الفصل التاسع والثلاثون

يوميات عيد الحرية في باريس

كيف تُدعى الأمم إلى الجهاد — المراقص العمومية — أساس الأخلاق — جنود الجزائر — حفلة الألعاب النارية على شواطئ السين — الأمل في خلاص وادى النيل.

١٢ يوليه سنة ١٩٣٠

لقد شهدت مقدمات عيد الحرية، ففي كل شارع وفي كل ميدان وفي كل مورد من موارد اللهو والقصف تُقام شعائر الفرح وبشائر الابتهاج، وقد أعدت المراقص العمومية في الشوارع وفي الميادين، وأخذ الناس يرقصون، ولكن لم أشهد في المراقص غير الأطفال، فكلما صدحت موسيقى الرقص انطلق الصغار كأسراب القطا يرقصون رقصًا ينقصه الفن، ولكنه في سذاجته جميل جذاب. ولعلهم كانوا يعجبون كيف خلا الميدان من المنافسين الأشداء الذين يعرفون كيف تكون المخاصرة، وكيف يضم الصدر إلى الصدر والساق إلى الساق، ومثلهم في ذلك مثل الأطفال في مصر تقام أمامهم الأعلام والأقواس في الموالد العمومية، فيذهبون فرحين مستبشرين ثم يرون المولد خِلوًا مقفرًا إلا من وثباتهم المرحة وجذلهم الفياض، ولو فهموا لعرفوا أن الكبار يشغلهم المولد بأشياء أخرى، فهذا تاجر ينظم عرائس الحلوى، وذلك مهرج يعد الألعاب والصواريخ، وهذا شيخ يفكر في استقبال مريديه وزائريه، وتلك سيدة «تبين زين وتدق الودع» وتكون الخلاصة أن الموالد فرصة تجارية عند الكبار، والصغار لا يفهمون ذلك، فهم يعجبون كيف يلعبون وحدهم من دون الناس!

وقد رأيت أن اختبر شعور الباريسيين نحو ١٤ يوليه فعجبت إذ رأيت كثيرًا منهم لا يأبهون له، ولا يحفلون بقدومه فتذكرت الحكمة العربية التي تقول: «الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يبصره إلا المرضى»، وكذلك يمكن أن نقول: «الحرية تاج على رءوس الأحرار لا يبصره إلا المستعبدون» فنحن الشرقيين الذين كتب علينا أن نعاني أهوال الظلم والاستبداد ننظر إلى عيد ١٤ يوليه نظرًا يختلف أشد الاختلاف عن نظر الفرنسيين الذين طال عهدهم بالحرية، وألفوا استعباد الشعوب.

قال قائل منهم: ما الفرق بين ١٤ يوليه و١٤ يونيه؟ إنهما سواء! وكتب أحد الصحفيين يقول: لقد أحسن محافظ المدينة في إعلان إباحة الرقص العام ثلاثة أيام؛ فإننا سنرقص وسنرقص لننسى في ساحات الرقص أثقال الضرائب!

أما أنا فقد أعطتني هذه الشواهد فرصة للتفكير. وقد وصلت إلى أن معاني الوطنية والقومية تحتاج إلى وفود، فالشعب الذي يعاني أزمة اقتصادية أو اجتماعية غير مستعد للتصفيق والهتاف لحادث تاريخي مرت عليه أجيال، فمن شاء أن يحرك الشعب فليرفع عنه عبئًا ضاقت بحمله كواهله، وليفتح أمامه بابًا من أبواب الرجاء، والرجل الذي لا يجد ما يشبع أمعاءه لا يهتز لما يغذي عواطفه. وأذكر بهذه المناسبة أن أحد الأساتذة قال لي مرة: لقد كان غذاء الجنود في الحرب الأخيرة أجمل غذاء شهده الشعب الفرنسي، فكان الجندي يجد من أنواع الشراب والطعام وأسباب اللهو والمجون ما يحبب إليه البقاء في الميدان.

وكذلك كان الإنسان كتلة من الأعصاب والحواس قبل أن يكون صاحب رأي أو مذهب أو عاطفة أو إحساس. ولست في هذا ممن يقدمون الغرائز الحيوانية على المعاني الإنسانية. ولكني أحاول كشف الحقائق في صورها الواقعة؛ ليعلم من لا يعلم أن الوطنية الباقية هي التي تبنى على أساس المنافع والمصالح المادية. فالشعب الذي تدعوه إلى الدفاع عن الحرية لأنها فقط معنى نبيل لا يصبر طويلًا على الجلاد والكفاح في تأييد المعاني الصرفة، أما الشعب الذي تفهمه وتصل إلى إقناعه بأن الحرية غرض مادي صرف، وأنه ينبغي أن يكون سيد نفسه وأن يفتح أمامه أبواب الرزق والغنى، فإنه يستبسل ويستميت لأنه يسعى إلى عمل محسوس ملموس. فمن كان في ريب من ذلك فليذكر كيف ساد المسلمون يوم كانوا يسعون لفتح ممالك الأرض وجني ما فيها من الخيرات والثمرات، فلما شغلوا بالتصوف ورياضة النفس على الزهد خملوا وضعفوا وضُربت عليهم الذلة والمسكنة، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!

في ١٣ يوليه

ابتداء من الساعة الثانية بعد ظهر اليوم تغير الحال في باريس ونشط الجمهور للتمتع بعيد الحرية، وكانت موسيقى الرقص تصدح في كل مكان، وهي موسيقا لها جاذبية خاصة يرقص الناس عند سماعها من حيث لا يشعرون. فلما جاءت الساعة السادسة انصرف الناس إلى منازلهم يطلبون العشاء، وكنت على موعد من صديق فرنسي، فتعشينا معًا وحضرنا رواية هزلية تمثل خيانة الأزواج، وخرجنا قبل منتصف الليل نشهد المراقص العمومية.

فإن كان القارئ المصري لا يعرف ما هي المراقص العمومية التي تسمح بها الحكومات الأوربية في أعيادها القومية فلنذكر له أنها مراقص تقام في الشوارع والميادين، ولها حُرمة كبيرة لا تقل عن حرمة الصلاة عند المؤمنين. فإذا صدحت الموسيقا وتخاصر الراقصون كان حتما على مركبات الترام والأوتوبيس والسيارات أن تقف في خشوع حتى يتم الدور، فإذا تم تحركت خطوط المواصلات لحظة قصيرة، ثم يستأنف الرقص فيخشع كل ما في الوجود. ومن مزايا المراقص العمومية أنه لا يشترط تعارف سابق لمن تُراقصها من الفتيات، فلك أن تهجم متى شئت لتخاصر من تشاء من ناعسات الجفون. ولا عيب في هذه المراقص إلا أن الرجال أحيانًا يكونون أقل عددًا من النساء فترى مع الأسف الشديد فتاتين تتراقصان، مع أن الرقص كالحب يحتاج إلى رجال وحبال! وهذا يذكر بما نراه في بعض مراقص القاهرة حين يكون النساء أقل عددًا من الرجال فنشهد رجلين يتراقصان، والجمع بين النظيرين جميل إلا في هذه الأحوال!

طفنا كثيرًا حول المراقص وكان أبدع مرقص شهدته في ميدان السوربون. كان الراقصون والراقصات يعدون بالمئات، وكانوا يرقصون في زحام شديد جدًّا تنقل فيه الخطوات ببطء شديد. كان هذا يجري أمام الجامعة حيث كان تمثال أوجست كونت محور المرقص. ولا موجب للتفكير فيما يمر بذكرى ذلك الفيلسوف العظيم، فهو أيضًا بلا جدال قد أغرق شبابه في لجة الفتون، فمن العدل أن يغضي الطرف في عالم الأبدية عن ألعاب الجيل الجديد.

أتريدون الحق أيها القراء؟ أنا والله في حيرة مما أشهد في أعياد باريس، هذا الرقص العام هادم لصروح الأخلاق، ولكن الناس هنا لا يلتفتون إلى ذلك. أفتكون الأخلاق أمورًا نسبية؟ أو تكون كالنباتات لها أقاليم ولها أجواء؛ فبعض الأخلاق ينمو في مصر، وبعضها ينمو في الشام، وبعضها يتحول لونه وطعمه إذا نقل من أرض إلى أرض؟

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ

في ١٤ يوليه

ماذا رأيت في يومي هذا؟ ستمر الأعوام ولا أنسى.

لقد شهدت استعراض الجيش، ورأيت رئيس الجمهورية الفرنسية وبجانبه سلطان مراكش، وباي تونس، وشقيق إمبراطور اليابان، فرأيت كيف تكون عظمة الأمم التي قدر لها أن تملك وتسيطر وتسود.

وكان من أهم المناظر التي طرب لها أهل باريس استعراض فرق الجزائر التي قدمت في لباسها العسكري القديم الذي كان معروفًا منذ مائة عام حين فتح الجزائر بمناسبة العيد المئوي لذلك الفتح المشئوم.

مرت تلك الفرقة الجزائرية بين الهتاف والتصفيق!

أما أنا فدارت بي الأرض، وأظلم في وجهي الفضاء وغلبني الدمع.

ويلاه! هؤلاء بنو العم والخال، كانوا أقطاب الأرض وشياطين الصحراء، ملكتهم هذه الدولة العاتية فمزقت شملهم، وفرقت جمعهم، وأذاقهم حلاوة الترف واللين فعادوا نبتًا يؤكل بعد أن كان فتاهم يقول:

وكم عاجم عودي تكسّر نابهُ
إذا لان عيدان اللئام وخاروا

ومن أعجب العجب أن القواد الجزائريين كانوا يردون تحية الجماهير كأنما يحسبونها تحية إعزاز، وكانوا كلما لوّحوا بإشارة الرضا ازددت حسرة إلى حسرة ودمدمت:

يُقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

كان أولئك الجنود يخطرون بخيولهم على شاطئ السين وهم صاغرون، فأذكر أجدادهم الذين فتحوا أوربا وأذلوها في القرون الوسطى أشنع إذلال، وكادت فرنسا يوم ذاك تصعق تحت سنابك خيلهم لو أمهلتهم المقادير. كانت خطواتهم يومئذ خطوات عزة وكبرياء، واستطاع شاعرهم أن يقول:

سكنوا بأرض الزعفران وغادروا
أرضًا تربّ الشيح والقيصوما

في الساعة الثالثة من صباح ١٥ يوليه

لقد نجوت بحمد الله من شر هذه الليلة فعدت سليم الجيب والعرض، ولم أزعج الكرام الكاتبين بكثير من الذنوب.

كانت الألعاب النارية على شواطئ السين تجمع إلى جمالها أكثر سكان باريس وكان فرح الجمهور فوق كل تقدير. وكان للحب وللشيطان نصيب عظيم. استغرقت الألعاب النارية أربعين دقيقة مرت كأنها ثانية واحدة، ولم يحشر الله جيوش الحسن والجمال والملاحة والرشاقة في أي بقعة كما حشرها في هذه البقاع السعيدة، شواطئ السين.

وقد قضيت نحو ساعة في اختراق المسافة من القنطرة الجديدة إلى قصر المدينة، وهي تقضى عادة في خمس دقائق، ولكن ازدحام الناس والسيارات أطال الطريق.

قضيت أربع ساعات هائمًا بين اللاهين واللاهيات واللاعبين واللاعبات في ميادين باريس. ثم عدت إلى المنزل وحدي في ليلة لا يبيت فيها وحده إلا كل صبور، والنفس قد تطغى فتكون على صاحبها أشد خطرًا من حكام الباستيل. وقديمًا كان النبي يقول: عند الرجوع من الحرب «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس، أفأستطيع أن أهنئ نفسي بهذا النصر المبين؟ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

أما بعد فهذه هي المرة الرابعة التي أشهد فيها عيد الحرية في باريس، فهل يقدر لي أن أشهد عيد الحرية الكاملة على ضفاف النيل! لن يبعد هذا الأمل وفي مصر رجال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤