الفصل الثاني

الدعوة العباسية

اجتمعت عوامل عديدة على وضْعِ نهايةٍ للدولة الأموية، وأولُ هذه العوامل أن الموالي والفُرْس كانوا قد ضاقوا ذَرْعًا بحكم الدولة العربية، فتآمروا على الإجهاز عليها، وكانوا في آخِر القرن الأول وأوائل القرن الثاني للهجرة قد استعادوا بعض قوتهم، وتجمَّعت لديهم الأسباب التي تُمَكِّنُهم من الانقضاض على أعدائهم والفتك بخصومهم الذين أذلُّوهم وأفقدوهم مجدَهم وطوَّحوا باستقلال بلادهم، وقد تعاوَنَ هؤلاء الموالي والأعاجم مع نفرٍ من العرب الذين كرِهوا حكم بني أمية، فعملوا على التخلُّص منهم، ومن أبرز هذا النفر بنو هاشم من بني علي وبني العباس.

وهناك عوامل عديدة أخرى عملت في القضاء على العهد الأموي، بالإضافة إلى الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي مُنِيت به الدولة في آخِر عهدها، ويمكننا إجمال تلك العوامل فيما يلي:
  • (١)

    الانقسامات القَبَلية العديدة التي قسَّمت الأمة وفرَّقتها إلى شِيَع وأحزاب من يمانية وقيسية وعدنانية وقحطانية، وقد تطوَّر هذا الانقسام القَبَلي إلى انقسام حزبي عنيف نتج عنه تفسُّخ البيئة العربية تفسُّخًا قذِرًا، فاتسعت شُقَّة الخلافِ بين السكان اتساعًا عمل على تهديم أركان الدولة الأموية.

  • (٢)

    تهاوُنُ بعض الخلفاء والأمراء الأمويين في النواحي الدينية والخُلقية؛ وانغماسهم في بحور اللهو وأسباب الفِسق والاستهانة بآل بيت الرسول وفَتْكهم بهم وتشريدهم.

وقد استطاع العبَّاسيون ودُعاتهم الأذكياء أن يستغلُّوا كلَّ هذا الحنق في سبيل الوصول إلى هدفهم السياسي، واستطاعوا بدهائهم أن يخدعوا العلويين بأن دعوتهم إنما تهدف إلى إحقاق الحق وتسليم الأمر للرِّضا من «آل بيت محمد»، وكلمة «الرضا» كلمة غامضة ليست محدَّدة، فاستطاع العباسيون ودُعاتهم أن يخدعوا بها العلويين وشِيَعَهم، ويُسَيِّروهم في دعوتهم إلى أن تمَّ لهم الأمر، فتنكَّروا لهم وأعادوا سيرةَ الأمويين معهم، وأصلُ هذه الدعوة يرجع إلى عهد الفتنة الكبرى التي وقعت بين يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير، فإنه لما مات يزيد وعَظُم أمر ابن الزبير في الحجاز ومصر والعراق وبايَعَه أشراف الناس ووجوههم، امتنع زعيما الهاشميِّين وهما محمد بن الحنفية وعبد الله بن العباس من مبايَعته، فاضطهدهما وسجنهما، وعادت الفتنة من جديد، وكان ظَهَرَ آنئذٍ في الكوفة — التي كانت مقرَّ الحركة العلوية — رجلٌ ذو مطامع سياسية واسعة، هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الملقَّب بكيسان، وأخذ يدعو لآل علي، فالتفَّ حوله رؤساءُ الشيعة، واستطاع أن ينقذ محمد بن الحنفيَّة من سجنه، ثم جمع جموعه لقتال ابن الزبير، فما كان من ابن الزبير إلا أن وجَّه إليه أخاه مُصعبًا، فاستطاع أن يفتك بالمختار ويقضي على دسائسه، ولكنَّه لم يستطع أن يقضي على حركته، فبقي بعض جذورها التي استطاعت أن تظهر فيما بعدُ بشكلٍ آخر، أما ابن الحنفية فإنه تراجَعَ منخذلًا، ثم اضطر بعد أن قضى عبد الملك بن مروان على الحركة الزبيرية أن يبايعه، ولما مات ابن الحنفية اضطربت أفكارُ شيعته، فمنهم مَن قال بغيبته مُوَقَّتًا ورَجْعَتِه، ومنهم مَن تبع ابنَه أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية متهجِّمين على بني أمية مبيِّنين ظلمَهم وفتْكَهم بآل النبي وإفسادهم أمر المسلمين وما إلى ذلك مما تقتضيه أساليبُ الدعوة، وكان في خراسان اثنا عشر نقيبًا يعملون على هدم بني أمية وإقامة سلطان هاشمي، وكانوا على اتصال بالمركز في الكوفة، أما أبو هاشم عبد الله بن محمد فإنه اضطرَّ أن يلجأ إلى بني عمه من آل العباس الذين كانوا يقيمون في «الحُميمة» من أرض فلسطين جنوبيَّ البحر الميت، وكان أكبر رجال آل العباس وقتئذٍ هو محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فأقام أبو هاشم فيهم، ويقال إنه قد تخلَّى لهم عن حقه في الخلافة لمَّا أحسَّ بدنوِّ أجله على الشكل الذي سنفصِّله بعدُ.

قال ابن الطقطقي صاحب كتاب «الفخري»: «وكان أبو هاشم من رجال أهل البيت، فاتفق أنه قصد دمشق وافدًا على هشام بن عبد الملك فأكرمه هشام ووصله، ثم رأى من فصاحته ورياسته وعِلمه ما حسده عليه وخاف منه، فبعث إليه وقد رجع إلى المدينة مَن سمَّه في لبن، فلما علم بذلك عدل إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان نازلًا بالحميمة من أرض الشام، فأعلمه أنه ميت وأوصى إليه، وكان في صحبته جماعةٌ من الشيعة، فسلَّمهم إليه وأوصاه بهم، ثم مات فتهوَّس محمد بن علي بالخلافة، منذ يومئذٍ وشرع في بثِّ الدُّعاة سرًّا، وما زال الأمر على ذلك حتى مات …» وموتُ محمد بن علي هذا كان في سنة ١١٤ھ، وقيل: بل في سنة ١١٧ﻫ، والدعاة الذين يشير إليهم ابن الطقطقي هم اثنا عشر داعيًا أو نقيبًا اختارهم محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لينظِّموا دعوته سرًّا، وهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين الخزاعي مولاهم، وعيسى بن أعين الخزاعي مولاهم، وقحطبة بن شبيب الطائي، ولاهز بن قريظ التميمي، وموسى بن كعب التميمي، والقاسم بن مشاجع التميمي، وخالد بن إبراهيم الشيباني، والشبل بن طهمان الحنفي مولاهم، وعمران بن إسماعيل المعيطي مولى أبي معيط. وقد جعل محمد بن علي للدعوة مركزَين؛ «أحدهما» في الكوفة، وكانت صلته بالحميمة يتولَّى أمره ميسرة مولى علي بن عبد الله بن العباس، و«الثاني» في خراسان، وكان مرجعه الكوفة، ويتولى أمرَه الدعاةُ الاثنا عشر الذين سلفت أسماؤهم، وكان رئيسهم وصاحب الرأي فيهم سليمان بن كثير الخزاعي.

اختار محمد بن علي بن عبد الله سبعين رجلًا ليكونوا مؤتمرين بأمر النقباء الاثني عشر، يعملون في الخفاء على نشر الدعوة العباسية، ويهدمون الدولة الأموية، ويحرصون على تنفيذ ما يقرِّره النقباء بعد التشاور والتعاون فيما بينهم، وظلَّ هؤلاء يعملون جميعًا سرًّا من أول القرن الثاني إلى سنة ١٢٧ھ، كانوا يجوبون البلاد متظاهرين بالاتجار أو طلب العلم أو التطبيب أو السياحة، وهم ينشرون دعوتهم متهجمين على بني أمية، مبيِّنين ظلمهم وفتكهم بآل النبي وإفسادهم أمرَ المسلمين، وما إلى ذلك مما تقتضيه أساليب الدعوة، وكان نقباء خراسان الاثنا عشر على اتصال بمركز الكوفة، والكوفة على اتصال بميسرة يخبرونه بكل شيء، وهو يخبر بدوره الحُميمة. ومما تجدر الإشارة إليه أنه في سنة ١٠٥ھ انضم إلى الدعوة رجلٌ ذو خطر كبير هو بكير بن ماهان، وكان من وجوه الخراسانيين ودُهاتهم، اتصل بمحمد بن علي فأحبَّه وآزَره في دعوته، وقد لعب بكير دورًا كبيرًا في نشر الدعوة، وتزويدها بالمال وحسن تنظيماتها، ولما مات محمد بن علي سنة ١١٤ھ، وتولَّى الأمرَ من بعده ابنه إبراهيم بن محمد، فسار سيرة أبيه في تنظيم الدعوة، واستمر بكير في نشاطه إلى أن مات، فأقام إبراهيم بن محمد مكانَه أبا سلمة حفص بن سليمان الخلَّال، وهو صهر بكير بن ماهان، وحدث آنئذٍ أن اتصل بإبراهيم شابٌّ من موالي بكير، وكان من ذوي المقدرة والدهاء والسياسة، اسمه عبد الرحمن أبو مسلم الخراساني، وقد تفرَّس إبراهيم فيه الحزم والقوة فقرَّبه منه واعتمد عليه، ثم وجَّهه إلى خراسان وأمره أن يعلن الدعوةَ بعد أن كانت سرِّية، وأن يشرع بالعمل فورًا، وكتب إلى النقباء والشِّيعة العباسية والعلوية أنه قد أمَّره عليهم وأعطاه رسالة، وهذا بعض ما جاء فيها: «… يا عبد الرحمن، إنك رجلٌ من أهل البيت، فاحفظ وصيتي وانظر هذا الحي من اليمن، فأكرِمْهم وحُلَّ بين أظهرهم، فإن الله لا يتمِّم هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاهتمَّ في أمرهم، وانظر هذا الحيَّ من مُضَرَ فإنهم العدو القريب الدار، فاقتل مَن شككتَ فيه، ومَن كان في أمره شُبهة، ومَن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت أن لا تدع بخراسان لسانًا عربيًّا فافعل، فأيُّما غلام بلغ خمسة أشبار تتَّهمه فاقتله، ولا تُخالِف هذا الشيخ (يعني سليمان بن كثير) ولا تَعْصِه، وإن أشكل عليك أمرٌ فاكتفِ به مني …» وهكذا سار أبو مسلم في دعوته وهو مزوَّدٌ بهذه الوصية التي لا أرى مجالًا للشكِّ في صحة نسبتها إلى إبراهيم، كما يذهب إليه بعض مؤرخي العصر؛ لما فيها من طعنٍ صريح في العرب؛ لأن إبراهيم كان يريد الوصول إلى هدفه بأيِّ ثمن، والسياسة عادةً لا تعرف مذهبًا ولا تتعصَّب إلا لهدفها.

سار أبو مسلم إلى خراسان في سنة ١٢٨ھ فلبس السواد الذي اتخذه العباسيون لهم شعارًا، وأخذ يدعو الناس للدخول في دعوته ويثيرهم على بني أمية، ويحرِّضهم لنُصْرة أبناء الرسول فالتفوُّا حوله، وكانت دولة بني أمية آنئذٍ قد اضطرب أمرها وكثر الهَرَج فيها، وكان الخليفة الأموي في دمشق مروان بن محمد قد أحسَّ بخطورة الموقف، فكتب إلى أميره على خراسان «نصر بن سيار» أن يقف أمام ذلك الثائر ويحسم الأمرَ بشدة إلى أن يجيئه المدَد.

ثم بعث هو مَن جاءه في سنة ١٣١ھ بإبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولما عرف إبراهيم بطلب مروان إياه أدرك أنه لا بدَّ مقتول، فأوصى بالأمر من بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله «السفاح»، وأمرَ أهلَ بيته أن يسمعوا له ويطيعوا، وطلب إليه أن يترك الشام ويفرَّ بإخوته وأبنائه وأهله إلى الكوفة حيث شِيعَتُهُم، فسار أبو العباس حتى دخلها خفية، ولما بلغ خبر دخولهم إلى أبي سلمة الخلَّال أنكر ذلك وخاف مغبَّته، وطلب إليهم أن يسكنوا خارج الكوفة خوفًا عليهم من عيون خليفة دمشق مروان، ثم رأى أن يُخفيهم بدار الوليد بن سعيد الجمال من شيعة بني هاشم، وكان ذلك في المحرَّم من سنة ١٣٢ھ، فظلوا هناك قرابة شهرين وأمْرُهم مكتوم حتى عن شيعتِهِم وكبار رجالات الدعوة.

ولما استطاع أبو مسلم أن يستولي على خراسان كلها، واضطر أميرها نصر بن سيار إلى أن يفرَّ نحو العراق، زحفت الجنود المسودة من خراسان إلى العراق وهي تفتك بالجند المرواني، وكان الحسن وحُميد ابنا قحطبة على رأس الجيش العباسي الذي دخل مدينة الكوفة فاتحًا في يوم ١١ محرم سنة ١٣٢ھ بعد أن هزما أمير الكوفة، ولما تم للمسودة العباسيين أمر الفتح، وأخذ أبو سلمة «حمام أعين» وهو على بُعد ثلاثة فراسخ من الكوفة، جعله معسكرًا ومقرًّا لجنده، ثم فرَّق عمَّاله وقوَّاده على السهل والجبل من الكوفة إلى أقصى المشرق، وصارت الدواوين بحضرته والكتب تَرِد إليه.

وهكذا تولَّى أبو سلمة إدارةَ الدولة الجديدة وأخذ ينظِّم أمورها، وها هنا لا بدَّ من الإشارة إلى أمرٍ يذكره بعض المؤرخين؛ وهو أن أبا سلمة أراد في ذلك الحين نقل الخلافة من العباسيين إلى العلويين؛ يقول ابن الطقطقي في «الفخري»: «لما سَبَر أبو سلمة أحوالَ بني العباس عزم على العدول عنهم إلى بني علي.» ويقول المقدسي في «البدء والتاريخ»: «إن الناس قد بايعوا إبراهيم وقد مات، ولعله يحدث بعده أمر، وأراد أن يصرف الأمر إلى ولد علي.» هذا ما يقوله المؤرخون، ويظهر أن أبا سلمة كان علويَّ الهوى فأراد انتهاز هذه الفرصة لنقل الخلافة من آل العباس إلى آل علي؛ ولذلك تريَّث في الأمر كثيرًا ولم يرتَحْ لمجيء أبي العباس وآلِه إلى الكوفة، وطلب إليهم أن يكتموا أمْرَهم، ثم إنه لما أعلن الأمر لم يُسَمِّ الخليفة، وإنما كان يقول: «إنما الأمر قد صار للهاشميين.» كما يذكر ذلك الجهشياري في كتاب الوزراء. وقد كتب أبو سلمة فعلًا إلى ثلاثة من العلويين يدعوهم إلى قبول الخلافة؛ وهم الإمام جعفر بن محمد الصادق، وعبد الله بن الحسن المحض، وعمر بن زين العابدين الأشرف، وأما الصادق فأحرق الكتاب، وأما الأشرف فرفض، وقَبِلَ عبدُ الله بن الحسن المحض على الرغم من تحذير جعفر الصادق إياه من التورُّط في هذه الفتنة، ولكن طلب إلى أبي سلمة أن يعهد بالأمر إلى ابنه محمد، فإنه رجلٌ مُسِن فلم يُوافِق أبو سلمة، ومهما يكن من أمرٍ فإن مساعي أبي سلمة قد فشلت، فاضطر أن يعلن خلافةَ أبي العباس بعد مراوَغةٍ دامتْ سبعين يومًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤