الحُلم

مسرحية في عشر لوحات

الشخصيات

  • قمر الزمان.

  • بدر البدور.

  • السلطان.

  • الأم.

  • الفلاح.

  • الراعي.

  • النجار.

  • صديق (صديق قمر).

  • الحكيم الأعمى.

  • صبي (يسحبه من يده).

  • الساحرة.

  • السلطانة.

  • كهرمانة (جنية).

  • كهرمان (جني).

  • الفتاة الأولى.

  • الفتاة الثانية.

  • المرأة.

  • الوزير.

  • مرجانة (مربية بدر البدور).

  • الحارس العجوز (أمام القصر).

  • حراس وفرسان وشُبَّان وعجائز …

الفلاح والراعي والنجار من أفراد الجوقة التي تضم عددًا آخر من النساء والرجال.

١

الرؤيا

(مقدمة المسرح، أمام الستارة المُسدَلة، يندفع الفتى مفتوح الذراعين، من الجهة الأخرى تندفع الفتاة مفتوحة الذراعين، يتحركان كالأشباح في الحُلم، كلماتهما أصداء، أقدامهما تخطو خطو السابح فوق الماء، موسيقى، شبه ظلام …)

قمر : بدر!
بدر : قمر!
قمر : يا بدر بدوري!
بدر : يا قمر زماني!
قمر : عيني تبحث عنك.
بدر : قلبي يشتاق إليك.
قمر : تسعى قدماي ولا أدنو منك.
بدر : وأمد يدي فلا أجدك بين يدي.
قمر : لا زلت كأنك في الحُلم.
بدر : أأراك الآن؟ وأنت؟
قمر : كأنك طيف في وهمي.
بدر : رؤيانا صدقت يا قمري؟
قمر : والحُلم تحقق يا بدري؟
بدر : آه ..
قمر : ماذا بك؟
بدر : قدمي في الأغلال .. روحي في الأغلال ..
قمر : وأنا أضناني السفر، تعبت من التجوال.
بدر : يا قمر تعال!
قمر : يا بدر خذي بيدي، مدي خصلات الشعر الذهبي.
بدر : أُضفِّر من رمش العين حبال .. فاصعد يا قمر تعال!
قمر : دونك أهوال .. دونك أهوال .. يقف الحراس على الأبواب وسورك عال.
بدر : يا قمر تقدم .. سِر.
قمر : لا .. لا أقدر.
بدر : حررني من هذا الأسر.
قمر : مأسور يسعى لأسيرة؟
بدر : الفارس أنت .. فخلصني من هذا الأسر.
قمر : أشعر أني مسحور .. فُكِّي عني السحر.
بدر :
يا قمر وجدتكَ بعد سنين الغربة والهجر.
أقدِم يا فارس حُلمي.
قمر :
حُلمي يتقدم نحوك .. لكن الفارس يتقهقر.
مغلول اليد، مشلول الرقبة والصدر.
فكِّي عني السحر.
فكِّي عني السحر.
أنا أحببتك منذ رأيتك يا بدر.
بدر :
وأنا سأحبك حتى آخر يومٍ في العمر.
صدقت رؤيانا يا قمر .. فهيا!
ماذا يمنعك؟ تقدم .. سِر.
قمر :
آه يا بدر!
هذا وجهك .. نفس الوجه.
وهذا شعرك .. نفس الشعر.
والثغر الباسم في أحلامي …
بدر : نفس الثغر.
قمر : أتمنى أن ألثمه.
بدر : لمَ لا تفعل؟
قمر :
أنا مشدود بالأغلال لهذا الصخر
يقتلني الظمأ بهذا القفر
تنهشني الحِدأة والصقر الجارح والنسر
وأنا مكتوف أُلقيَ بي في قاع البئر
منذ ولدت رماني المر إلى المر
وأسلمني الفقر إلى الفقر
حتى كانت تلك الليلة حين رأيتك يا بدر
بدر : وعرَفتَ السر؟
قمر :
قلت لنفسي:
لا يشكو الفقر
من يتملك كنز الحُلم وكنز الشِّعر
قلت لنفسي:
بعد شتاء الجدب الأصفر
وجه الأرض أخضر
وسأزرع معك الجنة في هذا القفر
ونفجِّر نبعًا من قلب الصخر
شمسًا في ليل القهر
خبزًا في بطن الجوعى
خبزًا أسمر
بدر (صارخة) : يا قمر كفانا أحلامًا.
قمر :
هل أملك إلا الأحلام؟
الأرض الميتة تنادي
ومرارة كل الأيام
بدر : أخشى تجذبك الأرض وتنسيك الحلم!
قمر : أنت الأرض .. وأنت الحُلم.
بدر : حُلمك يرسف في ذل القيد
قمر : قمرك لم يستسلم بعد.
بدر : حقًّا يا قمر تحررني؟ هل هذا وعد؟
قمر :
وأحرر معك الأرض، وهذا عهد
أسمع صوت الحُلم يقول: ازرع بذرة حُلمك في جوف الأرض.
جرِّد حُلمك سيفًا يحمي العرض
بدر :
لكن أميرتك أسيرة
في القلعة وحدي مهجورة
قمر :
سأطوف حول القلعة في الأمسية القمرية
وتطلين بأعلى الشرفة كالحورية
وسأهتف: مُدِّي حبلًا من خصلات الشَّعر الذهبية
سأحررك من الأغلال وعنك أفكُّ السحر
والسلطان يسلِّمني مفتاح القصر
بدر (ضاحكة) : لا زلت كعهدك تحلُم
قمر : وأُصر على عهد الحُلم
بدر : تفصلني عنك قفار
قمر : أعبرها فوق جناح الأخطار
بدر : وبحار بعد بحار
قمر :
وجهك سيكون شراعي
والدفة حبك والصاري
بدر : أسوار القلعة عالية
قمر :
رؤيانا قدر الأقدار
وسننفُذ فيها
بدر : هل تَصدق حقًّا يا قمري؟
قمر :
وستسطع يومًا كالبدر
وتعيد الماء إلى النبع
وتعيد الخضرة للزرع
بدر : أخشى من ليلٍ مسعور
قمر : الليل يخاف من النور
بدر :
تلتف السُّحب على البدر
تنبح كالكلب المذعور
قمر :
لم يشكُ البدر ولن يشكو
من عضة كلبٍ مسعور
بدر :
الدِّيك يُؤذن يا قمري
والحُلم يخاف من النور
أيموت الحُلم ولا ندري؟

(تتراجع شيئًا فشيئًا)

قمر :
أيخاف البدر من البدر؟
أيغار الفجر من الفجر؟
رؤيانا تلمع في الصدر
كالنجم الهادي كالقدر
بدر :
يا قمر وداعًا
لا تنسَ الرؤيا
قمر :
أنساها!
إن أنسَ النفس
فلن أنساها أو أنساك
وطريقي لن تمشي فيه خطاي بغير خطاك
بدر : يا قمر وداعًا …
قمر : حتى ألقاكِ.
بدر : يا قمر زماني!
قمر : يا بدر بدوري!
بدر : يا قمر!
قمر : يا بدر!

(وتتكرر النداءات إلى أن يختفيا، إظلامٌ تام.)

٢

العودة

(على الجانب الأيمن من المسرح يقف صفٌّ من العجائز، رجالٌ ونساء، في ثيابٍ سوداء وملابس مهلهلة، يمثلون «جوقة» تُمهِّد للتمثيل أو تتدخل فيه بين الحين والحين، فتعلق عليه أو تستفسر أو تُقدم حكمةً عامة، ومن هذه الجوقة يشارك بعض الممثلين بأدوارهم ثم يرجعون مرةً أخرى إلى الصف. على الجانب الأيسر بعد قليلٍ موكب السلطان وابنته الأميرة بدر البدور وعدد من الحراس والخدم والأتباع، إنهم يتابعون الأحداث من بدايتها، كما يشترك بعضهم عند الحاجة في القيام ببعض الأدوار التي يقتضيها السياق، في الوسط دائرة متسعة تتم فيها المشاهد واللوحات المتتابعة، وتتغير مناظرها بطبيعة الحال من مشهدٍ إلى آخر، يمكن أن يحضر الممثلون معهم قطع المناظر أو يذهبوا بها كما هو مألوف في المسرح الحديث! تبدو هذه المساحة الدائرية إلى الآن واسعة ساكنة، وعندما نُحقق النظر نلاحظ في ركنٍ منها فِراش الأم العجوز التي تبدو كأنها تحتضر أو أن المرض قد غلب عليها بصورةٍ موئسية، يتكلم رئيس الجوقة أو يتبادل أفرادها الحديث دون التقيد بترتيبٍ مسبق).

الجوقة :
نحن الفقراء
نحن الفقراء
نحيا في هذا الركن من العالم
منسيين ومجهولين
كقطيعٍ أهمله الراعي حتى ضل وتاه
أخذ يجوب السفح وينتظر الذبح
من الذئب المتربص بالحمَل وبالشاه
ويفتش في وجه الأرض عن المرعى
لكن القحط براه وأضناه
ولهذا يرفع عينيه إلى الشمس صباحًا
وإلى النجم مساءً
يسأل: هل يمكن أن ينساني الله؟
فاجأنا القحط وعزَّ القوت ودمع المطر شحيح
معنا هذا الفلاح الضامر
كالقصبة ترتعش وتصفر فيها الريح
ما خطبك يا فلاح؟
الفلاح (أحد أفراد الجوقة) :
هلك الزرع وجف الضرع
وضنَّ المطر أو الدهر
وتساقط ورق الأشجار
كما يتساقط ورق العمر
وسنابل قمحي ذابلة
وصغاري كجراد القفر
الجوقة :
معنا هذا الراعي أيضًا
كان فتيًّا في مقتبل العمر
لكن القحط افترس العمر وأحنى الظهر
يبدو أنك لا تجد القوت لأبنائك
أقصد لنعاجك وخرافك
قل، ماذا يضنيك؟
الراعي :
أشواك في كل مكان أشواك
وقطيعي الضامر
يرفع لي عينيه يناجي الخضرة
أين تُراك ذهبت؟ وأين تُرى ألقاك؟
الجوقة :
لما قصفت عاصفة الموت قُرانا
بارت حال الصانع والصنعة
وانتظر الناس الضيف القاتل
ليل نهار وأطاعوا شرعه
لم أُصلح بابي أو عتبة بيتي
والموت القادم لا يدخل بابًا لا يرقى عتبة
هذا النجار الذاهل
هل يدعو ويناجي ربه؟
قل يا نجار، تقدم.
النجار : ما الداعي؟ قد قلت وأحسنت الخطبة.
الجوقة : لمَ لا تُسمِعنا صوتك؟ ماذا تصنع في هذي الأيام الصعبة؟
النجار : أُنجِّر نعش الموتى
الجوقة : ونعشك من يصنعه؟
النجار : الحطاب سيجمع حطبه.
الجوقة :
الناس سواء في الكرب
ووباء يعصف بقُرانا
والأرض تموت من الجدب
والقلب يرفرف مذعورًا
كالطير الأعمى في الجب
يا رب المحنة يا ربي
الأم (يصدر عنها أنين غامض نتبين حروفه بعد قليل) : يا ربي!
الجوقة : نحن الفقراء، جيران هذه المرأة الفقيرة، جئنا نزورها ومن يدري؟ ربما تكون زيارتنا الأخيرة، ها أنتم ترونها على فراشها، وحيدة تتلوَّى من المرض أو من سكرات الموت.
أحد أفراد الجوقة : لا ليست وحيدة.
الجوقة : حقًّا؟ هذا ما لا أعرفه عنها، ألها بنات وأولاد؟
الفرد : لها ولد واحد.
الجوقة : وأين هو؟
الفرد : سافر منذ سنين، هاجرَ لم يعرف أحد أين مكانه، لم تتسلم منه خطابًا، لم يذكرها بسلام.
الجوقة :
ما أقساه!
ما أقسى الشجرة حين تشبُّ وترفع قامتها النضرة!
وتُحيي الريح وتروي بالمطر الزهرة والثمرة.
لكن تنسى الأصل الضارب في الأرض
ويشمخ منها الساق ويتجاهل جذره
هل جرَّب أحدٌ منكم أن يفقد أمه؟
يصرخ في البيت الخالي: يا أمي.
أمي مَن بعدك سيعوضني عنك؟
مَن يا أمي؟ فترد الجدران عليه: لا أحد بعد الأم!
أقسى من هذا أن تحتضر الأم وحيدة.
أن تبحث عن كفِّ الابن فلا تجد الكفَّ الممدودة.
ها هي ذي ترقد في الفَرش وحيدة.
أحد الأفراد : قلت لك ليست وحيدة، ابنها قال سيعود.
الجوقة : هل سافرت إليه؟ هل قابلته؟
الفرد : كان صديقًا لي وسمعته.
الجوقة : ماذا قال؟
الفرد :
قال سأخرج، سأغادر هذا القفر
وفقيرًا أرحل لا أملك حتى الفقر
لا أملك إلا الحُلم الذهبي الحر
وأعود.
الجوقة : تُراه يعود الآن؟
الفرد : أعود لأغرس بذرته.
الجوقة (ضاحكة) : بذرة حُلم؟
الفرد : الشجرة تنمو تخضر وتزهر.
الجوقة (ضاحكة) : شجرة حُلم من ذهبٍ أخضر!
الفرد : هذا ما قال وعاهدني به.
الجوقة : أتظن الولد يعود؟
الفرد : مَن يدري؟ ويناول ثمرة …
الجوقة (ساخرًا) : مِن تلك الشجرة …
الفرد : للأم …
الجوقة : الثكلى المحتضرة.
الأم : ولدٌ خائب .. ولدٌ خائب.
الجوقة :
اسمع .. هل قالت شيئًا؟ (يقترب من فراشها)
ماذا يا أم؟
جرعة ماء؟
أم قطعة خبز سوداء؟
الأم (تئن) : ولدٌ خائب .. ولدي الغائب .. ولدي الغائب (الجوقة تعود إلى مكانها رافعة اليدين في استسلام اليائس. لا تكاد تقف في مكانها السابق وتلتفت حتى ترفع عيونها دهشة. بعد قليلٍ يُقبل السلطان العجوز ومعه ابنته بدور، يسبقهما عددٌ من الحراس وأفراد الحاشية).
الجوقة : ما هذا؟ ماذا أرى!
أفراد : أرى رجالًا قادمين، ملابسهم لم نألفها، على رءوسهم عمائم لا نعرفها.
أفراد : يسبقهم جنود وحرَّاس …
أفراد : يتبعهم خدم وحشم.
الجوقة :
ربي عفوك.
هل تتسع الدار لهذا الحشد؟
هل تحتمل الأم ضجيج الركب الزاحف كالرعد؟
ربي! أتزول المحنة عنَّا أم تشتد؟
ماذا أسمع؟ ماذا أنظر؟
ملك هذا؟ ووزير؟ خدم؟ أتباع؟
من يأتي بعد؟
حارس : مولانا السلطان .. أوسِعوا لمولانا السلطان.
السلطان (مهلِّلًا) : كنت مولاكم السلطان .. فيما مضى من الزمان .. أما الآن …
الجوقة : مولانا .. شرَّفت الدار.
السلطان (وهو يستعرض أفراد الجوقة ويتأملهم بعينيه الكليلتين) : كنت الملك الجبار، والفارس الكرار، أخوض بحار الأخطار، بالليل والنهار، لا أهاب الموت، ولا أخاف الفوت، كنت الجائر الظلوم، والقاهر الغشوم، صاحب جيوش وعساكر، وأقاليم وجزائر، ومدن ودور، وكان اسمي …
الجوقة : الملك الغيور .. صاحب الجزائر والبحور، والسبعة قصور …
السلطان (ضاحكًا ومشيرًا إلى ابنته) : ووالد بدر البدور.
بدر (مشيرة إلى قمر) : وهذا هو الآن، سلطان المكان والزمان، ابنكم قمر الزمان.
أحد أفراد الجوقة (يندفع إلى قمر ويعانقه) : قمر؟
قمر : صديق؟ أوحشتني أيها الصديق .. (يعانقه) وأنتم؟
الجوقة : جيران وصحاب .. جئنا …
أحد أفراد الجوقة : حذار .. حذار.
قمر : ممَّ تُحذره يا صديق؟ مرحبًا بكم .. حيا الله! حيا الله!
أحد أفراد الجوقة : كنت أعرف أنك ستعود .. لكني …
قمر : لكنك لم تتصور أن أرجع ومعي الحُلم.
بدر : والحُلم تحقق يا قمري .. صار ابنكم السلطان.
قمر (ضاحكًا) : لا لم يصبح بعد.
بدر : لكنك سلطان القلب.
قمر : هل يكفي هذا؟
بدر : يكفي أن يصبح سلطان القلب، ليكون حبيبي سلطان الشعب.
قمر : أنسيتِ كلامي يا بدر؟ أنسيتِ عهودي؟
بدر : لم أنسَ العهد ولا الوعد، لم أنسَ الأم ولا المهد
السلطان : حقًّا؟ أين الأم؟ أين الأم؟
صوت الأم : ولدي! ولدي!
قمر (يندفع إليها في أقصى العمق إلى اليسار) : أمي!
الأم (تعتدل فجأة على فراشها وتعانقه بشدة) : قمر الزمان!
قمر : يا أمي ها أنا عدت .. عدت وفي يدي الحُلم.
بدر (تلحق به، تحتضن الأم وتقبِّلها) : وفي يده الحكم.
قمر (وذراعه على كتف بدر) : ومعي بدر .. هل يرضيك؟
الأم (غاضبة) : كم قلت وقلت .. ولد خائب .. تحلم يا ولدي
لا زلت ولا زلت أقول.
السلطان (ضاحكًا) :
يظل الولد هو الولد الخائب في عين الأم
حتى لو جلس على عرش الحكم
فهو الطفل النائم في المهد الغارق في الحُلم
قمر : السلطان يا أمي .. مولانا السلطان.
الأم : شرَّفت يا مولانا السلطان.
السلطان : أنا لم أعدِ السلطان .. تخلَّيت عن السلطنة والسلطان للولد الخائب قمر الزمان.
الأم (لا تفهم) : طبعًا ولد خائب .. لا يزال يحلم كما كان، ولا زال قلبي …
قمر : لا زال غاضبًا عليَّ .. أعرف يا أمي.
السلطان : جئنا لكي نعرف هذا …
الأم : عاش دائمًا في الكتب والأحلام .. وها هو يحلم حُلمًا آخر (تتفرس السلطان والأتباع ببصرها الضعيف … ثم تصيح): سلطان في بيتي! سلطان؟
قمر : وبدر البدور يا أمي.
الأم : وبدر أيضًا .. في بيتٍ خرب خيَّم ظل الموت عليه .. يا ولدي إني أحتضر.
قمر : شفاكِ الله.
السلطان : وشفاكِ الحُلم.
قمر : والحُلم تحقق يا أم.
الأم (صائحة) : حُلم أم كابوس مظلم؟
قمر : بل حُلمٌ يا أم وعلم.
الأم : سلطان وأميرة .. في بيت فقيرة .. إني أحتضر، وأقسم هذا كابوس مظلم.
السلطان : يا والدتي سوف ترين الآن .. ولهذا جئنا للأم.
قمر : جئنا للأم الأرض وللأرض الأم.
الأم : ما معنى هذا؟ حُلم آخر يا ولدي؟
قمر :
تذكري يا أمي .. حين خرجت من هذا الباب لآخر مرة،
ماذا قلت وماذا قلت؟
الجوقة :
هي لا تذكر.
ساعدها كي تتذكر.
قمر : كنت غاضبة عليَّ، كما كنت دائمًا يا أمي.
السلطان : وهذا ما نريد أن نعرفه من البداية.
قمر : أجل يا مولانا .. ولهذا جئنا.
السلطان : لنعرف كل شيء من البداية.
قمر : قلت لها يا أمي .. سأعود ومعي الحُلم.
السلطان : وها قد عدت …
بدر : ومعك بدور.
السلطان (ضاحكًا) : حُلمك تم.
قمر : سأعود إلى الأرض الأم .. أغرس فيها بذرة حُلم .. حُلمك يا أمي .. حُلم الأرض وحُلم الشعب وحُلم الدم.
الأم : ولهذا صحت وقلت: وَهْم وَهْم .. لن تحصد إلا الهم .. لن تحصد إلا الهم.
الجوقة : وبكيتِ بدمع العين المر؟
الأم : كم أبكاني طول العمر.
الجوقة :
وتوسلت برأس الأب ورأس الجد
بالأرض العطشى للمطر القادم بالوعد
يا ولدي أرضك هي كنزك، هل نملك إلا هذا الكنز؟
في زمن الجوع سألنا، أعطتنا الماء وأعطتنا الخبز
أرضك هي أمك يا ولدي، لا تُغضب أمك
وضعت فيه سماد العمر فأخصب دمك ولحمك
يا ولدي قد شاب الشعر وجفت أوراق دمي
الأرض تنادي يا ولدي لتُعيد الطفلة للرحم
سوَّيتُ المهد وأنت الآن تسوي يا ولدي لحدي
يمتزج ترابي بجدودي وقريبًا سيعانق ولدي
قمر : قلت هذا يا أمي .. وسمعه مني صديق.
صديق : وأبلغته هؤلاء الشيوخ .. كانوا في تلك الأيام شبابًا.
الأم : لا أذكر يا ولدي.
قمر : لكنك كنت غاضبة.
الأم : وما زلت.
السلطان : ونحن قد جئنا لنُزيل غضبك.
بدر : كي نسترضيَك عليه وعلينا .. نحمل بركتك على رأسينا.
السلطان : نذكرك ونذكر معك الماضي .. حتى نفرح بالحاضر.
قمر : فالفرح لن يتم إلا برضاك.
السلطان : والنهاية لا تتم إلا من البداية.
قمر : نحن على استعداد (يشير للجوقة): أنتم أيضًا؟
الجوقة : هل نفهم ماذا تقصد؟ أي بداية؟
قمر : يطلب مولانا السلطان …
السلطان : أن أعرف كيف ابتدأ الحُلم.
بدر : كيف ابتدأت رؤيانا ثم انتشرت بين الناس؟
قمر :
كيف حملت الرؤيا عبئًا فوق الكتفين؟
جربت المحن ولم أتخلَّ عن الرؤيا إلا أن يتخلى البصر عن العين
وخرجت فقيرًا لا أملك إلا الحُلم وحُلمي دَين
نحو الأرض ونحو الأم
ونحو البيت الغارق في ليل الحزن
السلطان : ومنذ اليوم وبعد اليوم .. سيغرق في الفرح
قمر : إذا شاءت أمي .. هيا يا أصحابي!
الجوقة : ماذا نفعل؟
قمر : سنعيد القصة.
الجوقة : قصتك مع الحُلم؟
قمر : ومع الأم-الأرض أو الأرض-الأم.
الجوقة : هل نصلح يا قمر؟
قمر : أنتم فكري وضميري .. من يعرفني خيرًا منكم؟ أصل الشجرة أنتم.
الجوقة :
والشجرة ذبلت يا ولدي .. والعود تحطم
واصفر الورق على الأغصان وجف الجذر ولم يسلم
فالقحط شديد يا ولدي ورياح المحنة لا ترحم
السلطان : ستعود الشجرة للخضرة.
بدر : وتعود الخضرة للشجرة.
قمر : ونعود لأول قصتنا. هل أنتم …؟
الجوقة : نحن على استعداد.
قمر : فلنبدأ .. ولنضع البذرة (يرتب المشهد التالي معهم ويتبادلون الإشارات والإيماءات والحركات …)

٣

«البداية»

(استعد أفراد الجوقة لأداء أدوارهم، واستراح السلطان على كرسي أو مسند وابنته بدور بجانبه. نرى في البداية قمر مشغولًا بترتيب كل شيء، ويبدو أنه بذل مجهودًا لا يستهان به في إلقاء تعليماته وتوجيه الحاضرين عن حياته، حتى الأم التي رأيناها في المشهد السابق مريضة على وشك الاحتضار قد نهضت من فراشها كأنها — رغم سخطها على الابن الحالم — قد تماثلت للشفاء واستعدت هي الأخرى للقيام بدورها، بعد قليلٍ تبدأ الجوقة في الكلام، ويتدخل الحاضرون كلما دعت الحاجة).

الجوقة :
لنهاية كل الأشياء بداية
والثمرة كانت في المبدأ بذرة
الولد الغائب عاد إلى حضن الأم
هل قلت إلى حضن الأم؟
الأفضل: عاد إلى البيت، إلى القرية والأرض
فالأم أراها غاضبة
لكني أثق بقلب الأم
رفرف كجَناحَي طائر
ضمَّ الفرخ الجاحد، أوسعه ضربًا بجَناحَيه ونقر فيه بمنقاره
لكن القلب حنون لا يجرح ظفر صغاره
ها هي ذي نهضت لتؤدي الدور
فاستمعوا معنا وأعيروا السمع مع الفكر
ها هي ذي تهتف وتنادي، والولد غريق في الحُلم
وصريع الحكمة والوهم
الأم : قمر، يا قمر!

(قمر لا يرد)

الأم : يا قمر، أنت يا قمر الزمان!

(قمر لا يرد)

الأم : خسئت يا ملعون .. الشمس طلعت من الصباح.
قمر (يظهر بالباب) : قولي خسفت يا قمر .. هل رأيت القمر أبدًا مع الشمس؟
الأم (غاضبة) : ماذا تفعل عندك؟ تقرأ أم تحلم؟
قمر : لا فرق يا أمي، من يقرأ يحُلم ومن يحلم …
الأم : تحلم تحلم .. ليل نهار تحلم .. ومتى تفتح عينيك؟
قمر : أنا أحلم مفتوح العين ..
الأم :
يا خيبتي فيك! يا حسرتي عليك! الناس تحلم وهي نائمة
وأنت تحلم مفتوح العينين
قمر : لكي أحوِّل الحُلم إلى حقيقة .. هذا شرع الإنسان.
الأم : تتحدث أيضًا بالحكمة .. لم يبقَ إلا الشِّعر.
قمر : الشِّعر حياتي يا أمي .. عين القلب المبصرة وأذن الروح المنصتة
الأم : ولهذا أذنك من طين
قمر : الشِّعر بريء يا أمي
الأم : وعقلك .. أين هو؟ هل هو أيضًا من طين؟
قمر : نعم يا أمي .. كلنا في الطين .. من كعب القدم إلى شَعر الرأس
الأم : ولهذا تترك أمك تغرق في الطين وتحلم.
قمر : نحن جميعًا غرقى .. والحُلم سفينة نوح فوق الطوفان.
الأم : دع نوح الآن
قمر : لولا قدرة نوح على الأحلام، ما كنت نجوت من الطوفان
الأم : قلت دع نوح الآن، ومتى تتنبه إلى الطوفان الذي أغرق فيه منذ ولادتك.
قمر : أنا منتبه يا أمي .. ولهذا أحلم
الأم : وبماذا تحلم؟ بالدجرة أم بالجرجوف؟ بوسيلة؟
قمر : يا وسيلة، يا وسيلة، ما من المكتوب حيلة .. أنت حكيت لي هذه الحكايات .. ووريقة الحنا أيضًا .. لا تنسي وريقة الحنا.
الأم : ولكني لم ألدك لتحلم بل لتعمل .. أم تظن نفسك ابن السلطان؟
قمر : يبحث عن قدم وريقة الحنا .. أنت أيضًا علمتني هذا .. لكنك نسيت أن تعطيني فردة الحذاء.
الأم : قل لي .. لا .. لا فائدة فيك .. أقول أنا لكم (تتجه إلى الجوقة. قبل أن تبدأ يسألها رئيس الجوقة).
رئيس الجوقة :
نعلم أن الولد يتيم
مات أبوه قبل ولادته
وحملت الحِمل.
الأم : وحين ولدته .. هتفت الجيران: هذا قمر .. سمُّوه القمر ونادوه قمر الزمان.
الجوقة :
ظل القمر الساحر يكبر حتى اكتمل كعقد الماس .. لما لمست قدماه الشارع هتف الناس:
ولد كالبدر السافر
في الليل العاكر
الأم : ودللته، وفي عيني صنته .. مرت الأيام والأعوام وأنا أعمل.
الجوقة : نعرف هذا .. فنحن أيضًا آباء وأمهات .. تجمعين الحطب .. تنفخين في اللهب .. تذهبين إلى الحقل وتعودين .. تحرثين وتروين وتسقين .. والولد الجميل ينمو كالظبي العليل .. تقف الجارة حين تراه: هذا الوجه المليح لا يستحق إلا النظر والتسبيح .. وحين يراه الجار يقول: ألبسه الله حُلل الجمال، وتوَّجه بتاج الكمال.
الجوقة :
وحياتك تعب وشقاء
والعين تنوح ولا تدمع
والقمر الطالع لا يطلع
لا يجلب ماءً من نبع
لا يحرث أو يروي شجرة
لا يرعى الشاة ولا البقرة
الأم : بل يحلم والحُلم طويل، ويضيع الشاة مع البقرة.
الجوقة : وإذا يومًا أرسلت القمر إلى السوق؟
الأم : السوق؟ اسأله بنفسك!
قمر : لا تذكر تلك الكلمة.
الجوقة : لماذا؟
قمر : إني أختنق هناك .. وصدري والله يضيق.
الجوقة : تسعى الناس إلى السوق وتشقى .. فلماذا أنت كسول؟
قمر :
تسعى الناس؟
قل تسعى القردة والدببة وكلاب الأرض المسعورة
تلتف الحية حول الرقبة تقضم جثة عصفورة
ويشمُّ الثعلب طعم المال فيثبُ سريعًا فوق الديك ويقتلع جناحه
والأسد الفاتك والنسر الجارح والنمر الهادر
والذئب الغادر والضبع السادر
كلٌّ يتربص بفريسته ويعد سلاحه
الجوقة :
أوَلم تبصر إلا وحشًا وفريسة؟
أوَلم تجد العمل أو القوت لدى الإنسان؟
قمر :
الإنسان؟
أحلم أن يحيا الإنسان مع الإنسان
أن أرجع معنى الإنسان إلى الإنسان
الجوقة : لِمَ لم تفعل؟
قمر : حاولت وحاولت .. فقالوا أنت جميل … أجمل من أن تتسخ يداك بعملٍ فانٍ.
الجوقة : ومن السوق فزعت لكهف الحُلم الوسنان
قمر :
للأسطورة والحدوتة والشعر النائم في الديوان
فهنالك أجد الإنسان
أجد الحكمة كالوردة في الأكمام
أجد العفة والطهر
صفاء النية والوجدان
الجوقة : هل تهرب يا قمر من الأوهام إلى الأحلام؟
قمر : بل أكسو الواقع برداء الحُلم، وأرد المسخ عروسًا يجري فيها الدم، ولهذا عشت لتخضر الأرض وتصبح بستان الحُلم.
الجوقة :
وحي هذا أم وهم؟
هل سمع عن القحط الداهم كرياح السُّم؟
هل يوقف زحف الموت علينا شِعر أو حُلم؟
قمر (صائحًا) :
لا يوقفه إلا الشِّعر أو الحُلم
أن نروي ظمأ الأرض بماء الدمع أو الدم
الجوقة :
لن أتعجل في الحكم
ولن أسرع في توجيه اللوم
قل يا ولدي .. كيف تركت الأم؟
السلطان : كيف رأيت الرؤيا؟ كيف عثرت على الحُلم؟ (يربت على رأس بدر فتبتسم ويشرق وجهها).
قمر : لا، لم يأتِ الأوان بعد … في يومٍ من الأيام صحوت من النوم .. كالعادة شتمتني، لعنَت كسلي.
الجوقة :
نفهم هذا بالطبع
أمك تتقدم في السن.
تحني الأيام الظهر فيعيا من ثِقَلِ الحِمل.
وتصير يداها عاجزة عن حَمل الفأس
يكفي ما عانت من يأس
هل تقوى الأرملة على هذا البؤس؟
الأم : قالت: يا ولدي .. أنت كبرت
الجوقة : ويردُّ الولد بصوتٍ صار أجش:
قمر : وبلغت الرشد .. قولي يا أم!
الأم : نعم يا ولدي .. يا ولدي التائه في ليل الحُلم.
قمر : ماذا ترك؟
الأم : ترك الحمل ثقيلًا، ترك لك اليتم.
قمر : أقصد هل أوصى لي بوصية؟
الأم : ما يوصي الأب لأبنائه .. أن يرعوا حق الأم.
قمر : لا أقصد هذا أيضًا .. هل ترك مالًا؟
الأم : قلت لنفسي: لو أعطيته المال كله سيبدده، يكفي أني حافظت عليه كل هذه السنين .. فلأعطه جزءًا منه.
الجوقة : حسنٌ ما صنعت .. قد يذهب للسوق فيضيعه في السُّكر.
بدر : لا .. قمر لا يفعل هذا أبدًا، لم تفعل هذا يا قمري؟
قمر : أعطتني مائة ريال، مضيت إلى السوق يا حبيبتي، قلت أعمل كما يعمل الناس.
الأم : وعدت كما ذهبت .. لكن بغير المال.
الجوقة (جزِعة) : أأضعته؟ وهل امتدت يد لص نحوك؟
قمر : بل عدت بحِكمة.
الجوقة : ماذا تعني؟ أتساوي هذا المبلغ كله؟
الأم : اسألوه بنفسكم .. أتساوي هذا المال وأكثر منه؟
قمر : انتظروا .. آه لو ينتظر القاتل …
الأم : والمقتول أنا يا ولدي .. والقاتل عرَّاف أعمى وحكيم.
قمر :
أسمعتم أن حكيمًا أو عرَّافًا يقتل؟ اظهر يا سيدي وقل …
وتكلم أنت .. كيف عرفت الرجل وأين رأيته؟ من منكم سيؤدي دوره؟
رجل (يتقدم من بين صفوف الجوقة يسحبه صبي) : أنا الحكيم.
الجوقة :
ما شأنك؟
كيف وصلت إلى القرية؟
ولماذا جئت إليها في الأيام الصعبة؟
الحكيم : وإلى أين أروح؟ كل بلاد الله سواء في نظر الفاقد نظره،
كل الناس سواء تحتاج النبوءة والعِبرة.
الجوقة : قل لنا أين كنت حين جاء إليك قمر؟
الحكيم : يقول لكم هذا الصبي …
الصبي :
كنا نجلس في منعطف الطريق
وأطل علينا قمر كالبدر السافر
قلت لعمي يا عمي
هذا ليس ببشر
هذا شيطان ساحر
يحمل يا عمي وجه ملاك طاهر
وجه كالنور الباهر
الحكيم :
لا تتعجل يا ولدي
ما أكثر ما يُخفي الوجه الساطع
بؤس الحظ الفاجع
الصبي :
وتقدم منا .. وتكلم
وتحسرت لأنك يا عمي
لا تبصر هذا الوجه الرائع
الحكيم :
تخطئ يا ولدي
تبصر عيني الأخرى ما لا تبصره عينك
تلمس وجه الصوت وترسم صوت الوجه
الجوقة : هذا شيء لا نفهمه، لا يفهمه هذا الطفل
الحكيم : ماذا يا ولدي؟
الجوقة : كيف عرفت؟
الحكيم : هل يُسأل عرَّاف كيف عرَفت؟ أدركت بأن أمامي إنسانًا لا ينفعه المال، لكن تنفعه الحكمة والإلهام.
الأم : ولهذا بعت اللغز الغامض بعد اللغز؟
الحكيم : وبثمنٍ بخس.
الأم : ثمن بخس؟! أتُسمِّي ما نملكه من حظ الدنيا، هذا الكنز …
الحكيم : الحبة تؤتي سنبلة فيها مائة حبة.
الأم (غاضبة) : وأنت أخذت المائة ريال.
قمر : انتظري يا أمي .. لم يأخذها .. عرَض عليَّ الحكمة فدفعت الثمن البخس.
الأم : وتقول الثمن البخس؟
الجوقة : انتظري .. انتظري .. ماذا كانت تلك الحكمة؟
قمر : اقنع بالقليل يؤتك الله الكثير.
الجوقة : وماذا فعلت يا قمر بحكمتك؟
قمر : قل: ماذا فعلت أمي حين رجعت إلى البيت؟
الأم : سألته: ماذا فعلت يا ولدي في السوق؟ هل اشتريت وبعت؟ هل تاجرت وكسبت؟
قمر : كسبت ولم أتاجر يا أمي.
الأم : ويلاه! هل سرقت؟
قمر : لا يا أمي .. الحالم مثلي لا يسرق .. قد يُسرق لكن لا يسرق.
الأم : أفٍّ لك تحلم أيضًا في السوق؟ ماذا اشتريت بالمائة ريال؟
قمر : اشتريت بها حكمة.
الجوقة :
ثُرتِ عليه وغضبتِ.
ما جدوى الحكمة؟
أتساوي بضعة أصوات؟
لفظ وضع بجانب لفظ هذا الثمن الباهظ!
قمر : أحسبُكِ صبورًا وحكيمًا.
الجوقة : وماذا فعلتِ؟
قمر : قل: ماذا فعلتَ؟ قنعتُ بحكمتي ووضعتها خفية في جرابي.
الجوقة : أكنت تعتزم السفر؟
قمر :
هل يبقى الظبي بقفص الوحش؟
أيغني البلبل للصم؟
كان لا بد من السفر.. ولهذا عدت في اليوم التالي إلى الحكيم.
الأم : نعم، عاد إليه برجله .. لكي يُضيع المائة الأخرى.
الجوقة : أعطيته مائة ثانية؟
الأم : ماذا أفعل؟ وصية أبيه أمانة في عنقي.
الجوقة : وفعلتَ بها ما فعلتَ بالأولى؟
قمر : نعم، نعم، لم يكد الحكيم يراني …
الحكيم : رأتك أذناي وعرَفت خطاك …
قمر : حتى هتف بي: هاتها وخذ الحكمة الثانية.
الجوقة : ألم تخَف عقاب أمك؟ ألم ترحم غضبها؟
قمر : الحكيم رأى ما لم أره .. رسم دربي قبل أن أقطعه.
الحكيم : أجل يا ولدي .. أحسست بأنك ستسافر بحثًا عن نفسك أو عن حُلمك، حُلم تترقبه أرضك يتوقعه شعبك، ولهذا مددت يديك بالمائة الثانية قبل أن أعطيك الحكمة.
السلطان : وماذا قالت الحكمة الثانية؟ ليتني عرَفتك — أيها العرَّاف — ولم أعرف الساحرة الماكرة.
الجوقة : الساحرة؟ عمَّ تتحدث يا سلطان؟
قمر : إن كنت حكيمًا فلا تعجل، وستشهد عينك بعد قليل ما لم يكشفه قلبك. قالت لي الحكمة الثانية: لا تخن من ائتمنك.
الجوقة : ووضعتها في الجراب؟
قمر : وفي اليوم الثالث نطق الحكمة وأنا ما كدت أغادر عتبة الدار .. إن لقيت فلا يفوتك.
بدر : حقًّا .. ولم يفتك .. وعرَفتك وجريت وراءك.
قمر : بدر!
بدر :
آه! سكت.
كي لا تتهم جمالي بالطيش
(وتصيح وتصرخ):
ريش الطاووس ورأس العصفور الهش
السلطان (ضاحكًا) : هل قلت هذا يا بدر؟
قمر :
آه .. آه .. آه .. يا مولانا أسعدك الله وأبعد عنك ظلال الحزن، أمي لم تكتفِ بالحزن ولم تكتفِ بالسَّب، هاجت .. ماجت
عضت يدها .. مزقت الثوب
الأم :
أجل .. ولطمت الخد
ولعنت أباك وكدت أروح إليه وأُخرِجه من بطن اللحد، وأصيح وأصرخ أنت المسئول.
تعالَ وأدِّب هذا الولد الوغد.

(الجوقة تضحك ويضحك الجميع).

قمر :
أما أنا فبكيت بكيت بكيت
بكيت لأني سأغادر أرضي
وسأترك أمي في الدار وحيدة
لا .. لا تتسرع
لا تظلم هذا الأعمى
لا تتهم الحكمة فهي بريئة
الجوقة :
الحكمة في هذا الحال
ألا تدع الأم ولا الأرض بحال
لو أني كنت مكانك
قمر : لو كنت رأيت الرؤيا
بدر : الرؤيا يا أبي .. هل صدقت؟
السلطان : اسكتي يا ابنتي.
بدر : ألم أقل لك؟ نمت في قلق الليلة ورأيت …
السلطان : قلت اسكتي.
قمر : أأحدثكم عنها؟
الجوقة :
حدِّثنا عما فعلَت أمك حين تكلمتَ إليها (يلتفت للجمهور).
فالرؤيا شاهدها الجمهور الليلة.
السلطان :
وانتشرت في الجبل وفي السهل
وذاعت بين الناس فشاع الأمل الحلو
بدر : وخاف عدوك يا أبت ودبَّر خطته في الليل
الأم : نعم حدثني عن الرؤيا، كنت قد يئست منه، لم أَشكُ لأحدٍ وصبرت، ستسافر يا ولدي؟
قمر : يا أمي لا بد.
الأم : ألن تفكر في الأمر؟
قمر : لا أستطيع أن أنظر للوراء.
الأم : وأفقدك يا ولدي؟
قمر : بل ستكسبينني يا أمي.
الأم : وتتركني وحدي؟
قمر : لن تكوني وحدك .. قلبي معك وحُلمي سيعود إليك.
الأم : حُلمك؟ ألم أشبع من أحلامك؟
قمر : سيعود معي وأعود معه إليك.
الأم : ألا تفكر إلا في نفسك؟
قمر : لا أفكر إلا فيكِ .. وفي الأرض .. وفي الأهل .. سأعود.
الأم : أو لا تعود.
قمر : الرؤيا قالت سأعود
الأم : قد تكذب يا ولدي وأموت وحيدة
قمر : إلَّا هذي الرؤيا
الأم (باكية) : سأموت وحيدة
الجوقة :
والأم تقول ودمع العين يرد:
يا ولدي أرضك هي كنزك لا تنسَ الكنز، في زمن الجوع سألنا أعطتنا الماء وأعطتنا الخبز لكنكم سمعتم هذا من قبل .. وماذا أعطته أيضًا؟
السلطان ومجموعته : نعم، ماذا أعطته؟
الجوقة :
بعد قليل سوف ترون
بعد قليل تبتسمون
أو تبكون
بعد قليل
بعد قليل

(يُسدل الستار شيئًا فشيئًا، ويسود إظلامٌ تام قبل أن تنفرج على المشهد التالي).

٤

الساحرة

(كوخ الساحرة العجوز، الساحرة واقفة أمام الباب .. بعد قليلٍ يظهر السلطان ثم قمر وحراس).

الجوقة :
ساحرة وعجوز.
من يدري ماذا يجري في هذا الكوخ؟
ها هي ذي تتكلم
تعوي وتدمدم
تقرأ تعويذة
تتلو رُقية
هل يظهر جني طيب؟
أم جنية؟
فليحرسنا منها الله.
فليحرسنا منها الله.
الساحرة : الباب مكسور .. لا يعلم أحد ماذا يخبئ الليل أو ماذا يكشف عنه النهار، اللصوص في كل مكان، لا يأمن أحد في بيته، لا آمن أن ينفذ من هذا الباب لص طماع أو قاتل، ذئب أو كلب مسعور، لا بد من إصلاحه. نجار، نجار (يظهر السلطان وحده، عجوز محني الظهر ومتعب).
السلطان : أنت وحيدة؟
الساحرة : مولانا؟ مولانا السلطان؟
السلطان : مولانا حزين .. مرتبك يهذي كالمجنون .. ماذا تنتظرين؟
الساحرة : كنت أعالج هذا الباب المكسور.
السلطان : والقلب المكسور .. من سيعالجه غيرك؟
الساحرة : ماذا حدث .. تكلم.
السلطان : كذب العراف، عجز الطب وحار طبيبي، ووزيري دبَّر لم ينفعني التدبير.
الساحرة : أهو الدواء القديم؟
السلطان : إلا هذا.
الساحرة : لكل داءٍ دواء .. تعالَ أجرب معك دوائي.
السلطان : معي؟ ليت الأمر اقتصر عليَّ.
الساحرة : القصر الفاسد .. أعرف سوء الحال.
السلطان : فليذهب للنار .. لا لا .. شيء أخطر منه.
الساحرة : مؤامرةٌ جديدة؟
السلطان : إنها ابنتي .. وحيدتي وقرة عيني.
الساحرة : بدر؟ ماذا جرى لها؟
السلطان : ساحرة ولا تدرين؟ عرافة ولا تعرفين؟
الساحرة : لم أنظر في العين السحرية منذ ليالٍ.
السلطان : هي منذ شهورٍ لم تتغير .. اختلط العقل وفسد الفكر.. خرساء صماء، تهذي أحيانًا بكلام الحكماء .. تتحدث عن رؤيا لا أفهمها.
الساحرة : رؤيا؟ أية رؤيا؟
السلطان : رؤيا تبكيها، تضحكها، تسرق منها النوم وتطفئ نور العين.
الساحرة : ماذا رأت؟
السلطان : وكيف لي أن أعرف؟ قلت اختلط عقلها وزاغ بصرها.
الساحرة : ألا تذكر شيئًا .. ألا تتصور أحدًا؟
السلطان : شيئًا أو أحدًا .. ربما نعم نعم .. تردد اسم قمر الزمان .. قمر الزمان.
الساحرة : ثم ماذا؟
السلطان : وتعانق الهواء وتبكي .. وتصدم الجدران وتبكي.
الساحرة (لنفسها) : فعلتِها يا كهرمانة؟ فعلتَها يا كهرمان؟
الساحرة : ماذا تقولين؟
الساحرة : لا .. لا شيء.
السلطان : ابحثي عن دواء.
الساحرة : اطمئن.
السلطان : من أجل الأب لا من أجل السلطان.
الساحرة (تمدُّ يدها) : ومن أجله أيضًا.
السلطان (يفتش في جيوبه ويعطيها) : وأعرف طبعك.
الساحرة : تقصد طمعي (تنظر في العملة الوحيدة التي قدمها لها) لا بأس .. شيء لا يملأ بطن دجاجة، لكن قد يصلح هذا الباب.
السلطان (ينهض) : ومن يصلح قلبي؟
الساحرة : أعدك يا مولاي .. أعدك أن أسألهم.
السلطان : وتردين عليَّ؟
الساحرة : سترد عليك بدور.
السلطان : ترد عليَّ؟ هي لا تعرفني .. لا تعرفني .. أقسمت عليك.
الساحرة : لا .. لا تُقسِم.
السلطان :
أقسمت عليك .. من يشفيها يرث العرش
من يشفيها يصبح سلطان .. من يشفيها يصبح سلطان (تودعه إلى الباب).
الجوقة :
هل تجد دواءً للداء؟
هل ترحم ضعف الشيخ الواهن؟
مثل الريشة فوق الماء؟
قلبي ينفطر عليك ويبكي حسنك يا حسناء.
جاء طبيب بعد طبيب.
ما عرفوا للمرض شفاء.
سقطت رأس وهَوَت رأس.
وارتفع نداء بعد نداء
من يشفي الداء يفُز بالعرش مع العذراء
لكن من يشفي الداء؟
وهل عندك يا ساحرة دواء؟
ماذا أبصر؟
هذا قمر يظهر
قمر المسكين حزين القلب معفر
من أثر الرحلة في البيداء وفي الدرب المقفر
يتقدم نحو الباب
يتردد ثم يسير ويتوقف
ترمقه عين الساحرة فتهتف
الساحرة : يا ولد!

(قمر يرفع عينيه ولا يجيب.)

الساحرة : أنت يا ولد! يا ولد!

(قمر يجلس تحت شجرة ينظر إليها في صمت.)

الساحرة : تعالَ .. تعالَ .. أتريد أن تكسب ريالًا؟

(قمر لا يرد.)

الساحرة : تبدو متعبًا وجائعًا .. ألا تريد أن تعمل؟
قمر (ينهض، يقترب منها) : وماذا أعمل؟
الساحرة : تصلح هذا الباب المكسور وتأخذ أجرك.
قمر : وماذا تعطيني؟
الساحرة : أعطيك ريالًا .. أعطانيه السلطان.
قمر (ضاحكًا) : ما أكرم هذا السلطان! (ينصرف عائدًا إلى مكانه تحت الشجرة).
الساحرة : عجوز بخيل يجود على عجوز بخيلة، زمنٌ فاسد لا حيلة لك في هذا أو لي.

(قمر يسمع صوتًا يقول: تذكر الحكمة.)

قمر : الحكمة؟ نعم، نعم.
الصوت : اقنع بالقليل يؤتك الله الكثير.
قمر : هي بعينها (يرفع صوته) سأصلحه يا خالة .. هاتي الريال.
الساحرة : كسول وماكر أيضًا؟ ليس قبل إصلاحه هيا .. هيا ..

(قمر يدخل بعد أن يفحص الباب.)

الساحرة : عيناك تصرخان .. هيا تعال.
الجوقة :
قمر يسقط من فرط الإعياء
والساحرة تناوله كسرة خبز سمراء
يبلعها بالماء
ينظر حوله، ما أعجب هذا!
فوق الحائط أقنعة وجوه شريرة
ورسوم أفاعٍ وعقارب وسحالٍ وكلاب مسعورة
ينظر، يرتعد يلاحظ قِدرًا مكسورة
تزأر فيها النار
يطق شرار ينبعث بخار
وأمام النار المضطرمة كرة لامعة، بلورة .. فيها عين واسعة شريرة
تتفرس فيه فيسأل: هل هي عين مسحورة؟
يفهم، يسكت، يرتاب …
ينهض كي يصلح من شأن الباب.
الساحرة (تذهب وتجيئ في نشاط، تلقي البخور في النار وتدمدم بالرقى والتعاويذ) : هيا .. هيا .. من يأكل يعمل .. ومن يعمل يأخذ أجره.

(قمر منكب على الباب).

الساحرة : تبدو ولدًا طيبًا .. هل جئت من بعيد؟
قمر : من القرية يا خالة.
الساحرة : ريفي ساذج! على سفر؟
قمر : نعم يا خالة، القحط شديد .. أبحث عن عمل.
الساحرة : لن تجده عندي، لن تجده في أي مكان. بعد لحظةٍ .. اسأل في قصر السلطان.
قمر : قصر السلطان؟
الساحرة : نعم .. يحتاجون دائمًا للخدم.
قمر : أخدم عند السلطان؟
الساحرة : ولمَ لا؟ ولد طيب مثلك، السلطان أيضًا طيب وعجوز .. وابنته …
قمر : ماذا عن ابنته؟
الساحرة : ولد ثرثار، لماذا تسأل عن ابنته؟ مريضة ذهب عقلها وعزَّ شفاؤها.
قمر : ولماذا يا خالة؟
الساحرة : وما شأنك أنت؟ هيا هيا .. التفت للباب، أتريد أن تعلق رأسك على باب القصر؟ (تتفرسه) إنه رأس جميل، أتريد أن تفقده؟
قمر : يعلق رأسي؟ وماذا جنيت؟
الساحرة : أرأيت؟ طيب بلا عقل، هيا هيا .. انصرف لعملك وسأنصرف لعملي.
قمر : نعم يا خالة.
الجوقة :
والساحرة تهوم وتعزم
تقسم بالاسم الأعظم
يا للغز الخاد والطلسم
وتروح تتمتم
وتروح تدمدم
أصوات تغلي وتجمجم
حشرجة وصياح مبهم
ويدور حوار لا يُفهم
يا قمر المسكين تعلم
إن تعلم فاكتم ما تعلم
فالعاقل من لا يتكلم
والصامت أبدًا لا يندم
الساحرة (في حوارٍ مع صوتين لا نرى وجوه أصحابهما) : هكذا يا كهرمانة؟
الصوت : لبيك يا مولاتي.
الساحرة : وأنت يا كهرمان. لمَ تخيب ظني؟
الصوت الثاني : عبدك بين يديك.
الساحرة : والشمل اجتمع على يديكما .. البعيد والقريب .. الفقر والقصر .. قمر وبدر.
صوت : لم يجتمع بعدُ يا مولاتي.
الساحرة : في الرؤيا.
صوت الآخر : في الرؤيا نعم .. لكنها يا مولاتي …
الساحرة : قمر يبحث عن بدر .. بدر تبحث عن قمر .. قلت لا بد أن يجتمعا.
صوت : هذا يخرج عن أيدينا.
الساحرة :
إذن فاتركا لي الأمر .. سأذيع النبوءة في كل مكان.
سيعلم القاصي والداني .. ولو احتاج الأمر سأبعث للسوق بطبلٍ ومنادي .. لكن …
صوتان : لبيك .. لبيك!
الساحرة : اسكتي أنت يا كهرمانة .. كان الأمر سهلًا عليك .. بدر في القصر أشهر من البدر .. وأنت؟ هل كان الأمر عسيرًا عليك؟
الصوت الثاني :
حقًّا كان الأمر عسيرًا.
أن أجد جميلًا من كل الأوصاف
ويتيمًا لأبٍ وفقيرًا كالطين الجاف
الصوت الأول : يحلم ويقول الشِّعر …
الصوت الثاني : بل يحياه …
الساحرة :
ويكلم شجرة
ويتيم في حب فراشة
ويكلمه النبع الساكن والنهر
والوحش الجارح والطير
الصوت الثاني :
يحلم أن يبتدئ من الصفر
أن يعرف معنى العالم
معنى الإنسان الحر
محبوب ومحب
وأمين ما خان العهد ولا الرب.
كيف وجدته؟
كان الحُلم دليلي في الزمن الصعب
الزمن العاري من ثوب الحب
من يتعذب يحلم، من يحلم يتعذب
يسقط في المستنقع
ويظل نقي القلب نقي الثوب
يعرق ينزف يتعب
كي تطلع شمس من قلب الغيهب.
كيف عرفته؟
كان فقيرًا لا يسأل
الوجه جميل والخاطر أجمل.
كان يقول:
أحلم بالجَمال
والعدل والكمال
وأن أرى الحقيقة
في أعين الخليقة.
قمر (فجأة) : ربي؟ هذا قولي
الساحرة (لقمر) : هل قلت شيئًا؟
قمر : لا يا خالة.
الساحرة : أصلحت الباب؟
قمر : أجل يا خالة.
الساحرة (تتجه إليه) : خذ، هذا أجرك (تتفرس فيه) هيا اذهب .. لا تنسَ .. مُرَّ على قصر السلطان.
قمر : قد يحتاجون لخدام.
الساحرة : هيا .. هيا (لنفسها) لا .. لا .. ريفي أَجرَب .. وفقير متعب .. لا لا لا .. بين كلاب الأرض الجائعة العطشانة كلب .. هيا .. هيا (ينصرف، بعد قليل يدق الباب دقات عنيفة).
الساحرة : ما هذا؟ مَن؟
أصوات : افتحي .. افتحي يا خالة.
الساحرة (بعد أن نظرت من ثقب الباب) : اذهبا الآن، سأدعوكما عند الحاجة، شكرًا يا كهرمان .. إلى اللقاء يا كهرمانة .. وأنت يا كهرمان .. اذهب الآن .. ما هذا؟ حرس وفرسان؟ ماذا يريدون مني؟ (تفتح الباب).
الحارس : السلطانة تحييك يا خالة …
حارسٌ آخر : وتذكِّرك بالوعد يا خالة (يناولها صرةً كبيرة).
الساحرة : السلطانة! مرحبًا .. يا مرحبًا .. هكذا تجود السلاطين.
حارس : تريد العلامة.
حارسٌ آخر : تريد الأمارة.
الساحرة : نعم، نعم، تم كل شيء، اجتمع الشمل ونَفَذَ السهم إلى القلب، والمحبوبة في القصر أسيرة، تهذي بكلامٍ لا يُفهم والنفس كسيرة.
الحارس : ليست هذه هي العلامة.
حارس آخر : ولا هي الأمارة .. نريد المحبوب يا خالة.
الساحرة :
المحبوب؟ عين تحلم
عقل بالحكمة مُلهم
والقلب الطيب أصفى من ماء النبع وأكرم
الحارس : وكيف نعرفه من عينه وقلبه؟! وجهه يا خالة؟
حارسٌ آخر : وجهه؟ أجمل ما نظرت عيني .. كالبدر الساطع والقمر الطالع.
الحارس : وصف لا يُغني .. اسمه يا خالة؟
الساحرة : قمر .. نادِ وقل: يا قمر.
الحارس الآخر : ما أكثر من سيجيب .. حتى القردة سترد علينا!
الحارس : ألم تقل النبوءة إنه يتيم؟ ألا يبدو عليه الفقر؟ ألا يبدو عليه السفر؟
الساحرة (فجأة) : الفقر .. والسفر .. هو يا رجال .. هو .. هو .. ويلي! ويلي! كيف تركته يفلت مني؟
الحارس : من؟ من يا خالة؟
الساحرة : كان قلبي يحدثني .. لكن لم أصدق .. ريفي فقير .. من يدري إن كان يتيمًا يحلم؟ والحُلم يطل من العين ويسأل عن الأميرة .. ويلي! ويلي! ربما يكون هو .. إنه هو حتمًا .. اذهبوا .. اذهبوا .. الماكر لم يذكر اسمه .. لا .. لا .. انتظروا …
الحارس : ماذا ننتظر؟
الساحرة : ابحثوا عنه هنا .. ابحثوا عنه.
الحارس : هنا .. وهناك .. ضاع منَّا إذن؟
الساحرة : لن يضيع .. ستجدونه في الأكمة التي هناك، أو في الجبل، عند النبع، أو تحت ظل شجرة.
الحارس : وصفك لا يُغني يا خالة.
الساحرة : لأنه لا يوصَف .. هيا لا تضيعا الوقت .. هيا .. هيا .. آه! وكيف غاب عنك يا كهرمانة؟ وعنك يا كهرمان؟ أيها الجني الأحمق .. يا غبي الزمان .. كيف غاب عنك قمر الزمان؟

(ينصرف الحارسان .. تسمع حمحمة خيولهما وصليل سيوفهما من بعيد .. الساحرة تغلق الباب).

٥

عند النبع

(نساء يتوافدن على النبع، تُسمع ضحكات فتيات وزمجرة عجائز، في المكان شجر جاف وأوراق ذابلة صفراء، الوقت قبل الغروب بقليل).

الجوقة :
انتشر النبأ وذاع
ملأ الأسماع وأيقظ في الأفئدة الأوجاع
هل ستحلُّ مصيبة؟
أم يبتسم الأمل على الوجه ويمحو منه شحوبه؟
الأيام عجيبة
والأخبار غريبة
والسحب ترين على الأفق
وترسم صورًا وتهاويل غريبة
والصمت مريب والريح على الأبواب مريبة
طاف منادٍ في الأسواق ورفع الصوت وقال:
يا أهل المدن وأهل الجبل الأبطال
من شاهد منكم ولدًا مسكين الحال
وجه كالصبح السافر، قَدٌّ كالظبي النافر
لطفٌ وجمال وكمال
غطَّاه تراب السفر وأضنته الرحلة والترحال، يحلم بالجنة فوق الأرض
وبالمحبوبة في القصر العالي
من يبصره منكم فليمسكه في الحال
وليأتِ به للقصر العالي
وله من مال السلطان مكافأة والمال حلال
ألف ريال .. ألف ريال
يا أهل المدن وأهل الريف
ويا سكان الجبل الأبطال
لكن ما هذا؟
أبصر فتيات القرية يسعين إلى النبع ويبحثن عن الماء
ها هن أولاء يثرثرن وثرثرة النسوة داء
فلنسمع ماذا يحكين لعل هنالك أنباء
فتاة : قلت لكُنَّ كان وجهه جميلًا.
امرأة : أليس في قلبك رحمة؟ أي جمال في رأسٍ مقطوع؟
الفتاة الأولى : صحت به قبل أن يسقط عليه سيف السياف: سيكون منظرك بديعًا على السور.
فتاة ثانية : بدلًا من أن تُخفي وجهك وتبكي؟
الفتاة الأولى : شبعنا بُكاءً يا أختي، كل أسبوع تسقط رأس.
المرأة : لم تقولي بماذا ردَّ عليك!
الفتاة : هتف من غيظه: سيكون أبدع لو سقط في حجرك أو قبَّل ثغرك.
الفتاة الثانية : أيمكن أن يضحك الإنسان وهو يواجه السيف؟
الفتاة : ومن قال إنه يواجهه؟ إنه في ظهره، أو في عنقه، هكذا (يضحكن).
المرأة : كفاكما لغوًا .. أتعرفان من هو؟
الفتاتان : سمعنا أنه أمير جاء يخطب بدر البدور.
المرأة : إلا هذا .. إن أباها ينذر ويتوعد.
الفتاة : ومن أخبرك بهذا؟ هل أنت سفيرة أم وزيرة؟
الفتاة الثانية : جاسوسة أم سوسة؟ (تضحكان).
المرأة : ستعلمان عندما تداهم جيوشهم المدينة، عندما تهجم العسكر كالكلاب المسعورة.
الفتاة : اطمئني .. لن يعضك واحدٌ منهم.

(تتضاحكن ويجرين.)

المرأة (تحاول أن تمسك بهما) : من فينا الكلبة يا كلاب؟ ألأني أرى الغيوم في الأفق تتهمنني بالنباح؟ انتظرن حتى تقع الكارثة.
الفتاة : وقعت كثيرًا حتى تعودنا عليها .. ولم تمتنع النساء عن الضحك ولا عن الولادة.
امرأة : ولا عن الثرثرة.
الفتاة الأولى : اسمعي يا خالة .. هل سمعت المنادي؟
امرأة : ومن لم يسمعه؟ ومن لا يتربص الآن به؟
الفتاة الثانية : يقال إن الرؤيا صادقة.
امرأة : ومن يُصدِّق ما تراه مجنونة؟
الفتاة الأولى : مجنونة؟
امرأة : ومسجونة أيضًا، من شدة خوف أبيها أمرَ بوضع يدها وقدميها في الأغلال
الفتاة الأولى : ربما تكون مظلومة.
امرأة : من يعرف الظالم من المظلوم؟ من يعرف العاقل من المجنون؟ في مثل هذا الزمن.
الفتاة الأولى : وكيف نعرف المجنون؟
المرأة : تعرفينه أم تحصلين على الألف ريال؟
الفتاة الأولى : مستحيل أن نعرفه، الأميرة هي التي رأت الرؤيا .. وهي وحدها التي تتعرف عليه.
المرأة : أتظنين هذا؟ حتى ولا الأميرة.
الفتاة الثانية : لماذا يا خالة؟
الفتاة الأولى : لأنها تملك ألف ألف ريال (تضحك وحدها).
الفتاة الثانية : اسكتي أنت .. أقول لماذا يا خالة؟
المرأة : لأن الرؤيا تنطبق على كل إنسانٍ ولا تنطبق على أي إنسان، ولأنها لا يمكن أن تعرفها إلا من رأتها، ولأن التي رأتها مسكينة ذهب عقلها.
الفتاة الأولى : انتظري .. ألا يمكن أن تكون مظلومة؟
امرأة : قلت هذا من قبل، من يعرف الظالم …
الفتاة الأولى : من المظلوم والعاقل من المجنون … نعم نعم، ولكن ربما يفترون عليها أو على أبيها.
الفتاة الثانية : وأبوها ضعيف وعجوز على حافة القبر، والقصر يموج بالفساد كما تموج الجثث بالديدان، والميت الذي لم يُدْفَن ليس معناه أنه لم يمُت .. والطاعون …
الفتاة الأولى : ما لنا نحن وهذا؟ هل غرقت في السياسة على آخر الزمن؟
الفتاة الثانية : أردت أن أعرف.
الفتاة الأولى : أم تريدين الألف ريال؟
الفتاة الأولى : وما العيب في هذا؟ أبي فلاح فقير كما تعرفين.
الفتاة الأولى : وأنا؟ هل أنا بنت السلطان؟
الفتاة الثانية : أنت دائمًا ماكرة.
الفتاة الأولى : وأنت لا أمان لك (تتماسكان، تسرع إليهما المرأة).
المرأة : ما هذا؟ ألا يكفي ما نحن فيه؟ هل جئنا للقتال أم للبحث عن الماء؟ (يدخل قمر، يسكُتن ويتطلعن إليه في ذهول، إن تراب السفر على الأسمال البالية لم يستطع أن يحجب جمال وجهه، والجوع والظمأ الباديان على ملامحه لم يُضيعا حُسنه، بل ربما زاداه جمالًا على جمال، تتأمله الفتاتان وتغمزان لبعضهما، تنظر إليهما المرأة وتهزُّ رأسها ثم تتفرس في عينيه، قمر يرتبك قليلًا ثم يتماسك، يضع يده في جيبه ويستخرج الريال الوحيد الذي معه، يحاول أن يمُد يده إلى الفتاة الأولى ثم إلى الثانية ثم إلى المرأة.)
الفتاة الأولى : لا يمكن …
الفتاة الثانية : لا يمكن أبدًا …
المرأة : مستحيل.
قمر (منفجرًا) : ما هذا الذي يمكن ولا يمكن؟ ما هذا المستحيل (ينظرن إلى بعضهن) ألا يمكن أن يجوع الإنسان ويظمأ؟ ألم ترين في حياتكن إنسانًا متعَبًا متسخ الثياب؟ أم لأنني فقير لا أملك إلا هذا الريال؟
المرأة : اهدأ يا ولدي.
قمر : وكيف يهدأ من لم يذُق الطعام ولا النوم منذ أيام؟
المرأة : قلت اهدأ يا ابني .. اجلس ما دمت متعَبًا .. هنا .. نعم .. أو هناك .. تحت هذه الشجرة .. ستأكل وتشرب حالًا .. هيا يا بنات .. هيا (الفتاتان تنظران إليه كأنهما صنمان ذاهلان، المرأة ترفع صوتها …)
المرأة : قلت هيا .. أليس لكما آذان؟
الفتاة الأولى : نعم نعم يا خالة.
الفتاة الثانية : هل قلت شيئًا يا خالة؟ أتريدين شيئًا؟
المرأة : هل قلت شيئًا؟ أتريدين شيئًا؟ لست أنا التي تريد .. إنه هذا الشاب المسكين …
الفتاتان : مسكين .. مسكين.
المرأة : إنه جائع وظامئ …
الفتاتان (في صوتٍ واحد) : وجميل يا خالة.
المرأة : ألا تخجلان؟ أي زمانٍ هذا؟
الفتاتان : وماذا نفعل يا خالة؟
المرأة : ماذا تفعلان؟ تقبِّلان الأرض تحت قدميه! ماذا تفعلان؟ تقدمان له الماء والطعام بطبيعة الحال.
الفتاة الأولى : ليس لدينا ماء ولا طعام.
المرأة (صائحة) : الماء في النبع والطعام … انتظرا … ربما أجد معي كسرة خبز. (تبحث في جيوبها، تُخرِج قطعة خبز تقدمها للشاب الذي ظل يدير عينيه بينهن دون أن يفهم شيئًا، الفتاتان تتجهان بسرعةٍ إلى النبع وتحضران الماء، المرأة تجلس هادئة بجانبه وتتجنب التحديق فيه فيطمئن شيئًا فشيئًا، يتحلَّقن حوله وتراقبه الفتاتان وتبتسمان فيبتسم ثم يضحكان فيضحك).
قمر (وهو يمضغ ويشرب) : ألم ترين في حياتكن رجلًا؟
المرأة : بالطبع، لنا أزواج وعندي ثلاثة أولاد أكبر منك.
قمر : فلماذا وقفتما مذهولتين؟
الفتاتان : لماذا؟ لأننا …
المرأة : لأن التعب الشديد كان يبدو عليك.
قمر : حقًّا .. حقًّا .. إن الثور نفسه لم يكن ليتحمل ما تحملت .. لعنها الله.
المرأة : مَن هذه يا بني؟
قمر : أبدًا، تعبت في إصلاح الباب، ومع ذلك …
الفتاة الثانية : مع ذلك؟
المرأة (تنهرهما) : اسكتا .. لماذا تقاطعانه؟
قمر : لا بأس يا خالة .. ومع ذلك لم تُعطني غير هذا الريال .. سامحها الله. لولا أنني تذكرت الحكمة التي قالها الأعمى …
المرأة : أية حكمة؟
قمر : اقنع بالقليل يؤتك الله الكثير. حكمة جميلة .. أليس كذلك؟ يمكن أيضًا أن تستفيدا بها كما استفدت، وها أنا آكل وأشرب من يدين جميلتين.
الفتاة الأولى : وهل يقاس جمالنا؟
المرأة (مسرعة) : اسكتي .. قل لي أيها الشاب، أنت غريب؟
قمر : نعم يا خالة .. جئت من الريف.
الفتاة الثانية : وفقيرٌ أنت؟
قمر : ويتيمٌ أيضًا .. لم أرَ أبي أبدًا.
المرأة : قلت لا تقاطعيه.
الفتاة الأولى (بتحدٍّ) : وتُكلم نفسك كالحالم؟
قمر (كأنه يستسلم للنوم بعد أن أكل وأُشرب) : بل أترك نفسي تتكلم، أتركها تحلم.
الفتاة الثانية : بمَ تحلم؟
المرأة : حرام عليكما .. لا يمكن أن تكونا بهذه القسوة.
قمر : دعيهما يا خالة .. دعيهما (يتثاءب) فتاتان جميلتان.

(الفتاتان تتغامزان وتنظران إليه في ولَهٍ)

قمر : فتاتان جميلتان تسألان، أليس من حقهما أن أجيب؟
المرأة : نعم ولكن، لا يمكن أن أسمح بهذا.
قمر :
انتظري يا خالة، عن أي شيء كنتما تسألان، آه … بمَ أحلم؟
أني في الجنة وسط الحور العين
والبدر الطالع يبتسم كطفلٍ محزون
الفتاة الأولى : هل قلت البدر؟ أتراه كثيرًا في الحُلم؟
الفتاة الثانية : أتراها في أحلامك؟
المرأة : كُفَّا عن هذا …
قمر : دعيهما يا خالة.
الفتاة الأولى : تحلم بالبدر .. وبماذا أيضًا؟
قمر :
أحلم بالجَمال
والعدل والكمال
وأن أرى الحقيقة
في أعين الخليقة
الفتاة الثانية : قل يا قمر! بماذا تحلم؟
قمر :
أني كَون أصغر،
يحيا في الكون الأكبر
في روحي أرض وسماء،
وكياني الطين مع الجمر
جسدي مغلول في الأسر
وفؤادي يخفق كالطير
يومًا سأعود إلى الأرض كما عاد الجدول للنهر
وعاد النهر إلى البحر
الفتاتان (وهما تضحكان) : البحر .. البحر .. البحر.

(المرأة وقد لاحظت أنه انصرف عنها إلى الفتاتين كما انصرفا إليه، تدير ظهرها للجميع وتقول لنفسها):

المرأة :
ربي
من أين يجيء الضحك الرنان.
في هذا الزمن الكافر زمن الأحزان
الزمن الأسود كالشيطان (تضع رأسها على كفها …)
الجوقة (تواصل أحزانها) :
الزمن الأسود كالشيطان
الزمن الأسود كالطوفان
في الحقل كساد
في القصر فساد
ولأن الأيام عجيبة
حُبلى بغريبٍ وغريبة
ومصائب تلحق بمصيبة
قد يأتي الموت ولا نشعر
وتمر السحب ولا تُمطر
ويطول الشجر ولا يثمر
ونُجِيلُ البصر ولا نبصر
ونُصفِّق نضحك كالقرد
من وخز الشوك على الجسد
من لدغة ثعبان تُردي …
قمر (مستمرًّا) : يومًا سأعود إلى الأرض كما عاد الجدول للنهر وعاد النهر البحر.
الفتاتان (تواصلان الضحك) : البحر .. البحر .. البحر.
الفتاة الأولى : قل لي؛ هل تقضي عمرك في الحُلم؟
قمر :
بل أعمل ليصير حقيقة
وليجد إلى الكوخ طريقه
وأبلل بالعرق عروقه
كي يجني الإنسان رحيقه
ويُعيد إلى الفجر شروقه
ويرد إلى الأمل بريقه
الفتاة الثانية :
ألِنفسك دومًا تتكلم؟
ويمر الوقت ولا تسأم؟
قمر :
وأكلم أرضًا وسماءً
وأكلم نبعًا أو نهرًا
والزهرة تفهم ما أعني
والشجرة تنطق وتغني …
الفتاة الأولى : اسمعي يا خالة …

(المرأة لا تنظر إليهما.)

الفتاة الثانية : اسمعي ما يقول النهر والنبع
الفتاة الأولى : وما تقول الأرض والفراشة
الفتاة الثانية : الفراشة؟ لا لا .. الفراشة صامتة .. إنه النَّسر.
الفتاة الأولى : بل الفراشة .. الفراشة أم النَّسر يا خالة؟
المرأة (تنهض غاضبة) : اتركاني في حالي .. سأذهب للنبع وأملأ جرَّتي .. لن تتوقفن عن الثرثرة حتى في ساعة الاحتضار (تمضي للنبع).
الجوقة : صدقتِ يا امرأة .. إنك تشعرين بما نشعر به، فالبُلبل يغني ولا يعرف أن السهم مصوَّب إلى قلبه، أتراه يغني للحب أم للموت؟ والفراشة ترفرف بجناحيها حتى وهي تحترق، والدودة تنشَط في نَسج الشرنقة ولا تدري أنها كفنها، ولكن إلامَ ينتهي هذا؟ ومتى تُفيق يا قمر المسكين؟ أيظل الحمَل يناجي الشاة حتى ولو لمست السكين رقبته؟ إلامَ ينتهي هذا؟ وا أسفاه! إني أُشفق عليك يا قمر.
الفتاة الأولى : هيا .. تكلم يا قمر.
الفتاة الثانية : نعم .. تكلم يا قمر الزمان.
قمر : كيف عرفتما اسمي؟ هل نطقت به؟
الفتاة الأولى : من يحلُم مثلك ويقول الشِّعر، لا بد أن يسميه أبوه قمر …
الفتاة الثانية : وعندما يكتمل القمر يصبح بدرًا.
قمر (يتردد قليلًا ثم يستبعد الفكرة) : قمرًا أو بدرًا كما تشاءان .. لا بد أن يتحدا يومًا ما.
الفتاة الأولى (تلكُز الثانية بشدة) : استمِر، قل يا قمر
الفتاة الثانية : بل نترك القمر يقول .. والنبع والنهر والشجرة.
قمر : حقًّا! ماذا تقول الشجرة؟ (ينظر حوله، يكتشف أنه يستند إلى شجرة، يقبِّلها فجأة).
الفتاة الأولى : أتُقبِّل الشجرة؟
الفتاة الثانية : ربما أعجبه ما قالت.
الفتاة الأولى : وماذا قالت؟
قمر :
في المهد بدأت من البذرة
وصبرت شهورًا وشهورًا
ومددت عروقًا وجذورًا
وعملت على نول القُدرة
ونسجت من الطين الخضرة
الجدول أفشى لي سره
والريح تعرت باكية
والتفت حولي كالمُهرة
وشكت لي الغربة والحسرة
والنور تقدَّم مبتسمًا
في الفجر وكشف لي أمره
فائْو إلى ظلي وتعلَّم
مني وأَحِب ولا تكره!
الفتاة الأولى : مني وأَحِب ولا تكره .. أتقول الشجرة كل هذا؟
الفتاة الثانية : وماذا يقول النهر؟
قمر :
إني أندفع إلى هدفي،
لا أنظر أبدًا للخلفِ
الفتاة الأولى : والنبع؟ لا بد أن عنده ما يقوله!
قمر :
إن يكن الليل عميقًا
فسُكوني أعمق
أو يكن الفجر رقيقًا
فأنا منه أرق
اجعل قلبك طهرًا وصفاء
وتعلَّم مني الحب فإن الحب عطاء
إن الحب نقاء
الفتاة الأولى (تلاحظ حركة وراء الأشجار) : استمر يا قمر .. تكلم تكلم.
الفتاة الثانية : احلم .. احلم.
الفتاة الأولى : وماذا تقول الأرض؟ لا يمكن أن تسكت الأرض!
الفتاة الثانية (تلاحظ ما لاحظته زميلتها، ترتبك ثم تواصل) : لا .. لا يمكن أن تسكت.
قمر :
ماذا تقول الأرض؟ الأرض تقول:
اعمل في صمت
اعمل في صمت
انسج ثوب الميلاد وثوب الموت
فتعلم قبل فوات الوقت
قبل فوات الوقت
واعمل في صمت
المرأة (تعود وتظل واقفة) : هيه؟ أما زلتم تثرثرون؟
الفتاة الثانية : نحن يا خالة؟
الفتاة الأولى : البحر هو الذي يتكلم …
الفتاة الثانية : البحر .. البحر .. البحر (تضحكان).
الفتاة الأولى : البحر لم يتكلم، إنه النبع والنهر والأرض.
قمر : نعم يا خالة، خصوصًا الأرض.
المرأة : سمعت ما قالت (تلاحظ فجأةً نفس الحركة المريبة خلف الشجر)، وهل سمعت أنت ما قال النَّسر؟
الفتاة الأولى : النَّسر؟
المرأة : نعم. انظري. إنه يحوم في السماء. يقف فوق رءوسكما.
قمر (مبتسمًا في ضعف، يبدو أنه يوشك أن يغرق في النوم) : وماذا يقول يا خالة؟
المرأة :
يقول النَّسر:
في السفح جيَف
في السفح جيَف
وأنا أترفع وأعف
للقمم أُحلِّق وأرف
للفتاتين : هل تعفَّان؟ هل تعفَّان؟
الفتاتان : ونُحلِّق للقمم نرف! (تضحكان، يلاحظ أن قمر قد أسبل عينيه، تنظران إليه في خوفٍ وإعجاب …)
الجوقة :
آه! إني خائف
قلبي يرتجف ويجزع
ماذا يمكن أن يقع الآن؟
يا امرأة تكلمتِ وفي قولك لغز
لكن الحل بشع
والمعنى في الرمز الغامض أبشع
إني خائف!
رأس يحلم في الزمن المفجِع؟
ماذا يمكن أن يحدث له؟
يُذبح في الحال ويُقطع
ويُعلَّق فوق السور أمام الناس ويُصفع
يا قمرًا إني خائف
قلبي يرتجف ويجزع

(المرأة والفتاتان في حالة وجوم، قمرٌ نائم، يهجم حارسان فجأة)

الحارسان : قفا .. لا تتحركا.
المرأة : ربي! ما هذا؟
الفتاة الأولى (تنهض فجأة) : أنا التي أوقعته في الفخ!
الفتاة الثانية (تنهض فجأة) : بل أنا
الفتاة الأولى : أنا .. أنا ..
الفتاة الثانية : أنا .. أنا ..
الحارس الأول : إنه هو.
الحارس الثاني (يتقدم من قمر) : جميل والله .. انظر وجهه.
الحارس الأول : صدقت الساحرة.
الحارس الثاني : لأول مرة تصدُق .. ما أجمله!
الحارس الأول : أشبه بملاكٍ طاهر
الحارس الثاني : يحلُم بالبدر الباهر
الفتاة الأولى : بل يحلم ببدور
الفتاة الثانية : ما شأنك أنت؟
الفتاة الأولى : الرؤيا .. تحققت الرؤيا (تمُد يدها للحارسين)
الفتاة الثانية : أنا التي أوقعته .. هاتِ أيها الحارس (تمُد يدها)
المرأة (تقف بعيدًا عنهم) : في السفح جيَف .. في السفح جيَف.
الحارس الأول : ماذا تقول؟
الحارس الثاني : ماذا تقولين يا خالة؟
الفتاتان : عجوز مخرِّفة .. لن تأخذي شيئًا.
المرأة (من بعيد) : من يحفر لأخيه حفرة، يتردى فيها …
الفتاتان : أو يأخذ أجره (تمدان أيديهما بإلحاح).
الحارس الأول : انصرفا .. ما شأننا بهذا؟
الفتاتان : ما شأنكما؟ كيف؟
الحارس الثاني : انصرفا .. قلت انصرفا .. أجركما عند الله … وعند السلطان .. أما نحن فنأخذ قمر معنا الآن

(يوقظانه بعنف، يجرَّانه معهما قبل أن يفيق تمامًا ويخرجان …)

الفتاتان : يا حراس! الأجرة يا حراس …
المرأة (صائحة ومندفعة خارج المسرح) : يا قمر .. يا قمر .. يا قمر!

٦

قصر السلطان

(قاعة العرش، السلطان مهموم ووحيد، يقوم من مكانه على الكرسي ويقطع القاعة ذهابًا وجيئة، يستدعي الوزير).

الجوقة :
أسمع صوت البوم
في القصر وجوم
في قلب السلطان هموم
الريح سموم
والشر على الأبواب يحوم
يسأل: أين سأجد العون وممن؟
من ذا يمسك بالدفة بعدي من؟
ها أنا ذا شيخ هرم مهموم
أمشي في القصر كأني شبح مهدوم
وإذا سقط النسر تداعى الدود ونعق البوم
آه .. ضل الحاكم والمحكوم
ضل الحاكم والمحكوم
السلطان : من أصدِّق ومن لا أصدِّق؟ الوزير؟ يقول لسانه: اطمئن. ويقول المكر في عينيه: إنني أدبر مؤامرة. المنجِّم؟ يؤكد أن برج السعد اقترن ببرج المجد، بينما الوباء يجتاح العباد، والطوفان ينذر بإغراق البلاد. الشاعر؟ منافق وابن منافق، يدبج قصائد المدح وعينه لا ترى نزيف الجرح، حتى الطبيب لا يعرف الدواء، آه يا ابنتي وحبيبتي! أية عين أصابتك، أي جنِّي سرق عقلك؟ تهذين وتحلمين، وتبكين وتصرخين؟ لهذا أمرت بأن تقيمي في القلعة بعيدة عني، وأنا لا أحد لي سواك، ما هذه الرؤيا التي تعذبك وتعذبني وتعذب البلاد كلها؟ والبلوى أنها انتشرت بين الناس وأصبحت على كل لسان، الصغير والكبير يقول: عندما تتحقق رؤيا الأميرة، ستتحرر الأرض الأسيرة، ولكن كيف؟ هل أترك السفينة تغرق في انتظار أمل لا يجيء ولا أعرف متى يجيء؟ أأنا سلطان أم مُفسر أحلام؟ أعلم أن ابنتي ترى ما لا أراه، كم فزعت من رؤاها وتحيرت، حتى تقع الكارثة فأتذكر ويزداد خوفي، هل سمع أحدٌ عن أبٍ يخاف أبناءه؟ أنا هذا الأب، ذات صباح صَحت من نومها وهي تصرخ: أمي ستُزَف الليلة في النعش، ابتسمت أمها التي كانت ترقد بجانبي وقالت: ابنتنا تحلم يا مولاي. ولم يأتِ الليل حتى زُفَّت الأم عروسًا للأرض، كانت صغيرة وأميرة، وأنا لم أُرزق بولدٍ يخلفني على العرش، وتزوجت السلطانة وانتظرت أن تقدِّم الهدية، وحاولت أن تكون حياتها معي ومع ابنتي سعيدة هنية، لكن ابنتي ظلت تتوجس خوفًا منها ومن ظلها، وراحت تقاطع كل من حولها، قلت لنفسي لعل الأيام تصل ما انقطع، وتشفي الجرح وتُزيل الوجع، حتى كان يوم سمعتها تصرخ والنوم لا يزال في عينيها: لا تدع الحية تسكن في البستان! لا تدع الحية تسكن في البستان! لم أستطع أن أتهم أحدًا ولم أجد دليلًا على خيانة، وحاولت أن أوفِّق بين ابنتي والسلطانة، حتى جاء يوم وسمعتها تطرق على الباب وتصرخ: اقطع رأس الحية حتى لا تقطع رأسك! وأمرت أن تعيش السلطانة في قصرٍ آخر، وودَّعت الأمل في ولدٍ ضنَّ به الحظ العاثر، حتى كان يوم رأيت فيه بدر البدور، تجري في أرجاء القصر وتدور، وتهتف يا قمر الزمان، تعالَ أصلح الأمور .. ناديت عليها وهدأتها، داعبتها وأغرقت بالقُبَل رأسها وصدرها، لكن الرؤيا لم تتركها يومًا ولا ليلة، والخوف من أن تفقد عقلها ألقى عليَّ ظله، وساءت الحال بالأميرة والبلاد، وتنبأ المفسرون بأن تحقيق الرؤيا يحرر الأسيرة والعباد، وجاء المنجمون والأطباء، من كل الجهات والأنحاء، وكل واحد منهم يزعم أن معه الشفاء، كان الجميع يعرفون أن الشرط قاسٍ، وأن من يعجز عن شفاء المريضة يُجازى بقطع الرأس، فمتى يا رب تريحني من ضعفي وحيرتي، متى تهلُّ طلعتك يا قمر وتفوز بعرشي وابنتي؟ هل أستدعي الطبيب؟ ولكنه عاجز لا يُجيب، أأنادي على المنجِّم؟ شبعت من كلامه المبهم، هل أرسل الحرس للساحرة؟ إنها عجوز ماكرة، وطمَّاعة غادرة، لا تَعِد وعدًا، حتى تطلب الثمن نقدًا وعدًّا، آه دبرني يا وزير، هذا ما يقوله العاجز عن التدبير. (ينادي): يا وزير! يا وزير! يا حرس! يا غلام (يتقدم أحد أفراد الجوقة ليقوم بدور الحارس) نادِ الوزير .. قل له .. لا .. لا.
الحارس : أناديه أم لا أنادي؟
السلطان : اذهب! اذهب .. قل له يأتي في الحال، وعجِّل قبل أن يسوء الحال (لنفسه بعد أن ينصرف الحارس): وهل أسوأ من هذا الحال؟ هل أسوأ من هذا الحال؟
الوزير (يدخل) : مولاي!
السلطان : يا وزيري، عجزت عن التفكير والتدبير.
الوزير : حاشا لله يا مولاي.
السلطان : لا داعي للإنكار، هذا ما تردده الألسنة ليل نهار، هل نفَّذت ما أمرتك به؟
الوزير : الأمن مستتب يا مولاي.
السلطان : دائمًا تتحدث عن الأمن فتثير ريبتي.
الوزير : ستثبت الأيام أنني الوفي الأمين.
السلطان : اترك الأمن الآن والأمين .. كيف وجدت بدر البدور؟
الوزير : بخير يا مولاي .. وقد شدَّدت الأوامر برعايتها.
السلطان : بخير؟ أتريد أن الأمن مستتب هنا أيضًا؟
الوزير : وكل شيء على ما يرام.
السلطان : لعنك الله! والجنون الذي يعصف بعقلها؟
الوزير : لا تقل الجنون يا مولاي .. إنها الرؤيا.
السلطان : الرؤيا أو الجنون، وما الفرق؟ ألا ترتعش المسكينة من الحمَّى؟
الوزير : لم يقل الطبيب هذا يا مولاي.
السلطان : ولا المنجِّم، ولا العرَّاف، ولا الحاسب، ولا الكاتب، وها أنت أيضًا تنكر يا وزير، والأميرة تموت أمام أعينكم، والبلد كلها تموت.
الوزير : ستتحقق الرؤيا عن قريب، وسيقترن برج السعد ببرج المجد.
السلطان : وتغرق السفينة في الطوفان .. ألم يقل المنجم هذا أيضًا؟
الوزير : لا لم يقُله، قالته الأميرة!
السلطان : بدر البدور، هل سمعتها تقول هذا؟
الوزير : شيئًا يشبه هذا يا مولاي، سمعته اليوم منها وأكدته مرجانة.
السلطان : مرجانة؟ من هذه؟
الوزير : الجارية التي ترعاها يا مولاي، أكدت أنها تكرر هذا القول.
السلطان : ما الذي تكرره؟
الوزير : ما قلته يا مولاي .. السفينة …
السلطان : سفينة تغرق .. أتكون رؤيا أخرى يا وزير؟
الوزير : لا أدري يا مولاي، هل أستدعي المنجِّم؟
السلطان : بل نادِ ابنتي .. أريد أن أراها الآن.
الوزير : أمرُ مولاي.
السلطان : عاملها برفق .. انزع الأغلال من قدميها ويديها.
الوزير : لم نفعل هذا إلا بأمرك يا مولاي.
السلطان : أسرع .. أسرع .. اصعد للقلعة مع الحراس وائْتِني بها.
الوزير : هي بالباب يا مولاي.
السلطان : ويلك! لماذا لم تقل هذا من البداية؟ لماذا لم توفر عليَّ ثرثرتك؟ هيا .. أدخلها واخرج.
بدر (وهي على الباب) : ابن سفينة نوح …
السلطان : تعالي يا ابنتي.
بدر : ابن سفينة نوح …
السلطان : أهي رؤيا جديدة؟
بدر : نفس الرؤيا.
السلطان : وقمر الزمان؟
بدر : هو نوح.
السلطان : اقتربي .. هيا يا حبيبتي .. أعطِ أباك قُبلته كما كنت دائمًا تفعلين.
بدر : القُبلة بعد الطوفان .. القُبلة للربان
السلطان : لنوح أم الربان؟
بدر : قمر هو نوح .. نوح هو الربان، هو قمر زمانك وزماني.
السلطان : نعم يا حبيبتي .. ولكنك لن تبخلي على أبيك بقُبلة.
بدر : القُبلة للربان
السلطان : نعم نعم .. سنتحدث في الأمر …
بدر : لا تتحدث! ابن سفينة نوح .. إني أخشى الطوفان.
السلطان : وأنا أيضًا أخشاه، أتظنين أن أباك لا يشعر بما تشعرين، أتظنين أنه لا يرى رؤياك؟
بدر : رؤياي يراها كل الناس.
السلطان : ولكنك وحدك التي تعرفينه .. أنت التي تستطيعين التعرُّف عليه.
بدر : سيجيء قريبًا.
السلطان : من يا حبيبتي؟
بدر : نوح .. قمر زمانك وزماني .. حين يجيء تعود إلى الأرض الخضرة وتعود الخضرة للإنسان.
السلطان : ليتني أراه أيضًا يا ابنتي، ليته يأتي الآن، ولكنني شيخٌ عجوز يا بدر، هل سننتظر حتى تُفسَّر الرؤيا، هل بقي في العمر متسع للانتظار؟ ماذا نفعل يا ابنتي؟ نستدعي كل شباب البلد أمامك؟ هل سيكون واحدًا منهم؟ وماذا نفعل إذا كان من بلدٍ آخر؟ من يحضره لنا؟ من يتعرف عليه؟
بدر : أنا أعرفه حين أراه …
السلطان : هل دلتك الرؤيا على وجهه؟
بدر : هو يعرفني حين يراني …
السلطان : بالطبع ستتعارفان، المهم أن يأتي يا حبيبتي.
بدر : قمر رأى رؤياي … هو أيضًا يعرف وجهي، يسمع وقع خطاي (طَرق على الباب).
السلطان : وأنا أسمع طَرقًا على الباب. اذهبي الآن يا حبيبتي .. يا وزير …
بدر (أثناء دخول الوزير) : اقطع رأس الحية .. ابن سفينة نوح …
الوزير : مولاي! أمر عاجل يا مولاي!
السلطان : أوصل بدر البدور إلى حجرتها .. شدد الأوامر برعايتها.
الوزير : نعم نعم .. إنه أمرٌ عاجل يا مولاي!
السلطان : ما هذا؟ ماذا جرى؟
الوزير : قلت إن الأيام ستثبت لك أني وفي أمين، ها هو الدليل …
السلطان : دليل على ماذا؟ قلت لك خذ بدر البدور إلى حجرتها
الوزير : بالطبع يا مولاي .. يا حراس! سِر مع الأميرة إلى حجرتها (الحارس يتقدم ليضع الأغلال في يدها …)
الوزير : وترفق يا حارس
السلطان : يا حارس .. لا تقسُ عليها .. أوصِ عليها مرجانة.
بدر (وهي تنصرف وتتلفت وراءها) : ابن سفينة نوح … اقطع رأس الحية …
الوزير : سمعت يا مولاي؟ هذا ما تردده بالليل والنهار .. ولكنك ستُحسن الاختيار.
السلطان : ماذا تعني؟
الوزير : لن تختار الخونة على السفينة.
السلطان : الخونة؟ هل تتكلم مثلها بالرؤى والألغاز؟
الوزير : لا رؤى ولا ألغاز، إنني الوزير لا المنجِّم، الخونة …
السلطان : وتكرر الكلمة؟
الوزير (صائحًا) : ادخلوا بهما يا حراس.

(يظهر قمر والسلطانة مغلولين في قيدٍ حديدي، وراءهما حارسان).

السلطان : مَن؟ السلطانة؟ ومَن هذا؟
الوزير : من يدري؟ جاسوس أو لص أو عبد مارق …
حارس : وكذلك زير نساء ومنافق …
الوزير : من أمرك بالكلام؟
حارس : كان ينام كظبي عاشق، حتى انكشف النذل السارق
حارس : والذئب الخائن …
الوزير : قلت اسكتا .. أو تكلما عمَّا حدث.
السلطانة : اسكتا وتكلما .. خوِّنا واتهما غيركما بالخيانة .. غيِّرا الوجوه والْعبا على كل الحبال.
الوزير : لو كنت مكانك لسكتُّ.
بدر : لو كنت مكانك لخجِلت.
السلطان : ما هذا؟ ماذا حدث؟
الوزير : اسأل حضرة السلطانة.
السلطانة : اسأل حضرة الوزير.
السلطان : بل أسأل هذا الغريب؟ تكلم يا بني .. مَن أنت؟
قمر : غريب ويتيم وفقير.
السلطان : وماذا تفعل هنا؟
قمر : أبحث منذ شهور وشهور، علِّي أجد السرَّ المستور، وأحقق حُلم الأرض العطشى للحرية والنور
حارس : ويغازل الأرض أيضًا
حارس : بعد أن غازل الحور
الوزير : وصحا ليكشف الستر، ويستلَّ سكين الغدر
الحارسان : نحن كشفناه، نحن سمعناه
السلطانة : بل فضحتما السر، وكشفتما الستر، مولاي .. وزيرك خانَك.
الوزير : أم أنت التي خنتِه؟ تكلما أيها الحارسان.
السلطان : بل تكلم أنت يا ولدي …
قمر : بريء يا مولاي.
حارس : براءة يوسف أم الذئب؟
السلطان : وتتصنتان أيضًا على الأبواب؟
السلطان : اسكتوا جميعًا .. ماذا فعلت أيها الغريب؟
قمر : راودتني عن نفسي يا مولاي.
السلطان : هكذا .. كانت ابنتي على حق .. تكلم يا بني.
قمر : لكن الحكمة عصمتني.
السلطان : أية حكمة؟
قمر : التي قالها لي الحكيم الأعمى …
السلطان : وماذا قال لك؟
قمر : لا تخُن من ائتمنك.
السلطان : ومن الذي ائتمنك؟
قمر : حُلمي يا مولاي ورؤياي.
السلطان : حُلمك .. رؤياك (يحدق فيه طويلًا ويهز رأسه …)
حارس (ضاحكًا) : كان يحلُم عندما أمسكناه .. لكن السلطانة أدرى بما كان يحلم به.
السلطانة : أخرِسهما يا مولاي.
الوزير : قلت اسكتا حتى يأمر مولانا بالكلام.
السلطان : أكمِل يا ولدي .. هل أغرتك بالمال؟
الوزير : وأغراها بالجمال.
السلطانة : امنعه يا مولاي من إهانتي .. ما زلت أنا السلطانة حتى تثبت تهمتي.
السلطان : نعم نعم .. ما زلت السلطانة (لنفسه): اقطع رأس الحية حتى لا تقطع رأسك .. تكلم يا ولدي .. هل أغرتك بالمال؟
قمر : والعرش يا مولاي.
السلطان : العرش؟
قمر : قالت لي: أنت قمر الزمان الموعود.
السلطان : هل هذا اسمك؟
قمر : نعم يا مولاي .. سمتني أمي بعد أن مات أبي قبل ولادتي.
السلطان : ولماذا لم تقبَل منها العرش.
قمر : هي لا تملك أن تعطيه .. تملكه مَن في يدها السر وتخفيه.
السلطان : مَن تملك هذا السر؟
قمر : هي بدر.
السلطان : ماذا قلت؟
قمر : بدر .. بدر.
السلطان : من قال بهذا؟ أسمعت الناس يقولونه؟
قمر : قالته الرؤيا.
السلطانة : سمعت بنفسك يا مولاي؟ من منا يطمع في العرش؟ من يطلبه؟
قمر : أنا لا أطلبه، هو يطلبني..
السلطانة : مغرور كذاب.
قمر : عفوًا يا مولاتي، سأصحح قولي.
السلطان : ماذا ستقول؟
قمر : لن أقول شيئًا، ستقول الأرض.
السلطانة : العطشى للحرية والنور .. سمعت يا مولاي؟
السلطان : سمعت سمعت، لكني لم أفهم شيئًا …
السلطانة : اسأل الوزير الذي سلَّطه عليَّ
السلطان : بل أسأل نفسي: من منكم الخائن؟ من أصدق ومن لا أصدق؟ وإذا كان هو الخائن، فكيف يرى الرؤيا؟ وإذا صدقت رؤياه فكيف يخون؟ هل أدعو ابنتي؟ هل يمكنها أن تتعرف عليه؟ وكيف أعرض عليها من يخونني مع زوجتي؟ كيف أزوجها له؟
صوت بدر البدور : اقطع رأس الحية …
السلطان : أم رأس الثعبان؟
صوت بدر البدور : ابن سفينة نوح …
السلطان : أيكون الخائن نوحًا؟ أيكون الخائن كالربان؟ لا لا لا .. يا وزير …
الوزير : أمرك يا مولانا …
السلطان (بصوتٍ حاسم) : اكتب ما أمليه عليك (للسلطانة): سأرسلك إلى أبيك، رجلٌ أثق بعدله، يضع الميزان لأهله، سيُحكِّم فيك العُرف، هو أدرى مني بالأحكام، وسيعرف من كان بريئًا ممن خان. يا وزير (يختلي بالوزير على انفرادٍ يملي عليه ويكتب الوزير)
الوزير : هيا يا حراس …
السلطان : لا .. ليذهب معهما حارسان آخران … وليبقَ هذان تحت الحراسة حتى نعرف الخبر اليقين.
الحارسان (يبكيان) : مولانا هل يحرسنا الحراس؟ أنقدم إليك رأس الحية فتسلط سيفك على رءوسنا؟
السلطان : رأس الحية؟ من يدري من منكم رأس الحية ومن السيف المسلط فوق السلطان؟ (للسلطانة): أنت؟
السلطانة : أنا يا مولاي؟ غدًا تدخل عليك براءتي كما دخلتُ عليك في ليلة الزفاف.
السلطان : حقًّا .. كان هذا من زمنٍ طويل … والزمن لا يثبت على حال (ثم لقمر): أم أنت؟
قمر (مناجيًا شخصًا لا نراه) : أعمى العينين بصير القلب .. يا عمي خذ بيدي.
السلطان : من الذي تخاطبه؟
قمر : الأعمى يبصر دربي، وسينقذ من سيفك رأسي وينوِّر قلبي.
السلطان : اختلط الأمر عليَّ، خذوهم يا حراس (يدخل حراس من أفراد الجوقة) أنتما (للسلطانة وقمر) أنتما لكفة الميزان، وأنتما (للحارسين) للسجن والسجان.
الحارسان : أهذا جزاؤنا؟! (يبكيان)
السلطان : أتأخذانه مرتين؟ ومن قال إن قمر هو قمر، من يعرف إن كانت الرؤيا هي الرؤيا؟ من؟ من؟ خذوهم يا حراس، خذوهم .. خذوهم (وحده بعد انصراف الجميع)، اختلط الأمر علي فأين الكذب من الصدق؟ اشتبه الحق مع الباطل والتبس الباطل بالحق (السلطان يميل برأسه على مسند الكرسي فلا ندري إن كان يبكي أو أخذته سِنة من النوم).
الجوقة :
أين الكذب من الصدق؟
اشتبه الحق مع الباطل
والتبس الباطل بالحق
إن كان السلطان مريضًا كالنَّسر القابع في السفح
فالشعب أسير وكسير
مجروح يدميه الجرح
ينتظر الرؤيا لتُحقق وعد الحُلم،
ويقاس الظلم ولا يشهد غير الدم
ذلَّت في الطين نفوس
وتدلت من فوق السور أمام القصر رءوس.
يا نوح الغارق في النوم تعال
ابنِ سفينتك وعجِّل قد ساء الحال
بدر في الأسر سجينة
عاقلة أم مجنونة؟
قمر يُساق إلى الموت مع السلطانة
مسكين مع مسكينة
أين هما الآن وهل وجد الحق طريقه؟
هل ينتصر على زيف الباطل أم يبدو الباطل كحقيقة؟
يا بحر الزمن ترفَّق وارحم يا بحر غريقًا وغريقة.
فلنسرع في الخَطو الآن لندرك قمر مع سلطانة
ولينتبه النائم حين يؤذن ديك الفجر أذانه
يا قمر! يا سلطانة!
يا قمر! يا سلطانة! (يُسمع أذان الديك)

(يدخل أحد الحراس مسرعًا إلى السلطان، يفيق من غفوته وينتبه إلى الحارس).

الحارس : مولاي! مولاي!
السلطان : من؟ ماذا تريد؟ ماذا دهاك؟
الحارس : فتاتان بالباب يا مولاي .. فتاتان من الشعب.
السلطان : وماذا تريدان؟ من سمح لهما بالدخول؟
الحارس : حراس البوابة يا مولاي، ألحَّا في طلب المقابلة حتى تجمَّع الناس على صياحهما.
السلطان : أدخلهما .. هيا (تدخل الفتاتان وهما تصيحان).
الفتاة الأولى : سرقونا يا سلطان .. سرقونا.
السلطان : من الذين سرقوكما؟ ألا أسمع في هذا اليوم إلا عن سارقٍ أو خائن؟
الفتاة الثانية : وخانونا أيضًا .. سلمناهم الأمانة فضنُّوا علينا بالأمانة.
السلطان : فهمت .. تتكلمان عن الأمانة وتقصدان الخيانة .. يبدو أن العدوى انتشرت في كل مكان.
الفتاتان : المكافأة .. أَجرُنا يا مولانا السلطان.
السلطان : أجركما .. على أي شيء؟
الفتاة الأولى : ألم يعلن المنادي في الصباح، ألم يصِح في السوق حتى ضجَّ الحجر وصاح؟
السلطان : آه .. أأنتما …
الفتاتان : نعم نحن …
السلطان : الحور العين .. والظبي الحالم.
الفتاتان : تمامًا .. كان يحلم حين أمسكنا به.
السلطان (ضاحكًا) : ولا يزال يحلم حتى تثبت براءته أو يُقطع رأسه .. اذهبا .. انتظرا أيامًا وعودا.
الفتاة الأولى : حتى نرى رأسه على السور!
السلطان : أو ترياه على العرش .. اذهبا .. اذهبا كيف تقف فتاتان هكذا، كيف تخرجان من بيتكما في هذا الليل؟
الفتاة الأولى : الليل .. ألا تسمع صياح الديك يا مولانا؟
السلطان : حقًّا .. مع أني لم أنَم لحظةً واحدة .. اذهبا .. اذهبا وعودا بعد أيام.
الفتاتان : والمكافأة؟ وأجرُنا يا سلطان؟
السلطان : خذوهما يا حراس .. يا حراس (يهجم عليهما الحراس بالقيود والأغلال).
الفتاتان : لا لا .. سنذهب، سنذهب، الأفضل أن يصيح الديك ونحن في الدُّور، على أن تتدلى رءوسنا من فوق السور (يسمع الديك … يقف السلطان لحظةً ثم يرتمي على كرسيه، يتثاءب ويغرق في النوم).
الجوقة (تتدخل) :
والآن يؤذن ديك الفجر أذانه.
فلنسرع كيما ندرك قمر وسلطانة.
يا قمر! يا سلطانة!
يا قمر! يا سلطانة!

٧

على الطريق

(قمر وسلطانة على الطريق، يبدو عليهما الإعياء وغبار السفر، الحارسان يمشيان بجانبهما وفي يد كل منهما قيد مغلول إلى يد أحد السجينين، جبل وعر وطريق قفر …)

الجوقة :
الشمس تميل إلى الغرب
والقدم تسير على الدرب
هل يُفضي الدرب إلى غاية؟
هل يعرف بدءًا ونهاية؟
قمر قد تعب وسلطانة
والحارس مكدود مضنى
يتمنَّى أن يغمض عينًا
ويسلم للنوم عنانه
لكن الخوف يُؤرقه،
وغبار الرحلة يرهقه
فيميل ويسبل أجفانه
يا حارس رفقًا وتأنَّى
فسجينك في القيد مُعَنًّى
والجوع تمكن من قمر
والعطش يعذب سلطانة
وسجينك يرثي سجَّانه
ائْو إلى الظل ولا تجزع
وتروَّ قليلًا لا تفزع
واسأل من تجد على الدرب
للشرق تروح أم الغرب
قد تجد لديه ما يروي
أو تجد لديه ما يُشبِع
جلس الأربعة بلا صوت
والموت يحوم في صمت
كغرابٍ أسود يتخبط
في الجو ولكن لا يهبط
حتى يختار ضحيته
فيحط على رأس تسقط
السلطانة : تعبت.
قمر : استريحي .. ألا يزال الطريق بعيدًا؟ (يتأمل المكان)
السلطانة : عطشت وجعت.
قمر : ربما نكون قد ضللنا .. هل أنت متأكدة؟
السلطانة : ماءً .. قلت عطشت.
قمر : يا حارس .. أنت.
الحارس الأول : ماذا تريد؟
قمر : انظر في هذه الناحية .. أو هذه .. ربما تجد إنسانًا يسقينا.
الحارس الأول : لا أستطيع.
قمر : ولماذا لا تستطيع؟ قد تجد نارًا من بعيد .. بيتًا أو كوخًا.
الحارس الثاني : لا نستطيع.
قمر : أنت أيضًا؟ السلطانة عطشانة وجائعة.
الحارس الثاني : لكي أنظر في هذه الناحية لا بد أن أفك قيدك .. ولكي ينظر في تلك الناحية لا بد أن يطلق قيدها .. الأوامر مشدَّدة.
قمر : بأن تتركونا جائعين ظامئين؟
الحارس الأول : بألا نترككما أبدًا.
قمر : وإذا متنا؟
الحارس الأول : أنتما المتهمان لا نحن (يستخرج من جرابه زجاجة) هذا هو الماء.
قمر (ينتزعه منه ويسقي السلطانة) : أليس معك شيء يُؤكل؟
الحارس الثاني (يستخرج لفة من جرابه) : خذ (يجلسان وينظران كصنمين).
قمر (لا يزال يسقي السلطانة) : اشربي جرعةً أخرى.
السلطانة (تُفيق وتتأمله) : عطشان يسقي عطشانة.
قمر : خذي هذه اللقمة .. لا بد أن تأكلي شيئًا.
السلطانة : جوعان يطعم جوعانة .. ألا تأكل أنت أو تشرب؟
قمر : فكري الآن في نفسك .. جرعة أخرى؟
السلطانة (فجأة) : اقترب مني (تتحسس رأسه بقدر ما يسمح القيد في يدها) ما أجملك!
قمر : ينظران إلينا كذئبين جائعين.
السلطانة : قلت اقترب .. ما أبدع هذا الرأس! (يبتعد عنها) ألا تخاف أن يسقط؟
قمر : لا أبالي أن يسقطه سيف الحق.
السلطانة (ضاحكة) : والرؤيا؟
قمر : سيراها إنسانٌ آخر.
السلطانة : ويتزوج بدر البدور.
قمر : أو بدرًا أخرى.
السلطانة : ألا يمكن أن يراني؟
قمر : إن بقيت رأسك فوق كتفك (يضحك).
السلطانة : ألا تثق في عدالة أبي؟
قمر : أثق في العدل.
السلطانة : كأنك واثقٌ من إدانتي .. نسيت أنه أبي.
قمر : لم أنسَ ما قالوه عنه .. عادل!
السلطان : حتى مع ابنته؟
قمر : الميزان لا يفرق بين أحد، كلهم أبناؤه.
السلطانة : رجل صارم .. رجل قاسٍ.
قمر : قلتِها بنفسك .. فلماذا تخافين أو أخاف.
السلطانة : أخاف أن يسقط هذا الرأس الجميل قبل أن أشبع منه.
قمر : وأخاف من عيون هذين الحارسين وآذانهما .. لُقمة أخرى؟
السلطانة : ليت ذكاءك يعادل شهامتك وكرمك!
قمر : وماذا تفهمين من الذكاء؟
السلطانة (هامسة) : أحبك .. أحبك.
قمر : لا تنسي أننا مراقبان.
السلطانة (هامسة) : لماذا حرمتني من هذا الشيء الوحيد؟
قمر : إنهما ينظران إلينا.
السلطانة : ينظران ولا يريان .. دعك منهما. لماذا؟ لماذا؟
قمر : الصوت منعني.
السلطانة : وتُصدق هذا الأعمى؟
قمر : ربما كنت أنا الأعمى ساعتها .. وجاءت الحكمة فأبصرت لي.
السلطانة : أكنت إذن؟
قمر : أنا أيضًا من لحمٍ ودم.
السلطانة : لو كنت فعلت لتَمَّ كل شيء.
قمر : أي شيء؟
السلطانة : الخطة التي دبرتها.
قمر : تقصدين المؤامرة.
السلطانة : الاسم لا يهم .. المهم أنك كنت ستجد نفسك على العرش وأنا بجانبك.
قمر : لم تقُل الرؤيا هذا.
السلطانة : كان يمكنك أن تجعلها تقول ما تريده .. إنها رؤياك.
قمر : ليست رؤياي.
السلطانة : ألم ترها أنت؟
قمر : هي التي رأتني.
السلطانة : أتريد أن أفقد عقلي .. هي من؟
قمر : الأرض، روح الأرض .. قلب النبع ونبض القلب.
السلطانة : أتظل تحلُم حتى يقع السيف على رقبتك؟
قمر : المهم أن نتشبث بالحُلم حتى النهاية (يسمع صوت شخير الحارسين).
السلطانة : هيا .. هيا.
قمر : ماذا تريدين؟
السلطانة : دائمًا يخونك ذكاؤك؟
قمر : المهم ألَّا أخون.
السلطانة : من؟
قمر : من ائتمنني.
السلطانة : وإذا كان يريد رأسك.
قمر : أو رأسك .. سنرى ما يحكم به الحق.
السلطانة : وإذا كان في يدنا أن نفتح الخطاب ونقرأ ما فيه .. وأن نأخذ مفتاح القيد ونهرب.
قمر : إلى أين؟ إذا هربت من الرؤيا فلن تهرب مني.
السلطانة : هذا الرأس الجميل (يتحرك الحارسان)
قمر : لقد تحركا..
الحارس الأول : تحلمان بصوتٍ مرتفع.
الحارس الثاني : وتظنان أن القيود والخطابات تُفتح بسهولة.
قمر : سمعت؟
السلطانة : أغبياء .. كلكم أغبياء.
الحارس الأول : هيا!
الحارس الثاني : هيا!

(تنهض السلطانة وقمر في صمت، يتهيأ الجميع للتحرك عندما يسمع صوت الزمر والطبول، قمر يجمد في مكانه).

الحارس الأول : تحرك.
الحارس الثاني : هيا هيا .. لا وقت نضيعه .. نريد أن نصل قبل حلول الليل (قمر في مكانه).
الحارس الأول : أنت.
الحارس الثاني : أنت .. أنت.
قمر : ها هو ذا ينادي.
الحارس الأول : لم أنادِ فقط .. لقد صِحت.
الحارس الثاني : لا نريد أن نبيت في هذا القفر.
قمر : إنه هو!
الحارسان : من؟
السلطانة : أرأيت أحدًا يا قمر؟
قمر : بل سمعته! سمعته!
الحارس الأول : عجبًا .. هل نادى أحد؟ (يتحرك في اتجاه الصوت الذي لا يسمعه).
السلطانة : هيه! كدت توقعني على الأرض.
الحارس الأول : ماذا تنتظر؟
قمر : ماذا أنتظر؟ حقًّا .. ها أنا ذا .. ها أنا ذا (يحدقون فيه).
السلطانة : ماذا يا قمر .. أهي رؤيا جديدة؟
قمر : بل هو نفس الصوت.
السلطانة : ماذا يقول؟
قمر : يقول ما سمعته منه.
السلطانة : سمعته ممن! أتريد أن نُجن؟
قمر : إن لقيت عرسًا فلا يفوتك.
السلطانة : ماذا تقول؟
قمر : لم أقل شيئًا .. هو الذي قال.
السلطانة : ومن هو هذا؟ تذكَّر …
قمر : لا حاجة للتذكر .. إنها حكمته الثالثة (يسمع صوت رهيب غامض: إن لقيت عرسًا فلا يفوتك).
السلطانة : الأعمى المخبول؟
قمر : الحكيم .. المبصر .. يا حراس …
الحارس الأول : ماذا تريد؟
قمر : فكَّا القيد حالًا.
الحارسان : مجنون أنت؟ نفكه لنُقيَّد به إلى الأبد؟
قمر (بصوتٍ مرعب) : قلت فُكَّاه.
الحارسان : وإذا لم نفعل؟
قمر : أفكُّه أنا (بحركةٍ مفاجئة يكون قد نزع يديه من القيد الحديدي ووقف أمام الثلاثة حر اليدين).
السلطانة : قمر! إنك تخيفني.
الحارس الأول : أتظن أن فكَّ القيد يعني الهرب؟
قمر : أنا لا أهرب.
السلطانة : أتتركني وحدي يا قمر؟
قمر : لن أتركك ولن أهرب.
السلطانة : ولماذا فعلت هذا؟
قمر : إنها الرؤيا!
الحارسان : الرؤيا فكت قيدك (يضحكان).
قمر : أمرتني وأطعت.
السلطانة : أمرتك أن تخون؟
قمر : مثلي لا يخون .. إنني أتعهد بالعودة.
السلطانة : وإلى أين تذهب؟
قمر : إن لقيت عرسًا فلا يفوتك .. هكذا قال (تسمع أصوات الطبول والمزامير).
الحارس الأول : ومن سيتركك تذهب؟ (يجرِّد سيفه.)
الحارس الثاني : خلِّ الرؤيا تنفعك (يُجَرِّد سيفه.)
قمر (يرفع ذراعه ويصرخ بصوتٍ مخيف) : والرؤيا ترد سيفيكما إلى صدوركما .. اتركاهما (السيفان يسقطان).
قمر : أعدكما وأقسم برؤياي .. بالحُلم وبدر البدور.
السلطانة : أن ترجع؟ هيهات أن تسلم رأسك بيديك.
قمر : سأحقق وعدي .. وأسلمه إن لزم الأمر .. (يسمع وقع الطبول والمزامير والغناء أعلى وأشد) سأعود .. سأعود .. سأعود (قمر يذهب يقف الحارسان مذهولين .. السلطانة تتبعه بنظراتها لحظةً ثم تغرق في الضحك …)
السلطانة : هيا .. لا وقت لدينا.
الحارسان : تضحكين يا سلطانة؟
السلطانة : ولماذا لا أضحك؟
الحارسان : ألم تفكري في مصيرنا؟ ماذا نقول للقاضي؟ ماذا يقول السلطان؟
السلطانة : لن تقولا شيئًا .. سأتولى كل شيء (لنفسها): سأسلم بنفسي الخطاب لأبي .. هذه فرصتي للنجاة .. (تضحك) هيا .. هيا لقاضي العدل. (يمضي الثلاثة صامتين … يختفي الجميع من على المسرح، إظلامٌ تام يستمر لحظات ثم تُضاء الأنوار، نرى قمرًا يجري مسرعًا ومن خلفه بدر البدور، وفي يدها حذاء، تُرى مربيتها مرجانة التي تحاول اللحاق بها).
مرجانة (تجري وراءها) : مهلًا يا ابنتي.
بدر : قمر! يا قمر!
مرجانة : يا ابنتي تقطعت أنفاسي .. يا ويلي من أبيك .. كنت أظن أن العرس سيخفف عنك.
بدر : أمسكيه يا مرجانة .. أدركيه أدركيه.
مرجانة : ومن يدركنا نحن؟ آه .. قلبي يسقط في قدمي .. هل رجعت إلى الحُلم؟
بدر : رجع إليَّ يا مرجانة .. رجع إليَّ.
مرجانة : إنه شابٌّ ككل الشباب .. رقصت معه كما رقصت مع غيره.
بدر : وبحثت عنه ووجدته
مرجانة : هذا الولد المسكين؟
بدر : هو يا مرجانة .. وجهه وملامحه .. نظرة عينيه وكلامه .. تعالي نلحق به قبل أن يختفي.
مرجانة : الجبل وعر يا ابنتي .. ما هذا؟ تمشين وقدمك حافية!
بدر : هو حذاؤه يا مرجانة .. هو العلامة.
مرجانة : العلامة .. يا خسارتي فيك!
بدر : ليس جنونًا يا مرجانة .. إنها الرؤيا.
مرجانة : تعطينه حذاءك ويأخذ حذاءك .. وتبحثين عن القدم المناسبة .. وأموت قبل أن تجديه .. أتظنين نفسك …
بدر : وُرَيقة الحنا .. أنسيت؟
مرجانة : ولكنك ابنة السلطان .. وهو فقير شحاذ.
بدر : الرؤيا قالت هذا .. يا قمر! يا قمر!
مرجانة : لن تجديه (يظهر قمر من خلف صخرة).
قمر : ستجدينه وتفقدينه.
بدر : قمر! تختفي وراء الصخرة وتتركنا نلهث ونصيح؟
قمر : وتعرفين اسمي؟
بدر : نسيت بدر البدور؟! ألم نلتقِ يا قمر؟! ألم نتواعد؟!
قمر : ورقصنا حتى طلع الفجر .. وحلمت بأنك …
بدر : ولماذا تحلم والحُلم حقيقة؟ انظر في وجهي. أنا بدر البدور.
مرجانة : بنت الملك الغيور .. سلطان الجزائر والبحور والسبعة قصور.
قمر (يتأملها) : ليتك كنت فقيرة.
بدر : فقيرة إليك يا قمر.
قمر : ليتك ما كنت أميرة.
بدر : نسيت الأميرة الأسيرة؟
قمر : الأميرة الأسيرة؟
بدر : في القلعة المهجورة.
قمر : حقًّا. الرؤيا قالت هذا …
بدر : وأطلُّ عليك من الشرفة .. تتسلق شَعري الذهبي.
قمر (مرددًا) : فُكِّي عني الأسر .. فُكِّي عني الأسر.
بدر : قدمي في الأغلال .. روحي في الأغلال .. حررني من هذا الأسر.
قمر : أشعر أني مسحور .. فُكِّي عني السحر.
بدر : بل أنت الفارس .. خلصني من هذا الأسر.
قمر (صائحًا) : لا لا أقدر .. لا أقدر.
بدر : لمَ يا قمر .. وجدتك بعد سنين الغربة بعد سنين الهجر .. (يتراجع للوراء) أقدِم يا فارس حُلمي .. لا تتقهقر.
قمر : أنا مثلك مغلول اليد .. مشلول الرقبة والصدر.
بدر : الرؤيا صدقت يا قمري .. والأرض تنادي.
قمر (مرددًا) : ومرارة كل الأيام .. لا لم تصدق يا بدر.
بدر : بل صدقت يا قمر .. تعالَ .. تقدم .. سِر.
قمر : مغلول الرقبة والصدر.
بدر : أنا بجوارك .. مُد يديك.
قمر : يدي في الأسر.
بدر : زال الأسر وزال السحر .. أنا بجوارك يا قمر.
قمر : وأنا لا زلت بعيدًا (يبتعد شيئًا فشيئًا).
بدر : لم تبتعد تعالَ.
قمر : أمر السلطان.
بدر : أبي؟
قمر : والسيف يحوم على النحر.
بدر : السيف؟ ماذا حدث؟ تكلم!
قمر : في الأمر خيانة.
بدر : الرؤيا لا تكذب أبدًا .. قمري ليس بخائن.
قمر : هل خانتني .. أم أنا خنت السلطانة؟
بدر : اقطع رأس الحية .. هل نسِيَ كلامي؟
قمر : القاضي يحكم في الأمر .. وداعًا!
بدر : هل تذهب للسيف بنفسك؟ أتضحي يا قمر برأسك؟
قمر : وعد يا بدر.
بدر : وقد يسلمك إلى القبر.
قمر : أو يفتح لي باب القصر.
قمر : وداعًا يا بدر!
بدر : خذ هذا معك.
قمر (ضاحكًا) : حذاء؟
بدر : أنسيت السر؟ أنسيت الرؤيا؟

(قمر صمت … يتذكر.)

بدر : خذه .. سلِّمه لحراس القصر.
مرجانة : خذه يا ولدي .. اجعله علامة.
قمر : وعلامتك؟
بدر (تريه حذاءه) : هذا.
مرجانة : والعرق المتصبب مني .. وتورم قدمي من هذا الصخر!
قمر (ضاحكًا) : لن أنسى يا مرجانة .. لن أنسى.
بدر : هل تذهب؟
قمر : الوعد ينادي.
بدر : أخاف عليك (تبكي).
قمر : صوني دمعك يا بدر.
بدر : وأراك تسارع للقبر؟
قمر : أو للقصر.
بدر (تبتسم) : أنتظرك يا قمري …
قمر : في هذا القفر؟ لا لا .. عودي .. عودي .. يا مرجانة!
مرجانة : مرجانة شلَّت رجلاها .. والنفَس انقطع من الصدر!
قمر (ضاحكًا وهو يبتعد) : تلك علامة.
بدر : لا تنسَ الأخرى.
قمر : هي في صدري.
بدر : لا تنسَ السر.
قمر : قد أحمله للقبر.
بدر ومرجانة : بل للقصر .. بل للقصر.
قمر : عودا في خير.
بدر : وتعود سريعًا؟
قمر : من يدري؟
بدر : الرؤيا أدرى منك ومني.
قمر : ستذكرني بالوعد
بدر : أمام القصر
قمر : أو في القبر
بدر : قمري قمري
قمر : ينتظر القاضي يا بدر .. وداعًا يا مرجانة!
بدر ومرجانة : وداعًا يا قمر!
قمر (من بعيد) : وداعًا يا بدر!
بدر : قمر! قمر!
قمر : بدر! بدر!
بدر : قمر!
قمر : بدر! (يتلاشى الصوت بالتدريج، تنسحب بدر ومرجانة … إظلام).

٨

أمام القصر

(قمر يتقدم بخطى مسرعة نحو القصر، الوقت قبل الفجر بقليل، يبدو السور من بعيد، تعلوه قضبان عُلِّقت عليها رءوس مقطوعة، شبح عجوز يتجول أمام السور، وعلى البعد وقْعُ أحذية حراس وفرسان ترتفع أصواتهم وتنخفض بقدر اقترابهم من السور أو بُعدهم عنه …)

قمر (لاهثًا) : يا سلطان! يا سلطان!
الجوقة :
لا تتهور يا مجنون!
واخفض صوتك فالجدران لها آذان وعيون
والحراس على الأبواب وحول السور يروحون ويغدون
ماذا ينتظرون؟
أن يصل الحرس ومعهم رأس السلطانة
أو رأس غريب يتبوأ أعلى السور مكانه
قمر (مناديًا) : يا سلطان! يا سلطان!
الجوقة : قلت اخفض صوتك يا مجنون!
قمر : لا لن أخفضه حتى ألقى السلطان، يا سلطان! يا سلطان!
العجوز (يسرع نحوه) : ما هذا؟ من أنت؟
قمر : غريب مسكين.
العجوز : الكل هنا مساكين (يشير إلى أشباح رءوس مقطوعة) أتريد أن تكون جارهم؟
قمر : أريد مقابلة السلطان، يا سلطان!
العجوز : لا ترفع صوتك، لست أصم، ثم إنني لست الحارس الوحيد .. أتسمع وقع أقدامهم هناك؟
قمر : لا شأن لي بهم، جئت لمقابلة السلطان.
العجوز : إنهم يراقبون الأبواب ويحصون الأنفاس، من حسن حظك أنهم لم يسمعوك.
قمر : أريد أن يسمعني السلطان.
العجوز : ليس قبل أن أسمعك أولًا .. تعالَ .. تعالَ أخبئك في كوخي.
(يشده ليداريه في كوخ حراسته، يقترب منه ويتفرس في وجهه) أشفق على هذا الرأس الجميل.
قمر : قلت لا بد من مقابلته، لا بد أن يسمعني.
العجوز : ولا بد أن أسمعك أولًا.
قمر : إنه سر خطير .. لغز خطير.
العجوز : تريد أن تكشفه؟!
قمر : لغز خطير.
العجوز : وتريد أنت أن تحله؟
قمر : ألم أقل لك؟
العجوز : غريب مسكين .. أشهد آثار السفر على وجهك وثيابك .. من أين يا ولدي؟
قمر :
من جوف الأرض أتيت.
أمي تحتضر هناك وأهلي يحتضرون.
العجوز : وتركتهم في هذه الحال؟
قمر : الرؤيا قالت: سافر سافر.
الحُلم دعاني: هاجر! هاجر! هاجر!

شقيت ظمئت وجُعت، وها أنا جئت ومعي السر.
العجوز : الرؤيا .. الحُلم .. السر .. كلمات أسمعها منك ولا أسمعها أول مرة.
قمر : ماذا تعني؟ (يسمع صوت الحراس يقتربون …)
العجوز : إن كنت حريصًا على رأسك فاختفِ الآن، اختفِ في هذا الكوخ.
حارس (من بعيد) : يا حارس! أنت يا حارس الموتى.
حارس آخر : أيها العجوز .. أيها السيَّاف على المعاش (يضحكون).
العجوز : نعم يا سادتي.
حارس : أردنا أن نطمئن .. حذار أن تغافلك عينك وتنام.
العجوز : الحارس يحترس من النوم يا سادتي الحراس.
حارس : ولو كان يحرس النائمين إلى الأبد؟
حارس آخر :
افتح عينيك يا حارس .. الويل إن غافلك فأر أو قط ضال.
اقبض عليه وأبلِغنا في الحال، من يدري إن كان وراءه إنس أو جنِّي محتال (يتضاحكون وتبتعد خطاهم).
قمر (همسًا) : ماذا ينتظرون يا عمي؟ ماذا يحرسون؟
العجوز : يحرسون الحارس، والحارس يحرس موتى.
قمر : هل أحزنتك يا عمي؟ أتبكي؟
العجوز : أبكي؟ لا يا ولدي. لن أستطيع حتى ولو أردت، جمدت عيناي وفات زماني.
قمر : فات زمانك؟ سمعت أنهم أحالوك للمعاش.
العجوز : نعم .. نعم .. كنت سيَّاف السلطنة، أريح رءوس القتلة والسفاحين، والآن ما الحاجة إلى سيَّاف والكل سيَّاف؟
قمر : وهذه الرءوس؟ ألم يقطعها سيفك؟
العجوز : بل قطعت نفسها بنفسها .. كل غبي مثلك يتصور أنه سيكشف السر.
قمر : وما هذا السر؟ تكلم يا عمي؟
العجوز : لماذا أتكلم وأنت تضعه في جيبك أو في صدرك؟
قمر : هل تقصد الأميرة؟
العجوز : تعرفه وتسأل عنه؟
قمر :
أميرة مأسورة
في قلعةٍ مهجورة
العجوز :
قالوا من يشفيها يتزوجها
يرث العرش
ويخلصها ويخلصنا من أسر الوحش
قمر : الوحش؟ هذا ما لا أعرفه .. أي وحش؟
العجوز :
بل تعرفه .. وحش كاسر.
حطَّ على هذا البلد وهاجم كل مقيمٍ ومسافر
كاللص الغادر كالليل الملعون الكافر
نزع القلب من الصدر ومسخ الإنسان
في صورة كلب عاقر
هل تعلم يا ولدي؟
قمر : أنا لا أعلم بل أحلم.
العجوز : كل هؤلاء كانوا يحلمون مثلك.
قمر : ولكلٍّ حُلمه يا عمي.
العجوز : وتأويله واحد يا ولدي .. أن توضع رأس صاحبه على السور.
قمر : سمعت عنهم وأنا الآن أراهم .. أين المنجِّم والطبيب؟
العجوز : يصعب أن أميزهم الآن .. ولكنهم سواء .. رأوا الحُلم وفاجأهم تأويله .. هل تعرف آخرهم هذا؟
قمر : سمعت أنه أمير وابن أمير.
العجوز : ولكنك لم ترَ جماله .. لم أحزن على رأس كما حزنت على رأسه .. أتعرف ما يتراءى لي الآن يا ولدي؟
قمر : حُلم آخر؟
العجوز : حُلم أو رؤيا .. المهم أنني أراها كل ليلة.
قمر : من؟ الأميرة؟
العجوز : رؤياي مختلفة عن رؤياك .. أتظن أنني أجهلها أو أجهل اسمك الذي هتف به المنادي في الأسواق؟
قمر : ولكنها ستظل رؤياي .. قل ماذا رأيت أنت.
العجوز : رأيت القلعة مهجورة .. ولم أجد فيها أميرة.
قمر : لم تجد فيها الأميرة؟ وأين ذهبت؟
العجوز : اطمئن .. لم يخطفها جنِّي .. لم يتسلق أحد العشاق جدائلها الذهبية.
قمر : وماذا حدث؟ ألم يبحثوا عنها؟
العجوز : لم يحدث شيء، ولم يبحثوا عنها، لأنها لم توجد أبدًا.
قمر : ماذا تقول؟!
العجوز : صدِّق يا ولدي أو لا تصدق .. إنني أشفق على رأسك.
قمر : مستحيل .. مستحيل.
العجوز : أنت وشأنك .. هناك مكان ينتظرك فوق السور.
قمر : لا أبالي بهذا .. ما دمت سأحرر الأميرة.
العجوز : تحررها؟ حرر نفسك من حُلمك أو رؤياك.
قمر : سترى بنفسك .. اليوم أو غدًا.
العجوز : قد لا تشهد عيني هذا الغد.
قمر : ستشهد الأرض، ويشهده الشعب المقتول بفك الوحش.
العجوز : وتغرز سيفك فيه وأنت على دست العرش (يضحك).
قمر : وبجانبي الأميرة .. لقد رأيتها بنفسي.
العجوز : رأيتها؟
قمر : وراقصتها في العرس.
العجوز : هذا ما أشاعوه أيضًا .. وطاف به المنادي.
قمر : المنادي؟ وماذا قال؟ (تُسمع أصوات الحراس، يقترب وقع أقدامهم).
العجوز : انتظر .. هيا إلى الداخل.
حارس : لم ترَ شيئًا يا حارس؟
حارس آخر : لم تسمع وقع خطاهم؟
العجوز : لم أرَ ولم أسمع.
حارس : انتبه جيدًا .. لا بد أن يصلوا الآن .. ارفع صوتك وأبلغنا .. نحن على الباب الآخر.
العجوز : اطمئنوا .. ومكان الرأس هنا محفوظ.
حارس آخر : لا بد أن يراه السلطان بنفسه.
حارس : وبعد ذلك نسلمه لك وللغربان والصقور (يختفون).
قمر : سر آخر .. ما هذا؟
العجوز : سر يعرفه كل الناس.
قمر : هل طاف به المنادي أيضًا؟
العجوز : بالطبع .. المنادون كثيرون.
قمر : وماذا قال؟
العجوز : أتصدق ما قال؟
قمر : أريد أن أسمعه منك.
العجوز : وإذا كنت ستراه بنفسك.
قمر : السر؟
العجوز : بل رأس السلطانة.
قمر : السلطانة!
العجوز : أو رأس فتى مسكين مثلك يحتل مكانه.
قمر : أهذا ما قاله المنادي؟
العجوز : وقاله الناس أيضًا.
قمر : ماذا قالوا؟
العجوز : ما قلته الآن.
قمر : سرِّي لا زال معي .. أنا لم أقل شيئًا.
العجوز : لم تصُنه كما لم تصُن رأسك.
قمر : رأسي لا زال على كتفي .. ماذا قالوا؟
العجوز : أترى هذا العجوز؟ (يشير إلى رأسٍ مدلَّى على السور) اسأله!
قمر (يقترب منه) : الساحرة؟
العجوز : لقيت جزاءها .. أفشت السر للسلطانة وكتمته عن السلطان.
قمر : أعرف .. أعرف .. البخيلة الملعونة.
العجوز : ولهذا أمر السلطان بأن يسوقها لقاضي العدل.
قمر : وسيق الاثنان في الأغلال ومعهما الحراس.
العجوز : وهرب المتهم في الطريق.
قمر : لا لم يهرب .. دعاه الصوت.
العجوز : صوت حكيم أعمى.
قمر : تعرف هذا أيضًا!
العجوز : الأسرار على أفواه الناس .. قالوا أيضًا.
قمر : قالوا قالوا .. ماذا قالوا؟
العجوز : لبَّى الفتى الدعاء.
قمر : الرؤيا أمرته بهذا.
العجوز : وسعى للعرس ورقص هناك.
قمر : نعم .. نعم .. مع الأميرة.
العجوز : أو مع وريقة الحنا.
قمر : مع الأميرة أو وريقة الحنا .. لا يهم.
العجوز : المهم أن المنادي طاف بالأسواق.
قمر : ماذا قال؟
العجوز : أمر شباب البلد بأن يجتمعوا في الساحة.
قمر : وهل حضروا؟
العجوز : وحضر السلطان .. أمس مساءً في هذه الساحة تحت أضواء المشاعل، تمدد الجميع على الأرض ومدُّوا سيقانهم .. كان مشهدًا عجيبًا.
قمر : مشهد جَلد عام؟
العجوز : بل فضح السر الخافي.
قمر : أي سر؟
العجوز : ليتك كنت هنا يا ولدي ورأيت بنفسك؛ آلاف الأقدام يمر عليها الخدم مع الحشم مع الحراس، وحذاء بالٍ في أيديهم يخرج من قدمٍ كي يدخل في قدمٍ آخر، وشباب البلد يئنون ويبكون.
قمر : ولماذا يبكون؟
العجوز : لأن الحظ يخون.
قمر : الحظ يخون؟
العجوز : نسيت وريقة الحنا؟ نسيت الأميرة المزعومة .. الأميرة المسكينة؟
قمر : مسكينة نعم .. ولكنها ليست مزعومة .. يا حراس!
العجوز : اخفض صوتك يا مجنون!
قمر : مجنون أو مسكين .. هذا لا يعنيني .. الحُلم تحقق يا عمي (يُخرِج فردة حذاء من جيبه …)
العجوز : أشفق على رأسك الجميل يا ولدي.
قمر : يا حراس! يا حراس!
العجوز : قلت اخفض صوتك .. أخفِ هذا الحذاء الملعون.
قمر : صوتي لن أخفضه .. وحذائي ليس بملعون .. انظر.
العجوز : إنه يلمع في ضوء الفجر.
قمر : نعم نعم .. فكعبه من ذهب .. ووجهه من لؤلؤٍ وياقوت .. يا حراس! يا حراس!
العجوز : ولكنه لن يرحم رأسك.
قمر : يرحمه أو لا يرحمه .. الحُلم تحقق يا عمي.
العجوز : الأحلام تكذب يا ولدي.
قمر : الرؤيا لا تكذب أبدًا .. يا حراس!
العجوز : انظر يا ولدي .. انظر .. كانوا مثلك .. لكن رؤاهم كذبت .. قد تكذب أيضًا رؤياك.
قمر : ليست رؤياي وحدي .. يا حراس! يا حراس! خذوني للسلطان!
العجوز : حذرتك يا مجنون! أنذرتك يا مسكين!

(يأتي حارسان مسرعين … يهبطان الدرَج العالي وترتطم أقدامهما بالأرض .. يحيطان بقمر والعجوز …)

حارس : ما هذا؟ من أنت؟
حارس آخر : ماذا تفعل هنا؟ ماذا تريد؟
العجوز : حُلم آخر .. حذَّرتك يا مجنون!
قمر : لأكن مجنونًا .. هذا الحذاء عاقل.
حارس : الحذاء؟
حارس آخر : أيكون هو الحذاء؟!
قمر : إنه العلامة .. يا سلطان! يا سلطان!
الحارسان : السلطان في انتظارك .. هيا! هيا!
العجوز : حذرتك يا مجنون! أنذرتك يا مسكين. بعد قليل ستُعلَّق فوق السور. (يقتاده الحارسان، يختفي الجميع …)

(وبعد قليل يُسمع صوت آتٍ من بعيدٍ يتضح شيئًا فشيئًا. يتبينه العجوز ويرى صاحبيه يقتربان من السور …)

الحارسان : يا حراس! إلى السلطان!
العجوز : أنتما أيضًا؟ تريدان مقابلة السلطان؟
الحارسان : في الحال أيها العجوز .. في الحال أيها العجوز (يسرعان إلى القصر).
العجوز :
ربي! هل تشهد عيني تحقيق الحُلم؟
أم تشهد بعد قليلٍ لون الدم؟
آه! فات زماني .. ضاع الأمس وضاع اليوم
عبثًا تنتشل النائم من بحر النوم! (يسقط على الأرض. إظلام).

٩

في مخدع الأميرة

(الأميرة ترقد على أريكة بجوار الحائط، ساقاها ويداها في الأغلال، تشهق من حينٍ إلى حين وترفع رأسها لتطل من نافذةٍ بجانب فراشها، تبكي فتسرع إليها مرجانة وتجفف دموعها).

مرجانة : إلى متى يا ابنتي تعذبين نفسك؟
بدر : تعرفين يا مرجانة .. أنت وحدك تعرفين.
مرجانة : نعم يا حبيبتي، كُفِّي إذن عن البكاء (تجفف دموعها وتحاول أن تقدم لها شيئًا من الطعام).
بدر : تعرفين هذا أيضًا، لن أذوقه إلا معه.
مرجانة : خذي هذه الكأس من يدي .. اشربي يا ابنتي.
بدر : سأشربها من يده.
مرجانة : وإذا لم يأتِ … أفتموتين من الظمأ والجوع؟
بدر : إن كان يهتم بحياتي أو موتي فسيعود، لا بد أن يعود يا مرجانة.
مرجانة : الله وحده يعلم أين هو الآن.
بدر : انظري من النافذة.
مرجانة : نظرت كثيرًا .. في الغسق وفي الشفق نظرت …
بدر : لولا هذا القيد بساقي وكَفَّي!
مرجانة : لنثرت جدائلك الذهبية حبلًا يتدلَّى له .. تعلمين أن أباك أمر بوضعه شفقة عليك.
بدر : شفقة عليَّ؟ أنت أيضًا يا مرجانة؟
مرجانة : معاذ الله يا ابنتي .. ولكنها الرؤيا.
بدر : التي سلبتني عقلي .. هذا ما تظنونه جميعًا.
مرجانة : لا لا يا بدر .. لا أحد يساوره الشك.
بدر : ولكنك تشكين في عودته .. ألم تريه معي؟
مرجانة : بالطبع يا ابنتي .. رأيته معك.
بدر : يضمني إلى صدره وأضمه إلى صدري.
مرجانة : لا تقولي هذا .. كنتما ترقصان كما يفعل كل الأولاد والبنات.
بدر : وتلاقينا وتواعدنا .. والرؤيا تمت يا مرجانة.
مرجانة : ثم تلاشت .. وجرينا في الجبل وراءه.
بدر : ومع ذلك تشكين.
مرجانة : لا أدري يا ابنتي .. كأنها كانت حُلمًا أفقت منه.
بدر (مبتسمة) : كانت حُلمًا؟ اسألي قدميك المتورمتين.
مرجانة : حُلم أم كابوس، المهم أن تضحكي، اضحكي واضحكي يا ابنتي .. أما الآن فالألم يُبكيني.

(تتأوه ضاحكة .. ترن ضحكة من بدر البدور، ثم لا تلبث أن تغيِّم سحابة حزن على عينيها حين تسمع أصوات الحراس من بعيد تصل إليها كالأصداء التي تعلو شيئًا فشيئًا: مولانا السلطان …)

السلطان (يدخل وحده) : بدر البدور .. ابنتي .. حبيبتي.

(بدر تنظر إليه ولا تتحرك)

السلطان : استريحي يا ابنتي .. لا تتحركي.

(بدر تواصل النظر إليه .. عاجزة عن الحركة).

السلطان : أعلم أنك غاضبة على أبيك .. ساعديها يا كهرمانة.
مرجانة : مرجانة يا مولاي .. مرجانة.
السلطان : مرجانة أو كهرمانة .. هل أتذكر كل شيء؟ ألا ترحمون شيخوختي؟ ألا تُحسون لفح الرياح التي تعصف بالسفينة؟ (يقترب من بدر) لست غاضبة عليَّ .. أليس كذلك؟ عيناك تقولان هذا .. أرجوك لا تسخري مني يا ابنتي .. لا تسخري بأبيك العجوز .. فكرت كثيرًا فيما قلت.
بدر : أنا لم أقل شيئًا.
السلطان : بل قلت يا حبيبتي .. ونطقت بالحكمة أيضًا .. أنسيت لقاءنا الأخير؟ ابن سفينة نوح .. هذا ما قلتِه.
بدر : لم أقله لك يا أبي.
السلطان : بالطبع يا ابنتي .. أبوك عجوز مريض .. سفينته تغرق في اليم .. والملاحون تخلَّوا عنه .. كذب العرَّاف .. عجز طبيبك وطبيبي، خرس لسان الشاعر، ورياح تعصف من كل مكان .. معك الحق .. ضلَّت قُطعان الراعي، بار حصاد الفلاح .. حتى المطر يخاصمنا، ويجفو الأرض وينسى الزرع .. ابن سفينة نوح. هذا ما قلت.
بدر : قمر هو نوح وهو الربان .. هو قمر زمانك وزماني.
السلطان : سأسلمها له .. سأسلمه السفينة يا ابنتي.
بدر : هل يبني أخرى؟
السلطان : يبني ما يشاء .. المهم أن يظهر يا حبيبتي.
بدر : ظهر يا أبي .. رأيته ورآني.
السلطان : ورقصت معه أيضًا .. والحذاء جرَّبناه على أقدام الآلاف من الشباب .. كان منظرًا عجيبًا .. والمساكين يتأوهون ويبكون.
بدر : سيأتي يا أبي .. لا بد أن يأتي.
السلطان : وتعرفينه إذا رأيته؟
بدر : ويعرفني حين يراني.
السلطان : وتصدُق الرؤيا يا بدر .. ويسقط المطر.
بدر : ويستقر الحذاء في القدم .. وتتربع القدم على العرش.
السلطان : متى يظهر يا ابنتي .. متى يعود؟ (يظهر الوزير ثم يبدو من خلفه حارسان يحيطان بقمر).
الوزير : ظهر يا مولاي .. عاد يا سلطان.
السلطان : ظهر وعاد! من؟ من؟
الوزير : قمر يا مولاي.
بدر (هاتفة) : قمر! قمر زمانك وزماني .. تعالَ .. تعالَ!
السلطان : لا لا .. كيف أصدق؟ هاتِ دليلك.
الوزير : سرُّك في صدرك، هيا أخرجه .. اعرضه على مولانا.
قمر (يمُد يده إلى صدره وينتزع الحذاء) : ها هو ذا سره.
السلطان : الحذاء؟
مرجانة : هو يا مولاي السلطان .. كعب ذهبي .. وجه مزدان بالياقوت وباللؤلؤ والمرجان.
بدر (تتقلب في فرشها وتحاول فك قيودها) : حررني يا قمر سمائي.
قمر (مادًّا ذراعيه نحوها) : قمر مثلك يا بدر.
السلطان : تقدم يا ولدي منها .. جرِّب هذا الحذاء بقدمها.
قمر : لا أقدر يا مولاي.
بدر : الرؤيا صدقت يا قمري.
الوزير (يتقدم من الأميرة ويجرب الحذاء الذي يدخل في قدمها) : صدقت يا مولاي.
السلطان : وأين حذاؤه؟ هاتي يا بدر.
بدر : تكفينا الرؤيا يا أبتي.
مرجانة (تتقدم وتستخرج الحذاء وتجرِّبه على قدم قمر الغارق في تأمل حبيبته) : الرؤيا صدقت يا مولاي.
بدر :
قمر .. أنت الحب
وأنت الحرية أنت
قمر : قد حررتك يا بدر فمات الموت!

(بدر البدور تنهض من على فراشها، بقوةٍ سحرية تطلق يديها وساقيها من القيد).

الوزير : الرؤيا حق يا مولاي.
السلطان : حق .. حق .. لكنني لا أُصدق!
الوزير : أتريد دليلًا آخر؟
السلطان : سأسلمه ابنتي وعرشي .. أريد أن أطمئن يا وزيري.
الوزير : وإليك دليلًا آخر .. يا حراس!
السلطان : ماذا؟ ما أبشع هذا! (يدخل الحارسان اللذان صاحبا قمر والسلطانة على الطريق وفي يديهما طبق كبير عليه رأس السلطانة).
الوزير : رأس السلطانة.
السلطان : اقطع رأس الحية!
بدر : لم تسمع قولي إلا بعد سنين.
السلطان : نعم يا ابنتي .. ليتني سمعته من سنين.
الوزير : خذوه خذوه يا حراس .. إن القتل جزاء الخائن أيًّا كان .. وضعوه هناك على القضبان طعامًا للغربان .. وضعوه جوار الساحرة ليشهد كل الناس.
السلطان : لا تخُن من ائتمنك .. الآن صدَّقت كلامك يا قمر
قمر : بل صدِّق الأعمى يا مولاي.
السلطان : الأعمى الحكيم؟
قمر : دعاني للعرس فلبيت نداه.
السلطان : أمره عجيب .. كيف تعرَّفت عليه؟
قمر : حكاية طويلة يا مولاي.
السلطان : وكيف تركت بلادك؟ مَن أنت وماذا كنت تريد؟ كيف رأيت الرؤيا؟ كيف تلاقت رؤيا بدر مع رؤياك؟
الوزير : وتعانق برج السعد وبرج المجد.
السلطان : هذا ما كنت تقول يا وزير.
الوزير : ولا زلت أقوله.
السلطان : لكن كيف تلاقى برج السعد …
الوزير : مع برج المجد؟
مرجانة : المهم أنهما التقيا يا مولاي.
الوزير : وهذا قمر وهذه بدر.
السلطان : لا بد لي أن أعرف الحكاية .. لا بد أن أعرفها من البداية.
الوزير : وهل تهمنا البداية؟ أليس ما يهمنا الختام؟
مرجانة : فلنعلن الأفراح يا مولاي.
الوزير : ولنعطه الأختام.
بدر : هيا يا قمر .. تقدم .. هيا يا أبت!
السلطان : ماذا يا ابنتي؟
بدر : سلمه مفتاح القصر.
السلطان : طبعًا يا بدر.
بدر : ماذا تنتظر؟
السلطان : الصبر الصبر.
بدر : سلمه الدفة يا أبت.
السلطان : آه .. تذكرت .. كي يبني في الحال سفينة نوح.
بدر : ويبدأ في الحال من الصفر .. لمَ لا تتكلم يا قمر؟
قمر : أبوك يريد …
السلطان : ذكِّرني يا ولدي .. ماذا كنت أريد؟ …
قمر : أن تعرف الحكاية .. من أول البداية.
السلطان : وأعرف من أنت .. من أي بلادٍ جئت .. كيف وصلت إلينا .. ماذا لاقيت وماذا جربت.
مرجانة : يا مولانا .. ها هو يقف أمامك .. جميل في غابة قبح ودمامة
السلطان : بريء وجميل .. حقًّا يا مرجانة
بدر : أين وعودك يا أبت؟
قمر : انتظري يا بدر .. هذا حق الأب
السلطان : وحقك أيضًا يا بدر
بدر : وتؤجل وعدك يا أبتي؟
السلطان : وعدي حق يا بدر
بدر : مفتاح القصر
السلطان : وكرسي العرش، وسيف يغرزه في صدر الوحش .. خذ يا ولدي (يقدم له المفتاح والسيف فيتراجع قمر).
قمر : لا لا!
بدر : ترفض يا قمر؟
قمر : لا أرفض يا بدر .. ولكن أنتظر.
بدر : ماذا تنتظر .. تكلم.
قمر : أن نرجع للبدء .. نعود إلى الصفر.
بدر : ماذا تقصد؟
قمر : ما تقصده الرؤيا والسلطان.
السلطان : نعم يا ولدي .. ذكِّرني ماذا أقصد.
قمر : أن تعرفني منذ البدء .. ولهذا سنعود إليها.
بدر : نعود لمن؟
قمر : نعود لأمي يا بدر!
السلطان : أحسنت .. الآن تذكرت.
قمر : أمي تنتظر وتحتضر هناك.
السلطان : تحتضر هناك؟ وكيف تركت الأم وسافرت؟
قمر : لأعود إليها .. أمي هي أرضي .. أرضي هي أمي.
بدر : هذا ما كنت تقول.
قمر : بل ما قالته الرؤيا.
بدر : رؤيانا حق يا قمر.
قمر : ليست رؤيانا يا بدر القلب .. هي رؤيا الأرض ورؤيا الشعب.
الجميع في صوتٍ واحد :
ليست رؤيانا يا بدري .. يا بدر القلب
بل رؤيا الأرض المحزونة .. رؤيا الشعب
الجوقة :
فلنُرجع عجلات الزمن إلى الخلف
وندع الزمن يمر
وليبدأ قمر من الصفر ومعه بدر
الأم هنالك تلفظ آخر أنفاس العمر،
فلترجع يا قمر إليها
ولتعد القطرة للبحر
ستبارك رأسك يا بدر وتضع الكف على الصدر
وستعرف أن الولد الخائب عاد ومعه مفتاح القصر
وهنالك أيضًا ينتظر الأهل الفقراء وينتظر الفقر
أن نزرع بذرة أمل في صحراء القهر
هيا يا بدر
هيا يا قمر فقد طلع الفجر
يا قمر يا قمر النائم
يا قمر تحرك يا قمر

(يتردد نداء الصوت طويلًا: يا قمر .. يا قمر تحرك … إلخ. إظلام .. على الضوء الشاحب نرى قمر يفرك عينيه لحظات، على الجانب الآخر من المكان أفراد الجوقة يتحركون ويفركون عيونهم …)

قمر : أمي لا تصدق يا صديق.
صديق (ضاحكًا) : ومن كان يصدِّق أنها ستعيش حتى الصباح؟
قمر : لا تصدق أنني عدت .. أن الحُلم تحقق.
صديق : تحلم وأمك تحتضر؟ اخجل من نفسك.
قمر : قل لها أنت، اسألهم بنفسك .. اسأل السلطان.
صديق : السلطان؟
قمر : أمامك .. وبدر البدور أيضًا .. والخدم والأتباع .. اسألهم .. اسألهم.
صديق : اسأل أنت هؤلاء.
قمر : من؟ من؟

(يسقط الضوء على كومةٍ بشرية بجوار الحائط، شباب ونساء وعجائز وصبي بجوار أعمى … يتقلبون فوق الحشايا ويفيقون شيئًا فشيئًا من النوم …)

صديق : جيرانك .. سهروا معنا طول الليل.
قمر : طول الليل؟ لا يمكن .. لا يمكن أبدًا!
صديق (يُحيي الجيران) : حيا الله! حيا الله!
الجيران (بصوتٍ واحد) : حيا الله! حيا الله! صباح الخير!
صديق : ليلة عصيبة .. حتى الطبيب يئِس من الشفاء.
قمر : قلت مستحيل .. مستحيل (يندفع نحوهم ويتأملهم واحدًا واحدًا .. بينما يخطو صديق نحو الأم التي تبدو الآن راقدة على الفراش في الركن القصي).
صديق : حيا الله! حيا الله!
الأم : حيا الله! لولاك يا ولدي.
صديق : أستغفر الله .. هذا قمر صَحا أخيرًا.
الأم : هل يصحو أبدًا يا ولدي؟
قمر : أفراد الجوقة .. أفراد الجوقة!
صديق : اخفض صوتك .. أمك متعبة.
الأم : متعبة! أنا في آخر أنفاسي.
صديق : شفاك الله!
قمر : الراعي والفلاح .. الأعمى والنجار .. اسألهم أنت.
صديق : قلت اخفض صوتك .. أمك عاودها المرض المؤلم.
الأم : بل أحتضر.
صديق : شفاك الله!
الأم : وولدي يحلم.
قمر (وهو يلهث ويترنح بين الجيران وصديق الذي يشده من يده) : تعالَ بنفسك واسألهم.
صديق : أسألهم؟ اسألهم أنت.
قمر (يخاطب أحدهم) : يا عم!
واحد : حيا الله!
قمر : أنت الفلاح (يتلفت الرجل حائرًا إلى الجيران) عمَّ القحط .. أليس كذلك؟
الرجل : تعرف هذا يا ولدي .. منذ سنين ونحن نعاني القحط.
قمر (لصديق) :
أرأيت؟
هلك الزرع وجفَّ الضرع
وضنَّ المطر أو الدهر
وسنابل قمحك ذابلة
وصغارك كجراد القفر
الرجل :
فليرحمنا الله!
فليرحمنا الله!
قمر (إلى رجلٍ آخر بجانبه) : وأنت الراعي.
الرجل (حائرًا) : هل يمكن أن تنساني؟
قمر (هائجًا) :
وقطيعك لا يجد الشوك ولا العلقم
يرفع عينيه الصامتتين إليك
يناجي الخضرة
أين تراك ذهبت وأين؟
… وأنت؟
رجل : أنا يا قمر؟
قمر : أنت النجار!
الرجل : عمك وحبيب أبيك، ونجَّرت سريرك لمَّا كنت صغيرًا
قمر : سريري أم نعش الموتى؟
الرجل : الموتى؟ نحن الجيران أتينا
قمر :
نحن الفقراء
نحن الفقراء
في زمن المحنة
لم أُصلِح بابي أو عتبة بيتي؟
صديق (يهزه من كتفيه) : أفق يا قمر! أفق يا قمر!
قمر :
تظن بأني أحلم
الناس سواء في الكرب
ووباء يعصف بقرانا
والأرض تموت من الجدب
من أجل الفقراء حلمت
من أجل الفقراء رجعت
صديق : لا تتمادَ يا قمر.
قمر : اسألهم بنفسك.
صديق : أسأل من؟
قمر : قلت لك السلطان وبنت السلطان .. بدر عروسي وحبيبة قلبي.
صديق : لا أحد هنا يا قمر .. لا أحد.
قمر : انظر ترهم يا صديق .. لمَّا حررتك يا بدر تحررت .. لمَّا حررتك مات الموت.
صديق : انظر أنت يا قمر .. افتح عينيك.
قمر : أتريد دليلًا آخر .. اسأل هذا .. أو هذا .. اسال هذي المرأة.
المرأة : أنا؟ خالتك بهية.
قمر : لا لا لا .. أنت الساحرة الجِنية .. كيف دخلت إلى بيتي؟ كيف أتيت؟
المرأة : كيف أتيت؟ أرعى أمك في وقت الشدة.
قمر : غادرة تستبدل بالكذبة كذبة، رأسك فوق السور هناك.
المرأة : رأسي فوق كتفي يا ولدي.
قمر : اسألي هذا العجوز.
العجوز : أنا يا ولدي؟
قمر : وكأنك لا تعرفني.
العجوز : من لا يعرف قمر؟ ألم أحملك على صدري؟
قمر : بل أنت الحارس للموتى
العجوز : سامحك الله!
قمر : سيَّاف سلبوه سيفه .. تركوه أمام السور.
العجوز : أمام السور؟
صديق : أفق يا قمر ولا تتمادَ (يحاول أن يهزه من كتفه فيفلت منه).
قمر : دعني .. دعني .. لماذا تضع رأسك بين رجليك؟ أيها الأعمى البصير .. ألم يبصر قلبك؟ ألم ترَ أذناك؟
الصبي : هو يا عمي
الأعمى : أعرف يا ولدي.
قمر : لمَ لا تتكلم بالحكمة؟
الأعمى : هل أجدت يا ولدي الحكمة؟
قمر : وهدتني في رحلة عمري للقلعة، قل لهم ماذا أعطتني.
الأعمى : يعرفون ماذا أخذت منك.
رجل : تعب أبيك.
امرأة : دواء الأم.
رجل : ولهذا جاء يُكفِّر عن ذنبه.
قمر : ذنبه؟ ماذا قلتم؟ من نجَّاني من حد السيف؟ أنقذني في وقت الشدة صوته.
الأم (من بعيد) : ولدي .. ولدي الخائب.
فتاة : أمك تدعوك .. تحرك.
فتاة أخرى : ولد خائب .. لا يرعى الشاة ولا البقرة
رجل : ويضيع الشاة مع البقرة!
فتاة أخرى : ولكن وجهه المليح
فتاة : لا يستحق إلا النظر والتسبيح
قمر : عرفتكما .. أوقعتماني في الفخ.
الفتاتان : ليتنا استطعنا (تضحكان).
قمر : تركتماني أكلم الشجرة والنبع، وأناجي الأرض والريح والبحر.
صوت : البحر .. البحر .. البحر.
صوت :
إن يكن الليل عميقًا
فسكوني أعمق
أو يكن الفجر رقيقًا
فأنا منه أرق
صوت :
أعمل في صمت
أعمل في صمت
أنسج ثوب الميلاد
وثوب الموت
صديق (يندفع إليه) : لكنك لا تتعلم.
قمر : دعني .. دعني أعطِها المكافأة.
صديق : لن أدعك حتى تصحو
قمر : أصحو! أتظن بأني أحلم؟
صديق : وتخرف كالقرد الأبكم .. أفلا تسمع أمك؟
الأم : آه …
قمر : أمي تحلم.
صديق : بل تتألم .. تحتضر وأنت تصيح وتهذي.
الأم : ولدي التائه في ليل الحُلم
صديق : سمعت؟
قمر : لا .. لا تكذب. إني عدت إلى الأرض الأم.
صديق : عد للأم .. حاول أن تسمعها، تقف بجانبها تحمل عنها الهم.
قمر : صديق .. صديق العمر .. صدقت رؤياي فصدقني.
صديق : تصدق أو لا تصدق .. ليس يهم .. افتح عينيك وقم.
قمر : أنا عدت إلى الأرض الأم، أزرع فيها بذرة حُلم.
صديق : لا وقت لتزرع أو تقلع .. عُد للأم.
الأم (من بعيد) : ولدي!

(ينتشر الضوء .. يفتح عينيه ويقلبهما في المكان ويهز رأسه .. ينتبه إلى صوت الأم فيجري نحوها ويجثو عند فراشها …)

قمر : نعم يا أم .. نعم يا أم (يبكي).
أصوات :
يا ولدي أرضك هي كنزك، هل تملك إلا هذا الكنز؟
في زمن الجوع سألنا، أعطتنا الماء وأعطتنا الخبز.
الأم : ولدي .. ولدي!
قمر : أنا بجوارك يا أمي.
أصوات :
أرضك هي أمك يا ولدي، لا تُغضب أمك
وُضِعت فيها عرق العمر فأخصب دمك ولحمك
صديق : أنت بخير يا عمة.
قمر : أنت بخير يا أمي.
الأم : أحمده، أشكر فضله، خذ بيديه يا صديق.
صديق : لا توصيني بصديق العمر.
الأم : جرعة ماء يا ولدي .. قد جفَّ الفم.
أصوات :
يا ولدي قد شاب الشعر وجفت أوراق دمي
الأرض تنادي وتنادي لتعيد الطفلة للرحم
الأم : ولدي! ولدي! (تدخل في الغيبوبة، صديق يأخذ بيد قمر إلى وسط المسرح).
صديق : تعالَ! تعالَ!
قمر : إلى أين؟
صديق : أمك في الغيبوبة فتعالَ ندبر أمر الدفن.
قمر : أمي لا زالت حية.
أصوات :
الشجرة ذبلت يا ولدي، والعود تحطم
واصفر الورق على الأغصان
وجف الجذر ولم يسلم
فالقحط شديد يا ولدي
ورياح المحنة لا ترحم
قمر (هاتفًا) : قل يا سلطان!
صديق : لا أحد هناك .. ألا تفهم؟
صوت : ستعود الشجرة للخضرة.
قمر : يا بدر تعالي .. يا بدر!
صوت : وتعود الخضرة للشجرة.
قمر : سمعت؟
صديق : اخجل من نفسك.
قمر : لن أخجل أبدًا من حُلمي.
صديق : تحلم .. تحلم .. أمك تحتضر وتحلم.
قمر : ولأجل الأم أُصر على هذا الحُلم. يا جيران!
الجيران : ماذا تطلب؟
صديق : دعهم دعهم .. كلٌّ منهم يعرف دوره.
قمر : من يأتي منكم؟ من يصحبني؟
الجيران : وإلى أين؟
قمر : نسافر في أرض الحُلم يا فلاح.
الفلاح : دعني .. فصغاري كجراد القفر.
قمر : يا راع!
الراعي : الراعي يبحث عن قطرة ماء.
صديق :
أمك تحتضر ولا ترحم
يا قمر توقف لا تحلم
وافتح عينيك.
قمر (صائحًا) :
ألا تفهم؟
من أجل الأم المحتضرة
سأسافر كي أحضر بذرة
صديق :
والبذرة تنمو والشجرة
تخضر وتهدينا الثمرة
افتح عينيك
قمر :
على الكرب
ووباء يزحف بالرعب
وكلاب تنهش في قلبي؟
من منكم سيرافق دربي
الجيران : أتسافر؟ عفوك يا ربي!
قمر : من منكم سيرافق دربي؟
صديق : لا أحد.
الجيران : لا أحد منا لا أحد.
قمر :
يا من تُنجِّر نعش الموتى
يا من تبصر للعميان وأنت الأعمى
النجار والأعمى : اذهب وحدك.
قمر : وأنت؟ يا ساحرة الشؤم مع الغدر.
المرأة : سامحك الله!
قمر : أغفر ذنبك .. فتعالَ ندخل في أرض السحر.
المرأة : يكفينا الله الشر.
قمر (للفتاتين) : ألم تشتاقا للنبع؟
الفتاتان : نشتاق ولكن من يدفع؟ (تضحكان).
الجيران : لا أحد .. لا أحد.
قمر : هل أذهب وحدي؟
الجيران : من يذهب معك فلن يرجع.
الأم (من بعيد) : يا ولدي!
صديق : أمك تدعوك ألا تسمع!
قمر (يجري نحو الأم) :
من أجلك يا أم أسافر
ولأجلك يا أم أهاجر
الأم : ولدي! ولدي!
قمر :
من أجلك يا أم حلمت.
ولأجلك سأواصل حُلمي.
صوت بدر : حررني .. لا زلت أسيرة.
صوت : ابن سفينة نوح …
صوت : وابدأ يا قمر من الصفر …
صوت : هذا مفتاح القصر …
صوت بدر : يا قمر تعالَ وخلِّصني من هذا الأسر …
صوت : يا قمر تعالَ وخذ مني مفتاح القصر …
صوت : وابدأ يا قمر من الصفر …
قمر : أنا آتٍ .. من يصحبني منكم؟
الجيران : لا أحد.
قمر : سأسافر وحدي .. وأعود إليكم.
صديق : يا قمر تنبه.
قمر : الصوت ينادي …
صديق : والأم تنادي …
قمر : من يأتي منكم؟
الجيران : لا أحد.
الصوت : يا قمر تعالَ!
قمر : الصوت ينادي …
الجيران : من يذهب معك فلن يرجع.
قمر : لن يأتي أحد؟
الجيران : لا أحد.
قمر : وأسافر وحدي؟
الجيران : قدرك يا ولدي .. لا بد …
قمر (يتجه إلى الجمهور) : وأنتم؟ هل يأتي أحدٌ منكم … (لا يرد عليه أحد) من منكم سيمُد يديه؟ من؟ من يبدأ معي من الصفر؟ من يبني معي سفينة نوح؟ من؟ من؟
صوت بدر : يا قمر تعالَ! يا قمر تعالَ!
قمر : يا بدر بدوري لبيك!
صوت بدر :
يا قمري لا زلت أسيرة …
في القلعة وحدي مهجورة …
قمر : سأعود إليك .. سأعود إليك (للجيران ثم للجمهور): وأعود إليكم بالحُلم (يمضي مسرعًا بينما تتردد الأصوات …)
صوت : بدر! بدر!
صوت : قمر! يا قمر!
صوت : بدر! يا بدر!
(إظلام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤