الفصل الحادي والعشرون

بين فصول الكتاب وآيات الوجود

 باريس في ٢٩ أغسطس سنة ١٩٢٩

صديقي …

تسألني كيف كانت أعمالي كثيرة ومعقدة، وتطلب بيان ذلك التعقيد؟ اسمع إذن هذه القصة ثم استنبط منها ما تشاء:

في مساء ١٤ يوليه الماضي، بعد أن تناولت العشاء، مضيت إلى شاطئ السين أنتظر الألعاب النارية مع آلاف المنتظرين، ثم بدا لي فجأة أني شهدت هذا الاحتفال في الأعوام الماضية، وأنه لن يكون فيه جديد، وأن من الخير أن أعود فأكتب صحيفة أو صحيفتين لأتقدم قليلًا في العمل الذي جئت له، ثم انحدرت إلى المنزل الذي أقيم فيه غير حافل بالحياة الضاحكة التي تحشر الناس في صعيد واحد ليرى بعضهم بعضًا وليجددوا ما بلي من آمالهم وأحلامهم حين يرون الجمال يزحف بجيوشه الجرارة ليفتح ما أغلق من نزوات القلوب ونزعات النفوس، وليروا أخيرًا الأسهم النارية تعمل في الجو المطلق بعض ما تعمل العيون النواعس في أفئدة الشعراء.

عدت إلى المنزل، وأقبلت على مكتبي، ثم أدنيت الدواة والقلم والقرطاس، ولكني لم أكد أضع أول جملة حتى سمعت دوي الأسهم النارية يخترق الفضاء، وسمعت تهليل المهللين وصياح الصائحين، والضحكات جميعًا من قوية تنبئ عن رجولة، ورقيقة متقطعة تكشف من أنوثة، ودارت بي الغرفة فلم أدر ماذا أكتب، وعز عليّ أن تنهزم إرادتي وأن أخرج ثانية للاشتراك في الاحتفال، وأخذت أرهف العزيمة لأكتب شيئًا يعوض تلك الخسارة الفادحة التي مُنيت بها حين تركت أهل باريس يمرحون ويلعبون وتموج بهم لجج الحياة لأحبس نفسي طائعًا في غرفة مغلقة الأبواب بين ما أعجم واستبهم من مناظر الكتب والدفاتر والمحابر والأقلام والمذكرات.

ولكني لم أكتب شيئًا!

ثم خلعت ثيابي وألقيت بنفسي على السرير ذاهلًا حائر اللب ترميني قذائف التفكير من هنا وهناك. وتجمعت في رأسي أسباب الثورة الفكرية التي تهاجمني وأهاجمها من حين إلى حين، وبدأت أمطر نفسي وأمطر العالم بوابل من الأسئلة المحرجة التي تقف أمامها النفس الإنسانية حيرَى مولَّهة لا تدري كيف تجيب:

أنا تركت العالم يموج على شواطئ السين، ولكن لماذا؟ … لأقرأ كتابًا يتحدث عن العالم؟ … هذا حمق وسفه، كيف أترك الحقيقة ثم أبحث عنها في ألفاف الخيال؟! ألا كتب بحثًا يشرح بعض حقائق العالم؟ كيف! وأنا أهرب من العالم لألجأ إلى القلم والكتاب والمصباح!

وانطلقتُ أفكر في أمثالي من الذين يتسامون إلى شرح حقائق الحياة ونواميس الوجود وهم أسرى في منازلهم يخشون إذا هموا بمشاهدة العالم أن ينالهم الابتذال، فكم من عالم مفكر — وتلك دعوى قديمة — يجلس في عقر بيته ليضع الشرائع للناس، وهو لا يعلم شيئًا عن غرائز الناس، في حين أن التشريع ليس إرادة فردية تؤيد بالأحكام العرفية، وإنما هو تنظيم وتهذيب للغرائز والميول والأهواء. وكم من فيلسوف — وتلك أيضًا دعوى قديمة — لا يعرف من الدنيا غير الكتب، ولا يعرف من أهلها غير تراجم المؤلفين، وهو مع ذلك يرى نفسه أهلًا لوضع الحقائق الباقية لسياسة الأمم والشعوب!

ثم ماذا؟

ثم تكون هذه النكبة الاجتماعية التي درج عليها الناس منذ أجيال، والتي تقضي بأن الجمهور لا يحترم الرجل الذي يشاركه في أسباب دنياه، وإنما يتصور العظمة محبوسة في أقفاص المكاتب والمعاهد والجامعات. وقديمًا شك الناس في نبوة الأنبياء؛ لأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما حدثنا القرآن.

أتجرحك يا صديقي هذه الملاحظات؟

معذرة إليك، فأنا رجل ثائر عنيف، وسأظل في ثورتي إلى أن انتصر في حرب ما أمقت من نفاق التقاليد. وأستطيع أن أؤكد لك أن كثيرًا من الأصنام التي تعبد في مصر والشرق ستحطم عما قريب، وسينشأ في مصر والشرق جيل جديد يبني أحكامه وقوانينه على أساس التجارب والمشاهدات، وستهدم صروح العظمة التي تبنى على أساس التوقر والتحفظ، وخلق أسباب التبجيل، وفرض الاحترام بالأساليب الممجوجة التي تخلى عنها الغرب وداسها بقدميه يوم رغب في شرف الحرية والإخاء والمساواة، ويوم فضل الحقيقة المرة على الباطل المعسول.

متى أشهد مصرعك يا عهد النفاق!

ثم كان مساء الأحد الماضي حيث يجرى سباق السباحة في السين، وخرجت باريس برجالها ونسائها وشبابها وكهولها تحيي عظمة البساطة والخفة والسذاجة والرشاقة في أجسام السابحين، وخرجت أنا أيضًا هذه المرة بعد أن وضعت الكتب والمذكرات في الصوان وأغلقته أغلاقًا محكمًا ووضعت المفتاح تحت البساط لئلا يهجم عليّ كتاب فلسفة مثلًا فيحول بيني وبين الخروج!

يا الله! هذا شباب باريس يطوّق السين كما يطوق العقد جيد الحسناء، وهذا زحام مطبق لم يترك لمثلي موضع قدم، والناس ما بين شاب رشيق الحركة يتسلق الأشجار، وفتاة مترفة ترفع مرآتها لتنعكس عليها مناظر السابحين، وشاعر يرى ويشهد أسراب الحسان لتتم له أسباب الإبداع، وفيلسوف يرقب تطور الحياة الإنسانية وجها لوجه عن طريق المشاهدة لا كما يفعل أدعياء الفلسفة الذين ينزحون من بئر الغفلة والنسيان والذهول.

والسين!

السين! قد تحول يا صديقي إلى أمواج من النور البنفسجي الجذاب، حتى حسبته قلبًا يخفق بالمنى، أو مخدعًا يتناجى فيه عاشقان، وحسب السين ليلة من هذه الليالي في كل عام ليتيه على أنهار العالم جمعاء، وليظفر بمثل ما كان يظفر به النيل قديمًا يوم كانت تزف إليه في كل عام فتاة هيفاء، والحسن في كل عصر خير ما يهدى وخير ما ينال.

وأنا؟ … أتريد الصدق؟ لم تكن معي مرآة أرى في بياضها مشاهد السابحين، ولم أنشط إلى تسلق الأشجار لأرى ما لا يراه الواقفون، ولم أجد مكانًا على الرصيف أشهد فيه مناظر السباق، وإنما اكتفيت بمشاهدة العالم الباريسي، وعدت مع ذلك إلى المنزل قبل أن ينتهي الاحتفال. أتدري لماذا؟ لأقرأ كتاب سبنسر في علم الاجتماع!

فإن شئت أن تعرف كيف كانت أعمالي كثيرة ومعقدة فاذكر أنها ليست إلا حيرة مطبقة بين فصول الكتاب ومشاهد الوجود،

شفاعة النساء

المرأة مخلوق لطيف يعرف قيمته من يعيش في مدينة مثل باريس حيث لا يُفتح باب من أبواب الرزق والمجد إلا بيد المرأة، فهي مفتاح كل شيء ومغلاق كل شيء، تعطي الحظ من تشاء وتنزعه ممن تشاء، أغنانا الله من فضله عن شفاعتها في باريس وغير باريس؟

ويظهر أن شفاعة النساء كانت معروفة في الزمن القديم، يدلنا على ذلك هذا البيت:

ونُبئت ليلى أرسلت بشفاعة
إليّ فهلا نفسُ ليلى شفيعها

وأصرح منه في الدلالة قول الآخر:

ليس الشفيع الذي يلقاك مؤتزرًا
مثل الشفيع الذي يلقاك عريانا

وألعن من هذا وذاك قول صديقنا الحوماني أحد شعراء سورية:

قضى عصرنا أن يكون الشفيع
لنيل المناصب نهد وقد
فمن شاءها فليُزِر أهلَهُ
رئيس الحكومة يوم الأحد

وهذا كلام لا يحتاج إلى شرح ولا تعليق. ويرحم الله من استطاعوا الفرار من زينة الدنيا إلى وعورة القفار والفلوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤