الفصل الثاني

المشهد الأول

دن أرياس والكنت
الكنت : أعترف بيني وبينك أن الحمية استفزتني، وأن دمي غلى من كلمة أكبرتُ مرماها. فأما وقد قُضِيَ الأمر، فالعلة لا دواء لها.
دن أرياس : فلينزل قلبك الكبير على إرادة الملك، إذ إن ذلك الحادث قد وقع منه موقعًا أحفظه، وسيقضي في شأنك بمطلق سلطانه. وليس لك من عذر مقبول؛ فإن خطر المساء إليه، وجسامة الإساءة يستلزمان من الواجبات ومن الطاعات ما يتخطى حدّ المألوف في الترضيات.
الكنت : للملك أن يتصرف في حياتي كما يشاء.
دن أرياس : أتبعتَ وزرك بوزرٍ آخر من النزق والاندفاع.
الملك ما زال يودّك، فسكّن غضبه. قال إني أريد، فهل تأبى الامتثال؟
الكنت : يا سيدي، أئذا أبقيتُ على كرامتي ومن أجلها انحرفت عن الطاعة انحرافًا يسيرًا، أتعدَّ عليَّ هذه المخالفة ذنبًا جسيمًا؟
على أنه لو بلغ ذنبي ما بلغ، فإن خدَمي الراهنة كافية للتكفير عنه.
دن أرياس : مهما يأتِ التابع من عظائم الفعال فلا فضل له بها على الملك. إنك لتحسن ظنك بنفسك غاية الإحسان، على أن خدمة الملك فرض مقضي، فإن ظللت على هذا الاعتداد بنفسك أفضى بك إلى سوء المصير.
الكنت : لا أصدّق الخَبر حتى يؤكده الخُبر.
دن أرياس : يجب أن تحذر جانب الملك.
الكنت : يوم واحد لا يقضى به على رجل مثلي، فليتسلّح بكل أسلحة اقتداره لتعذيبي؛ إن أهلِك تهلك الدولة.
دن أرياس : يا عجبًا، أهذا مبلغ تهيُّبك للسلطان الأعلى؟!
الكنت : سلطان الصولجان الذي لولاي لسقط من يده. إن مصلحته، كلَّ مصلحته، لفي بقائي، فإذا هوى رأسي هوى تاجه عن رأسه.
دن أرياس : تلطف بتهدئة روعك، والرجوع إلى رأي أصوب في شأنك.
الكنت : قد انتصحت بما بدا لي.
دن أرياس : فماذا أقول له إذن، ولا بد لي من الجواب؟
الكنت : قل له إنني لا أستطيع قبول ما فيه إذلالي.
دن أرياس : ولكن تذكر أن الملوك يأبون إلا أن يكونوا مستبدين.
الكنت : هذا أمرٌ قد فُرغ منه يا سيدي، فلا محلَّ لمزيد القول.
دن أرياس : بقي عليَّ الانصراف بعد إخفاقي في إقناعك، وليس الغار ليردَّ عن هامتك، فاتَّقِ الصاعقة.
الكنت : سأنتظرها بلا وجل.
دن أرياس : ولكنها واقعة لا محالة.
الكنت : سنرى إذن دن دياج بالغًا مرامه. (منفردًا) من لا يخشَ الموت لا يخشَ الوعيد. ولي قلب يعلو علوًّا كبيرًا عن النقم، وإن كان من الأوج مهبطها. لأيسر لي أن أتحمل عبء الحياة لا نعماء فيها، من أن أطيق العيش والشرف مُثلم.

المشهد الثاني

الكنت ودن لذريق
دن لذريق : سمعَكَ يا كنت، لي إليك كلمتان.
الكنت : تكلم.
دن لذريق : أزِل ريبًا من نفسي، أتعرف دن دياج؟
الكنت : نعم.
دن لذريق : لنتكلم همسًا، أصغِ إليَّ.
أتعرف أن هذا الشيخ كان في زمانه مثال الفضيلة والشجاعة والشرف … أتعرف ذلك؟
الكنت : لعله.
دن لذريق : هذه الحرارة التي تسطع في عينيَّ هي حرارة دمه. أتعرف ذلك؟
الكنت : وما يعنيني؟
دن لذريق : سأنبئك إن كنتَ من الجاهلين، على أربع خطى من هنا.
الكنت : كبرت دعواك أيها الفتي.
دن لذريق : تكلم بلا انفعال؛ إني فَتى ما زلت، ولكن البأس في النفوس الكريمة لا يُرتهن بعدد السنين.
الكنت : أتقيس نفسك إليَّ؟ من الذي نفخ فيك هذا التبجح ولمّا تمتشق حسامًا؟
دن لذريق : أمثالي يبيّنون عن بأسهم بفتكة لا فتكتين ويأتون في التجريب ما لم يأته أولو التدريب.
الكنت : أتعرف من أنا؟
دن لذريق : أجل، وسواي من يفرَق لشهرة اسمك. أرى غارًا فوق غار يغشّي رأسك، فيلوح لي أن الأقدار قد كتبت به آية هلاكي، ولكنني سأضرب غير مبالٍ ساعدًا ما فتئ النصر حليفه، وسأجد من القوة كفاء ما عندي من الشجاعة.
لا يمتنع أمر على الذي ينتقم لأبيه.

زندك لم يُغلب ولكنه لم يُعصم من يد تغلبه.
الكنت : هذه الشجاعة التي تتفجر في كلامك كنت أرى مخايلها كل يوم في عينيك، وأشعر أنك ستغدو فخر قشتالة فيطيب لي أن تصبح ابنتي لك حليلة. أعرف هيامك بها ويسرني أن أشهد أن عوامل الهوى لم تحل بينك وبين الواجب ولم تثنِ عزيمتك النبيلة. ولقد جاءت شمائلك العالية مصداقًا لعالي رأيي فيك، فتبينتُ منها — وأمنيتي اختيار صفوة الفوارس لمصاهرتي — أنه لم يخطئني التوفيق في إيثارك.
على أنني أحس أن بي نزعة من الرحمة لك، فأعجب بإقدامك وأُشفق على صباك.

دع التعرُّض في بدء شأنك لتجربة تأتي على نفسك. وأعف بأسي من نزال من ليس لي ندًّا، فما من فخر لي في عقبى ذلك النزال.

من غلب ولم يخاطر فاز ولم يمجَّد.

سيتوهم الناس أنني صرعتك ولم أُجهد، فيبقى لي، ولا فخر، أسف الإيذاء بك.
دن لذريق : تُعقِّب على جرأتك بشفقة مزرية.
أفمن يسلبني شرفي يتجنب أن يسلبني حياتي؟
الكنت : توارَ من هذا المكان.
دن لذريق : هلمّ بنا من غير حوار.
الكنت : أأنت تعِب من الحياة؟
دن لذريق : أأنت ترهب الموت؟
الكنت : تعال فإنما تقوم بواجب، وليس بكريم العنصر ولد يعيش يومًا بعد شرف أبيه.

المشهد الثالث

بنت الملك وشيمان وليونورة
بنت الملك : سكّني يا شيمان، سّكني ألم نفسك، ورديها إلى الصبر في هذا المصاب.
ستجدين الصفاء بعد هذه الراعدة١ الضعيفة.

وما شوائب سعدك إلا سحائب رقيقة لا تلبث أن تنقشع فتجلدي تحمدي عقباها.
شيمان : قلبي مقسَّم بين الهموم ولا يشيم بارقة للرجاء. هذه العاصفة المفاجئة التي هاجت بحرًا هادئًا إنما تنذر بغرَق لا مفرَّ منه.
لست بمرتابة وإني لهالكة في المرفأ. كنت محبة ومحبوبة وكان أبوانا على وفاق، فبينما أنا أحدّثك بهذا الحديث البهيج إذ تولدت تلك الخصومة، وانتهى إليك خبرها المروع فهدم ما كان مشيدًا من آمالي. قبح الطمع، وساء من خلة تجني باستبدادها على أكرم النفوس.

فيا أيها الشرف الذي لم يرحم أعزَّ أمانيَّ، ماذا أنت سائمي من دموع وزفرات؟
بنت الملك : ليس في هذه الخصومة ما يؤذن بما تخافين، فقد شبَّت جذوتها في لمحة، وستخمد في لمحة. سيدعو تفشِّي أنبائها إلى حسمها، وحسبك أن الملك قد أراد إصلاح البين، ثم تعلمين أنني أرقّ لأشجانك، فما من أمر مستطاع إلا سأفعله لإزالتها.
شيمان : في مثل هذا الأمر لا تُجدي المصالحات فتيلًا، والمساءات القاتلة كهذه لا تندمل جراحها.
هيهات أن تنجع القوة أو الحكمة في تلك العلة، فإن شفيت لم يكن شفاؤها إلا في الظاهر.

البغضاء التي تتغلغل في القلوب تغذي نيرانًا يُخَبِّئُها الرماد فما يزيدها إلا احتدامًا.
بنت الملك : إن الرابطة المقدسة التي ستربط لذريق بشيمان ستذهب بأحقاد الوالدين المتعاديين، وسنرى عما قليل حبكما يستظهر على الضغينة فيهما، ونرى الزفاف الهنيء يلاشي تلك الشحناء.
شيمان : تلك أمنيتي ولكن يقصر دونها رجائي.
دن دياج عاتٍ،٢ ووالدي أعرفه. تسيل دموعي وبودي لو ترقأ، يؤلمني الماضي، وأخشى المستقبل.
بنت الملك : ماذا تخافين من هرمٍ قد وهن٣ العزم منه؟
شيمان : لذريق مقدام.
بنت الملك : لم يزل في نضارة عوده.
شيمان : الشجاعة في الشجعان تبدو لأول بادرة.
بنت الملك : وعلى هذا لا أرى محلًّا لما تحذرين، فإن لذريق يهواك هوًى ينأى به عما تكرهين، وكلمتان من فمكِ تكفيان لإطفاء ثورته.
شيمان : فإن لم يطعني فما أشد حزني، وإن أطاعني فماذا يقولون عنه، أيتحمل تلك الإهانة من ينميه أصل كأصله؟ وسواء أأبرم عهده لي أم نقضه فمصيري معه، إما إلى الخجل منه أو الخجل عنه، لإفراطه في الامتثال أو لإبائه وله العذر.
بنت الملك : نفسك يا شيمان عالية، ولا إخال الغرام ينزل بها إلى ظنة دنيئة. فإذا أهبتُ بذلك العاشق الواله، واحتسبته لديَّ حتى تنحسر الغمرة، فحلتُ بذلك بينه وبين تلبية داعي شجاعته أفلا يمرّ بقلبك خلجة شك من هذه الناحية؟
شيمان : آه يا سيدتي، لو فعلت لأفرخ روعي.

المشهد الرابع

بنت الملك وشيمان وليونورة والوصيف
بنت الملك : يا وصيف، ابحث عن لذريق وادعه إليَّ.
الوصيف : الكنت دي جرماز ودن لذريق ...
شيمان : يا رباه! أرتعد.
بنت الملك : تكلم.
الوصيف : خرجا معًا من هذا القصر.
بنت الملك : أمنفردَين؟
الوصيف : منفردين وكأنهما يتلاحيان.
شيمان : لا ريب في أنهما يتبارزان، ولا وقت لإطالة الكلام اغتفري لي يا مولاتي هذا البدار.

المشهد الخامس

بنت الملك وليونورة
بنت الملك : يا ويح لي، ما أشدَّ بلبالي!٤ أبكي لشقائها وعاشقها يملأ قلبي، زايلتني راحتي، وثارت لواعجي.
والسبب الذي سيفرق بين لذريق وشيمان ينعش أملي ويجدد في آن ألمي. أرى انفصالهما بمضض وارتماض٥ وفي قرارة مهجتي غبطة وسرور.
ليونورة : تلك العِصمة السامية، وهي ملاك أمرك، أتتغلب عليها بهذه السرعة صبوة أثيمة؟
بنت الملك : لا تصفيها بالإثم بعد أن طغت على نفسي، وألقيتُ زمامها إلى أحكامها القاهرة.
أوْلِيها رعايتك من حيث إنها تعزّ عليَّ. عفتي تقاتلها ولكن على الرغم مني أرجو رجاءً لا يقوى عليه قلبي المستضعف فيطير بأجنحة الخيال إلى العاشق الذي فقدته شيمان.
ليونورة : فأنت إذن تقذفين بقوة عزيمتك من حالق، وتعطلين عمل عقلك.
بنت الملك : آه، ما أقل استجابة الهوى فينا للرشاد حينما يرتوي القلب من سمِّه الشهيِّ. قد يألف السقيم نزوات سقامه، فيشق عليه التماس البرء من آلامه.
ليونورة : أَمَلُكِ يغريك، وألمك مستعذب، ولكن لذريق ليس بأهل لك.
بنت الملك : أعلم ذلك فوق ما تعلمين، ولكن إذا كان خفري لم يعصمني منه فتبيني كيف يسطو الغرام على القلب الذي يملكه.
إذا خرج لذريق منتصرًا من هذه المبارزة، وإذا سقط هذا الغطريف بآية من بأسه جاز لي أن أكترث لشأنه وأن أحبه بلا تورع، فما الذي يمتنع عليه، وقد تغلب على الكنت؟ يخيل إليَّ عندئذ أنه لو صال أدنى صولاته لدانت له الممالك بأسرها. ويهيئ لي غرامي منذ الساعة أنني أراه جالسًا على عرش غرناطة يستعبد المغاربة، ويعبدونه خاشعين، وأن الأراغون ستتلقاه فاتحًا، وأن البرتغال ستوليه قيادها، وأن أيامه الغراء ستمد إلى ما وراء البحار جاهه وسلطانه، وتُسْقَى بدماء أعدائه أكاليلُ غاره. وعلى الجملة فكل ما قالوه عن أشهر الغزاة أرقبه من لذريق بعد فوزه، وأجعل معه كلفي به فخرًا لي وذخرًا.
ليونورة : ولكن يا سيدتي تبصري إلى أين ترفعين مقامه على أثر مبارزة لعلها لم تحدث.
بنت الملك : لذريق مُساء إليه … والكنت هو المسيء وقد خرجا معًا … أبعد هذا جواب على سؤال؟
ليونورة : ليكن يا مولاتي أنهما يقتتلان كما تشائين، ولكن هل يدرك لذريق عملًا ما بلَّغْتِهِ إليه أملا؟
بنت الملك : ماذا تبتغين مني؟ لقد خولط عقلي، وضللت سبيلي فانظري ما يعد لي العشق من التباريح، تعالي إلى غرفتي فسرِّي عني، ولا تتركيني في هذا البلبال وحدي.

المشهد السادس

دن فرنان ودن أرياس ودن سنش
دن فرنان : الكنت إذن على ما وصفت من الخيلاء، وقلة البصر بالعواقب، أيجرؤ على الظن بأن جريمته تغتفر؟
دن أرياس : حدثته من قِبَلك وأسهبتُ في البيان، وبذلت معه جهدي يا مولاي، ولم أصل منه إلى طائل.
دن فرنان : يا عجبًا! رجل من أتباعي تذهب به الجرأة إلى نقض ما لي من حق التجلة وإلى الاستخفاف برضاي، فيهين دن دياج، ويحتقر مليكه، ويأمرني أمره بين حاشيتي وبطانتي! ليكن ما شاء مقدامًا جسورًا وقائدًا قديرًا، سأكسر من غَرْبه،٦ وأحطّ من خيلائه، ولئن كان أخًا للشجاعة وإله الحرب لأرينَّه ما عقاب معصيتي. كبرت جريمته وحقّ عليه القصاص، غير أنني أردت بادئ بدء أن أرفق به، فأما وهو قد جاز مدى الحلم، فامض إليه ليومك، واقبض عليه مستسلمًا أو مقاومًا.
دن سنش : لعل التريث في أمره يرده عن المعصية، فقد أخذ على حين كان دمه فائرًا من أثر الخصومة.
مولاي إن قلبًا نبيلًا كقلبه يصعب اقتياده في حرارة سورته الأولى. إنه ليرى خطأه، ولكن النفس الأبية يشق عليها، ولما يسكت عنها الغضب، الإقرار بخطئها.
دن فرنان : صه يا دن سنش واعلم أن الشفاعة فيه جريرة كجريرته.
دن سنش : سمعًا وطاعة ولكن سماحًا يا مولاي، وإذنًا لي بكلمتين أخريين دفاعًا عنه.
دن فرنان : وما يسعك أن تقول؟
دن سنش : يعز على نفس تعودت المساعي الجسام التدني إلى الطاعات زعمًا منها أن خضوعها لا يئول إلا بما فيه هوانها، فالهوان وحده هو اللفظة التي عصى من أجلها الكنت، ووجد في أداء مفترضها قسوة ناهيك من قسوة، وما كان أقربه إلى الامتثال لو كان أقلّ صلابة في القتال، فأوقع إليه أمرًا بأن يصلح ما أساء في حومةٍ يخوضها، وجلادٍ يعمل فيه ساعده المتمرّس بآفات المعامع، يلبِّكَ يا مولاي إلى ما تشاء.
و لو تصدَّى له من تصدَّى ريثما يتبين جلية أمره — لإجابة هذا (يشير إلى سيفه).
دن فرنان : ذهلت عن حرمة الموقف، ولكنني أتجاوز لسنّك، وأعذر الحمية في مقتبل الشباب، فإن الملك الذي يصرف حكمته في الأمور المُثلى يبقي إبقاء الضنين على دم رعاياه. وما شأني في الحرص على أَتباعي والاحتفاظ بهم إلا شأن الرأس يُعنى بالأعضاء التي تخدمه.
فالرأي الذي أدليت ليس هو الرأي في نظري.

أنت تتكلم كلام جندي، وعليَّ أن أفعل فعل ملك، ومهما يزعم الآخرون، ومهما يدعِ الكنت فإن إطاعته لي لم تكن لتحطّ من عليائه، على أن إساءته قد مستني بإيذائها شرف ذاك الذي آثرته مرشدًا لولدي، فهو باستطالته على من اصطفيت استطال عليَّ بالذات، واقترف وزر الاعتداء على السلطان الأعلى.

حسبنا كلامًا في هذا المعرض. وقد بقي عليَّ أن أقول إن عشرًا من سفائن أعدائنا القدماء لوحظت رافعة أشرعتها ومجترئة على الاتجاه نحو مصب النهر.
دن أرياس : قد عرفك المغاربة بما عانوه من بلائك فيهم، وأراهم لكثرة ما باءوا بالفشل والاندحار لا يقدمون بعد على مناوأة قهَّارهم العزيز.
دن فرنان : يعزّ عليهم — لا محالة — أن يروا صولجاني باسطًا ظله على أرجاء الأندلس، وهم يرمقون بعين الغيرة هذا البلد الجميل الذي أضاعوه بعد أن طالت ولايتهم عليه، فلهذا السبب الأوحد نقلت عرش قشتالة إلى أشبيلية منذ عشر سنين، بحيث يتسنى لي أن أراقبهم عن كثب، وان أتدبر عاجلًا فيما يصدّ هجماتهم ويخلف ظنونهم.
دن أرياس : يدرون، وقد أطارت الحرب أرفع هاماتهم، أن شهودك الوقائع يضمن لك الفتوح، فلا بأس عليك منهم.
دن فرنان : وليس من الصواب أيضًا أن نسترسل في الإهمال فإن فرط الثقة مجلبة للخطر، وما غاب عنك أن مدّ البحر يدنيهم إلى هذا المكان بأيسر مجهود، على أنه لا يجمل بي أن ألقي في القلوب هلعًا من الطوارق ولم تبدُ حقائقها، فربما أحدث شيوع هذا النذير هلعًا يزعج المدينة في الليلة الآتية، فمر عني بمضاعفة الحرس على الأسوار وفي الميناء، وحسبنا هذا القدر في هذا المساء.

المشهد السابع

دن فرنان ودن سنش ودن النس
دن النس : مولاي، قد مات الكنت، ووتر دن دياج بيد ابنه.
دن فرنان : منذ علمت بالإهانة شعرت بهذا الانتقام، وعمدت من ساعتي إلى تدارك الفاجعة.
دن النس : بالباب شيمان وُفدت لترفع بثها إلى قدميك مستعبرة العينين تلتمس الإنصاف.
دن فرنان : إني لأرثي لبلواها، ولكن أباها لقي الجزاء الحقيق بجرأته، على أنه خليق بها أن تحزن على الكنت، وبي أنا أن آسف لفقدي قائدًا عظيمًا خدم مملكتي خدمة طويلة الأمد، وسفك في سبيلي دمه في ألف معترك، فمع ما حركت نفسي من العوامل سورة كبريائه أجهر أن فقده يضعضعني، وأن موته يشجيني.

المشهد الثامن

دن فرنان ودن دياج وشيمان
شيمان : مولاي، مولاي عدلًا.
دن دياج : آه يا مولاي أصغِ إلينا.
شيمان : أترامى على قدميك.
دن دياج : أُقبِّلُ ركبتيك.
شيمان : ألتمس النصفة.
دن دياج : استمع لدفاعي.
شيمان : عاقب ذلك الشاب الجريء على قحته، فقد قوَّض ركن صولجانك، قتل أبي.
دن دياج : أخذ بثأر أبيه.
شيمان : الملك موكل بالعدل في دماء رعيته.
دن دياج : لا عقاب على الانتقام المشروع.
دن فرنان : انهضا كلاكما لقد فسحت لكل منكما في إبداء ما عنده. شيمان، أرثي لبلواك، وأحسّ أن حزني عديل حزنك، نتكلم فيما بعد، لا تقطع عليها شكواها.
شيمان : مولاي، أبي قُتل، وشهدت عيناي دمه المسفوح يتدفق دُفعًا كبارًا من جنبه الكريم، ذلك الدم الذي بذل مرارًا لصيانة أسوارك، ذلك الدم الذي أعلى كلمتك في المعامع.
ذلك الدم الذي خرج والدخان يسطع منه غضبًا لانسفاكه في غير سبيلك.

ذلك الدم الذي لم تستطع الحروب أن تريقه في غمراتها قد جلَّل به لذريق بلاط قصرك.

هرعت خائرة القوة شاحبة اللون، فوجدته فارق الحياة. اعذر توجعي يا مولاي. عدمت الصوت لاستكمال هذه القصة المروعة، وكفى بدموعي وزفراتي إفصاحًا عن سائر ما جرى.
دن فرنان : ثبِّتي قلبك يا بُنيَّتي واعلمي اليوم أن الملك يريد أن يكون لك أبًا مكان أبيك.
شيمان : مولاي، بالغت في تشريف قدري بعد محنتي. لقد تقدم قولي أنني وجدته بلا حراك، كان جنبه فاغرًا وكأنني بدمه يستصرخني ويخط لي على التراب ما يقتضيني من الواجب.
أو كأن تلك القوة التي رُدَّت إلى البوار تخاطبني بجرحها لتستحثني على اللحاق بالغارم، وتستعير من فم هذا الجرح الأليم صوتي لإبلاغ ظلامتها إلى أعدل الملوك. مولاي، لا تُجِزْ أن يقع في عهدك وبمشهد منك مثل هذا الجرم، وأن يستباح أولو البأس المبرزون لمجترئ عليهم يأمن العقاب، وأن ينبري شاب جسور فيهدم علياءهم، ويشرب دماءهم، ويلطخ ذكراهم، فإذا لم تثأر لذلك الصنديد٧ الذي رُزِئته طُفئت في النفوس حماسة الذين يخدمونك.

دع كل هذا. قتل أبي، وأطالب بدمه لا للترفيه عني بأكثر من الرعاية لجانبك. خسارة لك أن تحرم رجلًا هذا شأنه، فاثْأر لموته بموت الجاني عليه، وكافئ الدم بالدم، وضحِّ به لتاجك لا لي، بل قدِّمه لعليائك بل لذاتك. ضحِّ يا مولاي لمنفعة الدولة بكل من يستطيل مثل هذه الاستطالة.
دن فرنان : دن دياج، أجب.
دن دياج : أحرِ بالإنسان الذي يعدم الحياة بانعدام عزيمته أن يغبطه الناس فقد يهيئ للكرام طول آجالهم بعد شوطهم المجيد ضعةً وهوانًا، أنا الذي ضمنت له فعاله الجسام ما شاءت من الفخار. أنا الذي عقب على النصر بالنصر كل آن وآن. أراني اليوم لا ذنب لي إلا امتداد البقاء أتلقى الإهانة وألبث موسومًا بميسمها، فما لم تنله مني ملحمة ولا حصار ولا كمين، وما لم تستطعه أراغون وغرناطة ولا أعداؤك جميعًا، ولا حسَّادي جميعًا، فعلَه الكنت في قصرك وعلى مدى بصرك غيرة من إيثارك إياي، واعتدادًا برجحان قوته على القوة التي سلبها مني تقادم سنِّي.
فهذه اللمَّة التي ابيضَّت تحت خوذة الكفاح، وهذا الدم الذي بُذل غير مرة في سبيلك يا مولاي، وهذا الساعد الذي كان يلقي الذعر في جيش أعدائك، كل ذلك كاد ينزل معي إلى القبر موصومًا بالعار، لو لم ألد ولدًا جديرًا بالانتساب إليّ، خليقًا بإعلاء ذكر بلاده، حقيقيًّا بالانتماء إلى ملكه، أعارني ذراعه، وصرع الكنت، فنضح عن شرفي، وغسل أوضار٨ عاري. فإذا كان إبداء الشجاعة، وشفاء غلة الحقد، والانتقام من اللطمة في الوجه، جُناحًا يعاقب عليه، فعليَّ وحدي تقع التبعة.

يخطئ الزند فيعاقب الرأس، وسواءٌ أَعُدَّ ذنبًا ما نتحاور فيه أم لا، أنا يا مولاي الرأس، وليس ابني إلا الذراع. تشكو شيمان من أنه قتل أباها، وتالله ما كان ليودي به لو قدرت على الإيداء به. فليُضَحَّ إذن بهذا الرأس الذي يلوي به الهرم، وليبقَ الساعد الذي يضطلع بخدمتك. أرضِ شيمان بسفك دمي، فقد طِبْتُ نفسًا للاقتصاص مني ورضيتُ بالحكم عليَّ مهما بولِغَ في شدته، إذ إنني بموتي نقيَّ الشرف، أموت بلا أسف.
دن فرنان : المسألة ذات بال تدعو إلى إعمال الروية ومشاورة المجلس، دن سنش اصحب شيمان إلى بيتها.
دن دياج يلزم قصري سجينًا فيه، رهينًا بعهده. ليؤت بابنه سأنصفكِ يا شيمان.
شيمان : من العدلِ أيها الملك العظيم أن يُقتل القاتل.
دن فرنان : روِّحي عنك يا ابنتي، وسكني أحزانك.
شيمان : الأمر بالترويح عني يزيد أشجاني.
١  الراعدة: السحابة ذات الرعد.
٢  عاتٍ: مستكبر.
٣  وهن: ضعف.
٤  بلبالي: شدة الهم.
٥  ارتماض: ألم.
٦  غربه: حدته.
٧  الصنديد: السيد الشجاع.
٨  أوضار: أوساخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤