الفصل الرابع والثلاثون

المعرض الدولي للفن والطيران والبريد الجوي

أول ديسمبر سنة ١٩٣٠

أقيم في هذا الأسبوع في باريس المعرض الدولي الأول للفن والطيران والبريد الجوي تحت رعاية المسيو جاستون دومرج رئيس الجمهورية، ورعاية وزير المعارف والفنون ووزير التجارة ووزير الطيران.

وقد زرته يوم الافتتاح، وهو يقع في متحف الفنون باللوفر وهو في جملته وتفصيله فتح جديد في عالم الفنون. والقارئ المصري لا يتبين كيف يكون ذلك المعرض إلا إن وُصف له؛ لأن عهدنا بالطيران حديث، والطيران علم لا يقرأ في الكتب، ولا يكفي في معرفته أن يقال إن هناك خطوطًا جوية تسير فيها الطيارات الإنجليزية، فإن الشعب لا يغرم بالطيران ولا يعرف كنهه إلا إذا قام أبناؤه فامتلكوا الأجواء ونافسوا المتحكمين في الهواء. وقد كانت مصر إلى العام الماضي محرومة من السيطرة على خطوطها الجوية، ولم يكن المصريون يعرفون عن الطيران إلا ما يقرءونه في الكتب والصحف والمجلات، وهي ثقافة تكاد تكون سلبية في نوع من العلوم لا يبرع فيه إلا المخاطرون الأقوياء، وقد أخذت مصر — ولله الحمد — تهتم بالطيران اهتمامًا عمليًّا لا نظريًّا منذ أتاح الله للشاب محمد صدقي أن يدخل مصر طائرًا. ولو قد أتيح هذا الحظ لمن حذقوا الطيران من قبله مثل أنيس باشا لكان للشبان المصريين حظ أوفر من الإقبال على ذلك العلم النفيس. وإنا لراجون أن تكون في الخطوات الجديدة تباشير بطولة وإقدام لعزائم الشباب المصريين الذين حبست نشاطهم وتخونهم مطامع المحتلين الذين قدروا خطر الطيران، وعرفوا أن غرام المصريين به قد يكون عهدًا جديدًا من عهود الحرص على الكرامة والاستقلال

والطيران في ذاته مران نبيل للقوى الإنسانية، فليس من الضروري أن يُقرن دائمًا بالحرب، وأن يُفترض أن الناس لا يطيرون إلا ليستعدوا للفتك بعضهم ببعض، فالذين يحرمون مصر من الطيران لا يمنعونها فقط من الاستعداد للحرب، ولكنهم يحولون بينها وبين أقوى أسباب الكرامة في العهد الحديث. وليتصور القارئ حال أمة مُنع أبناؤها من ركوب الخيل في القرن الثامن عشر مثلًا، فإن الحرمان من ركوب الخيل في الأيام الماضية كان علامة على المذلة والخنوع، وكذلك الحرمان من الطيران في هذا الجيل يقضي على النخوة والكرامة، ويعرض الشبان المصريين للرضا بالهوان. فمن الواجب على من إليهم الأمر في مصر أن ينتبهوا إلى هذه الناحية من الأخلاق، وأن ينظروا إلى الطيران نظرة تساوي على الأقل نظرتهم إلى التمثيل، فإنني كمصري لا أطرب كثيرًا لإنشاء معهد يتخرج فيه الممثلون والممثلات، ولا أستطيع أن أتحدث بما عملته وزارة المعارف المصرية في هذا الباب، ولكن مما يشرف حقًّا أن تنشأ مدرسة للملاحة ومدرسة للطيران، وأن تُستغل حماسة الشبان استغلالًا شريفًا يفتح لمصر أبوابًا من الفوز والمجد في الحياة العلمية والاقتصادية، ولكن إلى من نتحدث وقد فُتحت لنا أبواب من الفتن والمعاطب، وأصبح أولو الأمر في شغل بأنفسهم ومجدهم الشخصي الذي لو وضع في الميزان لكان أخف من الهباء!

المصري لا يعرف الطيران لأنه محروم منه، ولا يعرف الملاحة مع أن البحر يواجهه من الشرق ومن الشمال، وهو على الجملة محروم من المخاطرات التي تخلق الرجال. وليسمح لي القارئ بهذا الاستطراد اليسير فإنني أريد أن أقص عليه الحادثة الآتية:

كانت كلية الآداب بالجامعة المصرية قررت إيفاد اثنين من خريجيها إلى الحبشة لدراسة اللغة الحبشية، ثم عدلت عن ذلك. أتدري ما السبب؟ السبب بسيط ولكنه محزن، ذلك أن أحد الأساتذة بقسم الآثار أخذ يحرض الطالبين على الأحجام ويقول: «أوع يا واد أنت وهو. والله إن قبلتم أملص أودانكم. حبشة أيه وسخام أيه! روحوا لندرا ولّا باريس!»

هذا استطراد ولكن لا أملك دفعه، فقد كنت ليلة الأمس في الجمعية الجغرافية أشهد محاضرة المسيو مارسل جربول عن رحلاته في الأقطار الحبشية، وكم كان أسفي شديدًا حين سمعت المحاضر يتكلم عن الجهود التي بذلت لدرس اللغة الأثيوبية، مع أننا كنا أولى بالتوجه إلى تلك الناحية لمعرفة لغة الأحباش ودرس عقليتهم؛ فستكون بيننا وبينهم مشاكل جدية خطرة في المستقبل القريب. ولكن من الذي يهتم في مصر بالمستقبل القريب أو البعيد؟ إنما يهتم المسيطرون بالتحكم في الشعب وإثارة حقده وغضبه شفاء لبعض الصدور. ولولا انعدام روح المخاطرة ما أحجم ذانك الفتيان عن الذهاب إلى الحبشة حبًّا في لندرا وباريس، وأكثر الشبان يفكرون في أنفسهم، ولا يعرفون ما يعود على أمتهم من الخير إذا آثروا الخشونة وانطلقوا يدرسون الشعوب الأفريقية التي أصبحت قبلة الباحثين والمخاطرين.

كان صديقي الذي أرسل إليَّ الدعوة لحضور افتتاح المعرض قال في خطاب له «احضر في الساعة الثالثة تمامًا إن كان يهمك أن ترى وزراء.» فقلت في نفسي: «عارفهم! عارفهم!» ومع ذلك ثار تطلعي إلى رؤية الوزراء. فذهبت قبل الساعة الثالثة، وانتظرت قريبًا من باب المعرض علني أراهم. ولكنهم لم يحضروا في الوقت المحدد لحضورهم، فمضيت أشاهد المعروضات وأتلفت من حين إلى حين أرقب قدوم أولئك الأعلام، ولكنني لم أر أحدًا، وكنت أفهم أن حضورهم سيلفت الأنظار، وسيكون في حاشيهم من يعلن المتفرجين بقدومهم؛ ولكنه لم يقع شيء من ذلك، ثم دهشت حين علمت بعد نصف ساعة أنهم حضروا وشاهدوا ما أهمهم من مختلف المعروضات وانصرفوا ولم يشعر بهم أحد، فعرفت أنهم وزراء مختارون من الشعب لا يحيط بهم المخبرون، ولا يحرسهم البوليس، حيث لا بلطة ولا مسدس، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون!

المعرض كله خاص بما أنتج الفنانون متصلًا بالطيران، وليعلم القارئ أن هناك فنانين ملحقين بالملاحة وفنانين ملحقين بالطيران. والغاية من اتصال الفن بالملاحة والطيران أن تُغرس في نفوس الشعب عن طريق الفن ثقافة البحر والهواء. والقوم هنا يعملون على أن تكون صلة أبنائهم بالسياحات البحرية والجوية صلة عشق وهيُام لا صلة ألفة وقبول، وكذلك نجد بين الشبان الفرنسيين من يُغرم بالملاحة والطيران غرامًا مبرحًا يقض مضجعه، ويكدر صفوه ويكاد يحول بينه وبين طعامه وشرابه

ومن أجل هذا أخبرني المسيو جانجان أن وزير الطيران امتعض حين رأى في المعرض لوحات فنية تصور بعض الحوادث المزعجة في الطيران، لأن هذا المعرض لم يقم لإعطاء الفرنسيين كل المعارف الضرورية المتصلة بالطيران من نجاح وإخفاق، ولكنه أقيم للدعاية للطيران وترغيب الفتيان في ذلك العلم النبيل، فمن الخطأ أن نفهم الشبان أن في عالم الهواء كبوات وسقطات، وإنما يجب أن نربي فيهم حب المخاطرة مصحوبًا باليقين المطلق في الفوز والتحكم في آفاق السماء.

عدد العارضين ١٨٣، أما المعروضات فشيء يعجز عنه الاستقصاء. فبعضهم عرض تماثيل صغيرة لمن ذهبوا ضحية للطيران، ومنهم من عرضوا رسومًا مختلفة للطيارات، وبعضهم عرض صورًا فتوغرافية عديدة لمناظر أخذت من الطيارات. وهذا نوع جديد من التحف النفيسة التي تمثل المدن والمعالم التاريخية كما يراها من يطل من جانب السماء. وفريق عرض أدب الطيران. وكلمة أدب هنا يراد بها مجموعات المؤلفات التي أراد أصحابها أن ينشروا ثقافة الطيران بين الجمهور، ومن بين هذه المؤلفات روايات شائعة جذابة وضعت للأطفال في حوادث متصلة بالطيران، بحيث يشب الطفل وفي ذهنه صور عديدة للمخاطرات الجوية التي يرجى أن يكون له من مجدها نصيب.

ومن الجوانب الطريفة في هذا المعرض ما يراه المشاهد من الأواني والأدوات المنزلية حيث يسرح الطرف في طائفة كبيرة من الصحاف والأطباق، والملاعق والشوكات والفناجين والأكواب والأسرة والمخادع والوسائد، وكلها محلاة بصور الطيارات ومشاهير الطيارين، كل ذلك لتدخل ثقافة الطيران في المنازل والقهوات والدواوين؛ وليصبح الناس ويمسون وعيونهم شاخصة وقلوبهم عالقة بذلك الفن المذكَّر الفحل فن الطيران.

وهناك خاطر أعلنه المسيو أجالير العضو في أكاديمية جونكور وهو إدخال رسوم الطيران في الأقمشة الصوفية والقطنية والحريرية بدلًا من الرسوم الطبيعية التي تمثل الأزهار والأشجار والأطيار وشواطئ الأنهار والبحار، بحيث تصبح ملابس السيدات وفساتينهن ومعاطفهن وهي تموج بالخطوط الجوية ومناظر السباق في الهواء. وبذلك تبيد بدعة زهر الرمان مرسومًا على صدور الملاح، وتذهب علامة الاستفهام مرسومة تارة على عصابة الرأس وتارة معقوصة في جدائل الشعر البراق، وتصبح الزينة نهبًا مقسمًا بين صور الطيارات وصور الطيارين. والغرض من هذا واضح وهو أن تصبح نفوس العشاق وقلوبهم وعيونهم محبوسة بين ذكريات عالم الهواء. وللقارئ أن يدرك أثر ذلك كله، وهو رياضة العقل والذوق والحس على عبادة الطيران.

•••

أما الجزء الخاص بالبريد الجوي فهو عبارة عن مجموعات كثيرة مختلفة من الرسائل الجوية تمثل جميع الأقطار التي مرت بها طيارات البريد. وقد حرصت على معرفة نصيب مصر من ذلك الجزء. وكنت استصحبت صديقي محمود أفندي الخضيري فقضينا نحو أربعين دقيقة نبحث عن رسالة مصرية بين ألوف الرسائل المعلقة هناك، وأخيرًا عثرنا على ثلاث رسائل مرت بمصر في خط الهند ورسالة من القاهرة إلى الخرطوم في الطيران الخاص مرسلة منها رسالة من (أبو صير). وثلاث رسائل مرسلة من الإسكندرية إلى باريس وكلها مرسلة إلى يونان لا مصريين، فوددت لو عرفت كيف نظم المعرض لأقدم إليه رسالة جوية وصلتني من صاحب البلاغ. وقد حداني حب اللغة العربية على تعقب الرسائل الجوية التي كتبت بحروفنا الجميلة فوجدت نماذج يحسن إثباتها هنا لما لها من الدلالة على نحو خاص من كتابة العناوين، وأكثرها رسائل سورية من (رياق) كتب العنوان فيها هكذا:

«لحضرة الخواجه إلياس حجار دام بقاه»

ورسالة من (دير الزور) كتب عنوانها هكذا:

«يحظى بمطالعة الشاب الأديب توفيق الشوتاني الأكرم»

ورسالة من اللاذقية كتب عنوانها هكذا:

«سعادة الشيخ الجليل مولاي الأمير المعظم بدر الضحى السلام عليه»

وهناك رسائل عربية كتبت بخطوط مغربية لم أستطع تمييز ما فيها لبعد خطها عن خطوط الشرق، وقد حدثنا ابن خلدون أن خطوط أهل المغرب انحرفت عن الصواب لاتصالهم بالبربر. وهناك رسالة واحدة تركية كتب عنوانها بخطوط عربية.

•••

إلى هنا عرف القارئ اهتمام أهل الغرب بالطيران فلأضف إلى ذلك أنهم لا يزالون يعترفون بأن الطيران لا يزال في قوة الطفل، ولكنهم يبتهجون بالفروق العظيمة بين البداية التي قام بها (آدر) في أواخر القرن التاسع عشر حين كانت طيارته لا ترتفع عن الأرض أكثر من بضع بوصات وبين ما وصل إليه كوست وبللونت من اجتياز الأطلانطيق، وهم يتمنون أن ينقضي العهد الذي يرغم فيه المسافرون بالطيارة على سد آذانهم بالقطن فرارًا من وعورة أصوات المحركات، ولكنهم يعودون فيقولون في ابتسام:

إن أصوات المحركات أفضل ما تُقتل به وحشة السكون في فضاء الأجواء!

وقد سألني الخضيري أفندي حين خرجنا من المعرض: ماذا يقدم الفنانون المصريون لو طلب إليهم أن يقيموا معرضًا لفن الطيران؟ وللقارئ أن يجيب إن كان يحضره جواب. ولكننا سنصل بعون الله وعزيمة الأمة إلى مساماة من سبقونا إلى التحكم في ممالك الهواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤