الفصل السابع والعشرون

جواب الأستاذ السباعي

إلى الدكتور زكي مبارك

ما وجدُ صادٍ بالحبال مُوثق
بماء مزن بارد مُصفق
بالريح لم يكدر ولم يُرنَّق
جادت به أخلاف دَجْن مُطبق
بصخرة إن تر شمسا تُبرقِ
ماد عليها كالزجاج الأزرق
صريحُ غيثِ خالص لم يُمذقِ
إلا كوجدي بك لكن أتقي
يا فاتحًا لكل باب مُغلق
وصيرفيا ناقدًا للمنطقِ
إن قال هذا بَهْرَجٌ لم يَنفَقِ
إنا على البعاد والتفرق
لنلتقي بالذكر إن لم نلتق

وردتْ علي رسالتك القيمة التي حاولت في خلالها أن تسكن من ثائرة غضبي على المجتمع المصري، وتحبب إليَّ الحياة وتزينها في نظري.

وفي الحق يا صاحبي أني على كل تسخطي وتبرمي وصرخاتي لا أعرف عن نفسي إن كنت في الواقع شقيًّا أو سعيدًا، أو محظوظًا أو منكودًا، وما يدريني لعلي حين يُخيل إليَّ أني أشد الناس محنة وبلاءً أكون في الحقيقة أشدهم لذة وصفاء، ولا جرم فأولى الناس بأن يكون المنعم المغتبط الفائز بالقسط الأوفر من لذات الحياة هو من كان في طاقته ومقدوره كلما شاء أن يترفع عن سفال ماديات الحياة إلى ملكوت روحانياتها، وينتقل من عالم الحقيقة المرة القاسية السمجة الجافية إلى عالم الخيال المملوء بمعسول الأحلام والأماني، وكان في كفه مفتاح مملكة السحر وما بها من فراديس الحور وملاعب الجنة … كل ذلك منطو تحت لواء الفن ومن ميراث أهله وأربابه، وهذا مصداق كلمتك التي رميت بها في عرض رسالتك إذ قلت لي: «ولعلك تدرك تمام الإدراك أن الأديب العبقري يجب أن يكون في شغل بفنه وفكره وإلهامه عما يحب الناس وما يكرهون، فعلى البلبل أن يغرد وليس عليه أن يفتن صُم الآذان أو غلف القلوب».

ألا حيا الله الفن والخيال والشعر! إنه يترك الفقر أغنى من الغنى ويدع الوحشة أشد إيناسًا من الأنس، وإن هنالك من نوابغ الفنون وأئمة الآداب من إذا اشتد به البلاء لم يزده إلا غبطة وسرورًا، ومن يدوم عليه الفقر حتى يودي بحياته فلا يشعر به ولا يحسه، فهو في حلم سرمدي ذهبي فردوسي، وهو وإن توسد التراب وداسه الناس بأقدامهم ليحس على شفتيه قبلات الحور العين معطرة نفَّاحة، ويعيش في الفكر والخيال في حدائق وجنات مسحورة وقصور وصروح مدهشات، وكنوز مفعمات بنفائس التحف والطرف من ماس الهند وعقيانه، ولؤلؤ الخليج ومرجانه.

وكأي من شاعر تراه أعين الناس في أسمال وأطمار، خاوي الوفاض، بادي الأنفاض، وهو من عالم الخيال في بحبوحة يحسده عليها ملوك الأرض لو يفقهونها، ولكنهم لا يفقهون … كذلك يسير الفنان العبقري بين الناس، ظاهره شحاذ وباطنه «مليونير» مثله كالولي الواصل تنظر عيناه إلى الباطن فترى العجائب والغرائب، ويطوف في مسالك الحياة كالطائف في حلم، لا يشاهد ما نشاهد، ولكنه يرى ما قد حُرمت علينا رؤيته، وبعد ذلك فبأي حق نعد أنفسنا أعظم منه شأنًا وأحسن حالًا، وبأي حق يسوغ لأنفسنا أن نتعطف عليه بالرثاء والرحمة، ألسنا نحن الأحق برحمته ورثائه … ماذا صنعنا وماذا صنع هو؟ لقد أخذنا الحياة بآفاتها وعلاتها … بأقذارها وأقذائها، وعرف هو كيف يحول سخف الحياة وسماجتها لذة وطربًا، وفتنة عجبًا، ويرد أُجاجها نميرًا، وسمها إكسيرًا، وترابها عنبرًا، وحصباءها جوهرًا، وتنافرها انسجامًا، وضوضاءها أنغامًا.

من أجل ذلك قال (أناتول فرانس) لما مات الكاتب الروائي (فيليير دي ليل آدم) ما معناه:

– لقد مات وترك الدنيا غير آسف عليها، مع أنه لم ينعم قط بأدنى شيء، مما يسميه الناس لذاتها وطيباتها. لقد أنشب فيه الفقر مخالبه وشد عليه قبضته فلم يك في طاقة مخلوق أن يستنقذه من إساره. لقد قضى ثلاثين عامًا يغشى حانات الليل ثم يختفي مع أول أشعة الفجر، لقد طبعه الفقر بطابعه، ووسمه بميسمه وصبه في قالبه، فأصبح كبعض أولئك المتشردين الذين ينامون على المقاعد العمومية بقوارع الطرق، وكان أصفر اللون لا بريق بعينيه، مقوس الظهر، وعلى الرغم من كل ذلك أرانا اليوم في حيرة من أمره لا ندرى أنكتبه في سجل الأشقياء أم في سجل السعداء، وجدير هو بالحسد منا أم بالرحمة والرثاء. لكأني بطيف خياله يهبط علينا من عالم الأرواح فيقف على إحدى تلك الموائد الملوثة بآثار التبغ والنبيذ فيصب عليها من أعاجيب أحلامه ذهبًا وجُمانًا، وبنفسجًا وأرجوانًا، ثم يميل رأسه ناحية ويخاطبنا بصوت تهتز في نبراته أوتار الوحي والنبوة قائلًا: «معشر الخلان والأخدان اغبطوني ولا ترحموني، فإن من البغي والعدوان أن تأسفوا على المالكين كنوز الجمال والفتنة، ولقد كنت من أولئك، لقد ملكت الجمال ولم أك أبصر شيئًا سواه، أليس عجيبًا أن دنياكم هذه التي ترونها وتعيشون فيها لم تكن موجودة في شعوري ولا في نظري، وأني لم أتنزل قط ولم أتسفل إلى محاولة مشاهدتها؟ إنما لي عالم باطني أعيش فيه وأتقلب، وتظل روحي بين أرجائه الفِيح تلهو وتمرح في جنات تجري من تحتها الأنهار، وقصور من الياقوت والزبرجد … اقرءوا كتابي المسمى «إكسير» هنالك ترون اثنين من أجمل خلق الله رجلًا وامرأة ما برحا يبحثان عن كنز من الذهب حتى وجداه، ولسوء حظهما وجداه، فإنهما ما كادا يحوزانه حتى أسلما نفسيهما للموت الزؤام، إذ علما أنه لا كنز هنالك يستحق أن يعيش له الإنسان في هذه الدنيا إلا الكنز الروحاني المقدس، كنز الخيال والحكمة والجمال، واعلموا يا رعاكم الله أن الكوخ الحقير الذي كنت أعزف فيه على أوتار مزهري المحطم كان في الحقيقة أجل وأفخم من قصر اللوفر (بباريس) ألم يقل لنا الفيلسوف الأعظم (آرثر شوبنهور) ما معناه: «أي قصر مشيد سواء كان الحمراء أو الإيوان يداني في رونق الجمال وأبهة الجلال ذلك الجحر المظلم الذي كتب فيه الروائي الأكبر (سرفنتين) كتابه الخالد «دون كيشوت»؟

«لقد كان «شوبنهور» نفسه يقتني تمثالًا من الذهب للإله «بوذا» ليذكره دائمًا بأن الثروة الحقيقية هي احتقار الثروة. لقد نلت بقوة خيالي ما لم ينله أعظم ملوك الأرض في الحقيقة، لقد تبوأت الأرائك وقُدت الكتائب وخلقت لنفسي سيرة كأعجب القصص والأساطير، وقد بلغ من فرط امتزاج أحلامي باليقظة واندماجها في الحقيقة أنه يستحيل فصل إحداها من الأخرى، سلام عليكم، لقد عشت أفخم العالمين شأنًا وأعظمهم أبهة وسلطانًا.»

عليك رضوان الله أيها الخيال الطائف! لقد آثرت الروح على الجسد وانصرفت عن المادة إلى الخيال، فاخترت الأسنى على الأدنى، واصطفيت الطيب على الخبيث، فليقل الأغنياء والأقوياء ما شاءوا، إنه لا نعيم أكبر مما يلقاه الذين يضحّون في سبيل حب عظيم، ولقد أحببت الفن والفكر فوق كل ما عداهما، وكان جزاؤك ألذ الأضاليل والأوهام، وأبهج الخدع والأحلام، والحب العظيم والعشق الخالص قلما يكون مجدبًا عقيمًا إنما يكون مصحوبًا بأشهى الثمرات. لقد زين الخيال فراغ روحك السامية وفضاء نفسك المنفردة العظيمة بأبدع متحف من الصور والأشباح.

•••

هنا يقف بي القلم. وفي مجال آخر أخاطبك في شأن الباريزية التي زعمت أنك مولع بها الآن. لا أخلى الله لك مهجةً من لوعة، ولا مقلة من دمعة. والسلام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤