان بأن «التعامل» ذو بناء واضح، فالتعاملات تتكون من مبادلات، وهي تُفتَح وتُغلَق بما يسمِّيانه «مبادلات الحدود» التي تتكون على الأقل من «خطوات إطارية»، إلى جانب خطوات أخرى أو من دونها، فعلى سبيل المثال يقول المعلم: «والآن، قلتُ في نفسي فلنعمل اليوم على حلِّ ألغازٍ ثلاثة»، وهذه الجملة تتضمَّن خطوة إطارية («والآن») وخطوة «تركيزية» تقول للتلاميذ موضوع التعامل المتوقع. وعادةً ما تقع بين مبادلات الحدود سلسلة من المبادلات «الإخبارية» أو «التوجيهية» أو «الرامية إلى تلقِّي المعلومات»، وفي هذه السلسلة تقع مقولات وطلبات (أو أوامر) على الترتيب، وتُطرَح الأسئلة، عادةً، من جانب المعلم.

فلننظر في بناء نمطٍ من أنماط المبادلة، وهي المبادلة الرامية إلى تلقِّي المعلومات، وتتكون في العادة من ثلاث خطوات: «البداية» و«الرد» و«رد الفعل». مثلًا:

المعلم : هل تستطيع أن تقول لي سبب تناولك كلَّ هذا الطعام؟
التلميذ : للحفاظ على قوتي.
المعلم : للحفاظ على قوتك، نعم. للحفاظ على قوتك.
ولماذا تريد الحفاظ على قوتك؟

أول ما يقوله المعلم هو خطوة البداية، وقول التلميذ رد عليها، وأول سطر من القول الثاني للمعلم رد الفعل، والسطر الثاني خطوة بداية جديدة، لاحظ أن مقولةً («منطوقةً») واحدة يمكن أن تتكون من أكثر من خطوة واحدة، ووجود رد الفعل بانتظام يفترض سلفًا أن المعلمين يتمتعون بسلطة تقييم أقوال تلاميذهم (فمن النادر أن يخاطر أحدٌ بأن يفعل هذا خارج إطار تعليمي) ويبيِّن أن جانبًا كبيرًا من خطاب قاعة الدرس يدور حول اختبار ما يعرفه التلاميذ، وتدريبهم على أن يقولوا أشياءَ ذات صلة بالموضوع وفقًا للمعايير التي وضعَتْها المدرسة.

والخطوة الواحدة تتكون من فعلٍ واحد أو أكثر، ويميِّز سنكلير وكولتارد بين ٢٢ فعلًا في خطاب قاعة الدرس، وبعضها خاص بهذا النمط من الخطاب دون غيره، (مثل فعل «الطلب»؛ أي الذي يطلب الطفل فيه الحق في الإجابة، ربما بأن يرفع يده)، وبعضها الآخَر أقل اختصاصًا بهذا النمط، فخطوة البداية في المبادلة التي ترمي إلى تلقِّي المعلومات قد تتضمَّن «الاستخلاص» (أي استخلاص شيء من السامع) على سبيل المثال، وربما يكون ذلك عندما تتضمَّن خطوة البداية في مبادلةٍ توجيهيةٍ ما «توجيهًا» مُعيَّنًا.

وتُعتبر الأفعال فئات وظيفية لا فئات شكلية، ومن القضايا الرئيسية قضية العلاقة بينها وبين الفئات الشكلية للنحو، (وقد حظيت هذه القضية باهتمام كبير في إطار التداولية، انظر ليفنسون، ١٩٨٣م؛ وليتش وتوماس، ١٩٨٩م)، ومن المشهور عدم وجود حالات تقابل بسيطة. فعلى سبيل المثال قد تكون الجملة الاستفهامية («السؤال النحوي») توجيهًا واستخلاصًا في الوقت نفسه (مثل: «هل تستطيع إغلاق الستائر؟») والجملة الخبرية («المقولة النحوية») يمكن أن تكون أيًّا من هذَين أو فِعلًا «إخباريًّا» (مثل «الستائر ليست مغلقة»، فقد تمثَّل هذا طلبًا للتأكيد، أو طلبًا من أحدهم بإغلاقها، أو مجرد تقديم معلومات)، ويشير سنكلير وكولتارد إلى ما يسميانه «الحال» و«التكتيك»؛ للبت في الوظيفة التي تقوم بها الجملة في قطعةٍ مُعيَّنة من الخطاب. وذكر الحال يدعو إلى النظر في عوامل حالية ذات علاقة به، فعلى سبيل المثال: إذا كان الأطفال يعرفون أن الكلام في قاعة الدرس ممنوع، فإن الجملة الخبرية التي يقولها المعلم (مثل «أنت تتكلم») ربما فسَّرَها التلميذ بأنها أمرٌ له بالكفِّ عن الكلام، وعلى ما يقوله لابوف وفانشيل (انظر أدناه) يقترح سنكلير وكولتارد قواعد تفسيرية تأخذ في اعتبارها الشكل النحوي للجملة والعوامل الحالية، وأما «التكتيك» فينظر في تأثير موقع الجملة من حيث ارتباطها بما سبق داخل الخطاب في تفسيرها، فعلى سبيل المثال قد ترِدُ جملة خبرية مثل «ربما يختلف الأمر من وجهة نظر المرأة» بعد ردِّ فعلٍ في سلسلة المبادلات المُستخلَصة، (أي حيث يتوقَّع المرء خطوة البداية)، ومن المحتمل أن تُفسَّر باعتبارها استخلاصًا، على الرغم من أن معظم الجمل الخبرية ليست استخلاصية، وأن معظم الجمل الاستخلاصية جمل استفهامية.

وتكمن قوة الإطار الذي وضعه سنكلير وكولتارد في الطريق الرائد الذي يلفت النظر إلى خصائص التنظيم المنهجي للحوار، ويقدِّم طرائق وصفها، وأما أوجُه قصورها فتتضمَّن غياب التوجُّه الاجتماعي الناضج للخطاب، وعدم كفاية الاهتمام بالتفسير، ومن الممكن إرجاع أوجُه القصور المذكورة إلى المادة (البيانات) التي اختاراها، فهما يركِّزان على نموذج مركزية المعلم التقليدية في خطاب قاعة الدرس، ومادَّتهما لا يتجلَّى فيها تنوُّع ممارسات قاعة الدرس الراهنة. وهذا يجعل خطاب قاعة الدرس يبدو أشدَّ تجانُسًا مما هو عليه في الواقع، ويُطبِّع الممارسات السائدة بجعلها تبدو في صورة الممارسات الوحيدة، فهو يقدِّمها باعتبارها «موجودة» وحسب، ومتاحة للتوصيف، لا باعتبار أنها أُنشِئَت من خلال التنازع مع ممارسة بديلة، وأنها قد زُوِّدَت بأيديولوجيات مُعيَّنة (مثل الآراء في التعليم والمتعلمين)، وأنها تساعد على الحفاظ على علاقات سلطة مُعيَّنة داخل المجتمع. وبإيجاز، فإن مدخل سنكلير وكولتارد ينقصه التوجُّه الاجتماعي الناضج، ما دام يتجاهل النظر في طرائق تشكيل علاقات السلطة للممارسات الخطابية، ولا يضع خطاب قاعة الدرس في مكانه التاريخي وسط عمليات الصراع الاجتماعي والتغيير. فالخصيصة المرموقة لخطاب قاعة الدرس المعاصر تتمثَّل في تنوُّعه، والمرء يريد أن يعرف سبب الضغوط التي يتعرَّض لها خطاب قاعة الدرس التقليدي الذي يصفانه، وطبيعة القضية المطروحة.

وتجانس المادة المشار إليها تصرف النظر أيضًا عن ازدواج الدلالة في خطاب قاعة الدرس وتنوُّع التفسيرات المحتملة. انظر في المثال التالي عند كولتارد (١٩٧٧م، ١٠٨):

المعلم : ما نوع هذا الشخص في رأيك؟
هل ترى؟ ما الذي تضحك منه؟
التلميذ : لا شيء.
المعلم : ماذا؟
التلميذ : لا شيء.
المعلم : تضحك من لا شيء؟ لا شيء على الإطلاق؟
التلميذ : لا.
الأمر مضحك فعلًا؛ لأنهم لا يخطر لهم ذلك كأنما لم يكونوا حاضرين، وربما لم يحبوا ذلك، والكلام يُفصح عن موقف متحذلق.

ويرى سنكلير وكولتارد أن هذا يدل على سوء تفسير التلميذ للحال؛ إذ يتصور أن سؤال المعلم عن الضحك يقصد به التأديب لا الحوار، ولكن أمثال هذه النماذج تشير أيضًا إلى إمكان تعدُّد الجوانب في خطاب قاعة الدرس، وإلى تعايُش مجموعة من أنماط خطاب قاعة الدرس في المدارس، وهو ما ينبغي لمنتجي النص ومفسِّريه أن يأخذوه في حسبانهم، ويعني هذا، ضمنًا، ضرورة الانتباه إلى العمليات الخِطابية، وإلى التفسير والإنتاج، وأما التركيز عند سنكلير وكولتارد فينصَبُّ على النصوص باعتبارها من نواتج الخطاب (وإن كانت فئة التكتيك تُوحي بدرجةٍ من الانتباه إلى التفسير)، ويؤدي هذا أيضًا إلى جَعْل موقفها من التحليل إشكاليًّا ما دام المحلِّلون يُفسِّرون النصوص ولا يكتفون بوصفها. ولنسأل: أفلا يُفسِّر سنكلير وكولتارد فعلًا بياناتهما حتى حين يزعمان أنهما يصفانها فحسب؟ أفلا يُفسِّرانها من وجهة نظر المعلم حين يريان مثلًا أن التلميذ يُسيء فَهْم المعلم بدلًا من إبدائه عدم الالتزام (أو الحياد) في الرد على سؤال يحتمل إجابتَين من المعلم؟ فتعبير «لا شيء» في الواقع يحتمل أكثر من دلالة، ومن الممكن أن يعني «لا أستطيع أن أخبرك بما يجعلني أضحك هنا»، ويثير هذا مشكلة أخرى في هذا الإطار؛ إذ إنه يفرض قرارات مُعيَّنة بشأن وظائف الأقوال، في حين أن الأقوال في الواقع كثيرًا ما تحمل وجهَين للمعنى، لا أن تتصف بالغموض وحسب، على نحو ما تُبيِّنُه الأبحاث الحديثة في التداولية (انظر لفنسون، ١٩٨٣م)، أي إن معانيها تستعصي على البَتِّ الواضح فيها.

(٢) تحليل المحادثة

تحليل المحادثة مدخل من مداخل تحليل الخطاب، وضعَتْه مجموعة من علماء الاجتماع الذين يصفون أنفسهم بأنهم «إثنومنهجيين»، ومدخل «الإثنومنهجية» من المداخل التفسيرية في علم الاجتماع، وهو يركِّز على الحياة اليومية باعتبارها إنجازًا قائمًا على المهارة، وعلى المناهج التي يستخدمها الناس ﻟ «إنتاجها» (جارفينكل، ١٩٦٧م، وبنسون وهيوز، ١٩٨٣م). ويميل الإثنومنهجيون إلى تجنُّب النظرية العامة ومناقشة أو استخدام بعض المفاهيم مثل الطبقية أو السلطة أو الأيديولوجيا وهي التي تمثِّل أهميةً أساسيةً للتيار الرئيسي لعلم النفس، وبعض الإثنومنهجيين يُبدون اهتمامًا خاصًّا بالمحادثة وبالمناهج التي يطبِّقها المتحادثون في إنتاجها وتفسيرها (شنكاين، ١٩٧٨م؛ أتكنسون وهريتيدج، ١٩٨٤م)، ويركِّز محلِّلو المحادثة أساسًا على المحادثة غير الرسمية بين الأنداد (مثل المحادثة التليفونية) وإن كانت بعض البحوث الحديثة قد تحوَّلَت إلى الأنماط المؤسسية للخطاب، حيث تبدو مظاهر عدم التكافؤ في السلطة بوضوح أكبر (باتون ولي ١٩٨٧م). ويختلف تحليل المحادثة عن مدخل سنكلير وكولتارد في أنه يبرز العمليات الخِطابية، ومن ثَمَّ يُولي اهتمامًا أكبر بالتفسير والإنتاج، ولكن مفهوم هذا التحليل للتفسير والعمليات مفهوم ضيِّق، كما سوف أقيم عليه الحجة أدناه، ويشبه تحليل المحادثات مدخل سنكلير وكولتارد في التوجُّه نحو اكتشاف الأبنية في النصوص.

وقد وضع محلِّلو المحادثات توصيفات لشتَّى جوانب المحادثة، مثل فواتح المحادثة وخواتيمها، وكيفية عرض الموضوع، وتطويره وتغييره، وكيف يحكي الناس حكايات في أثناء المحادثات، وكيف ولماذا يعيدون صَوْغ المحادثة (مثلًا بتقديم فحواها أو باقتراح ما توحي به ضمنًا). وأما البحوث الخاصة بالتناوب، أي كيف يتناوب المتحادثون أدوار الكلام، فقد كانت باهرة وذات نفوذ كبير، ويقترح ساكس وشيجلوف وجيفرسون (١٩٧٤م) وجود مجموعة بسيطة من قواعد التناوب التي تمتاز بالصلابة، وتنطبق هذه القواعد عند اكتمال الوحدة المُستخدَمة في بناء دور المتحدِّث، إذ يبني المتحدِّثون أدوارهم بوحدات مُعيَّنة، كأن تكون الوحدة جملة مُركَّبة، أو جملة بسيطة، أو عبارة، أو حتى كلمة واحدة، ويستطيع المشاركون البَتَّ في ماهية هذه الوحدة والتنبؤ بلحظةِ اكتمالها بدقة كبيرة، والقواعد مُنظَّمة على النحو التالي: (١) للمتحدِّث الحالي أن يختار المتحدِّث التالي له؛ (٢) وإذا لم يفعل ذلك فقد يختار المتحدِّث التالي نفسه بالبدء في دوره في الحديث؛ (٣) فإن لم يحدث هذا فللمتحدِّث الحالي أن يواصل حديثه. ويقول ساكس وشيجلوف وجيفرسون: إن هذه القواعد تشرح عددًا كبيرًا من معالم المحادثات التي رُصِدَت، ويضيفون أن حالات التداخل بين المتحادثين تتسم بالقِصَر بصفةٍ عامة، وبأن عددًا كبيرًا من حالات الانتقال من متحدِّثٍ إلى غيره تقع دون فجوات ودون تداخُلات، وهلُمَّ جرًّا. وعلى الرغم من عمومية القواعد فإنها تسمح بالتنوُّع الكبير في بعض معالم المحادثة، مثل نظام أدوار الكلام وطول كلٍّ منه.

ويركِّز تحليل المحادثة تركيزًا شديدًا على الدلالات المُضمَرة للتتابع في المحادثة، أي الزعم بأن كل قول منطوق يفرض قيودًا على ما يتبعه، و«الثنائيات المتجاورة» — مثل السؤال والإجابة، أو الشكوى والاعتذار — من الأمثلة ذات الوضوح الناصع على هذا، فالسؤال الذي يطرحه أحد المتحادثين يستتبع بالضرورة إجابةً من متحدِّث آخَر. ومن الأدلة على أن قولًا من «س» يستتبع إشراك «ص» ما يلي: (١) إن أي شيء يُقال بعد قول «س» سوف يُعتبَر خاصًّا ﺑ «ص» إن كان ذلك مُمكِنًا (والمثال عليه: «هل هذه زوجتك؟» قد تتبعه إجابة تقول «يعنى! إنها ليست والدتي»، ومن المُحتمَل أن تُعتبر هذه العبارة ردًّا بالإيجاب على السؤال). (٢) إنه إذا لم يصدر قولٌ من «ص»، فإن غياب القول سوف يُلاحَظ، ومن الشائع أن يُعتبَر أساسًا لمعنًى مستنبط (فعلى سبيل المثال إذا امتنع المعلمون عن إبداء ردود أفعالهم على إجابات التلاميذ فقد يعني ذلك ضمنًا رفض هذه الإجابات)، ويقول أتكنسون وهريتيدج (١٩٨٤م، ٦) «إن كل قول منطوق يقع في موقع يحدِّده البناء في الحديث»، ومما يترتب على هذا أن تناوب الأدوار يتجلَّى فيه تحليل الأدوار السابقة، وهو ما يوفِّر الأدلة الدائمة في النص على كيفية تفسير الأقوال الملفوظة.

ومما يترتَّب على هذا أيضًا أن موقع القول وحده وسط الأقوال المتتابعة يكفي للبَتِّ في معناه، ولكن هذا مشكوك فيه إلى حدٍّ كبير، لسببَين: الأول (١) أن تأثير التتابع في المعنى يتغير طبقًا لنمط الخطاب، والثاني (٢) أن المشاركين في المحادثة قد يرجعون، كما سبق أن ذكرت في مناقشتي لسنكلير وكولتارد، إلى أنماطِ خطابٍ مُنوَّعة في أثناء «تفاعلهم»، بحيث يُضطر المشاركون، باعتبارهم منتجين ومفسِّرين، إلى تعديل مواقعهم باستمرار إزاء هذه الأنماط. انظر بناء المقتطف التالي من مقابلة شخصية طبية أقدِّم في الفصل الخامس تحليلًا لها:

سوف أقول في تحليلي لهذه الشذرة المُقتطَعة من مقابلةٍ شخصية: إنها مزيج من المقابلة الطبية وجلسة إسداء المشورة. وفي إطار هذا المزيج ماذا يقول التتابع للمفسِّر عن سؤال الطبيب في دوره الأول؟ نعرف في المقابلات الطبية التقليدية أن السؤال الذي يسأله الطبيب فور إشارة المريض إلى حالة مرضية قد تكون خطرة (وهي إدمان شرب الخمر هنا)، من الأرجح أن يفسر على أنه استقصاء طبي يتطلب الانتباه الكامل من كلا المشاركين، وأما في جلسة إسداء المشورة، فإن مثل هذا السؤال يمكن تفسيره بروح المحادثة، أي باعتباره سؤالًا عارضًا يدلُّ على أن المستشار ملِمٌّ بمشاكل المريض. وفي الشذرة المقتطفة يبدو أن المريضة تعتبره سؤالًا عارضًا، فهي تجيب إجابات آلية تتكوَّن من كلمات مفردة عن السؤال الرئيسي وإقرار الطبيب للإجابة (وربما محاولة التحقُّق من صدقها)، ثم تغير القصة مرة أخرى؛ لتحكي بعض الأحداث الأخيرة. واتخاذ مثل هذا القرار التفسيري يقتضي أن تحيط المريضة بمعلومات أكثر عن التتابع، أي إنها تحتاج إلى إصدار حكم على حادث اجتماعي، والعلاقة الاجتماعية بينها وبين الطبيب، ونمط الخطاب أيضًا. وهذا يعني أن لدينا صورة لعمليات الخطاب وتفسيره تتسم بتعقيدٍ يزيد على ما هو مفترَض عمومًا في تحليل المحادثات، أي صورة يمكن أن تتسع مثلًا لمحاولات منتجي النص ومفسِّريه شقَّ طريقهم داخل مخزونات أنماط الخطاب. ويوحي هذا المثال أيضًا بأن التحليل نفسه عملية تفسير، ومن ثَمَّ فهي ممارسة خلافية وإشكالية، ولكننا لا نكاد نجد شيئًا من هذا في تحليل المحادثات. ومع ذلك، فإن المحلِّلين يميلون، مثل سنكلير وكولتارد، إلى تفسير البيانات استنادًا إلى وجود توجُّه مشترك بين المتحادثين نحو نمط خطابي واحد (ولكن انظر جيفرسون ولي، ١٩٨١م)، ومن الآثار الناجمة عن ذلك رسم صورة للمحادثة تتميَّز بالتناغم المبالَغ فيه والتعاون الوثيق.

أضِف إلى هذا تجاهل السلطة باعتبارها عاملًا في المحادثات، ففي عمليات التفاوض التي أشرتُ إليها يتمتَّع بعض المشاركين، عادةً، بقوة أكبر من غيرهم. وفي الكثير من أنماط الخطاب (مثل خطاب قاعة الدرس) لا نجد قواعد مشتركة لتناوب الكلام، حيث يتمتع المشاركون بالمساواة في الحقوق والالتزامات، بل نجد توزيعًا متفاوتًا للحقوق (مثل الحق في أن يختار المتحدِّث نفسه، أو أن يقاطع المتحدِّث، أو أن يواصل الحديث عَبْر أدوار عديدة) والالتزامات (مثل القيام بدوره في الحديث إذا رُشِّح لذلك)، وفي أمثال هذه الحالات يتضح لنا أن إنتاج الخطاب جزء من عمليات أوسع نطاقًا، أي عمليات إنتاج الحياة الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والهُويات الاجتماعية، ولكنَّ جانبًا كبيرًا من تحليل المحادثات الذي يقدِّم تفسيرات متناغمة للتفاعُل بين الأنداد يعطينا الانطباع بأن إنتاج الخطاب غايةٌ في ذاته.

وعلى الرغم من اختلافهما في نقاط الانطلاق البحثية والتوجُّهات النظرية، فإن مدخل سنكلير وكولتارد يشارك مدخل تحليل المحادثات نقاط القوة وأوجُه القصور؛ إذ إن كليهما قد أسهم إسهامًا كبيرًا في إيجاد تقدير جديد لطبيعة المباني في الحوار، وإنْ كان كلٌّ منهما يتسم بغياب التوجُّه الاجتماعي الناضج للخطاب (وفي هذا الصدد يعاني تحليل المحادثات من أوجُه النقص نفسها عند سنكلير وكولتارد)، ولا يقدِّم أيهما وصفًا مُقنِعًا لعمليات الخطاب والتفسير، وإنْ كان تحليل المحادثة يقدِّم نظرات ثاقبة في جوانب مُعيَّنة من التفسير.

(٣) لابوف وفانشيل

يعتبر كتاب لابوف وفانشيل (١٩٧٧م) دراسة اشتركَ في إعدادها عالِم من علماء اللغة وعالِم من علماء النفس لخطاب المقابلة الشخصية الخاصة بالعلاج النفسي، وخلافًا لموقف سنكلير وكولتارد، وموقف تحليل المحادثات، يفترض لابوف وفانشيل أن الخطاب غير متجانس، وهما يريان ذلك دليلًا على «التناقضات والضغوط» (ص٣٥) الناشئة عن ظروف المقابلة الشخصية، وهما يتفقان مع جوفمان (١٩٧٤م) على أن التنقُّل بين «الأطر» من المعالم العادية في المحادثة، ويحدِّدان في المادة التي يدرسانها تركيبًا من أساليب مختلفة ترتبط بأطر مختلفة، مثل: «أسلوب المقابلة الشخصية»، و«أسلوب الحياة اليومية»، اللذين يُستخدمان في قصص المرضى عما جرى «في الدنيا منذ الزيارة الأخيرة» (والحرف «ق» يرمز في المثال للقصة) وأسلوب الأسرة (التي يرمز له بحرف أ) هو الأسلوب الذي عادةً ما يُستخدم في الحالات «الأسرية» للتعبير عن المشاعر الجارفة.

وهما يقسمان المقابلات الشخصية إلى «قطاعات» تتفق في مداها تقريبًا مع «المبادلات» عند سنكلير وكولتارد، وإن كانت هذه القطاعات يمكن أن تكون أيضًا أجزاءً من المونولوجات. وتحليل القطاعات يؤكِّد وجود «تيارات اتصال» لغوية وشبه لغوية، والصفة الأخيرة تشمل بعض ملامح الكلام مثل طبقة الصوت، ودرجة ارتفاعه، وبعض مميزاته مثل «التهدُّج»، وحَمْله معاني مضمرة «يُنكرها» المتكلِّم. ومن المتغيرات بين أنماط الخطاب الأهمية النسبية للقناة شبه اللغوية، ففي الخطاب العلاجي يعتبر التناقض بين المعاني الصريحة للقناة اللغوية، والمعاني المضمرة للقناة شبه اللغوية من المعالم الأساسية.

والتحليل يقدِّم «توسيعًا» لكل قطاع، أيْ إعادة صوغٍ للنص قادرةً على التصريح بما هو مُضمَر، بالإشارة إلى الأسماء التي تحيلنا إليها الضمائر، والإفصاح عن المعاني المُضمَرة التي تدلُّنا عليها المفاتيح شبه اللغوية، وإدراج المادة الحقيقية ذات الصلة بالموضوع من أجزاءٍ أخرى من البيانات، والتصريح ببعض المعرفة التي يشترك فيها المتحدِّثون. وحالات التوسُّع المذكورة غير محدودة، ويمكن زيادة تفاصيلها إلى ما لا نهاية. وفيما يلي نموذج نصيٌّ، يتضمَّن التحليل من حيث أساليبه، وصورته الموسعة (ق: قصة، أ: أسرة).

< ق وهكذا – عندما اتصلت بها اليوم قلت < أ «والآن، متى تعتزمين أن تأتي إلى البيت؟» > أ > ق.

< ق عندما اتصلت بوالدتي اليوم (الخميس) قلتُ لها في الواقع < أ «والآن، فيما يتعلَّق بالموضوع الذي يعرف كلانا أنه مهم ومصدر قلق لي، متى تتركين منزل أختي حيث (٢) اكتمل الوفاء بالتزاماتك و(٤) تعودين إذ إنني أطلب مجيئك إلى بيت، حيث (٣) تتعرض التزاماتك الأولية للتجاهل، ما دام ينبغي لكِ أن تفعلي ذلك باعتباركِ (الأم الرئيسة) وترؤسين أسرتنا؟» > أ > ق.

الرموز في الأقواس المجعدة تسبق المقولات التي تقبل كما هي، وبعض هذه خاصة بتفاعل محدَّد، وبعضها الآخَر مثل «الأم الرئيسة»، أي «الأم هي رأس الأسرة»، تترتَّب عليها دلالات عامة في الثقافة بالنسبة لالتزامات الدور؛ إلى جانب رموز أخرى تنتمي إلى الافتراضات الدائمة للعلاج (مثل مقولة: «المعالج لا يأمر المريض بما ينبغي أن يفعله») أو للثقافة (مثل: «على المرء أن يعتني بنفسه») ونادرًا ما تُصاغ المقولات صياغةً صريحة، ومع ذلك فإن القضية الرئيسية في أي تفاعل قد تتمثَّل في البَتِّ فيما إذا كان الحادث يمثِّل إحدى المقولات أو لا يمثلها، أضِف إلى ذلك أن المقولات تشكِّل روابط مُضمَرة بين أجزاء التفاعل، ولها أهميتها في تحقيقِ ترابُطِ معناه.

إذَن فإن تحليل القطاع يقول إنه تفاعل (ومعناه «الفعل الذي يؤثِّر في العلاقات بين النفس والآخَرين») ومن المفترض أن أي كلام منطوق يؤدِّي في الوقت نفسه عدة أفعال ذات ترتيب هرمي بحيث تقوم الأفعال في المستويات الدنيا بتنفيذ الأفعال في المستويات العليا (وهذه العلاقة يُبيِّنها استخدام تعبير «ومن ثَمَّ» في المقتطف الوارد أدناه)، وهكذا يقول المقتطف الوارد أعلاه (وبعد تبسيط ما وضعه لابوف وفانشيل):

تواصل رودا (المريضة) القصة، وتقدِّم معلومات لدعم زعمها أنها نفَّذَت الاقتراح «ح». وتطلب رودا معلومات بشأن الوقت الذي تعتزم والدتها فيه العودة إلى المنزل، ومن ثَمَّ تطلب من والدتها بصورة غير مباشرة أن تعود للبيت، ومن ثَمَّ تنفِّذ الاقتراح «ح»، ومن ثَمَّ تتحدى والدتها بصورةٍ غير مباشرة بسبب تقاعُسها عن القيام بدورها كما ينبغي باعتبارها رئيسة الأسرة، معترِفة في الوقت نفسه بأوجُه قصورها، وزاعمة في الوقت نفسه مرةً أخرى أنها نفَّذَت الاقتراح.

وأما المقولة «ح» فهي اقتراح (المعالج) بأنه ينبغي لكل فرد أن يعبِّر عن حاجاته للآخَرين، وأمثال هذا التصوير تستند إلى قواعد الخطاب التي اقترحَها لابوف وفانشيل لتفسير الأشكال السطحية للأقوال المنطوقة، باعتبارها أنواعًا مُعيَّنة من الأفعال، فهما يتحدَّثان مثلًا عن قاعدة «الطلب غير المباشر»، وهي التي تحدِّد الشروط التي تجعل الأسئلة («طلب المعلومات») تعتبر طلبات للقيام بفعل مُعيَّن، ويختتم التحليل ﺑ «قواعد التتابع» اللازمة للربط بين القطاعات.

ويشير لابوف وفانشيل إلى مدخلهما باعتباره تحليلًا «شاملًا» للخطاب، ولا شك أن طابعه الشامل باهر، وإن كان أيضًا يستغرق وقتًا بالِغَ الطول، على نحو ما يقرَّان به. وهما يحدِّدان في الواقع عددًا من المشكلات التي تكتنفه، فالمفاتيح شبه اللغوية عسيرة التفسير، وهو ما ذاع فعلًا عنها، والتوسُّع قد يستمر بلا نهاية، حيث لا توجد نقاط توقف واضحة الدافع، ومن شأن التوسع طمس الاختلافات المهمة بين العناصر المقدَّمة والمؤخَّرة في الخطاب، لكنني أريد التركيز في مناقشتي على فكرتَين مهمتَين في مدخلهما ولا بد من زيادة النظر فيهما.

تقول الأولى إن الخطاب قد يكون متغاير الأساليب؛ أيْ غير متجانسٍ بسبب التناقضات والضغوط الناشئة في الحالة التي يجري الكلام فيها. ففي حالة الخطاب العلاجي مثلًا، يُقال إن استخدام أسلوب «الحياة اليومية» و«الحياة العائلية» يمثِّل جانبًا من استراتيجية المريض؛ لجَعْل بعض أجزاء الكلام مُحصَّنة أمام الخبرة النفَّاذة للمعالج. وسبقَ لي أن ذكرتُ أن هذا شبيه بمفهوم جوفمان عن الأطر. ومبدأ عدم تجانس الخطاب عنصر رئيسي في مناقشتي للتناص. وسوف أقتصر هنا على الإشارة إلى اختلافَين اثنَين وحسب بين موقفي وموقف لابوف وفانشيل. الأول: هو طيُّ أسلوبٍ داخل أسلوب، كما هو الحال في النموذج الوارد أعلاه، وهو شكل واحد وحسب من أشكال عدم التجانس، وكثيرًا ما يتخذ أشكالًا أكثر تركيبًا وتعقيدًا، حيث يصعب الفصل بين الأساليب، وأقول ثانيًا: إن نظرتهما إلى التغاير أو عدم التجانس تقوم على أكثر مما ينبغي من الثبات، فهما يريان أن الخطاب العلاجي يمثِّل تركيبًا ثابتًا من الأساليب، ولكنهما لا يحلِّلان التغاير بأسلوب دينامي باعتباره يمثِّل تحولات تاريخية في المُركَّبات الأسلوبية. فالواقع أن القيمة الأولى لمبدأ التغاير تكمن، فيما يبدو، في البحث في التغير الخِطابي داخل إطار التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق (انظر أواخر الفصل الثالث، حيث ترِدُ تفاصيل هذا المنظور).

وأما الفكرة الثانية فتقول: إن الخطاب يُبنى على مقولات مُضمَرة يُسلِّمُ المشاركون بصحتها دون مناقشة، وتُعتَبر الأساس اللازم لترابطِ معناه، وهذا مبدأ مهم آخَر لا ينظر لابوف وفانشيل في إمكانياته الكامنة وما يترتب عليه من آثار، وأقول إنهما، بوجه خاص، لا يلتفتان إلى الطابع الأيديولوجي لبعض هذه المقولات، مثل دور الالتزامات المرتبطة بالأم، أو الأيديولوجيا «الفردية» للذات في مقولة «على المرء أن يعتني بنفسه»، أو إلى الوظيفة الأيديولوجية التي يقوم بها العلاج في إعادة إنتاج هذه المقولات دون طعن فيها، وهو ما يذكِّرنا بالبحوث النقدية في العلاج باعتباره آلية لإعادة تكييف الأشخاص؛ للقيام بأدوارهم الاجتماعية التقليدية. وأقول بعبارة أخرى إن لابوف وفانشيل يحجمان عن إجراء تحليل نقدي للخطاب العلاجي، بالرغم من تقديمهما موارد تحليلية قيِّمة لإجراء مثل هذا التحليل.

(٤) بوتر ووذريل

والنموذج الأخير للمدخل غير النقدي لتحليل الخطاب الذي أناقشه هنا استخدام بوتر ووذريل (١٩٨٧م) تحليل الخطاب منهجًا في علم النفس الاجتماعي، وهذا مهم في السياق الحالي، أولًا: لأنه يبيِّن كيف يمكن استخدام تحليل الخطاب في دراسة قضايا ربطَتْها التقاليد بمناهج أخرى، وثانيًا: لأنه يثير السؤال القائل: هل يرتبط تحليل الخطاب في المقام الأول ﺑ «الشكل» أم ﺑ «المضمون» في الخطاب؟ (انظر نقد طومسون (١٩٨٤م، ١٠٦، ٨) لسنكلير وكولتارد لأنهما «شكليان» ويتجاهلان مضمون خطاب قاعة الدرس.)

ويستند دفاع بوتر ووذريل عن تحليل الخطاب باعتباره منهجًا لعلماء النفس الاجتماعي إلى حجة واحدة يطبِّقها المرة تلو المرة على العديد من المجالات الرئيسية للبحث في علم النفس الاجتماعي. وتقول الحجة: إن علم النفس الاجتماعي التقليدي قد أساء تصوُّر خصائص أساسية للمادة اللغوية التي يستخدمها بل و«تكتَّم عليها»؛ وإن الخطاب بنَّاء ومن ثَمَّ فهو يشكِّل الأشياء والفئات؛ وإن ما يقوله المرء لا يظل متَّسِقًا في جميع المناسبات بل يتغيَّر وفقًا لوظائف الحديث. وتُطَبَّقُ هذه الحجة أولًا على البحث في المواقف، إذ إن البحوث التقليدية كانت تفترض أن لدى الناس مواقف متسقة تجاه الأشياء، مثل «المهاجرين الملونين»، ولكن تحليل الخطاب يبين أن الناس يصدرون تقييمات مختلفة، بل ومتناقضة لشيء ما، وفقًا للسياق، ليس هذا وحسب، بل يبيِّن أيضًا أن مفهوم الشيء نفسه يتغير وفق تقييمه (ولذلك فإن «المهاجرين الملونين» تركيب يرفضه الكثير من الناس). وتُطبَّقُ الحُجة بعد ذلك على دراسة أساليب استخدام الناس للقواعد، وكيف يقدِّم الناس «روايات» توضيحية (ذرائع، مبررات … إلخ) لسلوكهم وما إلى هذا بسبيل، مؤكدة في كل حالة تفوُّق تحليل الخطاب على المناهج الأخرى، مثل المناهج التجريبية.

ويبيِّن بوتر ووذريل أن إيلاءهما الأولوية للمضمون في مدخلهما مضادٌّ لإيلاء الأولوية للشكل في «نظرية تطويع الكلام» النفسية الاجتماعية، وهي نظرية تتعلَّق بطرائق تعديل الأشخاص لكلامهم حتى يلائم مَن يكلِّمونهم، ومن ثَمَّ فهي تثبت تغيير الشكل اللغوي وفقًا للسياق والوظيفة، وأما في مدخلهما فهما يركِّزان على تغير المضمون اللغوي. وفي بعض الحالات يقع التركيز على مضمون مقولات الكلام المنطوق — في مجال البحث في المواقف مثل ما يقوله مَن أجابوا على الأسئلة من أبناء نيوزيلاندا بصدد وجوب إعادة المهاجرين البولينيسيين (أي أبناء جزر المحيط الهادي الشرقية) إلى بلادهم — وعلى أنواع الحجج التي «تعمل» فيها هذه المقولات، وفي حالات أخرى يقع التركيز على المفردات والاستعارة، كأن يتعلَّق مثلًا بموقع الخبر في الجملة (من أفعالٍ وصفات) والاستعارات المقترنة بالمجتمع المحلي فيما نشرَتْه أجهزة الإعلام عن الاضطرابات التي وقعت داخل المدن الكبرى في بريطانيا عام ١٩٨٠م.

والواقع أن التمييز بين الشكل والمضمون ليس واضحًا بالصورة التي قد يبدو بها، فللمضمون جوانب تدخل بوضوحٍ في قضايا الشكل، فقد تكون الاستعارة مسألة صَهْر مجالاتِ معانٍ مختلفة، ولكنها أيضًا تتعلَّق بنوع الألفاظ المستخدَمة في النص، وهو جانب من جوانب الشكل الخاص بها، والعكس بالعكس؛ فبعض جوانب الشكل تدخل في قضية المضمون، ومزج الأساليب في الخطاب العلاجي عند لابوف وفانشيل يُعتبر — على أحد المستويات — مزجًا للأشكال (فهما يشيران مثلًا إلى ملامح النبرات التي تميِّز الأسلوب «العائلي») ولكن له دلالته من حيث المضمون، وليكن مثلًا من حيث بناء صورة المريض باعتباره نوعًا خاصًّا من أنواع «النفس» أو الذات.

ويُعتبر الإطار التحليلي عند بوتر ووذريل فقيرًا إنْ قُورِن بالمداخل الأخرى، فالمضمون عندما يقتصر على جوانب محدودة من المعنى «الفكري» أو التصوُّري للخطاب، وهو ما يتجاهل أبعاد المعنى الأخرى (الخاصة بالعلاقة بين الأشخاص بصفة عامة) وما يرتبط بها من جوانب الشكل (والشرح الوافي للمعنى الفكري والخاص بالعلاقة بين الأشخاص وارد في بدايات الفصل الثالث). وتبدو أوجُه القصور التحليلي في أنصع صورها في معالجة بوتر ووذريل لقضية «النفس»، فعلى عكس المعالجات التقليدية للنفس في علم النفس الاجتماعي، يتبنَّى هذان موقعًا تركيبيًّا يؤكِّد التغير في بناء النفس في الخطاب، ومع ذلك فإنهما يعجزان عن تطبيق هذه النظرية في تحليل الخطاب، وذلك (كما أقول في الفصل الخامس) لأننا نرى ملامح نفوس مختلِفة موحًى بها من خلال الصور المجتمعة لمعالم لغوية (وجسدية) وسلوكية شتَّى، ونحتاج في وصفها إلى جهاز تحليلي أشد ثراءً مما يقدِّمه إلينا بوتر ووذريل.

ويتسم مدخل بوتر ووذريل، مثل المداخل الأخرى المشار إليها، بأنه غير ناضج بالدرجة الكافية في توجُّهه الاجتماعي للخطاب، فهما يركِّزان في تحليلهما للخطاب تركيزًا فرديًّا منحازًا على الاستراتيجيات البلاغية للمتكلمين، وتُعتَبر مناقشتهما للنفس استثناءً واضحًا من ذلك، لأن النظرية التركيبية للنفس تؤكِّد الأيديولوجيا والتشكيل الاجتماعي للنفس في الخطاب، ولكن هذه النظرية لا تتفق مع التوجُّه العام للكتاب، كما أنها غير مُطبَّقة في تحليل الخطاب. كما نجد أخيرًا اتجاهًا نحو وصف النشاط الاستراتيجي أو البلاغي للنفس باستخدام الفئات والقواعد وما إليها بسبيل، باعتبارها بديلًا عن إخضاع النفس، لا رؤية هذا وذاك معًا في تركيب جدلي (انظر الفصل الثالث حيث يرِدُ هذا الرأي مُفصَّلًا).

(٥) علم اللغة النقدي

علم اللغة النقدي مدخلٌ وضعَه فريقٌ من الباحثين في جامعة إيست أنجليا في السبعينيات (فاولر وآخَرون، ١٩٧٩م؛ كريس وهودج، ١٩٧٩م)، إذ حاولوا الجمع بين منهجٍ للتحليل اللغوي للنص وبين نظريةٍ اجتماعية عن وظيفة اللغة في العمليات السياسية والأيديولوجية، استنادًا إلى نظرية اللغة الوظيفية المرتبطة باسم مايكل هاليداي (١٩٧٨م، ١٩٨٥م) والمعروفة باسم علم اللغة المنهجي (أو اللغويات المنهجية).

ولم يكن من المستغرب، نظرًا للأصول البحثية لعلم اللغة المنهجي، أن يحرص على تمييز نفسه عن التيار الرئيسي لعلم اللغة (وهو الذي كان يخضع لسيطرة نموذج تشومسكي آنذاك أكثر مما يخضع حاليًّا) وعلم اللغة الاجتماعي (انظر فاولر وآخَرون ١٩٧٩م: ١٨٥–٩٥) وهو يرفض «ثنائيتَين سائدتَين مترابطتَين» في النظرية اللغوية: أولهما معاملة النظم اللغوية باعتبارها مستقلة ومنفصلة عن «استعمال» اللغة، والثانية هي الفصل بين «المعنى» وبين «الأسلوب» أو «التعبير» (أي فصل «المضمون» عن «الشكل»). واللغويات النقدية تنقض الثنائية الأولى بتأكيدها، مع هاليداي، إن «اللغة أصبحت ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي» (هاليداي، ١٩٧٣م، ٦٥) والقول بأن اللغة التي يستعملها الناس تتوقف على موقعهم في النظام الاجتماعي، واللغويات النقدية تعارض الثنائية الثانية بمساندة رأي هاليداي في نحو أية لغة، وهو الذي يقول إنه نظم «خيارات» ينتقي المتكلمون منها ما ينتقون طبقًا للظروف الاجتماعية، مُفترِضًا أن الخيارات الشكلية ذات معانٍ متضادة، وأن خيارات الأشكال لها دلالاتها في كلِّ حالة، كما يُنتقد علم اللغة الاجتماعي لأنه يكتفي بإقامة تعادلات بين اللغة والمجتمع، بدلًا من البحث عن علاقات سببية أعمق، بما في ذلك تأثير اللغة في المجتمع: أي «إن اللغة تعمل على تأكيد وتدعيم المنظمات التي تشكِّلها» (فاولر وآخَرون، ١٩٧٩م، ١٩٠).

والعبارة المقتطفة من هاليداي في الفقرة السابقة مجتزأة من جملةٍ كاملة تقول: «أصبحت اللغة على ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي، ولا بد أن ينجح تنظيم المعاني السلوكية في تبصيرنا إلى حدٍّ ما بأسسها الاجتماعية» (هاليداي ١٩٧٣م، ٦٥). ويقول كريس (١٩٨٩م، ٤٤٥): إن اللغويات النقدية طوَّرَت المقولة الواردة في النصف الثاني من المقتطف، لا في الجزء الأول منه في الواقع، إذ إنها حاولت «استنباط» أبنية «الأسس الاجتماعية» من «تنظيم المعاني السلوكية» في النصوص، كما إن اللغويات النقدية تتخذ موقفًا يتفق مع هاليداي في اعتبارها أن مادة التحليل تتكوَّن من نصوص كاملة (منطوقة أو مكتوبة) على عكس مسلك التيار الرئيسي لعلم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي. وما يُسمى ﺑ «افتراض سابير-وورف» الذي يقول: إن اللغات تجسِّد رؤًى مُعيَّنة للعالم يتسع ليشمل التنوُّع داخل إحدى اللغات، بمعنى أن نصوصًا مُعيَّنة تُجسِّد أيديولوجيات أو نظريات مُعيَّنة، والهدف هو «التفسير النقدي» للنصوص: أي «استعادة المعاني الاجتماعية التي يُعبِّر عنها الخطاب بتحليل الأبنية اللغوية على ضوء سياقاتها التفاعلية وسياقاتها الاجتماعية الأكبر» (فاولر وآخَرون ١٩٧٩م، ١٩٥–٦)، والمرمى وضعُ منهجٍ تحليلي يمكن أن يستخدمه أشخاص قد يكونون مثلًا مؤرخين لا متخصصين في علم اللغة.

ويعتمد علم اللغة النقدي في التحليل النصي اعتمادًا كبيرًا على عمل هاليداي في مجال «النحو المنهجي» (انظر هاليداي، ١٩٨٥م) إلى جانب استخدام بعض المفاهيم من نظريات أخرى مثل «أفعال الكلام» و«التحويل». وتختلف اللغويات النقدية عن المداخل الأخرى فيما تُبديه من اهتمامٍ بالنحو والمفردات في النصوص، وهي تشير بكثرة إلى «التعدي»، وهو جانب من النحو في عبارة أو جملة يتعلَّق بمعناها الفكري، أي بالصورة التي تمثِّل الواقع بها (انظر الفصل السادس حيث المناقشة التفصيلية للتعدي)؛ فالنحو يقدِّم لنا «أنماط صَوْغ» مختلفة وما يرتبط بها من «مشاركين» حتى نختار ما نريد منها، وقد يكون الاختيار المنتظم لنمط صيغة مُعيَّنة ذا دلالة أيديولوجية. فعلى سبيل المثال، نشرت الصحيفة الشيوعية «ذا مورننج ستار» (٢١ أبريل ١٩٨٠م) خبرًا عن نقابة العاملين بهيئة التأمين الصحي، وكيف نظَّمَتْ يومًا للتظاهر، فصاغت الخبر صياغةً توحي بفعلٍ متعدٍّ وفاعل هو العمال الذين ينتمون لشمال إنجلترا (وتسميهم الصحيفة «الشماليين») يقول الخبر: «هاجم مئات من الشماليين البرلمان»، وكان من الممكن صياغة هذا الخبر صوغًا «علائقيًّا» لا يبرز فيه قيام العمال بفعلٍ متعدٍّ هذا البروز (على سبيل المثال: «اجتمع مئات الشماليين لتقديم مظلمة إلى البرلمان»).

كما يركِّز المدخل أيضًا على أمر متصل بهذا، وهو عمليات «التحويل» النحوية، سواء نظرنا إليها باعتبارها تتفق مع ما يحدث في «الزمن الحقيقي» (مثل التحولات المرتبطة بتطوُّر خبر عن حدث في إحدى الصحف على امتداد أيام متتالية، ومناقشته واردة في ترو ١٩٧٩م) أو بصورة مُجرَّدة، أيْ إنَّ المعنى الذي كان يمكن التعبير عنه بفعلٍ وفاعلٍ (وجه س انتقادًا شديدًا إلى ص) تُعاد صياغته بأسلوبٍ تحويلي فيما يُسمى «الصوغ الاسمي» كقولك: (انتقاد «س» ﻟ «ص» شديد) (أو «كان شديدًا»). والصَّوْغ الاسمي يعني تحويل جملة من فعل وفاعل إلى جملة اسمية أو إلى أسماء، والتحويل هنا يستبدل الاسم (انتقاد) بالتركيب الفعلي الأصلي «وَجَّه انتقادًا» (أو «انتقد» في الواقع). ومن أشكال التحويل الأخرى البناء للمجهول، أيْ تحويل المبني للمعلوم إلى مبني للمجهول حتى ولو ذكرت الفاعل في آخِر العبارة (انظر مثلًا العنوان التالي «المتظاهرون تُطلَق عليهم النار (من جانب الشرطة)» بدلًا من «الشرطة تطلق النار على المتظاهرين»). وقد ترتبط أمثال هذه التحويلات بمعالم ذات دلالة أيديولوجية في النصوص، مثل التعمية المنتظمة للفاعل، فهذا وذاك يسمحان بحذف فاعل الجملة.

ويركِّز المدخل كذلك على جوانب معيَّنة من نحو الجملة تتصل بالمعاني الخاصة بالعلاقات ما بين الأشخاص، أي التركيز على طرائق الإشارة إلى العلاقات الاجتماعية والهُويات الاجتماعية في الجملة، وهذا يُسمى نحو النوعية (الخاص بالأسلوب الإنشائي في اللغة العربية والأفعال «الناقصة») (انظر الفصل الخامس حيث الأمثلة والمناقشة). ويقوم المدخل إلى المفردات على افتراض أن الطرائق المختلفة لاستخدام ألفاظ مُعيَّنة لمجالات المعنى قد تتضمَّن نظمًا للتصنيف، تتسم بالاختلاف الأيديولوجي، ومن ثَمَّ مصدر اهتمامنا بالنظر في كيفية إعادة تناول مجالات الخبرة بألفاظ مختلِفة تستند إلى مبادئ مختلفة للتصنيف، على نحوِ ما يحدث مثلًا في غمار الكفاح السياسي (انظر الفصل السادس للمزيد من التفاصيل).

وتركِّز اللغويات النقدية عادةً تركيزًا أكبر مما ينبغي على النص باعتباره مُنتَجًا، وتركيزًا أقل مما ينبغي على عمليتي إنتاج النص وتفسيره، فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من أن هدف اللغويات النقدية يتمثل — فيما يُقال — في التفسير النقدي للنصوص، فإن هذا المدخل لا يكاد يهتم بعمليات التفسير ومشكلاته، سواء تلك الخاصة بالمحلل/المفسر، أو تلك الخاصة بالمشارك/المفسر، وهكذا نلاحظ في التفسير أن العلاقة بين المعالم النصية والمعاني الاجتماعية عادة ما تُصوَّرُ في صورة العلاقات المباشرة والشفافة، وعلى الرغم من تأكيد «عدم وجود ارتباطٍ يمكن التنبؤ به بين أي شكل لغوي وأي معنى اجتماعي محدَّد على أساس مقابلات فردية» (فاولر وآخَرون ١٩٧٩م، ١٩٨)، فإن القِيَم تُنسَب، في الواقع، إلى أبنية مُعيَّنة (مثل الجُمل المبنية للمجهول التي لا فاعل فيها) بطريقة آلية إلى حدٍّ ما، ولكن النصوص قد تكون متاحة لتفسيرات مختلفة، استنادًا إلى السياق وإلى المفسر، وهو ما يعني أن المعاني الاجتماعية (بما في ذلك الأيديولوجيات) داخل الخطاب من الممكن استنباطها ببساطة من النص من دون النظر في الأنساق وضروب التنوُّع في توزيع النص واستهلاكه وتفسيره اجتماعيًّا. وربما تكون «الأيديولوجيا قائمة في اللغة ومعتادة فيها في عينَي القارئ الراضي بها وغير المنتقد لها» (فاولر وآخَرون ١٩٧٩م، ١٩٠)، ولكن القرَّاء كثيرًا ما يكونون نقَّادًا، وما إن تثبت اللغويات النقدية وجود معانٍ أيديولوجية للنص حتى تميل إلى التسليم بآثارها الأيديولوجية.

ومن أوجُه القصور الأخرى في اللغويات النقدية أنها تؤكد من جانب واحد آثار الخِطاب في إعادة الإنتاج الاجتماعي للعلاقات والمباني الاجتماعية القائمة، وتتجاهل في مقابل ذلك كَوْن الخطاب ساحةً تجري فيها ضروب الصراع الاجتماعي، والتغير في الخطاب باعتباره بُعْدًا من أبعاد التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق، وليس هذا منفصِلًا عن تعليقاتي في الفقرة الأخيرة: أيْ إن التفسير عملية إيجابية فعالة والمعاني التي تصل إليها تعتمد على الموارد المستخدَمة والموقع الاجتماعي للمفسر، ولن يستطيع المرء أن يقول إن النصوص تُحدِث آثارًا أيديولوجية في متلقٍّ سلبي إلا إذا تجاهل هذه العملية الدينامية. والقضية بصفةٍ أعمَّ هي النظرة إلى السلطة والأيديولوجيا في اللغويات النقدية باعتبارهما لا يتجهان إلا من القمة إلى القاعدة، وهو ما يتفق مع التأكيد الذي نجده أيضًا في المدخل الألتوسيري الذي تتبناه جماعة بيشوه (الذي أناقشه أدناه) بشأن السكون أو الخمود الاجتماعي لا التغير، والمباني الاجتماعية لا الفعل الاجتماعي، وإعادة الإنتاج الاجتماعي لا التحوُّل الاجتماعي، والحاجة قائمة إلى نظرية اجتماعية للخطاب تقوم على إعادة تقييم هذه الثنائيات باعتبارها أقطابًا في علاقات توتُّر، لا أن نختار واحدًا من كل ثنائية ونرفض الآخَر كأنهما هما متنافيان، أيْ لا يجتمعان.

وتعليقي الختامي أن اللغويات النقدية تنظر نظرةً بالغة الضِّيق إلى التشابك بين اللغة والأيديولوجيا. ونقول أولًا: إن في النصوص جوانب تختلف عن النحو والمفردات وقد تكون لها أهمية أيديولوجية، مثل البناء العام للنص باعتباره حُجة أو قصة شاملة. وأقول ثانيًا: إن اللغويات النقدية قد عالجَتِ النص الفردي (المونولوج) المكتوب بصفة أساسية، ولم تقُل إلا كلمات قليلة نسبيًّا عن الجوانب المهمة أيديولوجيًّا والخاصة بتنظيم الحوار المنطوق (مثل التناوب في الحديث) وإن كانت تتضمن بعض المناقشة للأبعاد التداولية للكلام الملفوظ، مثل معالم التأدُّب (انظر الفصل الخامس أدناه). وأقول ثالثًا: إن الإهمال النسبي لعمليات التفسير أدَّى إلى التركيز الشديد على تحقيق الأيديولوجيات في النصوص، وأما ما تضعه اللغويات النقدية في الخلفية، فهو أنَّ عمليات التفسير تدفع المفسرين إلى وضع افتراضات ليست في النص، وربما تكون لها طبيعة أيديولوجية (انظر الفصل الثاني حيث أضرب لها مثالًا) (فيركلف، ١٩٨٩م، ب، يتضمَّن مناقشةً أوفى).

وقد دأب بعض ممارسي اللغويات النقدية في الآونة الأخيرة على الإعراب عن انتقادهم للعمل السابق (كريس، ١٩٨٩م، فاولر، ١٩٨٨م، أ) بما في ذلك بعض الانتقادات التي ذكرتُها آنفًا، كما اتجهَ بعض أعضاء المجموعة إلى العمل الوثيق بوضع مدخلٍ مختلِف بعضَ الشيء (هودج وكريس، ١٩٨٨م؛ كريس وثريد جولد، ١٩٨٨م) وأطلقوا عليه «السيميوطيقا الاجتماعية». وتختلف هذه عن اللغويات النقدية في أنها تهتم بشتَّى أنواع النظم السيميوطيقية، ومن بينها اللغة، وكذلك بالتفاعل ما بين اللغة والسيميوطيقا البصرية. وهكذا غدا من شواغلها الرئيسية العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النص وتفسيره، كما اهتمَّت اهتمامًا سافرًا بوضع نظرية اجتماعية للخطاب، تتسم بالتوجُّه إلى الكفاح والتغير التاريخي في الخِطاب، ويتركَّز هذا في محاولةٍ لوضع نظرية للنوع.

(٦) بيشوه

وضع ميشيل بيشوه وزملاؤه (بيشوه وآخَرون، ١٩٧٩م؛ بيشوه، ١٩٨٢م) مدخلًا نقديًّا لتحليل الخطاب، وهو يشبه اللغويات النقدية في محاولة الجمع بين نظرية اجتماعية للخطاب ومنهج للتحليل النصي، معتمدين أساسًا على الخطاب السياسي المكتوب، وكانوا يربطون واعين بين بحوثهم وبين التطوُّرات السياسية في فرنسا، وخصوصًا العلاقة بين الحزبَين الشيوعي والاشتراكي في السبعينيات والمقارنة بين خطابَيهما السياسيَّين.

وكان المصدر الرئيسي لمدخل بيشوه في النظرة الاجتماعية نظرية الأيديولوجيا الماركسية عند ألتوسير (١٩٧١م)، وكان ألتوسير يؤكِّد الاستقلال النسبي للأيديولوجيا عن القاعدة الاقتصادية، وإسهام الأيديولوجيا الكبير في إعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية أو تغييرها، كما كان يقول: إن الأيديولوجيا أبعد ما تكون عن «الأفكار» المجردة، بل إن لها أشكالًا مادية. وإلى جانب هذا فإن الأيديولوجيا تعمل من طريق تشكيل الأشخاص باعتبارهم ذواتًا اجتماعية، وتثبيتهم في «مواقع» ذوات معينة، وإيهامهم في الوقت نفسه بأنهم أحرار، وتقع هذه العمليات داخل شتَّى المؤسسات والمنظمات، مثل التعليم أو الأسرة أو القانون، وهي في نظر ألتوسير تعمل باعتبارها أبعادًا أيديولوجية للدولة، أو ما أطلق عليه «أجهزة الدولة الأيديولوجية».

ويتمثَّل إسهام بيشوه في هذه النظرية في إرساء فكرةِ اعتبار اللغة شكلًا ماديًّا بالغ الأهمية من أشكال الأيديولوجيا، وهو يستخدم مصطلح «الخطاب» ليؤكِّد الطبيعة الأيديولوجية لاستعمال اللغة، قائلًا: إن الخطاب «يبيِّن آثار الصراع الأيديولوجي داخل عمل اللغة، وعلى الجانب المقابل وجود الطابع المادي للغة داخل الأيديولوجيا» (بيشوه، مقتطف في كورتين، ١٩٨١م)، ويمكن تصوُّر أحد أجهزة الدولة الأيديولوجية باعتباره مُركَّبًا من «تشكيلات أيديولوجية» متداخلة العلاقات، وكلٌّ منها يتفق عمومًا مع موقع طبقي داخل هذا الجهاز. ويقول بيشوه: إن كل موقع من هذه المواقع يتضمَّن «تشكيلًا خِطابيًّا»، وهو المصطلح الذي استعاره من فوكوه. والتشكيل الخطابي هو «الذي يستطيع في إطار أي تشكيل أيديولوجي … أن يحدِّد «ما يمكن وما ينبغي أن يُقال»» (بيشوه ١٩٨٢م، ١١١، والتأكيد في الأصل). وفهم هذا الكلام يتعلَّق بالدلالات المحدَّدة للألفاظ: فالكلمات يتغير معناها وفقًا لمواقع الذين «يستخدمونها»، (بيشوه وآخَرون ١٩٧٩، ٣٣) أضِف إلى هذا أنه على الرغم من أن تشكيلَين خِطابيَّين مختلِفَين قد يشتركان في كلمات أو تعبيرات مُعيَّنة فيهما، فإن العلاقات بين هذه وبين الكلمات أو التعبيرات الأخرى سوف تختلف ما بين الحالتَين، وينطبق ذلك على معاني هذه الكلمات والتعبيرات المشتركة؛ لأن علاقتها بغيرها هي التي تحدِّد معناها. فعلى سبيل المثال نجد أن كلمة «مناضل» تعني أشياء متعدِّدة كثيرة في خطاب النقابات (حيث قد تكون مرادفًا للناشط، وعكس معنى «الخامل») وفي خطاب اليمين المحافظ (حيث يمكن أن تكون مرادفًا ﻟ «المخرِّب» وعكس معنى «المعتدل»). يُضاف إلى هذا أن الذوات الاجتماعية تتشكَّل في علاقتها بتشكيلات خطابية مُعيَّنة ومعانيها الخاصة؛ وهذه التشكيلات الخطابية، حسبما يقول بيشوه واجهات لغوية «ﻟ «مجالات فكرية» … تكوَّنَت على أسس اجتماعية تاريخية في صورة نقاط تحقيق الاستقرار، إذ تنتج الذات وفي الوقت نفسه تنتج في صحبته ما سوف يرى ويفهم ويفعل ويخاف ويتمنى» (بيشوه ١٩٨٢م، ١١٢–١٣، التأكيد في الأصل).

وتقع التشكيلات الخطابية داخل مُرَكَّباتٍ من عددٍ من التشكيلات الخطابية المترابطة، تُسمَّى المُركَّب الخِطابي، وتتحدَّد المعاني الخاصة بكل تشكيل خطابي «من الخارج»، أيْ من خلال علاقته بغيره داخل المركَّب الخطابي. و«الحالة» الخاصة للمركب الخطابي في أي وقت مُعيَّن (أي ما التشكيلات الخطابية التي يحتويها وما العلاقات بينهما)، تعتمد على حالة الصراع الأيديولوجي داخل أجهزة الدولة الأيديولوجية، ولكن هذا التحديد الخارجي للتشكيلات الخطابية أمر لا تتمتع الذوات في العادة بالوعي به، فالذوات يميلون إلى أن يتصوَّروا خطأً أنهم هم أنفسهم مصدر معاني التشكيل الخطابي، وإن كانوا في الحقيقة من نواتجه. ويشير بيشوه إلى عناصر جاهزة سابقة البناء تتردَّد وتدور بين التشكيلات الخطابية، ويظن الناس أنها تُعبِّر عن «الواقع»، أو عما هو معروف، أو ما سبق أن قاله المشاركون، في حين أن هذه عناصر نشأت في الواقع خارج الذوات، أي داخل المُركَّبِ الخِطابي. ومن الأمثلة تعبيرات مثل «ارتفاع مستويات المعيشة بعد الحرب»، أو «التهديد السوفييتي»، وهي تنتقل من تشكيل خطابي إلى آخَر، باعتبارها تعبيرات جاهزة، مع افتراضاتها السابقة (أيْ إنَّ ارتفاع مستويات المعيشة قد حدث، وأنه يوجد تهديد).

ولكننا نواجه تمييزًا مُهمًّا يقول: إن الذوات لا يقبلون التشكيل الخطابي قبولًا تامًّا في كل حالة، فقد يقيم بعضهم مسافة تفصله عنهم باستعمال ما يُسمَّى «التمييز الميتاخطابي» (انظر الفصل الرابع) مثل الإشارة إليه مسبوقًا بصفة «المزعوم» أو بعبارة «ما يُسمَّى كذا»، أو بتجهيله. وهذا التمييز الذي يَحُول دون القبول الكامل أي «التماهي»، يُطلِق عليه بيشوه تعبير «التماهي المضاد»، ويعني به الابتعاد عن الممارسات القائمة من دون إحلال ممارسات جديدة في محلها. وأما إذا حدث هذا الإحلال فسوف ينشأ لدينا ما يُسمَّى «نقض التماهي» وهو موقف اختلاف جذري تجري فيه «الإطاحة بمركَّب التشكيلات الأيديولوجية وإعادة ترتيبها (مع التشكيلات الخطابية المتداخلة معها)» (بيشوه ١٩٨٢م، ١٨٩)، ولكن بيشوه يرى إمكان الارتباط الخاص بين نقض التماهي وبين النظرية والممارسة الثورية للماركسية اللينينية في الشكل التنظيمي للحزب الشيوعي.

ويُسمَّى منهج التحليل «التحليل التلقائي للخطاب» لأن للإجراءات جانبًا يتولَّاه الحاسوب لتحديد التشكيلات الخطابية في مجموعة مختزنة من النصوص. ويقول بيشوه وآخَرون (١٩٧٩م، ٣٣): إن تكوين «الكوربوس» (النصوص المختزنة) في ذاته يجسِّد «الافتراض القائل بوجود تشكيل خطابي واحد أو أكثر» مُهيمِن على النصوص التي يتكوَّن منها، ويضيف بيشوه وزملاؤه: إن مثل هذا الافتراض ينبغي أن يصدر من المباحث العلمية المتخصِّصة، مثل التاريخ أو علم الاجتماع، لا من محلِّلي الخطاب أنفسهم، لتجنُّب الدوران في حلقات، إذ إن تجميع الكوربوس على أساسِ افتراضٍ ما، يعني فرض التجانس على هذه النصوص، كما يزداد تجانس الكوربوس باستبعاد بعض الأجزاء النصية التي تختلف «ظروف إنتاجها» (وتختلف من ثَمَّ التشكيلات الخطابية المُهيمِنة فيها) عن النصوص الرئيسية.

وأول إجراء من هذه الإجراءات هو التحليل اللغوي للنص بتقسيمه إلى جمل بسيطة، باستخدام الإجراءات «التحويلية» التي وضعَها عالِم اللغة زليج هاريس (١٩٦٣م). على سبيل المثال: «إنني آسف لرحيلها» يمكن تحليلها بتقسيمها إلى جملتَين بسيطتَين هما: «إنني آسف» «(لأنها) رحلَت». وبعد ذلك توضع رسوم بيانية تبيِّن أنواع العلاقات بين هذه الجمل البسيطة (التنسيق، التبعية، الاستكمال … إلخ). ويجري بعد ذلك تطبيق إجراءات حاسوبية أخرى لتحديد الكلمات والعبارات التي ترتبط بعلاقة «استبدالية»، بمعنى أنها يمكن أن تأتي في المواقع نفسها في الجمل البسيطة ذات البناء النحوي المماثل، والتي تتشابه في علاقتها بالجمل البسيطة الأخرى. فعلى سبيل المثال ترتبط الكلمتان «المناضلون» و«المخربون» بعلاقة استبدالية في الجملتَين التاليتَين: «علينا أن ننتبه للمناضلين الذين يعطِّلون الصناعة»، و«يجب أن تحذر الأمة من المخرِّبين الذين يقوِّضون مؤسساتنا». وعندما تنشأ علاقة استبدالية في أحد النصوص بين كلمات أو تعبيرات مُعيَّنة، تنشأ علاقات دلالية بينها، مثل علاقة الترادُف («أ» يفيد «ب»، و«ب» يفيد «أ») أو علاقة الإيحاء المضمَر («أ» توحي ﺑ «ب»)، ولكن «ب» لا توحي ﺑ «أ»، ومن المحتمَل أن يكون ذلك سِمة مميَّزة للتشكيل الخطابي الذي يرتبط به النص. وتركِّز الإجراءات على «كلمات أساسية» مُعيَّنة، كلمات ذات قيمة اجتماعية استثنائية أو دلالة سياسية (مثل كلمة «الكفاح» في الخطاب السياسي) (ولمَن يريد المزيد من الوصف التفصيلي لمنهج التحليل أن يرجع إلى مينجينو ١٩٧٦م، وطومسون ١٩٨٤م، ٢٣٨–٤٧)، وأخيرًا لا بد من تفسير نتائج الإجراءات التحليلية، وإن كانت المشاكل المرتبطة بالتحليل لا تكاد تحظى بأيِّ اهتمام، ويبدو أن المنهج كله مُخصَّص لحالة واحدة.

وترجع قوة مدخل بيشوه، وسبب اعتباره مدخلًا نقديًّا، إلى أنه يقرن نظرية ماركسية للخطاب بالمناهج اللغوية للتحليل النصي. ومع ذلك فإن معالجته للنصوص غير مُرضية. فكما ذكرتُ آنفًا، يؤدي بناء الكوربوس إلى فرض التجانس على النصوص قبل تحليلها، (كورتين وماراندين، ١٩٨١م، ٢٢–٢٣) وتطبيق الإجراءات التحويلية في تحليل النصوص وتقسيمها إلى جمل بسيطة يؤدي إلى طمس المعالم المميزة للتنظيم النصِّي. أضِف إلى ذلك أن هذه الإجراءات تسمح بالتركيز على أجزاء مختارة من النصوص، وهو ما يعني أن التحليل سوف ينصبُّ على الجمل في الواقع لا على النصوص. كما أن النصوص تُعامل معاملة النواتج، على نحو ما يعاملها ممارسو اللغويات النقدية، وأما العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النصوص وتفسيرها فلا تكاد تحظى بأيِّ اهتمام. كما يجري تحليلها من زاوية دلالية ضيقة (وهو الانتقاد الذي وجهتُه أيضًا إلى بوتر ووذريل) مع التركيز المحدَّد سلفًا على «الكلمات الأساسية»، وهذا يعني الاهتمام بالأبعاد الفكرية للمعنى فقط، وإهمال أبعاد العلاقات بين الأشخاص وهي التي تتعلق بالعلاقات الاجتماعية والهُويات الاجتماعية، وتجاهل خصائص معنى المقولات المنطوقة في سياقها، في سبيل تحديد المعنى التجريدي للعلاقات. وهكذا فإن هذا المدخل يتجاهل جوانب كثيرة من شكل النصوص وتنظيمها وهي التي تهتم بها المداخل الأخرى، والخلاصة أن المحلِّل لا يحاول معالجة العناصر المميِّزة للنص وﻟ «الحادث الخطابي»، بل يتناول النصوص بصفتها أدلة على صحة افتراضات مسبقة عن التشكيلات الخطابية، ونلاحظ وجود اتجاه مماثل في النظرية الألتوسيرية للمبالغة في تأكيد إعادة الإنتاج — بمعنى وصف مواقع الذوات داخل تشكيلات معيَّنة وكيفية ضمان السيطرة الأيديولوجية — على حساب التغيير، أيْ كيف يمكن للذوات الطعن في السيطرة والتشكيل القائم وإعادة هيكلته تدريجيًّا من خلال ممارستهم. وسبقَ لي أن قلت بوجود تأكيد مماثل في اللغويات النقدية، وهكذا فإن مدخل بيشوه يقوم على نظرة من جانب واحد للذات في موقعها، وباعتبارها ناتجًا، وتجاهل قدرة الذوات على العمل باعتبارهم قُوى فاعلة. وأما نظرية «نقض التماهي» باعتبارها تمثِّل التغيير الذي يتولد خارج الذات من خلال ممارسة سياسية معيَّنة، فإنها بديل غير محتمَل الوقوع لبناء إمكانية تغيير نظرة المرء إلى الخطاب وإلى الذات.

وأما تحليل الخطاب على أيدي «الجيل الثاني» في إطار تقاليد بيشوه، فقد أدَّى إلى تغيير المنهج بطرائق جوهرية، وكان ذلك راجعًا في جانبٍ منه إلى الانتقادات الموجَّهة إليه، وراجعًا في جانب آخَر إلى تأثير التغيرات السياسية في فرنسا (مالديديه، ١٩٨٤م، ١١–١٤)، وأكَّدَت بعض دراسات الخطاب السياسي (مثل كورتين، ١٩٨١م) استراتيجيات التحالف الخطابية، ووجود مجموعات من تشكيلات خطابية مختلِفة تؤدي إلى جَعْل الخطاب حافلًا بالعناصر المتباينة وغامضًا، ولكن هذه الخصائص يصعب استيعابها في الرؤية السابقة التي تقول بأن التشكيلات الخطابية متجانسة صلبة وترتبط بعلاقات تعارض ثابتة ساكنة. وقد وُصف الخطاب بعد ذلك بأنه يتميز في تكوينه بالتباين الداخلي (أوتييه، ريفي ١٩٨٢م)، وأن من مقوماته عناصر «حوارية» و«تناصية» من نوع ينتمي إلى تقاليد نظرية مختلفة (انظر باختين، ١٩٨١م، وكريستيفا، ١٩٨٦م، أ؛ والفصل الثالث في هذا الكتاب)، كما بدأ النظر إلى البحوث السابقة من الزاوية التي انتقدته منها عاليه، أيْ باعتباره إجراءات ترمي إلى فرض التجانس، وأصبح ينظر إلى المركَّب الخطابي باعتباره «عملية إعادة هيكلة مستمرة»، حيث يتسم تحديد أي تشكيل خطابي بأنه «غير ثابت أساسًا، فليس بالحدود الدائمة التي تفصل ما بين الداخل والخارج، ولكنه جبهة تتلاقى فيها تشكيلات خطابية مختلِفة، وهي جبهة حدودية تتغيَّر وفقًا لما يدور حوله الصراع الأيديولوجي» (كورتين، ١٩٨١م، ٢٤). ونظرًا لتعدد العناصر التي يتكوَّن منها الخطاب، فلا بد أن تظل أقسام مُعيَّنة من النص تحمل أكثر من وجهٍ للمعنى، وهو ما يواجه المفسِّر بأسئلة حول التشكيلات الخطابية التي يراها أقرب في نظره إلى تفسيرها، وهكذا، كما قال بيشوه في أحد أبحاثه الأخيرة (١٩٨٨م)، يكتسب تحليل الخطاب طابع البحث التفسيري لا البحث الوصفي المباشر. ونلاحظ في الوقت نفسه التخلي عن «وهم المؤمن بالنظريات» الذي يقول: إن التحولات الجذرية للمركَّب الخطابي «يبرِّرها وجود الماركسية/اللينينية» (بيشوه، ١٩٨٣م، ٣٢). وإزاء التركيز الجديد على «الحادث» الخطابي المُعيَّن، نشأتْ نظرة جدلية إلى الخطاب، وأصبحَت إمكانية التحولات راسخة في طبيعة الخطاب المتباينة المتناقضة، ويقول بيشوه: «إن أي خطاب يمكن أن يُعتبَر علامة على الحركة داخل الانتماءات الاجتماعية التاريخية التي تستند إلى الهُوية، وذلك في حدود اعتبار الخطاب، في الوقت نفسه، من ثمار هذه الانتماءات والعمل … الخاص بالإزاحة داخل ساحتها» (بيشوه ١٩٨٨م، ٦٤٨) (والمقصود بالإزاحة أن الخطاب أزاح أحد الانتماءات وحلَّ محلها).

الخاتمة

أودُّ أن أختتم هذا الاستقصاء بالربط بين القضايا الرئيسية التي عرضت لها حتى الآن، في صورة عدد من المقولات التي يمكن اعتبارها «المطلوب» للمدخل النقدي السليم لتحليل الخطاب، وسوف يقدِّم ذلك صورة أولية للمدخل الذي أشرع في بنائه في الفصل الثالث، ويبين علاقته بما سبقت لي مناقشته، وسوف يساعد في الوقت نفسه على تحديد المجالات التي يظهر فيه ضعف وفجاجة تقاليد تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي التي استعرضتُها في هذا الفصل، وهي التي تحتاج إلى التدعيم بالاستفادة من معالجة اللغة والخطاب في النظرية الاجتماعية.
  • (١)

    موضوع تحليل النصوص اللغوية، وهي تُحلَّل من زاويةِ طبيعتِها الخاصة (انظر بيشوه). يجب أن تضمن النصوص المختارة لتمثيل مجال معيَّن من مجالات الممارسة تمثيلَ التنوُّع في شتَّى الممارسات (انظر سنكلير وكولتارد) وتجنب فرض التجانس عليها (انظر بيشوه).

  • (٢)

    بالإضافة إلى كون النصوص «نواتج» لعمليتَي إنتاج النصوص وتفسيرها، فإن هذه العمليات نفسها تخضع للتحليل (انظر سنكلير وكولتارد، واللغويات النقدية، وانظر المدخل إلى التحليل النقدي للخطاب في فان دييك (١٩٨٨م) الذي يُبدي اهتمامًا مفصَّلًا بعمليات الخطاب). يُنظر إلى التحليل نفسه باعتباره تفسيرًا، ويسعى المحلِّلون إلى إبداء الحساسية لميولهم التفسيرية والأسباب الاجتماعية لها (انظر سنكلير وكولتارد، وتحليل المحادثات، واللغويات النقدية).

  • (٣)

    قد تتميز النصوص بتعدُّد عناصرها المتباينة وبالغموض، وقد يتطلب إنتاجها وتفسيرها الاستعانة بمجموعات من أنماط مختلفة من الخطاب (لابوف وفانشيل؛ انظر تحليل المحادثات، ومجموعة بيشوه من «الجيل الأول»).

  • (٤)

    يُدرس الخطاب تاريخيًّا وديناميًّا، من حيث تغيُّر المجموعات من أنماط الخطاب في إنتاج الخطاب، ومن حيث ما يتجلَّى في هذا التغيير من تمثيل وتشكيل لعمليات تغيير اجتماعي أوسع نطاقًا («الجيل الثاني» من مجموعة بيشوه، والسيميوطيقا الاجتماعية؛ وانظر لابوف وفانشيل، و«الجيل الأول» من مجموعة بيشوه، واللغويات النقدية).

  • (٥)

    الخطاب بنَّاءٌ اجتماعيًّا (اللغويات النقدية، بيشوه، بوتر ووذريل)، إذ إنه يشكل الذوات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، ونظم المعرفة والعقيدة، كما أن دراسة الخطاب تركِّز على آثاره الأيديولوجية البناءة (بيشوه، اللغويات النقدية، انظر لابوف وفانشيل).

  • (٦)

    لا يقتصر اهتمام تحليل النصوص على علاقات السلطة في الخطاب (انظر تحليل المحادثة)، بل يبيِّن أيضًا كيف تقوم علاقات السلطة والصراع على السلطة بتشكيل الممارسات الخطابية في مجتمعٍ ما أو مؤسسة ما وتغييرها (الجيل الثاني من مجموعة بيشوه؛ انظر المداخل غير النقدية، واللغويات النقدية).

  • (٧)

    يهتم تحليل الخطاب بعمله في التحويل الإبداعي للأيديولوجيات والممارسات، وكذلك عمله في ضمان إعادة إنتاجها (انظر بيشوه، واللغويات النقدية).

  • (٨)

    تُحلَّلُ النصوص من حيث التنوع الشديد في معالمها شكلًا ومعنى (مثل خصائص الحوار، وبناء النص والمفردات والنحو أيضًا) فيما يتعلق بالوظيفة الفكرية للغة ووظيفتها في العلاقات ما بين الأشخاص (انظر بوتر ووذريل، وبيشوه).

والذي أتصوره أن تحليل الخطاب يركِّز على التنوع والتغيير والصراع؛ فالتنوُّع في الممارسات وتنوُّع العناصر داخلها يعني أنها انعكاسٌ معاصِر لعمليات التغير التاريخي التي شكَّلها الصراع بين القوى الاجتماعية. وعلى الرغم من أن البنود ٤ و٥ و٦ حظيت ببعض الدعم، خصوصًا في إطار المداخل النقدية لتحليل الخطاب التي ناقشتها عاليه، فإن علينا أن نستعين بالنظرية الاجتماعية حتى نجد صورها الكاملة الناضجة الصريحة. ويقدِّم فوكوه نظرات ثاقبة قيِّمة فيها جميعًا، كما سوف أقيم الحجة على ذلك في الفصل الثاني. ومع ذلك، فلا التقاليد النقدية في تحليل الخطاب ذي التوجُّه اللغوي، ولا فوكوه، يعالج البند السابع معالجة مُرضية، ألا وهو الأسلوب الذي يسهم به الخطاب في إعادة إنتاج المجتمعات وفي تغييرها. وثنائية الخطاب المشار إليها تتمتع بأهمية أساسية في الإطار الذي أقدِّمه في الفصل الثالث، وتجاهلها في كتابات فوكوه ترتبط بضعفٍ نظري ومنهجي كبيرٍ في عمله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤