الفصل الرابع

السوق الموحدة والعملة الموحدة

على الرغم من أن السلام بين الدول الأعضاء ظل يحتل صميم غرض الجماعة، صار قيام سوق مشتركة كبيرة بؤرة عملها ابتداءً من النصف الثاني من عَقد الخمسينيات. كانت قوة الاقتصاد الأمريكي مثالًا مدهشًا على نجاح مثل هذه السوق، كما كان الألمان والهولنديون يريدون تجارة حرة، وقَبِل الفرنسيون السوق المشتركة في السلع الصناعية شريطة أن تكون مصحوبة بالسوق المشتركة الزراعية التي ستحابي صادراتهم الزراعية.

كانت لفكرة قيام سوق مشتركة كبيرة قوة محركة استمرت طوال العقود التالية؛ لأنها كانت تعكس واقعًا متناميًا هو الاعتماد المتبادل في الميدان الاقتصادي. ومع تطور التكنولوجيات وما صاحبه من تطور اقتصادات الحجم، احتاج مزيدٌ ومزيدٌ من الشركات من كافة الأحجام إلى النفاذ إلى سوق كبيرة آمنة. ومن أجل ازدهار الاقتصاد، وتحقيقًا لمصلحة المستهلكين، كان يلزم أن تكون هذه السوق كبيرة بما يكفي لتوفير مجال للمنافسة حتى بين الشركات الكبرى؛ لذا فمع تطور الاقتصادات الأوروبية، تلا مشروعَ الجماعة الاقتصادية الأوروبية الأصلي، المتمحور حول إلغاء التعريفات الجمركية في إطار اتحاد جمركي، برنامجُ السوق الموحدة في الثمانينيات، ثم العملة الموحدة في التسعينيات.

كانت ثمة دوافع اقتصادية وسياسية، على حدٍّ سواء، وراء كل واحد من هذه المشروعات، وهي منافع العقلانية الاقتصادية، وتوحيد نظام الجماعة كإطار للعلاقات السلمية بين الدول الأعضاء. كان كلٌّ من الاقتصاد والسياسة أيضًا ضلعًا في جوهر هذه المشروعات ومحصلاتها؛ لأن تكامل الاقتصادات الحديثة يتطلب إطارًا قانونيًّا؛ ومن ثَمَّ مؤسسات سياسية وقضائية مشتركة، كما أن النجاح في الميدان الاقتصادي أو السياسي وحده ما كان ليكفي لاستدامة الجماعة، بل كان يجب أن يكون النجاح في كليهما، وهو ما حققه كلٌّ من الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة. ونذكر أيضًا أن توليفة من الدوافع الاقتصادية والسياسية هي التي ضمنت إطلاق العملة الموحدة، وإنْ كانت مشاركة الدول الأعضاء كافة لم تتحقق بعدُ.

(١) السوق الموحدة

كانت التعريفات الجمركية وحصص الواردات لا تزال في الخمسينيات هي الحواجز الرئيسة أمام التبادل التجاري، فبدأت العملية الدولية للحد منها بقيادة أمريكية في اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة)، لكن الدول الأعضاء في الجماعة أرادت أن تفعل شيئًا أكثر من ذلك، فكانت النتيجة قيام الاتحاد الجمركي للجماعة الاقتصادية الأوروبية، وإزالة الحواجز الجمركية والحصص أمام تجارتها المتبادلة، وإنشاء تعريفة خارجية موحدة.

(٢) الاتحاد الجمركي وسياسة المنافسة

أُلغيت التعريفات والحصص المفروضة على التجارة على مراحل فيما بين عامَي ١٩٥٨ و١٩٦٨، فاستجابت الصناعة إيجابيًّا، ونمت التجارة عبر الحدود بسرعة حتى وصلت لأكثر من ضعفين خلال ذلك العقد.

على الرغم من أن التعريفات الجمركية والحصص كانت أهم مظاهر التشويه التي تعوق التجارة، فإنها لم تكن الوحيدة. فأُعطيت الجماعة أيضًا صلاحيات حظر الإجراءات التقييدية، وإساءة استعمال المراكز المهيمنة في القطاع الخاص؛ حيث أسندت المعاهدة هذه المهمة إلى المفوضية، وذلك دون تدخل من حكومات الدول الأعضاء. وفي ١٩٨٩، أُعطيت المفوضية أيضًا صلاحية مكافحة عمليات الاندماج والاستحواذ الكبيرة إلى حدٍّ يشكِّل تهديدًا للمنافسة في الجماعة. وقد فعلت المفوضية مُسلَّحةً بهذه الصلاحياتِ الكثيرَ للإثناء عن السلوك غير التنافسي، حتى اعتُبرت أقوى محارب للاتحادات الاحتكارية في العالم. وهكذا؛ ففي ٢٠٠٨، غرَّمت المفوضية شركة سان جوبان ٨٩٥ مليون يورو لسيطرتها بما يخالف القانون على نسبة من سوق زجاج السيارات. وقد سعت المفوضية نتيجة حجم العمل المنوط بها إلى إعادة بعض هذه المسئوليات إلى السلطات المعنية بالمنافسة في الدول الأعضاء، فمارست جماعات مصالح الأعمال ضغطًا للحيلولة دون ذلك؛ لأنها تجد أن الأوفق التعامل مع المفوضية بوصفها «مركزًا جامعًا»، لكن تحقَّق بالفعل قدرٌ ما من اللامركزية بإنشاء شبكة المنافسة الأوروبية التي تتبادل في إطارها المفوضية والسلطات الوطنية المعلومات وتنسق التحقيقات.

يمكن أيضًا أن تتخذ المنافسة غير العادلة شكل إعانات مالية تقدِّمها حكومة أي دولة عضو لشركة أو قطاع (ما يسمى بلغة الاتحاد الأوروبي «معونات الدولة»)، مما يمكِّنها من تقويض المنافسين الأكفاء، وإضعاف قدرتهم على الاستمرار في المنافسة. وقد أُعطيت المفوضية صلاحية حظر مثل هذه الإعانات المالية، لكن تبيَّن أن السيطرة على الحكومات أصعب منها على الشركات. وتمكنت المفوضية من إنفاذ بعض القرارات الصعبة على الحكومات الممانعة، لكنها لم تستطع — بوجه خاص في السبعينيات بعد أن أضعفها ديجول، وفي ظل تأثر الاقتصادات تأثرًا شديدًا بفعل الركود — أن تفعل إلا القليل للحد من طوفان الإعانات المالية المتزايد.

انتشرت في تلك السنوات، بجانب هذه الإعانات المالية، الحواجز غير الجمركية، حتى أصبحت العقبة الرئيسة أمام التبادل التجاري بين الدول الأعضاء، وكان من أسبابها التقدم التكنولوجي الذي تمخضت عنه لوائح تنظيمية معقدة تختلف من دولة إلى أخرى. والأهم من ذلك كان الضغط من أجل الحماية المُمارَس من جانب الدول التي تعاني من الركود التضخمي السائد آنذاك. كان الاقتصاد الأوروبي بحق في حالة سيئة خير ما يصورها مصطلح «التصلب الأوروبي». وقد التُمس مخرج؛ إذ أقنعت المفوضيةُ وكبرى جماعات مصالح الأعمال الحكوماتِ بالحاجة إلى برنامج لإتمام السوق الداخلية للجماعة.

(٣) برنامج إتمام السوق الموحدة بحلول ١٩٩٢

عكف بعضُ قيادات الأعمال وموظفي المفوضية — واضعين نصب أعينهم نجاح إلغاء التعريفات الجمركية الداخلية في الستينيات — على فكرة وضع برنامج لإزالة الحواجز غير الجمركية. وعندما تولى ديلور رئاسة المفوضية عام ١٩٨٥ استمسك بهذه الفكرة، باعتبارها المبادرة الرئيسة الوحيدة التي ستساندها حكومات الدول الأعضاء كافة؛ فالأغلبية ستُساندها لفضائلها الاقتصادية، وللهدف السياسي المتمثل في «إعادة تدشين الجماعة» بعد عقدين من الجمود نوعًا ما، والسيدة تاتشر ستُساندها لتحرير الاقتصاد وحده، لكن تاتشر أسدت للجماعة خدمة بترشيحها اللورد كوكفيلد، وزير تجارتها السابق صاحب الإمكانات، مفوَّضًا للعمل مع ديلور في هذا المشروع.

قدَّم ديلور وكوكفيلد المشروع إلى المجلس الأوروبي في يونيو ١٩٨٥. وعلى الرغم من أن برنامج إلغاء التعريفات في الستينيات أمكن النص عليه في المعاهدة على هيئة تخفيضات بنسب مئوية، تطلَّب إلغاء الحواجز غير الجمركية برنامجًا ضخمًا من تشريعات الجماعة؛ إذ لزم التعامل مع الإجراءات الحدودية والتمييز الناجم عن المعايير واللوائح التنظيمية، وعن المشتريات العامة، وعن التباينات في فرض الضرائب غير المباشرة. نشرت المفوضية «وثيقة بيضاء» تبيِّن ضرورة سنِّ نحو ٣٠٠ تدبير، وتقترح جدولًا زمنيًّا لإتمام البرنامج في غضون ثماني سنوات، فأقرها المجلس الأوروبي وأدمجها في القانون الأوروبي الموحد؛ مما جعل إتمام البرنامج بنهاية ١٩٩٢ التزامًا تعاهديًّا.

كانت إزالة الحواجز غير الجمركية واردة بالفعل ورودًا ضمنيًّا في معاهدة روما، التي حظرت «كل التدابير ذات الأثر المكافئ» لحصص الواردات، لكن نظرًا لأن ممارسة التصويت بالإجماع كانت قد عرقلت العملية التشريعية، نصَّ القانون الموحد على التصويت بالأغلبية المشروطة على معظم التدابير المطلوبة لإتمام البرنامج، كما خفَّضت المفوضية أيضًا العبء التشريعي باعتمادها على مبدأ الاعتراف المتبادل الذي كانت المحكمة قد أرسته بحكمها الصادر في قضية «كاسيس دو ديجون»، وبتفويضها اتخاذ القرارات بشأن معظم التفاصيل إلى معاهد المعايير القائمة. وعلى الرغم من ذلك، ظلت السوق الموحدة مبادرة ضخمة، ولا ريب أنها كانت واحدة من أعظم برامج التشريع الرامية إلى تحرير التجارة في تاريخ العالم.

وقد نجحت نجاحًا مبهرًا؛ إذْ كان النصف الأخير من عقد الثمانينيات فترة انتعاش اقتصادي في الجماعة. وعلى الرغم من أن المرء لا يمكنه أن يحدد بيقين مقدار ما يعزوه من هذا الانتعاش إلى برنامج السوق الموحدة؛ فإن الأبحاث الاقتصادية عزَتْ إليه على الأقل بعض الفضل. لقد ساهم البرنامج يقينًا في هذا الانتعاش باستنباط وجهات نظر إيجابية حول الآفاق المستقبلية للأعمال، وبتنشيط التجارة والإصلاح الهيكلي الذي تجسَّد في عدد كبير من عمليات الاندماج عبر الحدود. كانت الدول الأقل تقدمًا صناعيًّا، وهي اليونان والبرتغال، وفي ذلك الحين أيرلندا وإسبانيا، قد ضمنت مضاعفة الصناديق البنيوية لمساعدتها على التكيف خشية لحوق ضرر بها من جانب المنافسين الأشد قوة، كما استفادت هذه الدول أيضًا من البرنامج بفضل هذه الخطوة، وبفضل اقتصاد الجماعة النامي.

وعلى الصعيد السياسي، نالت السوق الموحدة درجة ملحوظة من الاستحسان عبر ألوان الطيف من أنصار الفيدرالية إلى المتشككين بجدوى الاتحاد الأوروبي؛ حيث كانت مثالًا نموذجيًّا لهدف يمكن «نظرًا لحجمه … تحقيقه بشكل أفضل بمعرفة الجماعة»، كما تنص المادة الخاصة بمبدأ الولاية الاحتياطية بالمعاهدة. وضَمَن الإطار التشريعي سوقًا كبيرة جدًّا للمنتجين، وأعطى المستهلكين تطمينًا معقولًا على السلوك التنافسي بين هؤلاء المنتجين. وهكذا قويت المفوضية والمجلس والبرلمان بفضل مخرجاتها الناجحة التي تشمل جزءًا كبيرًا من المجموعة الهائلة من تشريعات الاتحاد، كما تعزَّز من ثَمَّ دور المحكمة.

لقد انتُهي من الجزء الأكبر من البرنامج، لكن ما زالت هناك فجوات كبيرة؛ حيث تركزت أبرز الصعوبات في مجال تحرير الخدمات، التي على الرغم من أنها تمثل ما يزيد على ثلثي إجمالي الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي، لا يتم تقديمها عبر الحدود إلا قليلًا، لا سيما بسبب مخاوف الدول الأعضاء القديمة من مجيء الأيدي العاملة الرخيصة من أوروبا الوسطى والشرقية. وتجلى هذا كأوضح ما يكون في حملة الاستفتاء الشعبي الفرنسي على «معاهدة الدستور» في ٢٠٠٥، عندما صار «توجيه بولكشتاين» — الذي استهدف تحرير الخدمات داخل الاتحاد — رمزًا للإغراق الاجتماعي، وصار «السباك البولندي» باعثًا لقلق سياسي شديد. وعندما وُوفق على توجيه بولكشتاين عام ٢٠٠٦، كان قد خضع لقدر كبير من التعديل على نحو أضعف أثره.

(٤) العملة الموحدة

يتطلَّب أي اتحاد نقدي حرية انتقال الأموال بصورها كافة عبر الحدود بين الدول الأعضاء، وإلغاء أسعار الصرف فيما بينها. وقَطَعَ برنامج السوق الموحدة شوطًا بعيدًا نحو الوفاء بالمتطلب الأول، ومهَّدت «آلية أسعار الصرف» الساحة للثاني.

أُنشئت «آلية أسعار الصرف» عام ١٩٧٩ بعد المحاولة الفاشلة للانتقال إلى الاتحاد النقدي في السبعينيات، وتطلَّبت من البنوك المركزية التدخل في أسواق العملة للحفاظ على تقلبات أسعار الصرف المتبادلة ضمن أُطُر ضيقة؛ وبنهاية الثمانينيات حققت سجلًّا قويًّا من الاستقرار النقدي اعتمادًا على البنك المركزي الألماني كمرتكز. وها هنا مجددًا، تنحَّت بريطانيا جانبًا في البداية لتنضم عام ١٩٩٠ بثمن أعلى مما ينبغي، ومن دون الخبرة المكتسبة على مدى العقد السابق من التعاون. وفي سبتمبر ١٩٩٢، أجبر اضطراب العملات الحكومة البريطانية على سحب الجنيه من آلية أسعار الصرف فيما صار معروفًا باسم «الأربعاء الأسود»؛ مما جعل التكامل النقدي موضوعًا مقلقًا بالنسبة لكثير من الساسة البريطانيين. أما في الدول الأعضاء الأخرى، فقد كان لآلية أسعار الصرف الأثر المعاكس، مع تدفق فوائد استقرار أسعار الصرف إلى الفاعلين الاقتصاديين، وسمحت الآلية من ثَمَّ بالمزيد من إعادة الاستثمار في الإنتاج، وتوفير فرص عمل جديدة، وكلاهما مهم بصفة خاصة في سوق موحدة.

ساندت معظم الحكومات مشروع العملة الموحدة لدوافع سياسية أكثر منها اقتصادية. كان الالتزام الأقوى في فرنسا، المعروف عنها مساندتها استقرار أسعار الصرف، ناهيك عن رغبتها في المشاركة في السيطرة على بنك مركزي أوروبي؛ ومن ثَمَّ استرداد بعض الاستقلالية النقدية التي فُقدت عمليًّا لمصلحة البنك المركزي الألماني. قبلت الدول الأعضاء الأخرى، باستثناء الدنمارك والمملكة المتحدة، مثل هذه المسوغات، ولا سيما في ظل توحيد ألمانيا حديثًا، لكن بالنسبة لألمانيا، وعلى الرغم من أن دافعها السياسي لقبول العملة الموحدة باعتبارها شرطًا فرنسيًّا لوحدة شطريها كان دافعًا حاسمًا، كانت لا تزال هناك تحفظات بشأن استبدال عملة غير مُجرَّبة بالمارك الألماني بقوته واستقراره اللذين استحقهما عن جدارة. لكن إمكانية بناء نظام مماثل عبر الاتحاد كانت بلا شك دافعًا آخر لاقتصاد قائم على الصادرات كاقتصاد ألمانيا. وإذا كانت الدول الأخرى ستقبل منطق التنسيق الاقتصادي الكلي بجانب العملة ذاتها؛ فهذا سيخدم مصالح ألمانيا في نهاية المطاف.

(٥) الهدف من الاتحاد الاقتصادي والنقدي

أنشأت معاهدة ماستريخت، بنصِّها على إقامة اتحاد اقتصادي ونقدي، البنكَ المركزي الأوروبي؛ بحيث يتمتع باستقلالية تامة حاله كحال البنك المركزي الألماني. يُسمى البنك المركزي الأوروبي هو والبنوك المركزية بالدول الأعضاء «النظام الأوروبي للبنوك المركزية». ويشكِّل الأعضاء الستة بالمجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، بجانب محافظي البنوك المركزية الأخرى، مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي؛ ولا يجوز لأيٍّ من هذه البنوك ولا لأي عضو بأجهزة اتخاذ القرار فيها تلقِّي تعليمات من أي كيان آخر. ويتمثل «الهدف الأساسي» للنظام الأوروبي للبنوك المركزية في «الحفاظ على استقرار الأسعار»، وإن كان — مع مراعاة هذا الشرط المطلق — منوطًا به أيضًا مساندة «السياسات الاقتصادية العامة» للاتحاد. وللبنك المركزي الأوروبي الحق، دون غيره، في تخويل إصدار العملة الورقية، واعتماد كمية العملة المعدنية التي تسكُّها دُور الضرب في الدول الأعضاء. واستجابة لرغبة ألمانيا، اختير للعملة الموحدة اسم اليورو لا اسم الإيكو الذي يبدو فرنسيًّا.

لضمان اقتصار المشاركة في اليورو على الدول التي حققت استقرارًا نقديًّا، وُضعت خمسة «معايير توافق» بشأن معدلات التضخم، وأسعار الفائدة، وأسقف عجوزات الميزانية، وإجمالي الدين العام، واستقرار أسعار الصرف؛ إذ اشتُرط على سبيل المثال ألا تتجاوز عجوزات الميزانية ٣ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وأن ينحصر الدين العام في حدود ٦٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي ما لم يكن «متناقصًا بدرجة كافية»، ويقترب من الحد «بوتيرة مقبولة». وتقرَّر ألا يُسمح بالمشاركة إلا للدول التي استوفت المعايير؛ ومن جديد حُدِّدت مراحل وجدول زمني لإتاحة الوقت لحد أدنى من الدول على الأقل للمشاركة، كما تقرَّر منح الدول الأخرى «تحللًا من التنفيذ» ريثما تستوفي المعايير، بينما تبنَّى البريطانيون والدنماركيون خيار عدم المشاركة؛ مما يسمح لهم بالبقاء خارجًا ما لم يختاروا الانضمام.

في المرحلة الأولى، كان مقررًا قبول الجميع آلية أسعار الصرف، وهو ما فعلته بريطانيا لفترة وجيزة قبل أن تلفظها قوى السوق. وفي المرحلة الثانية، كان على الدول إحراز تقدم كافٍ لاستيفاء معايير التوافق. وبدأت المرحلة الثالثة في يناير ١٩٩٩ «بالتثبيت النهائي لأسعار الصرف» بين الدول المشاركة؛ مما أفضى في ٢٠٠٢ إلى بدء التعامل باليورو الجديد، ورقًا ومعدنًا، فحَلَّ نهائيًّا محل عملات الدول المشاركة.

figure
رسم بياني (٤): مؤسسات السياسة الاقتصادية والنقدية.

في منتصف التسعينيات، كان هناك قدر كبير من القلق بشأن أي البلدان ستتمكن من استيفاء معايير التوافق، لأسباب اقتصادية (كما في حالة إيطاليا)، ولعوامل سياسية تتعلق بدرجة الصرامة التي سيفسر بها الاتحاد الأوروبي هذه المعايير. المفاجأة أن انتعاشًا اقتصاديًّا وضغطًا سياسيًّا قويًّا سمحا لإحدى عشرة من الثلاث عشرة دولة بالانضمام في ١٩٩٩، ولم يُستثنَ تحديدًا إلا اليونان (على الرغم من إعطائها الضوء الأخضر بعدئذٍ بعام)، فيما كانت الحكومة السويدية قد قررت عدم جدوى العضوية سياسيًّا، وطلبت عدم المضي قُدُمًا دون موافقتها.

fig17
شكل ٤-١: اليورو: عملات ورقية ومعدنية.

وهكذا بحلول عام ٢٠٠٢، كانت الأغلبية العظمى من الدول الأعضاء من المشاركين في منطقة اليورو، وصارت قضية العلاقات مع الدول التي بخارجها مسألة مثار بعض الشواغل؛ نظرًا لنموذج السياسة الاقتصادية الثنائي الذي تطلَّبه ذلك. شكليًّا على الأقل، نجد أن الدول الأعضاء كافة ملتزمة بالعضوية في نهاية المطاف، لكن عمليًّا، نجد أن الافتقار إلى الدعم الشعبي في المملكة المتحدة والدنمارك والسويد، لا سيما في أعقاب أزمة منطقة اليورو، يعني أن هذا الموقف سيستمر على الأرجح في المستقبل المنظور. وفي المملكة المتحدة، تخلَّت الحكومة العمالية عن هذه القضية في ١٩٩٩ بشروط تتعلق بالتوافق الهيكلي، والمرونة الكافية في اقتصادات منطقة اليورو، والأثر على مختلف المؤشرات الاقتصادية، وكلها ذات صياغة ملتبسة بشكل ملائم؛ مما يسمح لأي حكومة مستقبلية باتخاذ قرار استنادًا إلى العوامل السياسية. وكان لهذا أهمية خاصة نظرًا للتوافق بين مختلف الأحزاب على أن أي قرار سيُتخذ سيكون بعد استفتاء شعبي.

كانت الدول الأعضاء الجديدة تعكس إلى حدٍّ ما ازدواجية هذه الدول الأعضاء الثلاث؛ فعلى الرغم من انضمام سلوفينيا ومالطة وقبرص وسلوفاكيا وإستونيا كلها إلى منطقة اليورو، فإن عددًا من الدول الأخرى كبحت حماسها الأوَّلي للمشاركة؛ لأسباب تتعلق بالمرونة الاقتصادية التي يتيحها الاحتفاظ بعملة وطنية أكثر منها بأي إحساس معين تجاه العملة باعتبارها رمزًا قويًّا للهوية الوطنية. علاوة على ذلك، فإن الدول الأعضاء الجديدة كافة ملزمة قانونًا بطرح اليورو في أسرع وقت ممكن؛ إذ لا تتمتع بخيار عدم المشاركة الذي تتمتع به المملكة المتحدة والدنمارك.

(٦) عملة في أزمة

إذا كان اليورو قد احتُفي به في البداية بوصفه تجسيدًا لمرحلة جديدة في التكامل الأوروبي، فقد كشفت السنوات الأخيرة الوجه الآخر لهذا التطور، باعتبار أن اليورو هو بوتقة اختبار الالتزام السياسي تجاه الاتحاد. فربما أغرت فترة النمو الاقتصادي الممتدة في العقد الأول من القرن الجاري البعض لاعتقاد أن التصميم اللاتماثلي للاتحاد الاقتصادي والنقدي ليس بمشكلة، لكن الضربة المزدوجة التي جاءت من الأزمة المالية بداية من ٢٠٠٧، وأزمة الديون السيادية بعد ذلك بسنتين، ضمنتا إفاقتهم على أمورٍ مثار قلق شديد.

تكمن جذور الأزمة المالية في تخفيف القيود التنظيمية المفروضة على الأسواق المالية في أوائل العقد الأول من هذا القرن وما تلا ذلك من تضخم كثير من الاقتصادات العالمية. وأسفر الانهيار المفاجئ الذي شهده كثير من كبار الأطراف الفاعلة في السوق سنة ٢٠٠٧ — مع اتضاح نطاق التعرض للدَّين المعدوم ومداه — عن تعثُّر الائتمان حول العالم؛ مما جعل البنوك من ثَمَّ غير راغبة في تقديم القروض للشركات، أو غير قادرة على ذلك؛ وهو ما أجبر الحكومات على التحول إلى التدخلات الكينزية التقليدية لإعادة السيولة إلى الأسواق.

كان هذا في حد ذاته سيصبح أمرًا يمكن تدبره داخل الاتحاد الاقتصادي والنقدي بصورته القائمة؛ لأن السياسة الاقتصادية الكلية وتنظيم البنوك كانا لا يزالان في أيدي السلطات الوطنية، لكن بداية من ٢٠٠٩، حوَّلت الأسواق المالية اهتمامها بعيدًا عن البنوك، واتجهت إلى الحكومات، وبالأخص ديونها. وتنامى قلق الأسواق بخاصة بشأن تحمُّل الدول أعضاء منطقة اليورو مقادير مفرطة من الديون السيادية (أي الحكومية) لدرجة من شأنها أن تُهدِّد قدرتها على خدمة ذلك الدين، أو على الحفاظ على قدرة الأنظمة المصرفية الوطنية على الوفاء بالتزاماتها المالية.

لعبت عضوية منطقة اليورو يقينًا دورًا رئيسًا في هذا؛ حيث صارت الدول، التي كانت تتسم من قبل بضعف الإدارة المالية، قادرة على الاستفادة من رجاحة العقل الألمانية المتصورة في عموم منطقة اليورو عند إصدار سندات دين جديدة، والتي كانت تباع بأسعار أقل كثيرًا من ذي قبل. شجع ذلك على تراخٍ في الإدارة المالية من قِبل تلك الدول، بعد جهودها السابقة لاستيفاء متطلبات الانضمام إلى العملة الموحدة. كان «ميثاق الاستقرار والنمو» الذي ضُمِّن في معاهدة أمستردام محاولة متأخرة للحفاظ على النظام الأشد صرامة، غير أن استهانة الدول الأعضاء، بما فيها ألمانيا وفرنسا، الدائمة به في منتصف العقد الأول من القرن الجاري ترتب عليها عدم إنفاذه، وإنْ كان المناخ الاقتصادي الكلي المؤاتي عمومًا هو وحده الذي يسَّر استدامة الوضع.

بداية من ٢٠١٠ فصاعدًا، انخرط زعماء منطقة اليورو في سلسلة من التدابير الطارئة لمحاولة كسب زمام المبادرة، منها إنشاء «مرفق الاستقرار المالي الأوروبي» في مايو ٢٠١٠ الذي يملك التصرف في نحو ٧٥٠ مليار يورو لتوفير دعم مكثف لأعضاء منطقة اليورو. كان هذا المرفق هو الوسيلة التي قُدِّمت من خلالها معونات الإنقاذ إلى أيرلندا والبرتغال واليونان (مرتين حتى الآن في حالة اليونان). ترافقت مع هذه المعونات اشتراطات لتنفيذ إصلاحات متنوعة على جانب العرض لتهيئة الظروف للمزيد من النمو المستدام على المدى الطويل. وكان استعداد البنك المركزي الأوروبي — برئاسة ماريو دراجي — لتقديم قروض قليلة التكلفة للبنوك، ووقف الدين السيادي منذ ٢٠١٢ بمثابة وسيلة لتخفيف الضغط، وإنْ كان بشكل مؤقت.

إذا كان مرفق الاستقرار المالي الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وفَّرا مصدر إغاثة قصير المدى، فقد بُذل أيضًا جهد لوضع آليات تضمن عدم تكرار الأزمة مجددًا. سار هذا الجهد في ثلاث مراحل رئيسة؛ أولًا: جرى إصلاح ميثاق الاستقرار والنمو من خلال ما أُطلق عليه «مجموعة التشريعات الستة» التي أُقرَّت في ٢٠١١ للسماح بإنفاذٍ أشد صرامة لنصوصه المعنية بالعجوزات المفرطة، وهو ما وضع إطارًا للعمل، إضافة إلى «ميثاق من أجل اليورو» وإصلاحاته التي أدخلها على جانب العرض في اقتصادات منطقة اليورو، غير أن محدوديات هذا النهج ساعدت على دفع الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو إلى مرحلة ثانية بدأت في أواخر ٢٠١١، عندما تم إقرار «الاتفاق المالي الأوروبي».

يقع هذا الاتفاق (أو «معاهدة الاستقرار والتنسيق والحوكمة في الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي» كما يُعرف رسميًّا) خارج الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي، لكن يمكنه استخدام مؤسساته. وقد نتج هذا الترتيب الغريب عن امتناع الحكومة البريطانية، في المجلس الأوروبي المنعقد في ديسمبر ٢٠١١، عن الموافقة على مراجعة للمعاهدة بالطريقة المعتادة؛ حيث طلبت حماية لمدينة لندن باعتبارها مركزًا ماليًّا عالميًّا فرُفض طلبها. ترتب على هذا الاعتراض، الذي انضمت إليها فيه الحكومة التشيكية، أن اضطر أعضاء منطقة اليورو ومعظم أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين إلى اتخاذ مسار ذي طابع حكومي دولي لتحقيق هدف الاتفاق الرئيس المتمثل في وضع اشتراطات قانونية تقضي بأن تكون الموازنات العامة للدول متوازنة. وينص الاتفاق على آليات أقوى للمراقبة والإنفاذ على المستوى الأوروبي، بما في ذلك إمكانية اتخاذ إجراء قانوني أمام المحكمة. لقد سعت منطقة اليورو بفعلها هذا إلى إعطاء الأسواق مزيدًا من الثقة في استدامة منطقة العملة على المدى الطويل.

دعمًا للاتفاق المالي الأوروبي، كان هناك أيضًا توافق على تحويل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي إلى أساس دائم، وذلك بإنشاء «آلية الاستقرار الأوروبية» التي تحل محل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، وتوفر مجموعة أشمل كثيرًا من الاحتياطيات المالية لدعم اقتصادات منطقة اليورو التي تعاني من متاعب. وتتموضع هذه الآلية، على عكس الاتفاق المالي الأوروبي، في صميم نظام التعاون المعزز بالاتحاد؛ حيث تنطبق على كل أعضاء منطقة اليورو.

غير أنه حتى مع التفاوض والموافقة السريعين على الاتفاق المالي، شهد عام ٢٠١٢ ضغطًا مجددًا؛ مما أجبر من ثَمَّ الحكومات والمفوضية على وضع مخطط من جديد. ويدور النقاش في هذه المرحلة الحالية حول التكامل بما يتجاوز حدود التنسيق، ربما من خلال توحيد اللوائح المصرفية بحلول ٢٠١٤، ثم الدخول في شيء أشبه باتحاد اقتصادي كامل. وهذا التطور الأخير من شأنه تكامل الميزانيات الوطنية والإشراف عليها من قبل المفوضية، إضافة إلى اتحاد مالي مع إنشاء دين سيادي مشترك، لكن كل هذه المقترحات ما زالت تحتاج إلى تفصيل وتفاوض كما ينبغي؛ نظرًا للقفزة النوعية التي ستمثلها.

كانت نتيجة كل هذه التطورات الانتقال بالاتحاد الاقتصادي والنقدي إلى مرحلة جديدة من وجوده؛ إذ كشفت ضغوط قوى السوق شديدة السلبية محدوديات التصميم اللاتماثلي الذي أُرسي في معاهدة ماستريخت. وهكذا اضطر أعضاء منطقة اليورو إلى تعزيز التزامهم باليورو، وتقوية عدد من الجوانب الأساسية لتكاملهم الاقتصادي والمالي.

غير أن الاتحاد الاقتصادي والنقدي لن يؤدي حتمًا إلى دولة فيدرالية؛ فالدولة الفيدرالية تمدد صلاحياتها المركزية لتشمل استعمال القوة، وهذا لا يَنتُج عن تبني اليورو. أما الجدل الدائر حول التكامل في ميدان الدفاع (الذي سنتناوله في موضع لاحق) فشيء مختلف. وفيما يتعلق بتقوية المؤسسات وإضفاء مزيد من الديمقراطية عليها؛ فهذا شيء منشود بالفعل، سواء بالعملة الموحدة أو دونها، وسوف تصبح هذه التقوية ضرورية إذا أردنا أن يتمكن الاتحاد من تلبية حاجات مواطنيه، ويتفادى مخاطر التفكك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤