الفصل الثامن والثلاثون

نزهة في طيارة

٥ ديسمبر سنة ١٩٣٠

وأخيرًا طرت مع الطائرين!

في هذه الأيام افتتح معرض الطيران في القصر الكبير بالشانزليزية، وكان لا بد أن أزور ذلك المعرض لأرى الفرق بينه وبين المعرض السابق الذي شهدته سنة ١٩٢٨ ولأعرف إلى أي مدى تقدمت المعدات لامتلاك ناصية الهواء. ولكني رأيت من القصور أن تظل صلتي بالطيران صلة ضعيفة لا تعدو مشاهدة الطيارات وهي جاثمة في الجراج، وكذلك صممت على أن أطير أولًا قبل أن أزور معرض الطيران، وتوجهت مسرعًا إلى مطار بورجيه، عليه تحية وسلام.

ولا أدري كيف بدا لي أن أخبر بعض أصدقائي من أساتذة السوربون عما اعتزمته من تلك النزهة الجوية، فقد قال قائلهم في لطف: هل كتبت وصيتك؟ وكان سؤالًا لا بد منه في عهد لا يزال فيه الطيران طفلًا في المهد ولا يزال يتأثر بالجو، ويعيش في تقية من الأمطار والرياح فضلًا عن الزوابع والأعاصير. من أجل هذا تخيرت يومًا مُشمسًا ضاحيًا لا سحاب فيه ولا ضباب، وكان أمس الخميس ٤ ديسمبر من الأيام الساجية الضاحكة في أرض قلما يبدو فيها يوم سجسج مقبول.

إن الفرنسين يسمون المطار port وهو كذلك يشبه الميناء. وشعور القادم على مطار بورجيه يشابه شعوره حين يقدم على ميناء مرسيليا أو إسكندرية أو بور سعيد، وليس بين المطار وبين الميناء من فرق إلا أن المطار يواجهك في هدوء وسكون، ولا كذلك الميناء حيث تصطدم بصفير البواخر وأصوات الملاحين. ومطار بورجيه مطار فسيح جدًّا يمتد إلى أبعد ما تسرح العيون، وفيه جراجات عديدة تأوي إليها الطيارات. وكان يوم أمس موعدًا لقدوم بعض الطيارات من لوندرا. فقدمتْ بلا لَجَب ولا ضوضاء، ونزل راكبوها إلى المقصف في وداعة وهدوء، كأنما قدموا من باريس.
إن الطيارة التي ركبناها طيارة صغيرة تسمى Ajub ليس فيها مقاعد لأكثر من عشرة أشخاص، ولم يفُتني أن أقول حين ركبت «بسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم» ومرّ بالبال كل ما جرى لسيدنا نوح عليه السلام، وأنا رجل كثير الذنوب كنت أخشى أن يكون حان حين التكفير، ولكني نجوت فاعتقدت بحق أن الله غفور رحيم!

كانت لحظة رهيبة حين أغلق الباب وحين أيقنت أننا صِرْنَا أن تطول لِنَظَلَّ في رحاب الأرض التي منها خلقنا وإليها نعود؛ ثم أزَّت الطيارة أزيزًا شديدًا كاد يصم الأسماع فعرفنا أنها أخذت تشق الهواء.

لا تسل كيف كان شعوري حين حلقت بنا الطيارة، فقد كانت دهشتي عظيمة جدًّا حين لاحظت أن الطيارة أرفق بركابها من السيارة فوق الأرض ومن الباخرة فوق الماء، فسير الطيارة سير لين رفيق لا عنف فيه ولا اضطراب، وأكاد أقول إنها أرق وألين من المطايا الذلول التي تجوب البيداء. فما هو هذا الإنسان وكيف عقله وكيف خياله؟ إنه لمخلوق عجيب!

لقد شعرت بالعزة الإنسانية حين توغلنا في آفاق السماء. وكنت من بين الراكبين كثير التلفت من النوافذ إلى ما تمر به من المنازل والقصور والميادين والحدائق والبساتين، فراعني أن شعوري بجمال الطبيعة كان أعمق ما مر بي في حياتي. وأيقنت أن الطير أكثر نعيمًا منا، وأدق إحساسًا، وأعمق شعورًا، وأبصر بمواقع الحسن، وأعرف بمواطن الجمال. وكيف لا وأنت على الأرض لا تدرك من الطبيعة إلا بعض الجوانب، حتى إذا أشرفت عليها من فوق رأيتها كاملة في زخارفها وتهاويلها ونقوشها وصورها وجميع ما تتحلى به من الحسن المجلوب، والجمال الموهوب. وإن نظرة إلى بعض مناظر باريس التي أخذت من الطيارة لتريك الفرق البعيد بين المنظرين: منظر يؤخذ من مصور يقف على الأرض، ومنظر يؤخذ من مصور يطل من ناحية السماء.

ركبنا الطيارة قبيل الغروب فتمتعنا بمشاهدة ما أشرفنا عليه من بدائع الأرض دقائق معدودات، ثم غربت الشمس وأسلمتنا إلى الظلمات، وبقي القمر يساهرنا ونساهره فيما بقي من نزهتنا القصيرة. والقمر في هذه البلاد قليل السلطان، يبدو في غمرة من النحول والشحوب؛ لأنه لا يصل إلى الغرب إلا بعد أن يضنيه المسير، كما أفترض أن يقول الشعراء، وعدنا نتلفت إلى الأرض فيروعنا ما في الشوارع من المصابيح، وكان لذلك روعة في نفوسنا لا تقل عما يشعر به المتطلع إلى نجوم السماء.

•••

لقد أفهمتني هذه النزهة معنى قولهم «ساعة سعيدة»، فقد كانت لحظاتي فيها من أسعد اللحظات.

ولكن خاطرًا واحدًا أزعجني وأثار قلبي من هدوئه وألقى بنفسي في لجة من القلق والاضطراب. فقد تذكرت أن هذه المحدثات العجيبة بأيدي أهل الغرب ومن صنع أهل الغرب. وأهل الغرب لئام تطغيهم القدرة، وتعميهم النعمة، ولن تكون هذه المبتدعات في أيديهم إلا وسائل إفناء وإهلاك وتخريب وتدمير. وتذكرت الطيارة التي ألقت قذائفها فوق مدينة القاهرة أيام الحرب، والتي قال فيها حافظ إبراهيم خمسة أبيات. وقد قيل يومئذ إنها طيارة ألمانية. ولا أعرف لأي سبب افترضتُ إذ ذاك أنها طيارة إنجليزية أرادت أن تفهمنا أننا في خطر، وأنه لا بد لنا من حماية الحلفاء، ذلك كان افتراضي وقد أكون من الواهمين!

أهل الغرب لا يوفون إن عاهدوا، ولا يصدقون إن وعدوا، ولا يبرون إن أقسموا، وإنهم لمغرمون بنقض العهود، وتمزيق المواثيق. ولست في هذا المقام بحاجة إلى تذكير قرائي بالسبعين وعدًا التي ظفرنا بها من ساسة الإنجليز، فقد يقال: إنهم سيصدقون وإنهم عما قليل ليصبحُن راحلين، ولكني أذكر من شاء أن يتذكر ممن خالطوا الأجانب في زراعة أو تجارة أو صناعة، أو شاركوهم في جد أو في هزل، أو عرفوهم في صداقة أو في خصومة، إني أذكر من خبروا الأجانب بعض خبرتي لهم، علّهم يتذكرون جميعًا أن كل من يمت إلى أهل الغرب بصلة قريبة أو بعيدة إنما هو إنسان خادع، ماكر، خبيث، لا عهد له ولا أمان!

وقد شاع اعتقاد أن مطامع الأجانب لا تتمثل إلا في حكوماتهم، أما الأفراد فهم ملائكة أطهار! وهذا كلام لطيف يصح أن يقال ويعاد في القهوات، حيث يتكلم الفارغون عن كل شيء، ويخوضون في كل حديث! والواقع غير ذلك، الواقع أن الأجانب نفعيون، وأنهم لا يتقدمون ولا يتأخرون إلا وفي أنفسهم غرض دفين.

فهل من الإثم في شيء أن أروض قومي على أن يفهموا أن لهذا العصر أخلاقًا وآدابًا تغاير ما عرفوا من أخلاق وآداب، وأنه لا بد لمن يريد أن يعايش أهل هذا الزمان أن يكون في مثل لؤمهم وبغيهم، وأن يكون له ما لهم من قوة البر والبحر والهواء.

إنني لأكتب هذا بعد ما عرفت عن قرب أن هذه السنوات العشر، سنوات السلام، لم تكن إلا ضرورة قضت بها الظروف، فإن الدول هنا يتقى بعضها شر بعض، ولولا تعادل القوى وتكافؤ المعدات الحربية لكانت هذه السنوات أيام لَأْواء.

كانت ساعة سعيدة لولا هذا الخاطر المزعج، ولكن من يدري لعل هذا الخاطر كان أنفس ما مر في تلك الساعة، فقد آن أن نشب عن الطوق وأن نعبر عن إحساساتنا بغير عبارة الأطفال إذ يقولون حين يبتهجون: يا سلام! يا سلام!

عادت الطيارة إلى بورجيه، ورأيت أن أرى ما هنالك من مختلف الطيارات والمحركات، وصحبني صديق فرنسي من أعضاء اتحاد الطيران، ولسان حاله يقول: «تفرج وشوف، فهذا فنار في قوة عشرين ألف شمعة؛ وهذه طيارة تاكسي. وهذا دليل الجو، وهذا مرشد الطيار الحائر في الضباب، إلى آخر ما رأيت من تلك الأعاجيب.

ثم رأيت أنني أمسيت، فأخذت سيارة إلى باريس، وأنا أردد قول شوقي

أرى طوفان هذا الغرب يطغى
وأهل الشرق سادته نيام
فإن لم يأتنا نوح بفُلك
على الإسلام والشرق السلامُ

غمز لا يجدي

كان على يميني في إحدى المحاضرات الليلية، سيدة وكان بيدها، شهد الله، قلم وقرطاس، لتدوين ما يقول المحاضر، ولكنها بعد لحظات استسلمت لمغازلة النوم ثم أخذت تغط غطيطًا منكرًا وصل صداه إلى المحاضر حتى خفت أن يأخذه التهويم. ومن وقت إلى وقت كانت تستيقظ على دوي التصفيق فتسرع إلى القلم وتشرع في تسويد القرطاس، ثم تعود إلى النوم والغطيط.

وقد أزعجني شخير تلك المرأة وفكرت غير مرة في غمزها لتصحو، ولكنها كانت عجوزًا فانية. ولا فائدة من (غمز) العجائز الفانيات!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤