الفصل الثالث

المهدي بن المنصور

ذو الحجة سنة ١٥٨ھ–٢٢ محرم ١٦٨ھ/ تشرين الأول ٧٧٥–٤ آب ٧٨٥

(١) هو محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، وأمه أروى بنت منصور الحميرية

وُلد سنة ١٢٦ في الحميمة فتثقَّف وتعلم كما كان يتثقف ويتعلم شبان قريش، وبرز نبوغه وفضله منذ طفولته، وكانت سنُّه لما استُخْلِف أبوه عشر سنوات، ولما بلغ سنَّ الرشد ورأى أبوه فيه الفضل والحزم والقوة أراد أن يوليه العهد من بعده، ولكنَّ عَقَبَة وقفت في سبيله، وهي أن عيسى بن موسى ولي العهد لم يقبل أن يتنازل له، فرأى المنصور أول الأمر أن يفاوضه ليتخلى للمهدي ابنه، فأبى عيسى وقال: ليس إلى خلع نفسي سبيل، فتغيَّر عليه المنصور وباعده بعض المباعدة، وصار يأذن لابنه قبله ويجلسه فوقه، وقيل: إنه سقاه يومًا شرابًا فخاف عيسى على نفسه التلف فخلع نفسه، وهناك روايات أخرى ذكرها الطبري وابن الأثير وابن طباطبا، ومهما يكن من شيء فإن عيسى أحسَّ بالخطر فاضطر على أن يخلع نفسه، وأخذ أبو جعفر يعمل على إظهار أمر المهدي.

وفي سنة ١٤١ھ ولَّى المنصور ابنه المهدي قيادة جيشٍ بعثه إلى خراسان للقضاء على بعض الفتن، فلما وُفِّق في القضاء على الفتنة أمره أبوه بغزو «طبرستان» فغزاها ونجح، ولما عاد بعد ثلاث سنوات استقبله أبوه من «قرمايسين»، ولما وصلا بغداد زوَّجه ريطة بنت عمه السفاح، وكان زواجًا حافلًا.

وفي سنة ١٤٧ھ بعثه إلى الريِّ ليتمرن على الحكم هناك ويتمرس بالأمور، وفي سنة ١٥١ھ بنى أبوه له ولجنوده مدينة الرصافة وولَّاه إمرة الحج، وفي سنة ١٥٥ھ أمره أن يشرف بنفسه على بناء مدينة الرافقة بالقرب من الحدود الرومية للإشراف بنفسه على حفظ الثغور، وهكذا ظلَّ أبوه يوليه مهام الأمور حتى أدركته المنية؛ فاستخلف في ذي الحجة سنة ١٥٨ھ، ورأى منذ أول عهده أن يغيِّر سياسة العنف التي كان يسلكها أبوه؛ لأن أركان الدولة كانت قد توطدت والثوار من خراسانيين وغيرهم قد خُضِدَت شوكتهم، فلم تبق ثمة حاجة إلى الفتك والعنف، فأطلق عددًا كبيرًا ممن كانوا في سجن أبيه من كبار الثوار والقادة أمثال يعقوب بن داود الذي سنسمع بعض أخباره.

ثم التفت إلى مَن كان أبوه قد صادر أموالهم فأرجعها إليهم، ويذكر صاحب تاريخ الفخري أن المهدي فعل ذلك بوصيَّة من أبيه حين يقول: «يا بني إني قد أفردت كل شيء أخذته من الناس على وجه الجناية والمصادرة، وكتبت عليه أسماء أصحابه، فإذا وُليت أنت فأعده على أربابه ليدعو لك الناس ويحبوك …» وهكذا فعل المهدي فأحبوه، وكان كريمًا معطاء بعث إلى الحجاز بجرايات الحبوب والطعام التي منعها أبوه منذ ثورة محمد ذي النفس الزكية،١ ومنح الحجازيين أموالًا كثيرة حينما حج، وزار الشام وأحسن إلى أهله ليطمئنهم ويجعلهم ينسون عهد الأمويين، ثم التفت إلى أهل بيته وكبار رجال دولته وأصحاب الدعوة ففرق فيهم الأموال ووزع عليهم الأقطاع، وأكثر من إحسانه إليهم وإلى العامة، وهكذا استطاع أن يكتسب قلوب رعيته وخاصته ويفرض عليهم حبه والإعجاب به، وزاده سموًّا عندهم أنه كان يجلس بنفسه في مجلس القضاء فيقضي بين الناس ويَرُدُّ المظالم، وقد رووا عنه أنه اتخذ بيتًا كانت تُطرح فيه الشكاوى والقصص ويطلع عليها ويعمل بما يراه حقًّا وعدلًا، هذا نمط من الإصلاح الذي اجتذب به قلوب الناس، وهناك أنماط أخرى نذكر منها أنه أمر ببناء القصور والمنازل والحياض في طريق الحج إلى مكة، كما أمر بتنظيم البريد بين المدينة ومكة واليمن، وهو أول من فعل ذلك، وأمر بتوسيع المسجد الحرام والمسجد النبوي، وأمر بالإنفاق على المجذومين والمرضى والشيوخ، وأمر بإصلاح أحوال المسجونين وحسَّن الإنفاق عليهم، وغير ذلك من أنماط الإصلاح والعدالة الاجتماعية التي جعلته خليفة محبوبًا مخلدًا.

(٢) الإدارة في عهده

كان المهدي إداريًّا منظَّمًا كما رأينا أثر ذلك في أعماله الاجتماعية السابقة، هناك المظاهر الأخرى التي تدلُّ على حسن إدارته منها:
  • (١)

    أنه نظَّم أمور الحرس الملكي فاصطفى لنفسه خمسماية رجل من أبناء وجوه العرب، أجرى عليه الأرزاق الجليلة، وجعلهم بمثابة حرسه الخاص، ولعله قصد بذلك أن يسترضي وجوه العرب الذين أخذوا ينفرون من الدولة العباسية؛ لأنها أقصتهم بعض الإقصاء، وقرَّبت الأعاجم، والمهدي العربي الأم والأب بعمله هذا جذب قلوب العرب إليه بانتخاب هذا العدد من أبناء وجوه القادة العرب والاعتماد عليهم في هذه المحطة.

  • (٢)
    ومن تلك المظاهر التنظيمية عنايته بأمور الدولة المالية فقد رأينا أنه منع المصادرات، وردَّ من كان صادرهم أبوه وعُني بتنظيم أحوال الخراج والجبايات، ولا غرو فإنه كان ينتقي وزراءه كما سنرى من الماليين الثقات الأمناء العدول، كأبي عبد الله بن يسار الذي يقول عنه الجهشياري: «كان يضبط أمور المهدي ويشير عليه بالاقتصاد وحفظ الأموال.» ولكنه لما استوزر بعده يعقوب بن داود اختل التوازن المالي بعض الشيء؛ لأن يعقوب كان كريمًا مسرفًا متلافًا، مما جعل الخليفة يتخلى عنه لتفريطه في أموال الدولة، ولم يكن المهدي يقسو على رعيته في جمع الأموال ولا في استصفاء الضرائب، يقول صاحب تاريخ الفخري: «كان مقدَّمًا في صناعته، فاخترع أمورًا؛ منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة، وكان السلطان يأخذ عن الغلات خراجًا مقررًا ولا يقاسم.»٢ وهذا القول، على الرغم من أنه يثبت شهرة المهدي بالعدل وعدم القسوة على الرعية في جمع الضرائب، هو قول خاطئ، فقد رأينا أن الذي سن المقاسمة ورتَّب أمور الخراج هو أبوه المنصور، وإنما سار هو في ذلك على سَنَن أبيه، ولعل صاحب تاريخ الفخري يريد أن يقول إن المهدي هو الذي عمم نظام المقاسمة في أرض المملكة الإسلامية بعد أن كان هذا النظام محصورًا أيام أبيه في السواد فقط، وإنه كان رحيمًا في توزيعه.
    ويقول الجهشياري: «إن المهدي كتب برفع العذاب عن أهل الخراج.»٣ وهذا يدلنا على رأفته وعلى عدم إقراره للطرق العنيفة التي كانت متبعة في جمع الخراج قبله.٤
    ومن تلك المظاهر أن الدواوين قد اتسعت أيامه في عددها وتنظيمها وأعمالها، فإنه أمر بترتيبها أحسن ترتيب، وفي عهده أُحْدِثَت دواوين الأزِمَّةِ لأول مرة، وهي دواوين صغيرة يشرف أصحابها على كافة دواوين الدولة ورقابة تنظيمها، يقول الطبري: «أول من عمل ديوان الزِّمَام هو عمر بن بُزيع في خلافة المهدي، وذلك أنه لما جُمِعَت له الدواوين تفكَّر فإذا هو لا يضبطها إلَّا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة وولَّى كل ديوان رجلًا، وكان ذلك سنة ١٦٢ھ.»٥ وهذه الدواوين فيما أرى هي أشبه «بالمكتب الخاص» في الوزارات هذه الأيام، وهي مكاتب تُسَجَّل فيها رسائل كل ديوان وأرقامها وخلاصتها، كما تسجل الأجوبة الخاصة بكل معاملة منها تنظيمًا للرقابة والضبط، وهذا النوع من الترتيب البالغ المنظم.
    ومن تلك المظاهر التنظيمية الجديدة ما ذكروه من أنه لأول مرة جعل يوم الخميس يوم عطلة للموظفين وكتَّاب الدواوين؛ ليستريحوا فيه من أعمالهم ويقضوا شئونهم الخصوصية، وقد استمر هذا الأمر إلى عصر المعتصم.٦

(٣) الوزارة والوزراء في عهده

كما عُني المهدي بأمور الدولة الإدارية، عُني بالوزارة؛ لأنها الرأس المشرف على الإدارة العامة، وفي عهده صار للوزارة شأن عظيم لم يكن لها من قبل في عهد عمِّه أو أبيه؛ لأنهما كانا يعتمدان على نفسيهما في كل شيء، أما هو فقد عهد إلى وزيره بتدبير الأمور كلها، ولعل السبب في ذلك هو أنه كان يثق بأبي عبيد الله معاوية بن يسار تمام الثقة فسلمه كافة أموره.

وكان أبو عبيد الله من كبار الرجال وأكثرهم عقلًا وعلمًا وإخلاصًا، فقام بالأمر خير قيام، قال عنه صاحب التاريخ الفخري: «هو من موالي الأشعريين، كان كاتب المهدي ونائبه قبل الخلافة … وكان المنصور قد عزم على أن يستوزره، لكنه آثر به ابنه المهدي، فكان غالبًا على أمور المهدي لا يعصي له قولًا، وكان المنصور لا يزال يوصيه فيه ويأمره بامتثال ما يشير به، فلما مات المنصور وجلس المهدي على سرير الخلافة فوَّض إليه تدبير المملكة وسلَّم إليه الدواوين، وكان مقدَّمًا في صناعته …»٧

وظل أبو عبيد الله مستوليًا على مكانته حتى سعى الساعون فأوقعوا بينه وبين الخليفة، فقد رأوا أن الخليفة شديد الإنكار على الزنادقة مستقصيًا لهم متتبعًا لأخبارهم، لا يرحمهم ولا يغفر لهم، وقد رأى الربيع الحاجب الذي كان يطمح في مركز أبي عبيد الله أن خير وسيلة يستطيع أن يفسد الجو بها بين الخليفة وأبي عبيد الله هي في أن يلقي في أُذُنِ الخليفة أن ابنًا لأبي عبيد الله هو زنديق مارق، وأنه يحمي الزنادقة، فصادفت كلمة الربيع هوًى من نفس الخليفة، فأمر أن يمسك بابن أبي عبيد الله ويحضر إلى مجلسه، فلما حضر سأله الخليفة عن شيء من القرآن فلم يعرف، فقال لأبيه: ألم تخبرني أن ابنك يحفظ القرآن؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني مذ مدَّة فنسيه، فقال له: قم فتقرب إلى الله بدمه، فقام أبو عبيد الله فعثر ووقع وارتعد، ثم أمر الخليفة غيره بضرب عنق الغلام، وساءت الحالة بين الخليفة ووزيره منذ ذلك الحين، حتى عزله وولى موضعه أبا عبد الله يعقوب بن داود بمشاورة الربيع الحاجب، وكان عاملًا فاضلًا إلا أنه كان لا يتحرَّج من اللهو، وكان يعقوب علوي الهوى زيديًّا فسعى خصومه بذلك بينه وبين الخليفة، وأغروا بشار بن بُرْد عليه فهجاه بقوله:

بني أميَّة هُبُّوا طالَ نومكُمُ
إن الخليفة يعقوبُ بن داودِ
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الناي والعودِ

فنكبه المهدي وحبسه في «المطبق»، فلم يزل فيه طول عَهْدَيِ المهدي والهادي، حتى أخرجه الرشيد، ولما عزله المهدي ولَّى الوزارة الفيض بن أبي صالح النيسابوري، وكان سخيًّا كريمًا مفضالًا استطاع بكرمه أن يستمر في وزارته إلى انقضاء عهد المهدي.

ويجب أن نلاحظ أن السعايات والدسائس قد كثرت في عهد المهدي؛ لأنه كان سمَّاعًا لها، فهو الذي عزل ابن أبي يسار بسعاية الربيع الحاجب، وهو الذي نكَّب يعقوب لوشاية خصومه عليه، وهو الذي قتل بشَّارًا الشاعر بسعاية خصومه عليه.

وبعدُ؛ فإنَّ الوزارة في عهد المهدي قد توطَّدت نظمها بمن تولاها من الأكْفَاء في العلم والإدارة والمال.

(٤) الأحوال الاجتماعية في عصره

استقرت أوضاع الناس اجتماعيًّا في عهد المهدي؛ لرخاء العيش وحسن الإدارة وانصراف الناس إلى أعمالهم المعاشية وقلة الفتن والحروب، وكان من جرَّاء ذلك كله أن تحسنت الأحوال العامة وفشا الثراء بين الناس، وعمَّت الطمأنينة والخيرات وانتشر اللهو والمرح، وقد استتبع هذا كله بروز طبقة من الإباحيين والزنادقة أخذوا يعلنون أفكارًا غريبة عن روح الإسلام، مستغلين الترف والإباحية وسيلة لنشر أفكارهم، وكان المهدي مسلمًا متعصبًا فثارت ثائرته، وأخذ يُضَيِّقُ على هؤلاء الزنادقة والملاحدة الخناق ويلاحقهم ويفتك بمن يعثر عليه منهم، يقول الطبري: «إن الخليفة جدَّ في سنة ١٦٨ھ في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، كما أنه سمى عمر الكلواذي صاحب الزنادقة وعريفهم.» وكان أكثر هؤلاء المانوية والإباحيين والملاحدة والديصانية والمرقونية؛ ومن أشهرهم ابن أبي العوجاء، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس، وصالح بن عبد القدوس، وغيرهم ممن انتصب لهم الخليفة وفتك بهم وعمل على هدم نِحَلِهِم بما طلب من العلماء الإسلاميين أن يؤلفوه من الكتب والرسائل لمهاجمة عقيدتهم، وقد حفلت المكتبة العربية بعدد من الرسائل والكتب والآثار في الرد على هؤلاء الملاحدة والزنادقة وإخوانهم الشعوبيين، وقامت ثورات وفتن فكرية.

(٥) الحركات العقلية

كان المهدي يُحب العلم ويُكرم أهله ويقرِّبهم، قال المؤرخ دحية: «كان أكرم أهل زمانه … أحيا المعالم وقمع المظالم ونصر المظلوم وأكرم أهل العلم والدين وحلم عنهم، وأخباره مع سفيان الثوري مشهورة.»٨ ولكنه في الوقت نفسه كان يكره الحركات الفكرية العربية التي تتظاهر بحرية الرأي وتعمل في الخفاء على هدم القومية العربية وضعضعة أركان الإسلام، ويتجلى لنا ذلك في محاربته الزنادقة والملحدين والثنوية وغيرهم ممَّن ينكرون الخالق تعالى، أو ينفون نبوة الأنبياء، ويتسترون وراء الشهادتين زاعمين أن في ذلك الكفاية، فقد كرههم المهدي بعد أن قرأ بعض كتبهم واطَّلع على أفكارهم وسمع بأخبارهم ومحاوراتهم، فعقد النية على هدم حركتهم وتشتيت شملهم، سواء مَن كان منهم عربًا انخدعوا بهذه الدعوة الباطلة، أو فُرْسًا وموالي اتخذوا الإسلام ستارًا لنشر مبادئهم الباطلة وإحياء عقائدهم القديمة، كالمندائية والمانوية والمزدكية والمجوسية والمسيحية واليهودية.
قال بروكلمان: «إن الثورات المذهبية التي سبق أن أشرنا إلى ظهورها في الولايات الفارسية قد حملت الخليفة على أن يراقب بشدة بالغة حياة رعاياه العقلية في قلب الإمبراطورية أيضًا، والواقع أن المانوية لا الزرادشتية الخالصة كانت لا تزال تفرض سلطانها الكبير على أولئك الذين دخلوا حديثًا في الإسلام، ثم لم يرتاحوا كليًّا لشعائره الصارمة، بل لقد كادت تكون (أي المانوية) دين الطبقات المثقفة، ولقد سبق للمنصور نفسه أنْ أَمَرَ بعبد الله بن المقفع الكاتب أن يُقتَل، وكان عبد الله هذا — واسمه الفارسي روزبة — ابن رجل يجمع الخراج للحجاج بن يوسف … أثار شبهات السلطان وشكوكه من طريق مشاركته في نشاط الفُرْس السياسي والديني، هذا النشاط الذي أثقل كما رأينا كاهل المنصور وأَنْقَضَ ظهره، وفي عهد المهدي لقي نفس المصير صالح بن عبد القدوس الشاعر الذي دعا في أحاديثه الدينية بالبصرة دعوة صريحة إلى ثنوية الفرس، ولقد حاول أن يتفادى عاقبة النقمة التي أثارتها هذه الدعوة عليه في الأوساط الفقهية بالفرار إلى دمشق، ولكن رجال المهدي تعقبوه ورجعوا به إلى عاصمة الخلافة ليصلب (١٦٧ھ/٧٨٣م) بتهمة الزندقة بعد أن أصبح لفظ «زنديق» عَلَمًا شائعًا على من يُنسب إلى البدعة في ذلك العصر، والحق أن هذه الكلمة كانت على عهد الساسانيين صفة يُنْبَزُ بها كل من يجرؤ على تفسير «الأبستاق»٩ تفسيرًا جديدًا غير رشيد (زند)، وكانت تطلق على أتباع ماني ومزدك خاصة، وفي السنة نفسها قُتل بشار بن برد الشاعر الضرير الذي لم يتورع عن أن يُصرح في شعره بتعبده للنار كأسلافه، ومهما يكن من أمر فحوالي ذلك الوقت بالذات عَهِدَ المهدي في ملاحقة الزنادقة إلى عامل خاص يُدعى «العريف» ويقال إن هذا العامل ظلَّ ينشط أول الأمر طوال سنوات ثلاث، حتى إذا قضى المهدي وجاء من بعده خلفاؤه وجهت همة «ديوان التفتيش» هذا نحو محاربة الآراء المذهبية أيضًا ضمن إطار الإسلام الفكري نفسه، وهي آراء كانت تُزعج الحكومة لسبب ما، وإن لم تكن تنطوي فيما عدا ذلك على أيما أذًى وضرر.»١٠

والحق أن الزنادقة إنما ظهروا في العصر الأموي وكثروا في أواخره، وخصوصًا حين تظاهر بالإسلام بعض أرباب النِّحل القديمة من ديصانية ومرقونية ومزدكية ومجوسية وغيرهم، وأخذوا يعملون على هدم الإسلام وإحياء عقائدهم وطقوسهم القديمة وبخاصة ما يتعلق بكتاب «الأبستاق» الذي جاء به زرادشت وبتفسيره تفسيرًا مخالفًا لقواعد الدين، هذا ما يقوله براون في كتابه «تاريخ الأدب الفارسي» (١: ١٥٩)، وينقل براون أيضًا عن بيفان تخريجًا آخر لكلمة «زنديق» يفضله الدكتور عبد العزيز الدوري، وأنا أيضًا أميل إليه، وخلاصة ذلك التخريج هو أن أبرار المانوية وزهَّادهم الذين كانوا يفرضون على أنفسهم إيثار المسكنة وقمع الحرص والشهوة، ورفض الدنيا والزهد فيها ومواصلة الصوم والتصدق بما أمكن، وتحريم اقتناء شيء ما دون قوت يوم واحد ولباس سنة واحدة، وإدامة التطواف في الدنيا للدعوة والإرشاد، وكانوا يُدعون بالعربية «الصِّدِّيقين» واحدهم «صِدِّيق»، ولعل الأصل الآرامي لهذه الكلمة هو «الزديق» فصارت بالفارسية «زنديك»، ثم عُرِّبَت على «زنديق»، وهكذا أُطلقت كلمة «زنديق» على المانوي أول الأمر، ثم صارت تُستعمل في كل خارج عن حدود الإسلام، ثم أُطلقت على كل مُلْحِد فيما بعد.

(٦) العلاقات السياسية الخارجية

نوعان من العلاقات الخارجية التي يجدر بنا أن نلاحظها في زمن المهدي؛ «أولهما» علاقته بالأموية في الأندلس، «وثانيهما» علاقته بالدولة الرومية.

أما علاقته بالأندلس فلم تكن طيبة، وقد كان هو من جانبه يسعى للقضاء على منافسه في الأندلس وهو عبد الرحمن الداخل، ولكنَّ بُعْدَ الشُّقَّة بينهما كان يحول دون الوصول إلى ذلك، وكان عبد الرحمن مشغولًا بترتيب شئون دولته الجديدة غير آبه بخلفاء بغداد؛ إلا أنه كان يحسب لهم حسابًا فلم يجرؤ «على تسمية نفسه خليفةً للمسلمين، مع أن نفسه كانت طموحة إلى ذلك»، وأما علاقة المهدي بالدولة الرومية فكانت جد سيئة، وكان يعمل دومًا على التوغل في بلاد البيزنطيين، فيرسل حملات «الصوائف» و«الشواتي» كل عام للجهاد والغزو، وقد بعث بابنه هارون في سنة ١٦٣ھ فغزا بلاد الروم، ثم عاد في الصائفة سنة ١٦٥ھ فتوغل في بلاد الروم حتى بلغ تُخُوم القسطنطينية في البسفور، واضطرت الإمبراطورة إيرين Iren أم الملك الطفل والوصية عليه أن تصالح هارون على مبالغ كبيرة من المال تؤديها إليه كل سنة في نيسان وحزيران، وكتبت كتاب الهدنة لمدة ثلاث سنوات، وقد وردت الإشارة إلى هذه الغزوات في قصيدة لمروان بن أبي حفصة يمدح هارون بها:
أطفتَ بقسطنطينية الروم مسندًا
إليها القَنا حتى اكتسى الذُّل سورها
وما رمتها حتى أتتكَ مُلوكها
بجزيتها والحرب تَغلي قُدُورها

ولما نقض الروم الهدنة لقيهم سنة ١٦٨ھ يزيد بن بدر بجيش كثيف فشتت شملهم وردهم على أعقابهم.

ومما تجدر الإشارة إليه أثناء حديثنا عن علاقات المهدي الخارجية أنه في سنة ١٥٩ھ حاول فتح الهند، فبعث عبد الملك بن شهاب المسمعي بجيش من البصرة في البحر، قوامه نحو عشرة آلاف رجل، فقدموا مدينة «باربد» على الساحل الهندي فحاصروها ونصبوا عليها مجانيقهم حتى فتحوها عَنْوة، ولكنَّهم لم يتمكنوا من الإيغال في الفتح.

(٧) خاتمة عهده

هذه صورة خاطفة لحياة المهدي وبعض أعماله الجليلة التي تدلُّ على ما له من مكانة في تاريخ الدولة العباسية، وقد رأينا أن عهده كان عهد رخاء ورفاء وتقَدُّم — غالبًا — ولكنَّه لم يكن ذا خطر كبير كعهد أبيه أو عهد عمِّه، ولكنَّه على كل حال عهد من عهود القوَّة؛ لأنه لم يهمل خطة الاستمرار في تكوين الدولة وفي غزو الروم، ثم إنه لم يكن يسرف في لهوه، ولا كان يجور في حكمه، وإنما كان مسلمًا متعصبًا لدينه ولسنة رسوله يتجلى في ذلك في أشياء: «منها» حملته على الملاحدة والزنادقة، و«منها» تتبعه لسنن رسول الله ومخالفته لكل ما سنَّ الخلفاء قبله من البدع، فمن ذلك أنه أمر بنزع المقاصير من مساجد الجماعات، وأمر بتغيير منابرها إلى هيئة منبر الرسول الذي كان عليه، وإرجاع درجاته إلى المقدار الذي كانت في عهد الرسول، وكتب بذلك إلى الأقاليم، و«منها» أنه كان يعاقب كل من يوقع في الشيخين الخليفتين أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما).

في سنة ١٦٩ھ أراد المهدي الخروج بجيش كبير إلى جرجان لقتال الثوار والمفسدين هناك، فلما وصل إلى «ماسبذان» أحسَّ بالمرض يشتدُّ عليه، فبقي هناك إلى أن مات ليلة الخميس لثمانٍ من محرم، فصلى عليه ابنه هارون؛ لأنه كان في صحبته وأُخذت البيعة للهادي.

١  تاريخ ابن الأثير، ٦: ١٩.
٢  تاريخ الفخري، ص١٥٩.
٣  الوزراء والكتَّاب، ص١٤٢.
٤  تاريخ ابن الأثير، ٩: ٣٤٢.
٥  الوزراء والكتَّاب للجهشياري، ص١٦٦.
٦  الوزراء والكتَّاب للجهشياري، ص١٦٦.
٧  تاريخ الفخري، ص١٥٨.
٨  النبراس في تاريخ بني العباس، ص٣١.
٩  هو «الأفستا» وهو الكتاب المقدس عند الفرس الزرادشتيين.
١٠  بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية (الترجمة)، ١: ١٥-١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤