هذه المسرحيات

شاءت المصادفات أن يكون أول كتاب أقرؤه بعد أيامٍ من وصولي إلى صنعاء (سبتمبر سنة ١٩٧٨) هو الحكايات والأساطير اليمنية التي جمعها الأديب علي محمد عبده، ولا يكفي أن أقول إن هذه الحكايات الشعبية أكدت لي وَحدة الوجدان العربي والإنساني، وإن بعضها قد اقترب اقترابًا شديدًا من حكاياتٍ وأساطيرَ وقصص تعددت أشكال التعبير عنها في الآداب الشعبية والعالمية (مثلًا سندريلا وأوديب)؛ إذ يبدو أنها غافلتني وهبطت في آبار الوعي، وراحت تتشكل على مرِّ الأيام والسنين وتتخلَّق صورًا وشخصيات ومواقف وإيقاعات، حتى طفَت ذات يومٍ أو ذات ليلةٍ على السطح، وأخذت تطرق باب الحياة طرقًا شديدًا لكي ينفتح لها وتُدوَّن في أسابيعَ قليلة .. وإذا كان من الطبيعي أن تستقي هذه المسرحيات مادتها من الحكايات الشعبية، فإن من الطبيعي أيضًا أن تصبح في صورتها الجديدة حكايات فنِّية متحررة من الأصل، وأن أختار لها أو بالأحرى تختار لنفسها قالبًا مسرحيًّا قريبًا من الروح الشعبية؛ إذ يغلب عليها الطابع الملحمي الذي يقوم على الرواية والسرد والتعليق على الأحداث، كما يتخذ في معظم الأحيان شكل «المسرح في المسرح» الذي يُعَد بدوره خروجًا على الدراما التقليدية أو «الأرسطية» .. و«البطل» تقوم على حكاية «سيف القاتل» (ص١٢١–١٢٧ من الكتاب السابق الذكر)، وهي تُروى عن صياد الذباب الأبله «حسن سيف» الذي أوهمته المصادفة البحتة أنه خلَّص المدينة من الوحش (أو الطاهش) الذي كان يهددها ويتربَّص بالداخل إليها والخارج منها، ويتسلَّم «البطل» المكافأة التي وَعد بها السلطان لمن يقضي على الوحش، ولم تكن المكافأة — بجانب المجد الذي لم يستحقه — بأقل من الجلوس على العرش.

ولكن صياد الذباب القديم لا يلبث أن يحوِّل سكان المدينة إلى ذباب، وينشر الخوف والذل والخراب، وتظهر جوقة من أبناء العصر الحاضر لتستجوب أبناء الزمن الماضي الذين بُعِثوا للحياة من صفحات الكتب الصفراء، وراحوا يقدمون «اللعبة» ويلعبون أدوارهم، لعل أهل الزمن الحاضر ألا ينخدعوا في تلك اللعبة القديمة المتجددة، ولعلهم أن ينتبهوا إلى وباء «الانتهازي» و«الفهلوي» الذي ابتُليت به حياتنا المصرية والعربية الحديثة.

وتعتمد مسرحية «الحُلم» من ناحيةٍ على حكاية «على رأس الظالم تقع» (ص١٠٣–١٠٨ من الكتاب المذكور) التي تحكي عن فتًى فقير وأمين تُنقذه ثلاث حِكَم اشتراها من عرَّافٍ أعمى من ثلاث ورطات كادت أن تودي بحياته، كما تستفيد من ناحيةٍ أخرى من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وهي الحكاية المشهورة عن قمر الزمان وبدر البدور، والمسرحية تتوالى أحداثها في عشر لوحات، وتستغل طبيعة الحُلم فتعكس تيار الزمن وتبدأ من النهاية سائرةً نحو البداية .. وأعترف الآن أنني كنت أثناء كتابتها مُنساقًا كالمتجول في أثناء النوم .. ومع أن كتابة جملة واحدة مفيدة يستلزم قدرًا من الوعي، فيبدو أن اللاوعي كان هو السيد المطاع في هذه الحالة، إنها أحلام فتى جميل تُحرِّكه قوة الرؤيا ومعجزة الحُلم، وتزوِّده بالإصرار على إنقاذ الأرض من القحط، وانتشال القصر من الفساد، والبدء من الصفر المطلق لبناء سفينة نوح فوق الطوفان .. ولكنه في النهاية يصحو من حُلمه المستحيل الذي طالما استسلم له في القصص والحكايات والأشعار، يصحو ليفتح عينيه على الأم المحتضرة والجيران البؤساء، والأرض المتعطشة إلى المطر والحب والعدل.

ومسرحية «الليل والجبل» تستمد مادتها من قصتين للأديب زيد مُطيع دماج نشرهما في مجموعةٍ من خيرة المجموعات القصصية التي ظهرت في الأدب اليمني والعربي الحديث، وهي «طاهش الحوبان» (١٩٧٩)، ويتكرر ظهور «الطاهش» في هذه المسرحية رمزًا للقوى الوحشية التي طالما هدَّدت سكان القرى الجبلية والوديان الموحشة وما زالت تهدد الإنسان العربي من كل ناحية، وتَرِد في المسرحية — التي تُذكِّرنا بألعاب السامر — أشعار من العامية اليمنية اقتبستها من أعذب شعراء العامية اليمنية — وهم عبد الرحمن الآنسي وآخرين غيره — واستعنت في ذلك بكتاب «شعر العامية في اليمن» للشاعر الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح.

•••

وأخيرًا تأتي بضعة أسئلة أوجهها إلى نفسي قبل أن يوجهها القارئ أو الناقد:

– لِمَ هذا الحزن القاتم وخاصة في أشعار الجوقة؟

لأن المسرحيات قد كُتبت في وقتٍ طغى عليَّ فيه الإحساس بمحنة الوجود العربي، وأخشى أن أقول الانقراض العربي بكل ما فيه من ظواهر التمزق والتدهور والفساد التي لم تعد خافية على أحد، وطبيعي أن الكاتب لا يمكن أن يتحول إلى بُومةٍ تنعِق بين الأنقاض، ففي كل كاتب — وبخاصة كاتب المسرح — شيء من الشاعر، وفي كل شاعرٍ شيء من العرَّاف والمتنبئ والناطق بلسان الشعب وآلامه وأحلامه ورؤاه — أي من الشاعر كما عرفته الجاهلية و«الفاتيس» كما سمَّاه الرومان — وفي زمن المحنة هل ينكر أحد على الكاتب أن يكون فيه شيء من «تيريزياس» الإغريقي أو «إيب أور» المصري القديم أو زُهير بن أبي سلمى؟ ومع ذلك فهو لا يكتفي بأن يُنذِر ويُحذِّر، إنه كذلك يبشِّر ويشارك في صنع الفجر الحتمي المقبل.

– ولِمَ اخترت الشكل الملحمي أو بالأحرى شكل المسرح في المسرح؟

لقد اختار الموضوع شكله كما قدمت قبل قليل، تآلفت الصور والمواقف والشخوص والأفعال والأصوات والألوان في هذا الإطار، ولم يكن ذلك عن تأثر بقراءةٍ أو دراسةٍ سابقة، فقد تأثرتُ «ببرشت» — وكنت أول من قدَّمه إلى العربية في عددٍ كبير من مسرحياته وأشعاره — كما تأثرتُ بغيره، ولكنني ابتعدتُ عنه كذلك كما ابتعدتُ عن غيره، وحاولت وما زلت أحاول أن تكون لي تجارِبي التي لا تختلط بتجارِب غيري، أعترف بأن «البطل» تدين بالعرفان لإحدى مسرحيات «برشت» التي كان لي حظ مشاهدتها قبل حوالي ربع القرن على مسرح «فرقة برلين» وهي «الارتفاع الذي يمكن أن يوقف لأرتورو أوى»، ولكنها تدين كذلك بالفضل لسوفوكليس ومسرحيات الأسرار في العصر الوسيط، ولأصداء ورواسب وخبرات أخرى يصعب عليَّ تحليلها أو تمييز عناصرها، ومع ذلك فالمسرحية تعكس في المقام الأول رؤيتي لعصر الجراد الانتهازي الذي قُدِّر لي أن أعيش فيه وأتعذب به، وأحاول بجهدي صدَّ زحفه على وطني والوطن العربي.

– ولماذا اخترت العنوان؟ أهي عودة ﻟ «المحلية» و«الإقليمية» في الأدب؟

ليس في الأمر اختيار، فالمسرحيات مستوحاة من قصصٍ وحكايات شعبية يمنية، وإذا كانت تبدأ منها وتنطلق من مادتها فإنها لا تتقيد بها، إن طائر الفن الأخضر لا بدَّ أن يبني عشًّا على شجرة، وأن يُحصِّل زاده من أرض وبيئة، وأن يرفرف في سماء تراث معين، لكنه حرٌّ يُفلت من كل الأقفاص، وليس فنًّا ذلك الذي لا يخاطب الأبدي في الإنسان، ويبقى الفضل للوجدان اليمني — العربي — الإنساني العامر بكنوزٍ لم تُكتشف بعد، ومن يدري! فلعل فجر البعث العربي المُرتقَب أن يُشرِق من هذه «البلدة الطيبة التي يسكنها شعبٌ أصيل ويرعاها ربٌّ غفور».

عبد الغفار مكاوي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤