الفصل السابع

الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر

في إطار التوجُّه المزدوج للتغير الخطابي الذي ناقشته من قبل (في أواخر الفصل الثاني في قسم منفصل) ينصَبُّ تركيزي في هذا الفصل على التغير المستمر في نظم الخطاب لا في الأحداث الخطابية، وسوف أحدِّد اتجاهات عامة معيَّنة في التغير الخطابي ذوات تأثير في النظام المجتمعي للخطاب، وأرجع هذه الاتجاهات إلى الدروب الأعم التي يسير فيها التغير الاجتماعي والثقافي، ونوع التغير الذي سوف أشير إليه يتسم في جانب منه بطابع دولي أو على الأقل عبر وطني، على نحو ما أشرت إليه في المقدمة. وأنا أعجب لضآلة الاهتمام بأمثال هذه الاتجاهات إلى التغيير في نظم الخطاب؛ ومن ثَمَّ فينبغي النظر إلى هذا الفصل باعتباره مدخلًا استكشافيًّا إلى مجال بحث واسع يعاني من التجاهل إلى حدٍّ كبير، وسوف أناقش ثلاثة اتجاهات رئيسية: الأول إضفاء الديمقراطية على الخطاب، والثاني «تسليع» الخطاب، والثالث اكتسابه الطابع التكنولوجي. فأما الاتجاهان الأوَّلان فيتعلقان بتغييرات موضوعية في الممارسات الخطابية، وأما الثالث فيقول إن التدخل المتعمد في الممارسات الخطابية من العوامل التي تزداد أهميتها في إحداث التغيير. ولهذه الاتجاهات تأثير شامل متغلغل في نظم الخطاب المعاصر، وإن كان تأثيرها يتسم بالتفاوت، وتوجد مظاهر تضاد شديد فيما بين نظم الخطاب المحلية المرتبطة بمؤسسات أو مجالات معيَّنة.

ومن شأن التركيز على اتجاهات معيَّنة أن يمهد لنا الطريق إلى تحديد أنساق محددة داخل العمليات المركبة والمتناقضة للتغير الخطابي الجاري، ولكن هذا طريق بالِغ التجريد في النظر إلى التغيير، ويحاول القسم الأخير من هذا الفصل تصحيح ذلك إلى حدٍّ ما، وذلك بأن ننظر كيف تتفاعل الاتجاهات مع بعضها البعض، وكيف يمكن أن تظهر هذه الاتجاهات في عمليات الصراع على الهيمنة على هيكلة نظم الخطاب. وأنا أقدِّم تفسيرات مختلفة لهذه الاتجاهات من حيث اختلاف نماذج الممارسة الخطابية، وأسوق الحُجة على أن نموذج الهيمنة الذي أدعو إليه قادر على تقديم تفسير أكثر إقناعًا من نموذج «الشفرة» أو نموذج «الفسيفساء» (أي النموذج «التفاوضي»).

(١) إضفاء الديمقراطية

أعني بإضفاء الديمقراطية على الخطاب إزالة مظاهر عدم المساواة وعدم التناظر في الحقوق الخطابية واللغوية، وفي التزامات المجموعات البشرية وصيتها، ولقد كان إضفاء الديمقراطية على الخطاب، مثل الأخذ بأسباب الديمقراطية بصفة عامة، من المعايير الأساسية للتغيير في العقود الأخيرة، ولكن العملية في الحالتين كانت تتسم بالتفاوت الشديد (ففي بريطانيا على سبيل المثال، اكتسب الناطقون باللغة الويلزية حقوقًا أكبر من الناطقين باللغة الجوجوراتيه (لهجة هندية رئيسية))، وفي كلتا الحالتين ترددت تساؤلات عن مدى صدق التغيير ومدى كونه ضربًا من التجميل الظاهري. وسوف أستعرض خمسة مجالات شهدت إضفاء الديمقراطية على الخطاب؛ الأولى هي العلاقة بين اللغات واللهجات المحلية، والثانية إمكان المشاركة في أنماط الخطاب ذوات المكانة الرفيعة، والثالثة التخلُّص من علامات السلطة السافرة في أنماط الخطاب المؤسسي المتسمة بتفاوت علاقات السلطة فيها، والرابعة الاتجاه نحو اللغة غير الرسمية، والتغييرات في الممارسات الخاصة بالجنسين في اللغة.

فمن الصحيح بصفة عامة أن بعض اللغات المختلفة عن اللغة الإنجليزية، وبعض اللهجات الاجتماعية المختلفة عن الإنجليزية المعيارية، إلى جانب طرائق نطق منوعة للإنجليزية، أصبحت تتمتع بالقبول أو بعدم الاعتراض عليها في شتى المناسبات العامة على نطاق واسع، بل إن هذا الاتجاه ازداد اتساعًا منذ الحرب العالمية الثانية عما كان عليه قبلها، ولكن هذا لا يعني الزعم بأن عهد اليوتوبيا اللغوية قد أشرق، فلقد كانت هذه من منجزات الكفاح الاجتماعي، كما أنها واجهت بعض المقاومة ولا تزال تتعرض للمقاومة. أضِف إلى ذلك أنها متفاوتة المستوى، إذ تعاني أشد الأقليات حرمانًا، مثل شتى الجاليات الآسيوية في بريطانيا، من وجوه ظلم عنصرية في هذا المجال وفي غيره. ومع ذلك فقد كانت الديمقراطية ولا تزال تمثِّل قوة حقيقية في هذا الصدد، وعلى الرغم من أن جانبًا كبيرًا من الجدل لا يزال يدور حول الحالات التي لا يزال التعصُّب وعدم المساواة يتخذان فيها صورة صارخة، فإن مستوى الجدل وبروزه يشيران إلى أن أمثال هذه القضايا تشغل الأذهان فعلًا. ومن الأمثلة التي يكثر إيرادها مثال الإذاعة، حيث أصبح بعض الأشخاص من ذوي اللهجات غير المعتمدة وطرائق النطق الإقليمية يشاركون فيها بصورة غير مسبوقة، وإن كان ذلك لايزال في حدود ضيِّقة إلى حدٍّ ما. فعلى سبيل المثال لا تزال إجادة الإنجليزية المعتمدة وطرائق ما يُسمى ﺑ «النطق المقبول» شرطًا تقتضيه التقاليد لمذيعي نشرات الأخبار القومية، وعلى الرغم من أن المرء قد يصادف مذيعين من ذوي طرائق النطق (الإقليمية) الذين يقرءون، مثلًا، الأخبار الإقليمية على الشبكات القومية للتليفزيون والإذاعة، فلن يصادف المرء أشخاصًا ذوي طرائق نُطق عمالية. وطرائق نُطق الطبقة العاملة لا توجد إلا في برامج المسابقات وفي المسلسلات الدرامية. وعلى غرار ذلك نجد أنه إذا كانت الإذاعة تقدِّم برامج كثيرة باللغة الويلزية، فإن اللغات الآسيوية وغيرها من لغات الأقليات لا تحظى إلا باهتمام هامشي. فالواقع أن الإذاعة تُبدي قدرًا من الاحترام للمستويات غير المعتمدة من اللغة الإنجليزية ولغات الأقليات في مجال الحياة العامة، وإنْ يكن ذلك في القطاعات ذوات المكانة المتواضعة في ذلك المجال.

وتثير هذه الاتجاهات التساؤل عما إذا كانت هيمنة اللغة الإنجليزية المعتمدة التي تميزت بها الفترة الحديثة (ليث، ١٩٨٣م) توشك الآن على الانتهاء، ترى هل نحيا اليوم في عصر ما بعد اللغة المعتمدة؟ (انظر جيمسون، ١٩٨٤م.) ويوجد كذلك البُعد الدولي لهذا السؤال، فإذا كان موقع اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة عالمية غير رسمية يزداد قوة، فإن أنواعًا مختلفة من اللغة الإنجليزية، مثل الإنجليزية الهندية والإنجليزية الأفريقية، التي لم تحظَ إلى الآن بالقدر اللازم من الاعتراف بها، قد بدأت تظهر بقدر أكبر من المساواة مع الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية (وإن كان علينا ألَّا نبالغ في هذا الصدد، فما زالت الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية هما اللتين يتعلمهما الملايين في مدارس اللغات في شتى أرجاء العالم). وإذا صح وجود ابتعاد حقيقي عن المعايير الموحَّدة على المستويَين القومي والدولي، فهل يمثِّل ذلك شرخًا حقيقيًّا في الهيمنة داخل المجال اللغوي، أم إن الهيمنة تتخذ أشكالًا جديدة وحسب؟ سوف نعود إلى أمثال هذه القضايا في المناقشة التالية للتغير الخطابي في سياق المناظرة بين الحداثية وما بعد الحداثة.

ويرتبط بهذه الصورة الأولى للديمقراطية نوع معيَّن من ديمقراطية المشاركة في أنماط الخطاب ذات المكانة الرفيعة، ومواقع الذوات المتسمة بالرفعة والسلطة في داخلها، للمتحدثين بأنواع غير معتمدة من اللغة الإنجليزية، وللمرأة، وللسود وللآسيويين. ومن الأمثلة ازدياد عدد النساء اللاتي استطعن الحصول على مِهَن في سلك القضاء (وإن كانت مناصبهن تقتصر على قضاة الصلح والمحامين الذين يعدون المذكرات ولا يترافعون في المحاكم، ولا تشمل وظائف كبار المحامين أو قضاة المحاكم العليا) أو في سلك التعليم، أو في أجهزة الإعلام. والقضية الأساسية هنا، بطبيعة الحال، قضية الالتحاق بمؤسسات معينة والحصول على مواقع داخلها، وما المشاركة في الخطاب إلا جانب من جوانب هذه القضية. وكان من نتائج ذلك أن أصبحت اللهجات غير المعتمدة وطرائق النطق الإقليمية مقبولة، إلى حدٍّ ما، بما يتفق مع الممارسات الخطابية التي كانت تعتبر من قبلُ غير متسقة مع المناصب المذكورة، إذ أصبح من الممكن في هذه الأيام إلقاء محاضرة جامعية بلهجة سكان مدينة ليفربول (وإن لم تزَل الإشكالية المرتبطة بذلك قائمة).

ومن ظواهر التغيير الملاحظ بصفة عامة ظاهرة ترتبط ارتباطًا جوهريًّا بموضوع هذا الكتاب ألا وهي التخلُّص من العلامات السافرة على المراتب والتباين في السلطة في أنماط الخطاب المؤسسي الذي تتفاوت فيه علاقات السلطة. والتضاد بين المقابلة الشخصية القائمة على الطب المعتمد والمقابلة الشخصية القائمة على الطب البديل في العينتين السالف إيرادهما أعلاه يمثِّل ذلك؛ ففي الأولى كان الطبيب هو الذي يتحكم في تناوب أدوار الكلام وموضوعاتها من خلال سيطرته على دورات السؤال والجواب والتقييم، وأما في الأخيرة فقد غابت مظاهر هذا التفاوت. ويمكن العثور على حالات تضاد مماثلة بين الممارسات التقليدية والممارسات «الحديثة» في التفاعلات ما بين المحاضر والطالب، وما بين المعلم والتلميذ، وما بين المدير والعامل، وما بين أحد الوالدين وطفله. ومن بين أنماط العلامات الكثيرة التي يشيع التخلص منها: ألقاب المخاطبة غير المتناظرة؛ والتوجيهات المباشرة (بأفعال الأمر مثلًا)، والاستعاضة عنها بأشكال غير مباشرة تحفظ للسامع ماء وجهه (براون ولفنسون، ١٩٧٨م)؛ وكذلك عدم التناظر في الحق في المشاركة بطرائق معيَّنة مثل تقديم موضوعات جديدة، وطرح الأسئلة؛ واستخدام ذوي السلطة من المشاركين مفردات لا يعرفها الآخَرون، ومع ذلك فقد يستطيع المرء، بطبيعة الحال، أن يجد هذه المعالم جميعًا إلى الآن في أنماط تفاعل معيَّنة.

وقد يكون لنا أن نقول أيضًا إنه في الوقت الذي أصبحت العلامات السافرة أقل ظهورًا فيه، فإن قوة العلامات الخفية الدالة على عدم التناظر في السلطة تشتد، وهو ما يؤدي إلى ازدياد صعوبة إدراك عدم التناظر في السلطة بدلًا من اختفائه. فإذا كنتُ، على سبيل المثال، الشخصَ المكلَّف بصَوغ مَفاد ما قُلناه في مناقشةٍ ما أو بتلخيصه (ومن ثَمَّ أقدِّم باستمرار مفهومي لما حدث) فإن هذا نهج يمثل عدم التناظر في السلطة، وصعوبة إدراك ذلك أكبر من تمتُّعي وحدي بالحق في الكلام دون أن يدعوني أحد. ومع ذلك فإن عدم التناظر هنا قوي إلى حدٍّ ما، ويستطيع المرء أن يستغله في التحكُّم في مجرى التفاعل. ويقول هريتدج (١٩٨٥م) على سبيل المثال: إن مَن يُجرون المقابلات الإذاعية يستخدمون حقوقهم في الصياغة باعتبارها أسلوبًا لممارسة السيطرة، وتقييم ما قاله ضيوف المقابلة، من دون انتهاك التزامهم بعدم التعبير عن أحكامهم على ما قيل.

ويتمثَّل أحد طرائق تفسير أمثال هذه الحالات في القول بأن التخلُّص الظاهر من العلامات السافرة على وجود السلطة وعدم التناظر في التمتُّع بها، من باب التجميل في الحقيقة وحسب، وأن أصحاب السلطة و«حرس المداخل» بشتى أنواعهم يقتصر عملهم على استبدال آليات سيطرة خفية بالآليات السافرة، وفي هذا الرأي بعض الصدق، ولكنه يقدِّم نصف الحقيقة فقط. فأسلوب إضفاء الديمقراطية المذكور قد يكون من باب التجميل وحسب، ولكنه يمكن أن يكون حقيقيًّا، وأن يكون معناه مثار صراع، كما أقول أدناه.

ويرتبط الاتجاه نحو التخلُّص من العلامات السافرة للسلطة ارتباطًا وثيقًا بالاتجاه نحو التخلُّص من الطابع الرسمي، إذ إن عدم التناظر في السلطة والمكانة يزداد حِدَّة وشدة بازدياد الطابع الرسمي للموقف. ومن الظواهر الرئيسية لازدياد التخلص من الطابع الرسمي أسلوب انتقال خطاب المحادثة، بالأمس واليوم، من مجاله الأولي وهو التفاعلات الشخصية في المجال الخاص، إلى المجال العام، إذ إن المحادثة تستعمر أجهزة الإعلام (كريس، ١٩٨٦م؛ فاولر، ١٩٨٨م، ب) وأنماطًا مختلفة من الخطاب المهني/العام، والتعليم وهلُمَّ جَرًّا، وأنا أعني بذلك أن الخطاب فيها يكتسب طابع المحادثة بصورة متزايدة، ويُعتبر هذا جانبًا من إعادة ترسيم كبرى للحدود بين المجالين العام والخاص.

ومن أبعاد ظاهرة التخلُّص من الطابع الرسمي المذكورة تحوُّلٌ معيَّن في العلاقة بين الخطاب المنطوق والخطاب المكتوب، وقد رأينا أمثلة على ذلك من الصحف في الفصل الرابع عاليه؛ فالعيِّنة الأولى تحاكي خطاب المحادثة في تقريب أفعال أصحاب السلطة وأقوالهم إلى قرَّاء الصحيفة، والعنوان الذي يقول إن «قهرمان (رئيس الخدم في منزل) ديانا يستقيل … لابسًا حذاءه الرياضي» لا يستخدم فقط مفردات المحادثة ولكنه يستعين أيضًا بحيلة شكلية وهي وضع ثلاث نقاط وسط الجملة لمحاكاة التوقُّف «الدرامي» (أي المسرحي) وسط الكلام. ولم يعُد الفصل بين الكلام المنطوق والكلام المكتوب الفصل الذي يقتضيه المنطق السليم، كما يبدو، وعند التحول من أحدهما إلى الآخَر. والتعبير الشائع الذي يصف حديث فرد ما بأنه «يتكلم مثل كتاب» يبين رؤية الناس لمدى تأثير اللغة المكتوبة في الكلام الرسمي، ونحن نجد التحول إلى لغة المحادثة لا في أجهزة الإعلام المطبوعة والإعلانات وحسب، بل أيضًا في الأشكال الجديدة للاستمارات الرسمية، مثل استمارات طلب مدفوعات الرعاية الاجتماعية (فيركلف، ١٩٨٩م، أ، ٢١٨–٢٢٢). ربما يكون زمن تأثر المتحدثين بلغة الكتابة قد ولَّى، فأما القِيَم الثقافية المعاصرة فتُعلي كثيرًا من قيمة التخلص من الطابع الرسمي، والنهج المُهيمِن للتحول هو الاتجاه إلى أشكال تشبه الكلام المنطوق.

ولكن المحادثة تُعتبر نموذجًا قويَّ التأثير في الأنماط الأخرى من الخطاب المنطوق. وهذا يعني أن زيادة طابع المحادثة لا يقتصر على أجهزة الإعلام المطبوعة، بل يمتد إلى الأجهزة المذاعة، مثل الراديو والتليفزيون. وقد رصد تولسون (١٩٩٠م) عملية اكتساب طابع المحادثة في المقابلات الشخصية الإعلامية. فلقد ازداد كثيرًا مقدار المحادثات التي نستمع إليها ونشاهدها في أجهزة الإعلام (مثل برامج «الدردشة» (الشات) وغيرها) وهي كثرة تبيِّن مدى ما تحظى به من تقدير، ولكن المذيعين «يتحادثون» أيضًا بكثرة مع جماهير المستمعين والمشاهدين، كأنما يتحادثون مع أفراد في هذه الجماهير، كما أن أنماطًا منوَّعة من المقابلات الشخصية، والمقابلات الأخرى، بين المهنيين و«جماهيرهم» تكتسب المزيد من سمات المحادثة، على نحو ما ذكرت عاليه، وكما هو الحال بالنسبة للتخلُّص من علامات عدم التناظر في السلطة، ينشأ التساؤل هنا عن مدى صدق الطابع غير الرسمي، أي مدى اتخاذه لأسباب استراتيجية؛ وسوف أعود إلى هذا التساؤل أدناه.

والمجال الأخير لإضفاء الديمقراطية الذي أريد الإشارة إليه هو العلاقات بين الجنسين في اللغة، وهو الذي ظلَّ يمثِّل أبرز حالة من حالات الصراع المُعلَن حول الممارسات الخطابية في السنوات الأخيرة. فالدراسات الكثيرة التي تعالج «اللغة بين الجنسين» تتضمن ما يشير إلى عدم التناظر بين المرأة والرجل (وترجيح كفة الرجل) فيما يتصل بمقدار الكلام، ومناقشة الموضوعات، واحتمالات المقاطعة أثناء الكلام، وهلُمَّ جرًّا (كاميرون، ١٩٨٥م؛ كوتس، ١٩٨٦م؛ جرادول وسوان، ١٩٨٩م)، وعلى سبيل المثال، تبين دراسة لمحادثة بين أزواج أمريكيين من ذوي البشرة البيضاء وجميعهم من المهنيين (فيشمان، ١٩٨٣م) أن النساء أثَرنَ موضوعات أكثر مما أثاره الرجال (٤٧ و٢٩ على الترتيب)، ولكن الموضوعات التي أثارها الرجال أصبحت كلها تقريبًا (٢٨) من مجالات المحادثة، في حين أن المحادثة لم تتناول أكثر من ثلث الموضوعات التي أثارتها النساء (١٧) إلا بقليل. وكان الرجال عندما يقدِّمون الموضوعات يجدون أن النساء يُشِرن إلى انتباههن (بردود موجزة مثل «نعم» والغمغمة) ويبدين قبولهن للموضوعات وردودهن عليها. وعلى العكس من ذلك وجدت الدراسة أن الرجال لا يبدون انتباههم عمومًا أثناء عرض النساء للموضوعات، أي أثناء كلامهن، وأنهم يُبدون استجابة محدودة للموضوعات المقترَحة (الأمر الذي لا يشجِّع المتحدثين على مواصلة النظر في الموضوع) عندما تنتهي النساء من الكلام.

وقد سجَّل الدارسون حالات كثيرة للتحيُّز للرجل في اللغة وفي استعمال اللغة (والتحيُّز مُنافٍ للديمقراطية) على نطاق واسع، مثل استعمال ضمير المذكَّر الغائب (متصلًا أو منفصلًا) كأنما هو ضمير يشير إلى الإنسان، ومن ثَمَّ استخدامه في الإشارة إلى المرأة والرجل جميعًا، إلى جانب استخدامه في الصيغ المشهورة مثل «الرئيس» (جرادول وسوان، ١٩٨٩م، ٩٩–١١٠). ولو كان الضمير المذكور «اسم جنس» حقًّا، لوجدناه مستعمَلًا في الإشارة إلى مجموعات الأشخاص الذين يضمون الرجال والنساء معًا، ومع ذلك فما أقل الحالات التي يُستخدم فيها ضمير المؤنث الغائب على نطاق واسع بهذه الطريقة، كالمثال التالي: «إذا بدأت سكرتيرة تشكو من نوبات صداع، فالأرجح أنَّ معدات المكتب التي تستخدمها معيبة.» إن ضمير المؤنث الغائب يستخدم بهذه الطريقة لأن «العضو النمطي» لمجموعة الأفراد التي ينتمي إليها امرأة، أي إن المعتاد أن يقوم بأعمال السكرتارية أو التمريض امرأة، ولكن إذا كان ضمير الغائب المؤنث المستخدم هنا للإشارة غير المخصصة يقوم على مثل هذا النمط المعتاد، أفلا يصدق هذا أيضًا على ضمير الغائب المذكر؟ وإذا كانت اللوائح الجامعية تتضمن نصًّا كالتالي «إذا أراد الطالب قطع دراسته لأسباب شخصية أو صحية، فعليه مناقشة الأمر أولًا مع المشرف عليه»، أفلا يكون النمط المفترض للطالب هنا ذكرًا؟ لمَن يريد أن يرجع إلى حُجة تقول بها أن ينظر مارتينا (١٩٧٨م).

وعلى الرغم من أن معظم النقاش قد ارتكز من جديد على استمرار الممارسات غير الديمقراطية والمنحازة للرجل، فإن سياق النقاش يمثِّل انفتاحًا للعلاقات بين الجنسين وإضفاء الديمقراطية عليها، وهو سياق له جوانبه الخطابية، ونشهد هذه الأيام تدخل الكثيرين — لا من دعاة نصرة المرأة اللاتي يفعلن هذا عن وعي، بل من نساء أخرى كثيرات ورجال كثيرين — تدخُّلًا فعَّالًا للتقليل من ظاهرة الانحياز للرجل في استعمال اللغة، بحظوظ متفاوتة من النجاح. وقد يتخذ التدخل صورًا متنوعة؛ منها إصدار خطوط إرشادية لتجنُّب الانحياز للرجل في المؤسسات؛ ومنها الكتابة والرسم في لافتات إعلانية أو على الجدران لإظهار الخطاب المنحاز للرجل والطعن فيه؛ ومنها الكفاح لتمكين المرأة من الظفر بمواقع وأدوار وممارسات ذات مكانة عالية، ومن الأشكال المهمة للتدخل الانخراط في ضروب كفاح ذوات هيمنة أكبر، ابتغاء تصحيح الممارسات في مؤسسات معيَّنة مثل الاجتماعات النقابية أو مجالس الأقسام العلمية في الجامعات حتى يتيسر للمرأة المشاركة، أو اعتماد طرائق تفاعل تعاونية لا تنافسية وهي التي كثيرًا ما تحظى بتقدير من المرأة يفوق تقدير الرجل لها، بل ولا ينبغي أن نغفل «لغة الصمت» باعتبارها من طرائق التدخُّل، فقد يفسِّر الناس ويظهرون ردود أفعالهم للخطاب بطرائق تعارضه حتى ولو عبَّروا تعبيرًا صريحًا عن معارضتهم. وقد يوجِّه الرجال تدخلهم أحيانًا ضد أبعاد خطابية لمظاهر الذكورة، مثل افتراض أن «كون الرجل رجلًا» يمنحه الحق في ممارسات خطابية عدوانية وبذيئة. وأمثال هذه الممارسات «التدخلية» أقرب إلى عادات شرائح معيَّنة من الطبقة المتوسطة وأشد تأثيرًا فيها عن غيرها.

ومسائل التدخُّل تذكِّرنا في الوقت المناسب بأن الاتجاهات التجريدية، مثل إضفاء الديمقراطية، تمثِّل جماع الصراعات المتناقضة التي قد تواجه فيها التدخُّلات لإعادة هيكلة نظم الخطاب مقاومة منوَّعة الأشكال، وقد تتعرض لاستراتيجيات احتواء مختلفة، بغرض الحفاظ على صور الهيمنة في مجال الخطاب، ومن أمثال هذه الاستراتيجيات استراتيجية التهميش، ومن الأمثلة التي ذاع صيتها قضية اقتران اسم المرأة بالمختصر Ms (ينطق مِزْ) وكان الهدف من ابتكار هذا اللقب أصلًا فرض التناظر بين الجنسين على الألقاب، أي إنه يشترك مع Mr (مستر) في عدم الإشارة إلى «الحالة الاجتماعية» (وهو التعبير الذي نطلقه على التمييز بين المتزوج والعزب)، ولكننا نرى أن الاستمارات الرسمية تطبع المختصر Ms جنبًا إلى جنب مع المختصرين القديمين Mrs (مِسِز أي السيدة)، وMiss (مِس أي الآنسة)، باعتبارها بدائل يمكن الاختيار من بينها. وهكذا يصبح اختيار «مِزْ» «فعلًا سياسيًّا» بمعنى أنه قد يؤدي في معظم المجالات إلى تهميش صاحبته. والصراع حول هذه الأشكال مستمر، وعلى الرغم من أن إضفاء الديمقراطية على الممارسات الخطابية المتعلِّقة بالجنسين عملية أبعد ما تكون عن السلاسة والتعميم، فإن عدم التناظر بين الجنسَين في الخطاب قد سُلب وضعه الطبيعي وأصبح إشكالية ذات نطاق لا يُستهان به.

(٢) التسليع

التسليع يعني أن بعض المجالات والمؤسسات الاجتماعية التي لا تعمل بإنتاج سلع بالمعنى الاقتصادي الضيِّق للبضائع المعَدَّة للبيع، تخضع رغم ذلك لتنظيمها وتصويرها في إطار إنتاج السلع وتوزيعها واستهلاكها. ولم يعُد من المستغرَب، على سبيل المثال، أن نسمع أن بعض القطاعات الفنية والتعليمية، مثل المسرح وتعليم اللغة الإنجليزية يُشار إليها باسم «الصناعات» التي تعمل بإنتاج وتسويق وبيع سلع ثقافية أو تعليمية إلى «عملائها» أو «مستهلكيها»، وليس التسليع عملية جديدة بالمعنى المفهوم، ولكنها اكتسبت أخيرًا قوة وكثافة جديدتَين باعتبارها جانبًا من جوانب «ثقافة المبادرة (والهمة التجارية)» (كيت وأبركرومبي، ١٩٩٠م)، وقد أشار ماركس نفسه إلى تأثير التسليع في اللغة، فالإشارة إلى الأشخاص باعتبارهم «الأيدي العاملة» في السياقات الصناعية، على سبيل المثال، جزء من النظر إليهم بصفتهم سلعًا مفيدة في إنتاج سلع أخرى، أي باعتبارهم قوة عمل مجسَّدة. أما من حيث نظم الخطاب فلنا أن نتصور أن التسليع استعمار لنظم الخطاب المؤسسية، وللنظام المجتمعي للخطاب بصفة أعم، من جانب أنماط خطابية مرتبطة بإنتاج السلع، وسوف أشير إلى نماذج من التعليم والخطاب التعليمي.

ومن معالم الخطاب التعليمي المعاصر المنتشرة على نطاق واسع معاملة المناهج أو البرامج الدراسية باعتبارها سلعًا أو منتجات يجري تسويقها على الزبائن، والمقتطف الذي استعملته في الفصل السادس مثال لهذا النمط:

عادةً ما يكون مُنتَج الإعداد المهني برنامجًا، ومن ثَمَّ فإن تصميمه وتنفيذه عناصر رئيسية في عملية التسويق، ويجب أن تتمثل نقطة انطلاقه في احتياجات الذين يمكن أن يصبحوا زبائن وعملاء له والفوائد التي ينشدونها (وحدة التعليم المستمر، ١٩٨٧م، ٥١).

والرسالة الموجَّهة إلى مصمِّمي البرامج والمعلمين صورة تطبيقية مفصلة للقاعدة التسويقية التي تقول: «قدِّم إلى الزبائن ما يريدون»، وأمثال هذه الصياغات تتسبب في النقل المجازي لمفردات السلع والأسواق إلى نظام الخطاب التعليمي، ولكن الاستعارة في بريطانيا المعاصرة ليست مجرَّد زخرفة بلاغية، بل إنها البعد الخطابي لمحاولة إعادة هيكلة الممارسات التعليمية استنادًا إلى النموذج السوقي، وقد تكون لها (كما يتضح من هذا المقتطف) آثار ملموسة في تصميم المناهج وتدريسها، وفي الجهد والأموال المبذولة في التسويق، وهلُمَّ جرًّا.

ولكنَّ الخطابَ التعليمي «المُسلَّع» عادةً ما يتضمن من التناقض الذاتي قدرًا أكبر مما يُوحي به هذا الكلام. ونحن نجد لَمْحة من هذا التناقض في الجمع بين «الزبائن» و«العملاء» في المقتطف الوارد أعلاه، وهو ما يشي بغموض واسع الانتشار حول مَن سوف تُباع لهم السلع التعليمية أو «الحزَم» المغلَّفة المُشار إليها. تراها سوف تُباع إلى طالب العلم أم إلى الشركات التي يعمل فيها طلاب العلم حاليًّا؟ أو ربما التحقوا بالعمل بها في المستقبل؟ هذه الشركات يمكن اعتبارها فعلًا «عملاء» بالمعنى المباشر الذي يفيد تحمُّل نفقات الدورة التدريبية للمتعلِّم، ومن ثَمَّ فإن الصورة المبنية لطلاب العلم صورة متناقضة، إذ يُرسَم لهم من ناحية دَور إيجابي، أي دَور الزبون الفطِن، أو الزبون الذي يُدرك ما «يحتاج» إليه ويتمتَّع بالقدرة على اختيار المناهج التي تفي باحتياجاته، ويُرسَم لهم من ناحية أخرى دَور سلبي، وهو كون أمثالهم عناصر أو أدوات في عمليات الإنتاج (وهو ما يشبه تعبير «الأيدي العاملة» في مثال ماركس) إذ يستهدفون للتدريب على اكتساب «مهارات» أو «قدرات» معيَّنة، من خلال مناهج ترمي إلى تحقيق «أهداف تحصيل» محدَّدة، تصل إلى ذروتها برسم صور للدارسين، وجميعها يتخذ صورة مهارات مخصَّصة ومحدَّدة بدقة. لقد انتشر اليوم هذا الإطار وانتشرت هذه المصطلحات على نطاق واسع، خصوصًا في التعليم السابق للتدريب المهني، ولكن هذه تستخدم أيضًا، على سبيل المثال، في «تقرير كوكس» عن تعليم الإنجليزية في المدارس (وزارة التعليم والعلوم ١٩٨٩م). والوجود المتزامن للصورتين السلبية والإيجابية للدارس تسهل التلاعب بالأشخاص من خلال التعليم، وذلك بأن تكتسي مظهرًا يمكن وصفه بأنه نبرات الحديث الفردية والاستهلاكية.

والخطاب التعليمي المسلَّع تسوده المفردات الخاصة بالمهارات، وهي لا تقتصر على كلمة «المهارة» وحسب، والكلمات المتصلة بها مثل «المقدرة» و«الكفاءة»، بل صياغة كاملة لعمليات التعلُّم والتعليم القائمة على مفاهيم المهارة، والتدريب على اكتساب المهارات، واستخدام المهارات، ونقل المهارات وهلُمَّ جرًّا (انظر كتاب فيركلف «تحت الطبع»، ب). ويُعتبر مفهوم المهارة عاملًا مهمًّا في تمكين الصورتين المتناقضتين للمتعلِّم من التعايش دون عدم اتساق ظاهر؛ لأن المفهوم يتفق فيما يبدو مع النظرة الفردية والذاتية للتعلُّم، وفي الوقت نفسه مع النظرة الموضوعية للتدريب. ويتجلى هذا الازدواج الدلالي في تاريخ المفهوم داخل الخطاب التعليمي المحافظ المنتمي إلى المذهب الإنساني الليبرالي، وفي التاريخ الدلالي لكلمة «المهارة» نفسها. فمفهوم المهارة تترتب عليه من ناحية معيَّنة معانٍ فردية إيجابية؛ فالمهارات صفات عالية القيمة في الأفراد، ويختلف الأفراد في أنماط مهاراتهم ودرجاتها، ويتمتع كل فرد بحرية تشذيب مهاراته أو إضافة مهارات جديدة إلى ما لديه (وأقول بالمناسبة: إن هذا المفهوم ديمقراطي أيضًا، مما يعني أن كلَّ فرد لديه طاقة على التعلُّم والتطور بشرط واحد، وهو حصوله على التدريب)، ويترتب على مفهوم المهارة من ناحية أخرى دلالات معيارية سلبية موضوعية؛ فجميع الأفراد يكتسبون بعض العناصر من مخزون اجتماعي مشترك من المهارات، من خلال إجراءات تدريب معيارية، كما إنه من المفترض إمكان نقل المهارات عَبْر مختلف السياقات والمناسبات والمستخدمين لها بأسلوب لا يكاد يتيح للطابع الفردي مساحة تُذكَر.

والمفردات الخاصة بالمهارة ذات أصول عريقة مبجَّلة في علم اللغة واللغويات التطبيقية، حيث تشيع الفكرة التي تقول إن استعمال اللغة يقوم على أسس مجموعات من «المهارات اللغوية» (مهارات الكتابة والقراءة والكلام والاستماع)، وتساعد هذه الصيغة على تسليع مضمون تعليم اللغات، بمعنى أنها تيسِّر تقسيمها إلى وحدات منفصلة، بحيث يمكن تدريس كل منها على انفراد وتقييم نتائجه، كما يمكن أن تُباع وتُشترى باعتبارها بضائع متميزة داخل الإطار المتنوِّع للسلع المتاحة في سوق التعليم. ولا تقتصر هذه الوحدات على كونها فئات المهارات الرئيسية الخاصة بالكتابة والقراءة والكلام والاستماع، بل إنها تمثِّل أيضًا أجزاءً مخصَّصة من كل مهارة. فمهارات الكلام يمكن تقسيمها إلى تقديم المعلومات، والتعبير عن الرأي، والمشاركة في مناقشة جماعية، ومن الممكن تقسيم كل جزء من هذه الأجزاء إلى أقسام فرعية، وهلُمَّ جرًّا (انظر مثلًا قائمة مهارات الاتصال الخاصة بمشروع تدريب الشباب في وحدة التعليم المستمر، ١٩٨٧م، ٣٨). ومن شأن هذا، وفقًا للجانب الذي يجري تأكيده من بين الجوانب المتناقضة للدارس، تسهيل أحد أمرين؛ إما التحديد الدقيق لجوانب النقص وتصحيحها، وإما تقديم ما يلزم لتلبية احتياجات المستهلك بأكبر قدر ممكن من التخصيص. وصياغة تعليم اللغة بمفردات المهارات تعني أيضًا استنادها إلى نظرة معيارية (إلى حدٍّ كبير) إلى اللغة باعتبارها مجموعة من الممارسات المحدَّدة (على نحو ما أقيم عليه الحجة في كتابي المقبل «ب»).

ولكن تسليع الخطاب التعليمي ليس مسألة مفردات وحسب، بل يتعلَّق أيضًا بالنوع، فالتعليم مجال من بين عدة مجالات يستعمر «نوع الإعلان» نظم الخطاب فيها (فيركلف، ١٩٨٩م، أ، ٢٠٨–٢١١)، ونتيجة لذلك تكاثرت أنماط النصوص التي تجمع بين معالم الإعلان ومعالم أنواع أخرى. وقد سبق لنا الاطلاع على مثال لهذا في النص الخاص ببطاقة باركليكارد عاليه، حيث يمتزج الإعلان بالنظم المالية. وبعد صفحة أو صفحتَين نجد مثالًا مختلِفًا إلى حدٍّ ما من مجال التعليم، وهو مقتطَف من اللائحة الداخلية لمرحلة الليسانس بجامعة لانكاستر عام ١٩٩٠م. وينبغي ألَّا نولي أهمية خاصة لاختيار الجامعة أو المنهج الدراسي، إذ توجد اتجاهات مماثلة، بوضوح وجلاء، في غير هذه المناهج واللوائح.

ومن المعالم المشتركة للمناهج في هذه اللائحة وضع صورة فوتوغرافية بالقرب من بداية المدخل، وعبارة «سوف تحتاج إلى» وبعض الرسوم البيانية في آخِره. والإدراج المنتظم للصور الفوتوغرافية في اللوائح الداخلية من التطورات الحديثة نسبيًّا، ويتجلى فيه تأثير الإعلان. فالإعلان المعاصر عن السلع عادةً ما يتكوَّن من مزيج من اللغة والصور «البصرية»، والاتجاه الحالي زيادة إبراز الصور. وهذا يتفق إلى حدٍّ ما مع التطورات التكنولوجية في التليفزيون وفي الطباعة، ولكن احتمال استغلال التكنولوجيات استغلالًا كاملًا يتوقَّف على اتفاقها، كما سبق لي أن ذكرت، مع مسار التغيير الاجتماعي والثقافي. وإذَن فما الذي يكسبه الإعلان من الصور «البصرية»؟ علينا إذا أردنا إجابة هذا السؤال أن ننظر نظرة شاملة إلى الخصائص العامة للإعلان باعتباره نوعًا مستقلًّا.

يُعتبر الإعلان الخطاب «الاستراتيجي» الأول بلا مراء، وفقًا للتمييز الذي وضعه هابرماس بين اللغة «الاستراتيجية» ولغة «الاتصال» (١٩٨٤م). فمهمة الإعلان بناء «الصور» بمعناها الآخَر، أي طرائق تقديم الأشخاص إلى الجمهور، أو تقديم المنظمات والسلع إليه، وبناء هُويات معيَّنة، أو «شخصيات» لأي منها. وتقضي ظروف السوق المعاصرة بأن تقوم أعداد من الشركات بتسويق منتجات متشابهة إلى حدٍّ كبير، فإذا أرادت إحداها إثبات اختلاف ما تُنتجه كان عليها أن تبني له هُوية خاصة، ونرى في الوقت نفسه أن فئات الأشخاص الذين يُحتمل شراؤهم لهذه المنتجات كثيرًا ما يتعذَّر تحديد انتمائها إلى أنماط اجتماعية قائ‍مة ومستقلة (كالطبقات، والجماعات الإقليمية والعرقية، والانتماء إلى أحد الجنسين … إلخ)، وإذَن، فلا بد من بناء هذه الأنماط في الخطاب أيضًا، بل ولا بد من بناء صورة منتجي السلع وبائعيها، بحيث تتفق مع صور المنتجات وصور مَن يمكن أن يستهلكوها. وهكذا نرى الجمع بين المنتج وما ينتجه والمستهلك له باعتبارهم مشاركين في أسلوب حياة معيَّن، أي في جماعة استهلاكية (لايس، وكلاين وجهالي، ١٩٨٦م) وهي الجماعة التي يبنيها الإعلان ويحاكيها.

وأما ما يكسبه المُعلِنون من الصور البصرية فهو طاقتها الإيحائية على محاكاة أسلوب حياة معيَّن، وهي تتفوَّق على اللغة بصفة عامة في قوتها وتأثيرها المباشر، إذ تستطيع الصورة البصرية الناجحة أن تخلق فورًا عالمًا يمكن أن يشترك المستهلك المحتمل مع المنتج وما ينتجه في الحلول داخله من قبل أن يقرأ القارئ (أو يسمع المشاهد) لغة الإعلان، وهكذا فإن معظم الصور الفوتوغرافية المطبوعة في الكُتيِّب الذي يتضمَّن اللائحة المُشار إليها، تصور طلاب الجامعة أثناء عملهم (في قاعات الدرس، أو أثناء استعمال المعدات العلمية، أو الدردشة، وهلُمَّ جرًّا) بحيث تقدم لمَن يمكن أن يلتحق بالجامعة من الطلاب الجو المادي والاجتماعي الذي يستطيعون أن يتخيلوا أنهم قد دخلوه. والصورة التي طُبعت في أعلى المثال المرفق لا تمثِّل نشاطًا طلابيًّا، ولكنها تقدِّم منظرًا يمثِّل بيئة طبيعية ذات جمال أخَّاذ يتيح للطالب أن يتصوَّر أنه قد دخله (إذا قضى عامًا في جامعة أمريكية في إطار دراسته للحصول على الدرجة)، أي إن الصورة البصرية تقدِّم صورة مغرية للمنتج (أي السلعة) والمقصود هو برنامج الحصول على الدرجة الجامعية، بحيث يتخيل الطالب المحتمل أنه ينتمي إلى هذه الصورة.

وأما الأشكال المرسومة تحت عنوان «ما سوف تحتاج إليه» في آخِر الموضوع فلا تتمتع بالخصائص الإيحائية للصورة الفوتوغرافية، ولكنها تُسهم من جانبها في البناء المشترك للطالب المحتمل، وللجامعة، وللمنهج الدراسي. والأشكال البيانية من هذا النوع أسلوب فعَّال لتقديم المعلومات في لَمْحة سريعة. واستعمال الأشكال البيانية يدلُّ ضِمنًا على أن المؤسسة تأخذ بالأساليب الحديثة، وبأنها حساسة لما يحتاجه الطلاب، خصوصًا بسبب ما تتسم به الكُتيِّبات التي تقدِّم التخصُّصات الجامعية واللائحة الداخلية من تعقيد لا يساعد القارئ على هَضْم المعلومات، كما أن هذه الأشكال ترسم صورة للطالب باعتباره ذا حاجات وقِيَم معيَّنة، مثل حاجته إلى المعلومات العملية في شكل ييسِّر هضمها، ومثل تقديره للوضوح والكفاءة في تقديمها إليه.

واستخدام الأشكال البيانية يساعد أيضًا على التغلُّب على التناقض الذي ينجم عن استعمار الإعلان لمثل هذه الكتيِّبات، فقد تريد الجامعات أن «تبيع» أنفسها للطلاب، ولكنها أيضًا تفرض قواعد وشروطًا صارمة على الالتحاق بها. وهكذا فإن الطلاب يشغلون من ناحية موقع سلطة معيَّنة باعتبارهم مستهلكين يتمتعون بحق الاختيار، ويشغلون من ناحية أخرى موقع طالبي الالتحاق الذين لا حول لهم ولا طول، ويؤدي تهميش شروط الالتحاق وتقديمها من خلال الشكل البياني، إلى أن يفسِّر القارئ «المتطلبات» التي تفرضها الجامعة (أي الشروط التي تطلب توافرها فيمَن يحق له الالتحاق بها) باعتبارها حقائق لا يوجد فيما يبدو مسئول عنها. ولاحظ كيف يظهر ذلك أيضًا في تفاصيل الصياغة، مثل استخدام عبارة «سوف تحتاج إلى» بدلًا من «نحن نشترط» أو «نحن نطلب».

ولننتقل الآن إلى النص الرئيسي: إن ما يلفت النظر فيه هو مزج المعلومات بمحاولة الإقناع، أي إطلاع مَن يمكن التحاقهم من الطلاب على البرنامج الدراسي و«بيعه» لهم. ويتضح هذا من ترتيب الجمل في الفقرة الأولى، فالجملة الثالثة تصف تشكيل البرنامج ولكنها مسبوقة بجملتَين تشكِّلان إطارًا لها في سياق قصصي عن برنامج الدراسات الأمريكية في جامعة لانكاستر، هل هذا إعلان أو محاولة إقناع؟

figure
figure

من الممكن بطبيعة الحال، تفسير ذلك على أنه إعلام أو محاولة إقناع، فالمعلومات الخاصة بسجل الجامعة السابق في مجال الدراسات الأمريكية مهمة للمتقدمين، دون شك، ولكن التجديد يزداد جاذبية لو أنه أقيم على أسس المنجزات السابقة. والكُتيِّبات الجامعية الصادرة في الثمانينيات أكثر حدبًا من تلك الصادرة في السبعينيات أو ما قبلها على اختيار وتنظيم معلوماتها استنادًا إلى الحسابات الاستراتيجية الخاصة بقدرتها على الإقناع. ولنا أن نقول دون شطط إن الحساب الاستراتيجي للمعلومات ليس فيه جديد، وأما الجديد حقًّا فإمكان جعل المعلومات استراتيجية ومقنعة بوضوح وجلاء، دون أن يعتبر ذلك قضية (أي من دون لفت الأنظار إلى ذلك)، فلقد أدى تأثير الإعلان باعتباره نموذجًا ذا مكانة رفيعة إلى أن أصبح مزج المعلومات بأفانين الإقناع أسلوبًا طبيعيًّا، وظهرت شروخ في الفواصل التي كانت تفصل بينهما في نظم الخطاب، ومن عواقب ذلك التغيير الجذري الذي نشهده في طبيعة «الإعلام» والمعلومات.

ويتضَّح مزج المعلومات بأساليب الإقناع أيضًا في الفقرات الأخرى من النص المقتطف، وسوف أركِّز على الفقرة الثانية. أما الجملة الأولى فتبدو «إعلامية» بصورة مباشرة، حتى نصادف كلمة «المختارة» (التي توصف بها الجامعة الأمريكية)، إذ إنها تبين مدى حرص جامعة لانكاستر على مصلحة طلابها. وكلمة «الخاصة» في الجملة الثالثة تقوم بمهمة مماثلة إلى حدٍّ كبير. وفي الجملة الثانية يتضح التنظيم والتأطير، فالمعلومات الخاصة بطول المنهج الدراسي يسبقها ويؤطرها بل ويربطها رابط سببي بعبارة «العلاقات الأمريكية الوثيقة» مع جامعة لانكاستر، ونقول بالمناسبة: إن هذه العلاقات مفترضة سلفًا، كأنما ينبغي أن يكون الطلاب مُلمِّين بها. وكلمة «وثيقة» تلمح إلماحًا خفيًّا إلى تفوق جامعة لانكاستر، وهو ما يُعتبر جانبًا من جوانب المقارنة المضمرة بين جامعة لانكاستر والجامعات الأخرى. وطباعة كلمة ثلاثة بحروف مائلة، والمقارنة السافرة بين جامعة لانكاستر والجامعات الأخرى، توحي بأن قصر المنهج الدراسي يقصد به أن يكون عاملًا مساعدًا على «التسويق».

(٣) إضفاء التكنولوجيا

تتسم المجتمعات الحديثة بالاتجاه إلى زيادة التحكُّم في المزيد من جوانب حياة الناس، وقد وصف هابرماس هذه الظاهرة بأنها استعمار ﻟ «عالم الحياة» من جانب «نظم» الدولة والاقتصاد (١٩٨٤م، ٤٠) وما قلته عاليه عن التسليع يشير إلى جانب خطابي من جوانب الاستعمار الاقتصادي. كما تعرَّض فوكوه أيضًا لهذا الاتجاه العام، إذ أعد قائمة ﺑ «التكنولوجيات» و«التقنيات» التي تخدم «السلطة الحيوية» الحديثة (انظر الفصل الثاني أعلاه).

ومن الممكن التوسع في تحليل فوكوه لتكنولوجيات السلطة بحيث تتضمن الخطاب، ومن المفيد أن نعتبر أن «تكنولوجيات الخطاب» (فيركلف، ١٩٨٩م، أ، ٢١١–٢٢٣)، و«إضفاء التكنولوجيا على الخطاب» (فيركلف، ١٩٩٠م، ب) يمثِّلان خصائص نظم الخطاب الحديثة. وتتضمن أمثلة تكنولوجيات الخطاب المقابلات الشخصية، والتعليم، وجلسات المشورة، والإعلان. وأما سبب إطلاقي هذه التسمية عليها فرغبتي في أن أبيِّن أنها قد اتخذت، وتواصل في المجتمع الحديث اتخاذ طابع التقنيات «عبر السياقية» (أي التي تتجاوز سياقًا بعينه)، وتعتبر من ثَمَّ مواردَ أو أدواتٍ يمكن استخدامها لتطبيق استراتيجيات بالغة التنوُّع في سياقات كثيرة مختلفة، ويزداد باطراد استخدام تكنولوجيات الخطاب في مواقع مؤسسية محدَّدة من جانب ممثلين لقوى اجتماعية معيَّنة. كما بدأت تكتسب التكنولوجيين المتخصصين العاملين في مجالها وحده، مثل الباحثين في مدى كفاءتها، وواضعي التصميمات الجديدة، التي تمثِّل التحسينات التي تقتضيها نتائج البحوث العلمية وتغير متطلبات المؤسسات، إلى جانب المدربين الذين ينقلون هذه التقنيات إلى المتدربين. ومن بين هؤلاء التكنولوجيين أعضاء أقسام العلوم الاجتماعية في الجامعات، ومن الأمثلة الراسخة مشروع البحوث والتدريب في مجال «المهارات الاجتماعية» الذي يقوم بتنفيذه علماء النفس الاجتماعي (أرجايل، ١٩٧٨م). وأما الذين يستهدفون للتدريب في تكنولوجيات الخطاب فهم في العادة معلِّمون، وبعض مَن يُجرون المقابلات الشخصية، والمعلنون، وغيرهم من «حراس المداخل» وأصحاب السلطة، وأما تكنولوجيات الخطاب فالمقصود بها أن تحدث آثارًا محدَّدة في الجمهور (العملاء والزبائن والمستهلكون) الذين لم يتلقوا التدريب عليها.

وتقيم تكنولوجيات الخطاب علاقة وثيقة بين المعرفة باللغة والخطاب والسلطة، إذ يجري تصميمها وتشذيبها استنادًا إلى الآثار المتوقعة لأدق تفاصيل الاختيارات اللغوية في المفردات، والنحو، ونبرة الإلقاء، وتنظيم الحوار وهلُمَّ جرًّا، إلى جانب تعبير الوجه، والإيماء، والوضعية الجسدية والحركات، وهي تأتي بالتغيير الخطابي عمدًا وعن وعي كامل، وهو ما يعني أن التكنولوجيين يحيطون بالمعارف الخاصة باللغة والخطاب والسيمياء (السيميوطيقا) إلى جانب معارف علم النفس وعلم الاجتماع. ومن المتوقع أن يزيد محلِّلو الخطاب وعلماء اللغة من ممارسة تكنولوجيات الخطاب أو أن يتيحوا لتكنولوجيي الخطاب الاستفادة من نتائج بحوثهم.

وتتضمن تكنولوجيات الخطاب فنون المحاكاة، وخصوصًا محاكاة معاني العلاقات بين الأشخاص والممارسات الخطابية لتحقيق أغراض استراتيجية وعملية. ويرتبط هذا بتعليقاتي السابقة على إضفاء الديمقراطية على الخطاب، إذ إن أصحاب السلطة المؤسسية يستخدمون على نطاق واسع تقنيات محاكاة تناظر السلطة ونبذ الطابع الرسمي. ومن الأمثلة على ذلك نوع المقابلات الشخصية التي تجري مع المتقدمين لشغل الوظائف في المرافق العامة مثل المستشفيات وأجهزة الحكم المحلي والجامعات. وقد استخدمت في كتاب آخَر لي مصطلح «الطابع الشخصي المصطنع» (فيركلف، ١٩٨٩م، أ، ٦٢) في الإشارة إلى محاكاة جوانب معيَّنة من معنى العلاقات بين الأشخاص استنادًا إلى الحساب الاستراتيجي للآثار المترتِّبة على ذلك. أي إن محاكاة العلاقات بين الأشخاص ناجمة عن إخضاع جميع الجوانب الأخرى للممارسة الخطابية ومعناها لتحقيق أهداف استراتيجية وعملية، وهذا هو نمط التفاعل الذي يصفه هابرماس بأنه «استراتيجي» تمييزًا له عن التفاعل «التواصلي» (انظر أعلاه). ويرتبط إضفاء التكنولوجيا على الخطاب بتوسيع نطاق الخطاب الاستراتيجي حتى يشمل مجالات جديدة.

ويبدو أن إضفاء التكنولوجيا على الخطاب قد امتد واتسع، إذ انتقل من بعض الأنواع مثل المقابلة الشخصية، والمقابلات الشخصية تعتبر جماهيرية ما دامت ترتبط بشتى ضروب الوظائف المؤسسية الجماهيرية، إلى النوع الأساسي في المجال الشخصي، وهو المحادثة. ويتجلى في هذا استيلاء المؤسسات على المحادثة، وشحنها بمضمون سياسي وأيديولوجي محدَّد. والمقابلة الشخصية القائمة على الطب البديل مثال لذلك. ويتجلى فيها أيضًا أسلوب انتقال المجالات الخاصة إلى المجال العام، حيث تستعمر «النظم» مجالات «عالم الحياة»، إذا استعرنا تعبير هابرماس. وهكذا نرى تحويل الترتيبات المنزلية والعلاقات الأسرية إلى المجال العام، ولو إلى حدٍّ محدود، وكثيرًا ما يُشار إليها باعتبارها مجالًا خاصًّا من مجالات السياسة.

فلنزد هذه المسائل إيضاحًا بالإشارة إلى كتاب يصف الأسلوب الذي يتيح للمديرين في مواقع العمل تحسين مهاراتهم في المحادثة (مارجريسون، ١٩٨٧م). وموضوع الكتاب هو «مهارات التحكُّم في المحادثة»، وإن كانت «المحادثة» هنا تتضمَّن الاجتماعات والمقابلات الشخصية الخاصة بالعمل، إلى جانب المحادثة غير الرسمية بالمعنى الضيق، وترتبط بعض المهارات التي يناقشها الكتاب، مثل مهارة «التلخيص» (المرادفة تقريبًا ﻟ «الصياغة» التي سبق ذكرها) ارتباطًا أساسيًّا بأنماط الخطاب المؤسسية الرسمية، ولكن بعضها الآخَر ينتمي إلى المحادثة غير الرسمية، والحق أن «مهارات التحكم في المحادثة» لا تقتصر، فيما يُقال، على أهميتها للعمل، بل تتعدى ذلك إلى إدارة العلاقات داخل الأسرة وفيما بين الأصدقاء.

ويولي الكتاب اهتمامًا بضروب منوَّعة من المهارات، إذ يتناول أحد فصوله مهارات الاستنباط التي تعني أن يدرك السامع وأن يستجيب ﻟ «المفاتيح» اللفظية و«الإشارات» غير اللفظية التي تومئ إلى معانٍ عبَّر عنها المتحدِّث تعبيرًا غير مباشر أو ألمح إليها وحسب. وأمثال هذه الإشارات تقتصر على المشكلات المهمة، وذلك عندما يشعر الناس أنهم لا يستطيعون الحديث بصراحة عنها، كما أن عجز السامع عن التقاط هذه المفاتيح والإشارات قد تكون له عواقب وخيمة. ومن القضايا المرتبطة بذلك مهارات الاستئذان لدخول «أرض المحادثة» – أي المشاعر والحالات النفسية والأفكار الخاصة والدوافع الشخصية للآخَرين — وهي التي قد تكون «محرمة على الغير»، ويركِّز فصل آخَر من فصول الكتاب المذكور على تقنيات تحويل محادثة قائمة على المواجهة إلى محادثة تعاونية، بما في ذلك مهارات إدارة الاختلاف والرفض. وتتضمَّن عدة فصول بعض المهارات الخاصة بما يُعرف بمصطلحي «التأدب الإيجابي» و«التأدب السلبي» في الدراسات المنشورة عن التداولية. وتتضمن هذه طرائق إظهار تقدير المرء لسامعيه وتفهمهم في المحادثة (وربما يكون ذلك أثناء محاولة المرء الحصول على موافقتهم على موقفه المعارض لموقفهم) وطرائق تخفيف الانتقادات الموجهة للآخَرين. وفي الكتاب فصل يناقش كيف يمكن للمرء الطعن في افتراضات مُسلَّم بها في المحادثات، وكيف يمكنه تأكيد موقفه من دون نبرات عدوانية. ويناقش فصل آخَر طرائق التحكُّم في الموضوعات وتغييرها، خصوصًا التحول من تحليل حالات الفشل السابقة إلى وضع خطط للمستقبل.

ويقول الكتاب إن مهارات التحكم في المناقشة يمكنها أن تسهم في النجاح التجاري وزيادة الأرباح، وزيادة السلامة في مكان العمل، والدوافع الحافزة للعاملين، وتحاشي المنازعات بين الإدارة والعمال، قائلًا: «ومن ثَمَّ فإن التحكم في المحادثة ينهض بدور أساسي في إيجاد الظروف التي تمكن الناس من العمل الفعَّال معًا»، وأما في إطار الأسرة والعلاقات الاجتماعية الأخرى فإن «الاختلافات في الرأي يمكن أن تؤدي إلى نشوء مجادلات ومنازعات جارحة أو أن تؤدي الإدارة الماهرة للمحادثات إلى تصفيتها»، ولكن هذه الإشارة الواضحة إلى إمكانات التحكم في المحادثة باعتبارها «تكنولوجية» معيَّنة، تقترن في الكتاب بمزاعم غير مُقنِعة تقول إن الأمر «لا يتعلق بالتحكم في الآخَرين بل بالتحكم في محادثتنا وسلوكنا نفسه»، وإن المسألة في الحقيقة مسألة «التأثير» في الناس من دون «التلاعب» بهم (ص١٩٣–١٩٤).

وتوجد علاقة وثيقة بين إضفاء التكنولوجيا على الخطاب وبين المهارات المذكورة، وكذلك النظرة القائمة على الكفاءة فيما يتعلق بتعليم اللغات والتدريب اللغوي الذي ناقشته عاليه باعتباره «تسليعًا»، أي إن انتشار ذلك وتغلغله في المجالات الخاصة ومجالات عالم الحياة بل وفي مجال المحادثة يتفق، فيما يبدو، مع موجة التعميم الحالية للتدريب على اكتساب المهارات اللغوية، إذ كان التدريب على مهارات الاتصال مقصورًا حتى عهد قريب على «حراس المداخل» وأصحاب السلطة في المؤسسات، إلى جانب الأشخاص الذين كانوا يعانون من عجزٍ ما، بدنيًّا أو نفسيًّا، ولكن مهارات الاتصال اللغوي أصبحت تُدرَّس الآن للجميع في بريطانيا المعاصرة، بسبب السياسات الجديدة الخاصة بالثانوية العامة، والمقررات الدراسية القومية في المدارس، وفي التعليم السابق للتدريب المهني (مبادرة التعليم التقني والحرفي، ومشروع تدريب الشباب … إلخ) (انظر وحدة التعليم المستمر، ١٩٨٧م؛ وزارة التعليم والعلوم، ١٩٨٩م.)

(٤) كيف تُفهم هذه الاتجاهات

يُعتبر تجريد هذه الاتجاهات وعزلها على نحو ما فعلته عاليه، من أساليب إبرازها، ولكنني كنت ولا أزال أركِّز في هذا الكتاب على نظم الخطاب باعتبارها مركَّبة وغير متجانسة بل ومتناقضة، وإذَن فعلينا أن نحاول أن نفهم هذه الاتجاهات في تفاعلها وتقاطعها، وعلينا في غضون هذا أن نسمح بالاختلافات المُمكِنة في آثار هذه الاتجاهات في شتى نظم الخطاب المحلية، وفي درجة قبولها أو رفضها، وهلُمَّ جرًّا، وعلينا أيضًا أن نتيح مكانًا لبعض الظواهر مثل «إضفاء الطابع الشخصي المصطَنع» المشار إليه في القسم الأخير، والقضية العامة هي أن الاتجاهات قد تكون لها قِيَم متضادة وبالِغة الاختلاف، استنادًا إلى ما قد ترتبط به، إلى جانب كونها متاحة للاصطباغ بشتى الألوان السياسية والأيديولوجية.

وقد يبدو أن إضفاء الديمقراطية يتضادُّ تضادًّا بسيطًا مع التسليع، ما دام الأول يعني ضعف السيطرة والأخير يعني تدعيمها، ولكن بعض الظواهر مثل إضفاء الطابع الشخصي المصطَنع تبين أن العلاقة بينهما أشد تعقيدًا مما يبدو. ومن الأسباب الأخرى التي تمنع اعتبارهما من الأضداد البسيطة أن التسليع في الواقع يعني إضفاء الديمقراطية ضِمنًا. ولنسترجع ما قلته عن النص الخاص ببطاقة الائتمان «باركليكارد» في الفصل الرابع والنص الخاص باللائحة الجامعية، وكيف أنهما يتضمَّنان تحوُّلًا جزئيًّا أو ابتعادًا إلى حدٍّ ما عن العلاقات التقليدية بين صاحب السلطة والخاضع لها في إدارة المصارف والتعليم على الترتيب، واقترابًا من «المستهلك» (الزبون والطالب المتوقع)، ويتجلى هذا التحوُّل في الخطاب الديمقراطي؛ بمعنى أن البنك والجامعة لا يعبِّران تعبيرًا سافرًا عن سُلطتهما، وأن ذلك يؤدي إلى وجود توتُّرات في النصين سبقت لي الإشارة إليهما. والنصوص المسلَّعة المبنية على النماذج الإعلانية تتجلى فيها أيضًا معالم أخرى للديمقراطية، من بينها التخلي عن الصبغة الرسمية والاقتراب من خطاب المحادثة.

وهذا التلاقي بين التسليع وإضفاء الديمقراطية غير كامل ويسير في اتجاه واحد، إذ أحيانًا ما نجد الديمقراطية وحدها من دون التسليع، كما نرى في المقابلة الشخصية الخاصة بالطب «البديل» في العيِّنة المقتطَفة في الفصل الخامس. ومع ذلك فإن التلاقي يؤدي فعلًا، فيما يظهر، إلى الكشف عن خصائص مشتركة على مستوى أعمق، وخصوصًا تأثير هذه الاتجاهات في بناء الخطاب للذاتية أو للكيان النفسي، في سياق التحوُّلات التي وثَّقَها الباحثون (بحث ن. روز على سبيل المثال) في التكوين الاجتماعي للنفس في المجتمع المعاصر. وتسير هذه التحولات في اتجاه زيادة استقلال النفس وازدياد دوافعها الذاتية (أي نحو النفس التي تتمتَّع ﺑ «التسيير الذاتي» على نحو تعريف «روز» لها). والواضح أن الاتجاهَين يشتركان في التوجُّه نحو النفس التي تتميز ﺑ «التسيير الذاتي»، فالطبيب في العيِّنة المقتطفة من المقابلة الشخصية الخاصة بالطب «البديل»، ومؤلِّف الكُتيِّب الذي يقدِّم اللائحة الجامعية، يخاطبون (ومن ثَمَّ يفترضون سلفًا) صورًا مُضمَرة من النفس المتميزة بالتسيير الذاتي. وهكذا فإن «المستهلك»، أي «المُخاطَب» القائم في حالات الإعلان وتوسُّعاته الاستعمارية في التعليم والمجالات الأخرى، صورة من صور النفس التي تتمتع بالتسيير الذاتي، وبالقدرة على «الاختيار» وإرادة «الاختيار». وذلك أيضًا شأن «العميل – المريض» في المقابلة الخاصة بالطب البديل، إذ يُنسب إليه كذلك الاستقلال والاختيار. فإذا كان التسليع وعمليات إضفاء الديمقراطية الأوسع نطاقًا تتجه معًا إلى بناء النوع عينه من هذه «النفس» فلن ندهش لتداخلهما في بعض المجالات مثل التعليم. وهكذا فإن طالب المستقبل الذي تُبنى صورته باعتباره مستهلِكًا قد يجد أنه قد أصبح عند دخوله الجامعة «طالب علم يتمتَّع بالاستقلال».

وأنا أصِف الاتجاه إلى إضفاء الديمقراطية والتسليع وصفًا عامًّا باعتبارهما من خصائص النظام المجتمعي المعاصر للخطاب، وتأثيرهما — وفق ما ذكرت عاليه، في مختلف نظم الخطاب المحلية والمؤسسية — تأثير متفاوت؛ فبعض نظم الخطاب تكتسب قدرًا كبيرًا من الديمقراطية والتسليع أو من أحد هذين الاتجاهين، والبعض الآخَر لا يكتسب القَدْر نفسه منهما أو من أحدهما. ومع ذلك فإن ما يبهرنا هو تغلغُل هذين الاتجاهين في شتَّى المجالات، إذ يستطيعان عبور الحدود التي تفصل ما بين المؤسسات والمجالات. ويبدو أن البروز الحالي لهما يتفق لا مع نماذج الكيان النفسي التي يوحيان بها وحسب، ولكن أيضًا مع حال خاصة من أحوال النظام المجتمعي للخطاب في المجتمع المعاصر، الأمر الذي يتيح طرح نماذج جديدة منها.

والحال المذكورة حال «تفتيت» نسبي للمعايير والأعراف الخطابية، وهي تؤثِّر في ضروب شتَّى من المؤسسات والمجالات. وأما ما أعنيه بالتفتيت فهو انهيار من نوع ما، أو فقدان الفاعلية، في بعض نظم الخطاب المحلية، الأمر الذي يتيح للاتجاهات العامة التغلغُل فيها. ولأعبِّر عن هذا بمزيد من التفصيل، فأقول: إن التفتيت يتضمَّن (١) زيادة المغايرة في الممارسة الخطابية (فالمقابلات الشخصية الطبية تجري بطرائق أشد تغييرًا)، و(٢) انخفاض القدرة على التنبؤ بما سوف يلقاه المشاركون في أي حدث خطابي، ومن ثَمَّ ضرورة بذل الجهد لمعرفة المسار المحتمَل لمقابلة من المقابلات على سبيل المثال، و(٣) زيادة إمكان تغلغُل أنماط الخطاب القادمة من خارج المجال المعنِيِّ (مثل زيادة انفتاحه على خطاب المحادثة) والاتجاهات العامة. وتشير الدلائل على زيادة تفتُّت الخطاب التعليمي والطبي وخطاب موقع العمل، بهذا المعنى.

ومن المفارقات أنَّ تفتُّت نظم الخطاب المحلية أصبح، فيما يبدو، من شروط زيادة إضفاء التكنولوجيا على الخطاب، بمعنى أن زيادة انفتاح النظم المحلية للخطاب تتضمَّن زيادة انفتاحها على العمليات التكنولوجية القادمة من خارجها. وأما المفارقة فهي أن التفتيت أصبح يعني، على ما يظهر، تخفيفًا من النظم التي تحكم الممارسة الخطابية، في حين أن إضفاء التكنولوجيا يمثِّل، على ما يظهر، تعميقًا لهذه النظم. ومن أساليب تفسير هذه العملية إدراك التحوُّل في طبيعة النظم وموقعها. فحينما تكون نظم الخطاب ثابتة ومستقلة نسبيًّا، فإن تنظيمها يجري محليًّا وداخليًّا من خلال آليات سافرة للتنظيم أو من خلال ضغوط خفية، وهو الأكثر شيوعًا، ولكن الاتجاه الآن هو أن يقوم خبراء البحوث والتدريب بتنظيم الممارسة في مختلف المؤسسات والمجالات. وإذَن فهل يتسبَّب رجال تكنولوجيا الخطاب في احتلال اتجاهات التسليع وإضفاء الديمقراطية لنظم الخطاب المحلية؟ لا شك أن تأثير هذه الاتجاهات كثيرًا ما ينتج عن احتلال تكنولوجيات الخطاب الرئيسية — وهي الإعلان، والمقابلات الشخصية وجلسات المشورة — ومن خلال التدريب على هذه التكنولوجيات باعتبارها مهارات منتزَعة من سياقها.

ولكن هذا التفسير قاطع ومنحاز بأكثر مما ينبغي، إذ يعيبه العيب الذي انتقده تيلور (١٩٨٦م، ٨١) في دراسات الأنساب عند فوكوه، ألا وهو اعتباره أن التغيير يقتصر على تقنيات السلطة التي يفسِّرها دون لبس أو غموض باعتبارها من أدوات السيطرة وحسب، أي إنه ينقصه ما يشير إليه فوكوه نفسه بعبارة «تعدُّد التكافؤ التكتيكي لضروب الخطاب» بمعنى أنها يمكن أن تكون لها قِيم مختلفة في مختلف «الاستراتيجيات» (انظر الفصل الثالث أعلاه). ومن الحالات التي ينطبق هذا عليها حالة إعادة إضفاء الديمقراطية التي يمثِّلها اصطناع الصبغة الشخصية (في الحديث). ولأزِدْ هذا المثال إيضاحًا وتفصيلًا.

تقول الحُجة التي أسوقها إن إضفاء الديمقراطية يمكن أن يكون له أكثر من معنًى، إما في إطار تخفيف القيود أو بسبب استعماله استراتيجيًّا باعتباره إحدى التقنيات، ولكن إضفاء التكنولوجيا، حتى في الحالة الأخيرة، قد لا يكون قاطعًا؛ فقد يستولي أصحاب السلطة على إضفاء الديمقراطية، وإن كانت عملية الاستيلاء نفسها قد تؤدي إلى فتح ساحة جديدة من ساحات الصراع التي يمكن أن يتلقى فيها أصحاب السلطة بعض الهزائم. ومن زاوية معيَّنة يمكن اعتبار تصنُّع الديمقراطية أو محاكاتها لأغراض استراتيجيةٍ استراتيجيةً ذاتَ أخطارٍ شديدة، كما أنها تمثِّل في ذاتها بعض التخلي لصالح سلطة قُوى إضفاء الديمقراطية وكذلك، وفي الوقت نفسه، خطوة مناهضة لها. والواقع أن استعمال أشكال الخطاب الذي أُضفيَت عليه الديمقراطية — مثل استبعاد الدلائل السافرة على عدم التناظر من الخطاب، واستبعاد الطابع الرسمي، والاقتراب من الأرض المشتركة للمحادثة — يدل دلالات مضمَرة على طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة عمليًّا، وهي دلالات من المحال الإبقاء عليها إن كان إضفاء الديمقراطية مصطنَعًا، وقد تكون النتيجة تناقضًا في الممارسة الخطابية بين أشكال الخطاب الديمقراطي ومضمونه، وهكذا فقد يغدو هذا ساحةً للصراع.

وهكذا فقد تشتبك هذه الاتجاهات مع عمليات الصراع داخل الممارسات الخطابية وحول هذه الممارسات التي يمكن اصطباغها بألوان مختلفة. فإلى جانب الإمكانية التي أشرت إليها في الفقرة الأخيرة، أي إمكانية الاستيلاء عليها وقلبها رأسًا على عقب، توجد فرصة مقاومتها ورفضها، أو قبولها وتهميشها. وإذا نظرنا إلى هذه التقنيات في إطار عمليات إضفاء التكنولوجيا على الخطاب، وجدنا أن هذه الاتجاهات تؤدي إلى ضروب بالِغة التنوُّع من أشكال الخطاب المختلِطة أو المُهجَّنة، حيث تنشأ «حلول وسط» توفق بينها وبين الممارسات الخطابية التقليدية غير المسلَّعة وغير الديمقراطية. وقد سبق لي تحليل نص بطاقة الائتمان «باركليكارد» من هذه الزاوية. ومن مبرِّرات اتخاذ مدخل إلى تحليل الخطاب يركِّز على التناص وعلى التداخل الخطابي، ويرتبط بأفكار معيَّنة مثل عدم تجانس الخطاب والتباس معناه، أن نظم الخطاب المعاصرة حافلة بأمثال هذه النصوص المهجَّنة.

ومع ذلك فإن التركيز هنا لا يزال مُنصَبًّا إلى حدٍّ كبير على إضفاء التكنولوجيا، حتى ولو تأكدت مقاومتها، إذ لا يزال الافتراض السائد يقول بوجود عمليات اجتماعية وخطابية مركزة نسبيًّا. ونجد في مقابل هذا تأكيدًا في الدراسات المنشورة عن مذهب ما بعد الحداثة للقول بانهيار الهيكل الاجتماعي، الأمر الذي يوحي بتفسير مختلِف بعض الشيء لعمليات التغيير الخطابي الجارية الآن. ومن شأن هذا التفسير أن يؤكِّد تفتيت النظم المحلية للخطاب التي أشرت إليها عاليه، باعتبار ذلك بُعدًا خطابيًّا لضربٍ من ضروب تفتيت النظام الاجتماعي. ومن شأنه أيضًا أن يوحي بالنظر إلى العمليات التي أشرت إليها عاليه (قائلًا إنها من قبيل إضفاء الديمقراطية) باعتبارها «تفتيتًا»، أيْ بوصفها سلسلة مما يسميه جيمسون (١٩٨٤م) «حالات طمس الاختلاف»، ويعني بهذا التعبير انهيار فواصل التمييز وحواجزه، من دون الإيحاء بأن حالات الانهيار المذكورة مجرَّد نواتج لاتجاهات التوحيد على مستويات أخرى، سواء كانت نحو إضفاء الديمقراطية أو التكنولوجيا. وقد تتضمَّن حالات طمس الاختلاف المشار إليها إزالة الحواجز بين المستويات المعتمدة وغير المعتمدة للغة، وقد توحي بعكس عمليات التوحيد التي كانت ولا تزال تمثِّل مَعْلمًا رئيسيًّا من معالم المجتمع الحديث. ومن هذا المنظور تبدو التحليلات التي أوردتها حتى الآن حالات مبالغة في تفسير التغيير، ما دامت تقوم على افتراضات خاصة بعقلانية العمليات الاجتماعية وطابعها المركزي، وهو ما لم يعُد يتحقَّق في المجتمعات المعاصرة.

الخاتمة

قدمت في الواقع ثلاثة تفسيرات مختلفة للاتجاهات التي حددتها، وهي تفسيرات تقول بوجود استعمار ذي خط واحد، وصراع على الهيمنة، والتفتيت، وكل تفسير يوحي ضِمنًا بنموذج خاص من نماذج الممارسة الخطابية، والقول بوجود استعمار وحيد الاتجاه يعني ضِمنًا وجود نموذج «شفري» للممارسة الخطابية. والصورة الكلاسيكية للنموذج الشفري يفترض وجود نظام محلي مستقر للخطاب، ووجود أعراف «مُطبَّعة» تتحقَّق أمثلتها المعيارية في الممارسة، أي إن الممارسة تتبع المعايير وحسب، ولكن الاستعمار ذا الخط الواحد يعني ضِمنًا كذلك وجود نموذج شفري، وإن كانت الشفرات في هذه الحالة التي تُتَّبع فيها معياريًّا تتعرَّض من جانب معيَّن إلى التشكيل من الخارج من خلال استعمار تكنولوجيات الخطاب لها.

وأما التفسير الثاني، أي من خلال الصراع على الهيمنة، فيوحي ضِمنًا بوجود نموذج للممارسة الخطابية يقوم على الهيمنة، أي وجود نظرة للممارسة الخطابية باعتبارها قوة رابطة؛ إذ نشهد تمزيق التشكيلات القائمة لأنماط الخطاب وعناصرها، وإعادة الترابط الذي يكوِّن تشكيلات جديدة تبرز التداخل الخطابي والتناص.

وأما التفسير الثالث، من حيث التفتيت، فيتفق مع ما يمكن أن يُطلَق عليه اسم «الفسيفساء» أو ربما أطلقنا عليه اسم النموذج «التفاوضي». وكلٌّ من هاتَين الصورتَين (المجازيتَين) تحملان معنًى مُضمَرًا وهو تفتيت الأعراف، ولكن صورة «الفسيفساء» تؤكِّد وجود مساحة ناجمة تسمح بالنشاط الخلَّاق، وبالجمع بين عناصر الخطاب بطرائق تتجدَّد باستمرار لتحقيق نتائج مؤقَّتة، وكذلك بالمحاكاة، في حين أن صورة «النموذج التفاوضي» تؤكِّد أنه حيثما يصبح من المحال قبول الأعراف على النحو الذي تقدم به، تنشأ الحاجة إلى تفاوض المشاركين في التفاعل (بصورة مُضمَرة في جميع الأحوال تقريبًا) حول عناصر الخطاب التي ينبغي الانتفاع بها. وصورة التفاوض المذكورة هي القابلة للتطبيق على نطاق واسع، إذ إن الممارسات الخطابية التي تقبل التفاوض بهذا المعنى، لا تتمتَّع جميعها بالخصائص التي توحي بها صورة «الفسيفساء»، ولكن الممارسة الخطابية التي تتمتع بهذه الخصائص (ومن المُحتَمل أن أوضِّح أن الأمثلة توجد في الإعلان) لا بد أن تقبل التفاوض، إذ لا بد من تحقيق اتفاق مُضمَر حول عناصر الخطاب القابلة للترابط بين منتجي النصوص ومفسِّريها حتى ينجح تأثير الفسيفساء.

كان ولا يزال وضع نموذج ممارسة خطابية يقوم على الهيمنة، خصوصًا في مقابل النموذج الشفري السائد، من أهداف هذا الكتاب الرئيسية، إذ يبدو أن نموذج الهيمنة أقرب النماذج منطقيًّا إلى نظام الخطاب المجتمعي المعاصر بصورة شاملة، ولكنه ليس مجرَّد بديل مفضَّل على النموذجَين الآخَرَين. فالواقع أن كل نموذج يبيِّن جانبًا مهمًّا من جوانب نظام الخطاب المعاصر، وكل نموذج قادر، فيما يبدو، على النجاح النسبي في بعض مجالات الممارسة الخطابية، وأقل قدرة على النجاح في غيرها. ومن ثَمَّ ينبغي للبحوث في المستقبل ألَّا تختار نموذجًا وترفض غيره، بل أن تركِّز جهودها على هذه المسألة المفيدة وهي تحديد النماذج القادرة على إيضاح بعض المجالات وتحديد المجالات المعنية، إلى جانب التركيز على ضروب التوتر بين النماذج، من دون استبعاد أيٍّ من اتجاهات التفسير الثلاثة المذكورة للتغير الخطابي الراهن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤