الفصل الخامس والأربعون

أرواح الذكريات؟!

٥ أكتوبر سنة ١٩٣٠

صديقي …

أنت تحيا حياة طيبة في دنيا فاتنة مملوءة بالرغد والرفاهية وطيب العيش، ولك من شبابك ومالك وجاهك ما كان لعمر بن أبي ربيعة، طيب الله ثراه، ومنحه في أخراه ما منحه في دنياه! لذلك يقل اهتمامك بالذكريات، والتطلع إلى ما فات. أما أنا فرجل مكدود لا يتاح لي طيب العيش إلا بمقدار، لذلك تراني أُبدئ وأُعيد ما لقيت من الطيبات في اللحظات الخالية، ولا أقول في الأيام الخالية، لأني لا أذكر يومًا طاب لي كله، ولا أذكر أني عرفت كيف يكون الصَّبوح والغَبوق في يوم واحد أو ليلة واحدة. ولعل هذا هو السر في أني أعرض أحيانًا لبعض الجوانب الحسية من متع الحياة فأصفها بشره وافتراس، كما يسطو المحروم على لقمة سائغة فيلتهمها مرة واحدة كأنها آخر ما سيلقى من طيبات دنياه!

فلا تعجب إذن يا صديقي إن رأيتني أعود إلى ما صفا من أيامي فأتذكر ما وقع فيها من الغفلات الحلوة العذبة التي يمر طيفها بالقلب فيبدد ما فيه من سحب الهم والاكتئاب. وعساك تذكر تلك الأيام العصيبة أيام الدراسة، حين كنت توصيني بأن أضع في كل ركن من أركان غرفتي خريطة وافية لأجزاء العالم القديم والجديد؛ حتى تنطبع في ذهني صور العالم بجباله وأنهاره وبلدانه، وحتى لا يجد أستاذنا إسماعيل رأفت بك، يرحمه الله، مقتلًا يأخذني منه إذا جلست أمامه أؤدي الامتحان في الجغرافيا ووصف الشعوب. أنت تذكر ذلك، فيما أظن، فاذكر بجانبه إن شئت أنني عُنيت بعد ذلك بطائفة أخرى من الخرائط، علقت كل خريطة منها في زاوية من زوايا القلب.

وهنا تستطيع أن تفهم معنى قولهم: كم في الزوايا من خبايا. وهذه الخرائط متعددة الأشكال والألوان، ففي كل خريطة نقط عديدة منها السوداء والبيضاء والحمراء، وفيها نقط خفية لا أدري ما لونها لأنها تمثل بعض جوانب من النفس يغلب عليها الشك والارتياب. وهذه المجموعة من الخرائط فيها دائي وفيها شفائي، وإليها المرجع كلما جن الليل وأطفأت المصباح ونظرت من النافذة أتأمل من خلف ستار ما يصنع جيراني، فهذا شاب يقضي سهرته وحيدًا في غرفته، ولكنه ليس بوحيد لأنه مشغول بتمرينات مهمة في ضرب العود حتى لألمح العرق يتصبب من جبينه، وهذه فتاة تغازل صورتها في المرآة، وهذان قرينان يتناولان القهوة ويسمران بعد العشاء.

أما أنا فوحيد وحدة كاملة لا رفيق لها ولا أنيس، أقرأ ما أقرأ حتى تصرخ جفوني من الألم؛ وأعود إلى مذكراتي أرتبها في رفق، ولكن ذلك كله لا يمنع من أن أنظر الساعة فأجدها لم تتخط العاشرة، وأنا لا أصافح النوم إلا بعد نصف الليل، فماذا أصنع إذن؟ لا شيء إلا أن أعود إلى تلك الخرائط التي علقتها في قلبي فأراجعها واحدة واحدة في غبطة وارتياح لا يعدلهما شيء من طيبات الحياة. وهذه المراجعة لذيذة جدًّا، لأنها ليست من تلك المراجعات المملة المضجرة التي يُضطر إليها المتقدمون إلى الامتحانات العمومية من طلبة المدارس والمعاهد والجامعات، هي مراجعة لطيفة لخرائط وجدانية، يتراءى في بعضها الشيخ زكي مبارك بعمامته البيضاء، وفي بعضها الآخر يتراءى زكي أفندي مبارك بطربوشه الأحمر، وفي جوانب أخرى يتراءى المسيو زكي مبارك في قبعته الرمادية. ومن العجيب أن هؤلاء الأشخاص الذين يختلفون في ملابسهم وأزيائهم يلتقون عند نقطة واحدة هي الحظ العاثر والفؤاد الخفاق.

إن الذي رزقك رغد الحقائق هو الذي رزقني لذائذ الخيالات والأحلام، فلا تحسب أنك أسعد مني حين تمتطي سيارتك وتصاحب شيطانك من ميدان إلى ميدان، فإن لي من أحلامي سعادة باقية دائمة تتجدد نضارتها كلما نفضت تلك الخرائط بين يدي لأذكر متى نعمت ومتى شقيت، متى فرحت ومتى حزنت، ومتى طربت ومتى جزعت، أما أنت ففي دنيا صاخبة تحسبها شيئًا وليست بشيء؛ وليست لك قدرة مع الأسف على تذوق الذكريات لأن النعيم طغى بك، وأنساك ما في الماضي من متع كانت جديرة بالحياة لو وقعت لرجل حساس من الذين رزقوا قوة الخيال وعرفوا كيف يكون استحضار الأرواح، أرواح ما دفنا على الزمن من ذكريات الحب والوجد والوفاء. أفتحسب يا صديقي أن ابن زيدون كان يخادع نفسه حين قال:

يدني خيالك حين شط به النوى
وهم أكاد به أقبل فاكِ

هيهات، هيهات! إن ابن زيدون لم يخدع نفسه بذلك. فالواقع أن نعمة الخيال من أعظم النعم التي منَّ الله بها على عباده الشعراء. إن أحلام اليقظة أوفى وأمتع من أحلام النوم؛ لأن اليقظان أملك لنفسه، وأعرف بخواطره، وأقدر على تمييز ما يتراءى له من أشباح النعيم، وأنت لا تنكر أن الأحلام حياة ثانية ننعم بها وادعين ولكل دور من أدوار الحياة أحلام خاصة به، فالطفل حين يحلم يفتح فاه ويطبقه في رفق وحنان، لأنه يحلم بثدي أمه الرءوم، وأمه في ذلك الحين هي كل شيء في دنياه، وذلك الثدي المعسول هو كل ما يملك ذلك الوليد الغرير. أما نحن فأحلامنا معقدة أشد التعقد؛ ونكاد نزعج في النوم؛ لأن أعباءنا ثقيلة، ولا تربنا الأحلام غير صور مرعبة مخيفة من صور التكاليف والفروض. وبهذه المناسبة أخبرك أن أحلامي المزعجة في باريس ترجع في صورها المختلفة إلى أصل واحد، هو الذهاب لإعطاء درس أو إلغاء محاضرة بعد مضي ربع ساعة من الوقت المحدد. ويرجع هذا الفزع فيما أظن إلى أنني كنت دائمًا أحرص الناس على التبكير، حتى لأذكر أنني كنت أصل دائمًا قبل الميعاد بنصف ساعة، وهذه الوسوسة في المواظبة تجلب لي الآن أحلامًا مزعجة لا يذهب شرها عني إلا إن قمت فأوقدت المصباح وقلت بصوت مسموع: أنا في باريس! أنا في باريس! فلينتظر تلامذتي ما شاءوا في القاهرة، فإنني لست هنالك، ولست عن انتظارهم بمسئول!

الأحلام لا تجمل إلا في الطفولة، من أجل ذلك كنت أقول لك حين تأوي إلى مضجعك: نم هنيئًا، واحلم أحلام الأطفال!

أما قوة الخيال وجبروته في استحضار أرواح الذكريات فنعمة عجيبة أنعم الله بها كاملة على أخيك، فأنا أرد كل غائب، وأبعث كل ميت من ذكريات الماضي، وأتمثل كل شيء حين أشاء، وأنت الآن أمامي بحوادثك اليومية، وأكاد أراك تنتقل من قهوة إلى قهوة، ومن مرقص إلى مرقص، ومن ملعب إلى ملعب، في حيرتك الدائمة تبحث عما لا تجد، وتجد ما لا تريد، وأكاد أرى صديقنا (أ) يخرج من الفصل فيقال له: كيف حال الطلبة؟ فيجيب: «جهتم داهية دا شيء يطلع الروح»! أو صديقنا (ح) ذلك الأديب الألوف المولع بتتبع سقطات الشعراء والكتاب من بين الناس، لا أزال أراه مهمومًا محزونا يبحث وينقب عساه يظفر بخبر طريف يطالع به إخوانه إذا تلاقوا في المساء في ملهى من ملاهي الجزيرة، أو التقوا مصادفة في الطريق، وهذا النوع من تلمس هفوات الأدباء شر لا بد منه، أو هو شر جميل عاش بفضله كتاب الأغاني على مر الأجيال.

الأحلام هي التي جعلت المتنبي يظفر بأنس من لا سبيل إليه حتى استطاع أن يقول في نشوة الظافر الطروب.

بتنا يناولنا المدام بكفه
من ليس يخطر أن نراه بباله

وقوة الخيال في بعث الذكريات هي التي جعلت أحد الشعراء يتغنى ويقول:

ترينيك عين الوهم حتى كأنني
أناجيك من قرب وإن لم تكن قربي

وهي كذلك التي تحييني حياة صادقة كلما تمثلت ما طاب من غفلات الماضي، أو تمثلت ما سيطيب من غفلات المستقبل القريب والبعيد، وثمراتها أشهى وأطيب وأمتع من ثمرات الأماني الشاردة التي أقنعت جحدرًا في سجنه، وحملته على الاطمئنان إلى الرضا بأن محبوبته تشاركه في رؤية الليل والنهار والهلال، إذ يقول:

أليس الليل يجمع أم عمرو
وإيانا فذاك لنا تدانِ
نعم وأرى الهلال كما تراهُ
ويعلوها النهار كما علاني

ونحن بالأحلام والخيال نحيا حياة طويلة مملوءة بالأنس والرغد ولنا من ذكرياتنا الحلوة ما ندفع به مرارة الساعة الحاضرة، ولنا من الأمل في طيبات المستقبل ما نقتل به جيش التشاؤم المضجر الذي ينتابنا في ساعات السأم والملال.

إلى هنا تحسبني يا صديقي أثِرًا لا أحب إلا نفسي فالذكريات كما ترى حياة وبعث للأيام السوالف والليالي الخوالي، وهي كذلك وقود من اللذات أقدمه لتلك النفس القلقة الحيرى المولهة، التي لا تهدأ، ولا تقف عند حد من حدود المطامع، أو رسم من رسوم الأهواء، وهي فوق ذلك كله غذاء شهي لنزوات القلب، ونزغات النفس، ووثبات العقل، وهفوات القلب.

ولكن رويدك، فأخوك أطيب من ذلك نفسًا، وأعف ضميرًا، وأكرم قلبًا. إن لي من تلك الذكريات أنصبة روحية صِرفة لا يشوبها طيش ولا نزق ولا جموح، وفي تلك الذكريات جوانب طيبة لم أرد بها غير وجه الله، ولم أبتغ منها غير جمال الصدق وعذوبة الوفاء.

إنني ما رجعت إلى تلك الخرائط الوجدانية إلا تمثلتُ فيها صورًا ورسومًا وأشباحًا لصداقات قديمة، وعلاقات ماضية أراد الزمن أو شاءت تقلبات الناس أن تضاف إلى غيابات التاريخ، فأولئك قوم كانوا في صداقتهم كرامًا بررة، ولكن الموت قضى عليهم، وهؤلاء قوم لا يزالون أحياء، ولكنهم كذبوا بعد صدق وخانوا بعد وفاء. فماذا تراني أصنع في ذكريات أولئك وهؤلاء؟

أما الذين قضى عليهم الموت فلي في ذكرياتهم شئون غريبة تستثير الدمع، وأعزهم عليّ المنسيون منهم الذين ما عادوا يمرون بخاطر أو يجرون على لسان. فذلك الطفل (عبد الحسيب) الذي اختطفه الموت بعد عام من حياته لا يزال يتمثل إلى قلبي وروحي في عقله ورزانته، وتلك الطفلة (سُكينة) التي سميناها بهذا الاسم لصباحة وجهها راجين أن تذكر بسميتها الجميلة الحسناء سُكينة بنت الحسين، سكينة هذه لا تزال تطفر أمامي وتثب على سريرها الصغير، ولا أزال أتمثل كيف كانت تعالج سكرات الموت في نبرات حلوة عذبة حسبتها لغفلتي تغريدات طائر لا تأوهات عليل. وأخي سيد؟ ويلاه! ماذا أقول؟ لقد شهدت أيام مرضه وحضرت لحظاته الأخيرة ورأيت كيف قام فزعًا فقبل يدي ليغمض بعد ذلك عينيه أبد الدهر، وقاسيت أهول منظر شهدته في حياتي حين كفنته بيدي وأسلمته إلى الفناء.

أفتحسب من المروءة والنبل أن نبخل على هؤلاء بنفحات الذكرى؟ هؤلاء بذلوا في برنا كل ما كانوا يملكون، فالطفل كان يسخو بنظراته الرقيقة، والطفلة كانت تجود ببسماتها العذبة الحلوة التي تفيض بنورها على حنايا القلب والأحشاء، وذلك الشاب اليافع كانت مخايله تعد بأشرف أنواع البطولة لو أمهلته الأيام، وسبحان من تفرد بالبقاء.

أما أصدقاؤنا الذين غدروا بنا وتناسوا ولاءنا وإخلاصنا فلي معهم شأن آخر، هم لا يزالون أحياء ولكني أرحمهم فوق ما أرحم الموتى، ذلك بأن الموتى مضوا وراحوا قبل أن تمتحنهم هذه الدنيا الغادرة وقبل أن ترغمهم ضرورات الحسد وحاجات العيش على قطع ما وصل الوداد، وفصم ما ربط الولاء، ولهؤلاء أيضًا مقابر تزار، لكن كيف؟ لا تسأل عن ذلك، فليس عندي جواب ويكفي أن تعرف أني أميز بين الوجهين للشخص الواحد: فهذا وجه قاتم، وهذا وجه مضيء، وما لقيت صديقًا غدر إلا كدت أستوقفه وأقول له: ما أشبهك بصديقي فلان! لقد كان له وجه كوجهك، واسم كاسمك، وعمل كعملك، وجاه كجاهك، ولكنه رحمه الله كان لا يغدر ولا يخون!

هؤلاء أيضًا بذلوا في برنا كل ما كانوا يملكون، في اللحظات التي كانوا فيها أوفياء ونبلاء، أفتراني أنساهم وكانوا قرة العين، ومنية النفس، وبغية القلب، وقبلة الروح؟ هيهات، هيهات! فلقد فُطرت على البر والوفاء والإخلاص، وبغَّض الله إليَّ نقائص القطيعة والجحود والعقوق.

وبعد فهذه رسالة كلفتني قطرات من الدمع في باريس، ذلك البلد الذي لا يعرف أهله ما البكاء إلا في الروايات والأساطير. وكل ما أرجو لك، أيها الصديق العزيز، أن يبارك الله في نضارة شبابك، وطهارة وجدانك، وألا تحملني الظروف على أن أترحم عليك وأنت حي تغدو وتروح. والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤