الفصل التاسع عشر

غانيات الحي اللاتيني

بعض الحقائق البشعة في مدينة النور

 باريس ٢٥ فبراير سنة ١٩٣١

لقد قصرتُ أوقات فراغي في الأسابيع الماضية على قراءة الكتب المؤلفة عن الحي اللاتيني، ولم يزدني ذلك إلا كلفًا بدراسة ذلك الحي في حاضره وماضيه، وكان أجمل ما عرفته ما تلقيته شفاها عن الأدباء الذين شهدوا ذلك الحي منذ ثلاثين عامًا. وقد اتفق جميع من حادثتهم على أن الحي اللاتيني فقد جماله منذ أزمان، فقد كان في النصف الأخير من القرن التاسع عشر هو المعهد الوحيد لمخاطر الحب والشباب، ثم أخذ يفقد سحره رويدًا رويدًا بسبب الأحياء الجديدة التي اجتذبت إليها أهواء الملاح، وكان حي مونمارتر أول طعنة وُجهت إلى صدر الأنس في حي الشباب. وانتهت المأساة بظهور حي مونبارناس، وبهذا أصبحت لا ترى في الحي اللاتيني وجهًا صبوحًا ولا طلعة بهية، إلا في ساعات خاصة من الصباح والمساء، فإذا انتهى وقت الدرس مضت أزهار الشباب إلى ملاهي مونمارتر ومونبارناس، وبقي الحي اللاتيني هامدًا لا روح به ولا حراك.

هذا حق! فلنا أن ننشد إذًا قول المتنبي:

أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم

ولكن هل فرغ الحي اللاتيني من جميع أسباب الحياة؟

لا قدر الله ولا سمح!

فلا تزال هناك عصابات من النساء، وأسراب من الفتيات، يغشين ذلك الحي، هناك النساء المترفات اللائي يبحثن عن معالم الشباب والجمال، ولهؤلاء النسوة نفوس ظماء إلى الحسن الغض الذي يتأرج عبيره في كلية الطب وكلية الحقوق. وفي كلية الآداب بالسوربون دروس خاصة ليست في نفوس بعض النساء إلا مواعد لقاء … وهناك كذلك فتيات تاعسات الحظوظ يبحثن عن الرفيق، ولا يجدن السبيل إليه إلا بالانتساب إلى السوربون!

فإن مشيت في بول ميش صباحًا ورأيت الفتيات يتهادين وفي أيديهن الكتب والقراطيس فلا تحسب دائمًا أنهن يطلبن العلم ملخصات، ولكن تذكر أن فيهن بنات شقيات قضت أزمات الحياة الأوربية على ما فيهن من كرامة وحصانة، فهن يسعين إلى الوِرد الممنوع بمشاركة الشبان في تلقي الدروس!

والقارئ المصري أو الشرقي لا يكاد يدرك مغزى ذلك، لأن الحياة في الشرق لا تزال معقولة الأوضاع، وكذلك لا تزال المرأة في الشرق (سيدة) وإن زعموا أنها تعيش في أقفاص. هي سيدة لأنها لا تزال تُطْلَب وتُعشق، ويقال فيها الشعر البليغ. أما المرأة الغربية فقد مضت دولتها وولت أيامها، لأن الغرب رُزئ ببلايا كثيرة اجتماعية واقتصادية كان من أثرها أن زهد الرجال في النساء، وأصبح الجنس القوي والجنس اللطيف في صراع، والصراع في هذه المرة لا يمثل رجلًا يتولّه وامرأة تتمنع، ولكنه يمثل رجلًا وامرأة يقتتلان حول فضلات الأرزاق.

وقد يخطئ من يظن أن هذا التحول في سير الحياة أخمد حرارة المرأة، فإن الطبيعة الإنسانية أعمق جذورًا من ذلك، ولكنه بالفعل أخمد عواطف الرجل أو كاد، فقد أصبح الشبان ينظرون إلى المرأة وكأنها في أعينهم مخلوق سخيف، والفتاة صارت لا تحظى بمودة الفتى إلا إن شاركته في ألعابه، ورافقته في أسفاره، وأغنته عن ارتياد مواضع الإسفاف. ومهما يكن من شيء فإن أهل هذا الجيل عادوا أضن من أن يسفكوا قطرة من الدمع في سبيل المرأة. ونظرة إلى ثمار الأدب الحديث في أوربا تكفي للاقتناع بأن وظيفة الحب في القصص والروايات صارت وظيفة صناعية أو فنية، يوردها الكاتب مراعاة للقواعد والأصول، أو ما كان اصطلح عليه الأقدمون من قواعد وأصول.

وهناك دليل أوضح، وهو الشعر، فمن ذا الذي يزعم أن الشعر في هذا العصر يقارب الشعر في عصر ميسيه ولامرتين؟

لقد ضعف الشعر حتى لا يرجى له نهوض، والسبب في ضعفه هو انصراف العبقريين عن المرأة، وذلك أخطر مقتل في أدب هذا الجيل.

هذه الحقائق تبين للقارئ السر في خمود الحي اللاتيني، فقد كانت الفتيات من قبلُ زينة هذا الحي، يوم كان الشبان يتغنون بالحب العذري، ويوم كانت الفتاة لا تسقط إلا إن ذهب الهوى بعقلها المكبول.

فماذا ترى اليوم؟ ماذا نرى بعد انقراض الحب النبيل؟

نرى عدة قهوات كأنها مواخير، فإن الشاب حيثما توجه في ملاهي ذلك الحي كان جديرًا باقتناص إنسانة تزيد في دفء غرفته إن أعوزه الدفء في ليالي الشتاء!

وقد يحدث أن تعرض الفتاة نفسها في غير حياء، كما كان الفتى يهاجمها قديمًا في غير حياء.

ولكن أين من يقبل؟ فإن فتيات الحي اللاتيني طاغيات، ولا تكاد الفتاة تحادث من يقبل عليها حتى تصارحه بأنها مدينة، وأنها لم تدفع نفقات غرفتها منذ شهور، وأنه ليس لديها إلا فستان واحد، وأنها لم تأكل منذ يومين!

والويل كل الويل لمن يسلس القياد لهؤلاء البائسات، فإنهن ألزم من الظل، وأثقل من تظرف الثقلاء!

وللقارئ أن يسأل: هل نساء الحي اللاتيني كلهن فرنسيات؟

ونجيب بأن الفرنسيات قلائل جدًّا في ذلك الميدان. ولم تُظلم أمة من الوجهة الأخلاقية كما ظُلمت فرنسا بين الأمم الأوربية؛ فالناس جميعًا يكادون يتفقون على أن المرأة الفرنسية ماجنة خليعة، وذلك خطأ مبين. والواقع أن الفتيات الأوروبيات يستفدن من الحرية الشخصية في باريس، حيث لا يتقدم أحد مطلقًا لإزعاج العشاق، ففي باريس ألوف مؤلفة من الرومانيات، والنمسويات، والألمانيات، والإيطاليات، والإسبانيات، إلى آخر ما تعرف من الشعوب الأوربية والأمريكية، وكل تلك الروافد تنصب في باريس، فهي ملتقى طلاب الغواية من جميع الأجناس.

أتحسبني بذلك أعدو الحق؟ هيهات! فأنا رجل أعشق النبرات الفرنسية، وللغة الفرنسية الخالصة سحر قهار يفعل في نفسي ما لا يفعل الشراب. وقد تمضي أسابيع ولا أسمع من فتاة واحدة نبرة تشعرني أنني أحادث فتاة فرنسية، وكذلك اقتنعت أو كدت أقتنع بأن الجمال الفرنسي أعز وأمنع من أن يبتذل في الحي اللاتيني. والمصادفات الطيبة التي ظفرت بها في باريس زادتني حزنًا وخوفًا على مصير المرأة الفرنسية، فإنه لا تزال فيها بقايا من الطهر والنبل، ولكن الجيل الحاضر يكاد يعصف بما كان لفرنسا من شريف التقاليد، وتكاد الأزمات الطارئة في عالم الاقتصاد والاجتماع تبدل الشمائل والنحائز والخلال.

فماذا بقي إذًا من مواقع العيون والقلوب في باريس؟

لم تبق إلا الشهوات الحسية السافلة التي تقدم بلا حساب في الفنادق والحانات حيث يباع الهوى بلا ميزان — كما يقول صديقنا الأديب توفيق وهبة — ولكن كيف والعرض أيسر ما يُبذل في تلك البقاع؟

أليس في ذلك ما يؤيد قرار لجنة البعثات في مصر بمنع الطلبة من تزوج الأجنبيات؟

أليس في ذلك ما يؤيد خوف الآباء على أبنائهم من مفاسد باريس ومناكر باريس؟

لقد أصبحت أومن بأن الحرب من أشرف نزعات الإنسانية فهي التي تعلم الشعوب قيمة الواجب، وهي التي تغرس في الشباب حب الرجولة. ولئن دام السلم نصف قرن ليصبحن الناس من جامح الحيوان.

وبعد فإن لم يرق للقارئ هذا الكلام فليعذر الكاتب؛ فإنه رجل أمضَّته الخلائق في باريس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤