الفصل السادس

الأمين بن الرشيد

١٩٣ھ–١٩٨ھ/٨١٣م

(١) أوليته

هو أبو عبد الله وأبو موسى محمد الأمين بن هارون الرشيد، وأمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، ولد سنة ١٧١ھ وولَّاه أبوه العهد في سنة ١٧٥ھ، عُني به والداه عناية زائدة فثقفاه وعلماه ومرَّساه بالحكم والسيادة والقيادة من نعومة أظفاره؛ فشبَّ فصيحًا بليغًا كريمًا نبيلًا، وكان الكسائي والأحمر إماما عصرهما في العلم والأدب يشرفان على تهذيبه وتعليمه، ويحدثنا الأحمر أن الرشيد أوصاه حين سلَّمه ابنَه الأمين ليؤدبه بقوله: «لا تعلمه ما يفسد دينه، وأحسن أدبه وفهمه؛ فأقرِئْه القرآن وفَقِّهْهُ في الدين وروِّه الشعر، وأخبره بأيام الناس وأخبارهم.»١ وقد فعل ذلك كما يحدثنا المسعودي (في مروج الذهب، ٣: ٣٠٧، ٣٠٨)، ويقول: إن الرشيد عهد بالأمين إلى الفضل بن يحيى ليدربه على الإدارة والسياسة، وإن الأمين كان في نهاية القوة والشدة والبطش، ويظهر أن أساتذته قد وجهوه توجيهًا دينيًّا، فشبَّ وهو يكره الزندقة والإلحاد، فقد روى الطبري (في تاريخه، ١٠: ٢٢٠) ما يفيد أن الأمين كان متشددًا في أمر الزنادقة والفتك بهم، ويقول ابن القيم: «إن الأمين أقصى الجهميَّة وتتبعهم بالقتل والحبس.»٢ ومهما يكن من شيء، فإن الأمين نشأ نشأة فاضلة واعتنى به جماعة من أئمة الفقه والعلم والدين والتأديب والسياسة في عصره، وقد يتجلى لنا ذلك فيما حكيناه عمن ترجموه، كما سيتجلى لنا ذلك في سيرته وتصرفه الرشيد في خلافته وإدارته.

(٢) بيعته

مات الرشيد بعيدًا عن عاصمته في طوس، وقد مرَّ بنا تفصيل ذلك، فكتب حمُّويه مولى الرشيدي وصاحب البريد بطوس إلى صاحب البريد ببغداد يعلمه بوفاة أمير المؤمنين، فدخل هذا على محمد الأمين وعزَّاه وهنَّاه بالخلافة في قصره بالخلد، وتحول الأمين من قصره إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، ودعا الناس إلى المسجد الجامع في ذلك اليوم وكان يوم جمعة، فحضروا وصلَّى بهم، فلما قُضيت الصلاة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ونعى الرشيد للناس وعزَّى نفسه والناس، ووعدهم خيرًا وبسط الآمال وأمَّن الأسود والأبيض، فبايعه جلَّة أهل بيته وخاصته ومواليه وقوَّاده، ثم نزل ودخل قصره ووكل عمَّ أبيه الأمير سلمان بن أبي جعفر المنصور بأخذ بيعة العامة فبايعوه، ثم أمر السنديَّ بن شاهك بأخذ مبايعة الأجناد وأمراء الجند ممن هم بمدينة السلام، وأمر لهم برزق أربعة عشر يومًا منحة، وبعث إلى أخيه المأمون في خراسان كتابًا يقول له فيه: إذا ورد عليك كتاب أخيك، أعاذه الله من فقدك، فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، وخذ البيعة على مَنْ قِبَلَكَ من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك، ثم لنفسك، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين … واكتب إلى عمَّال ثغورك وأمراء جندك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرضَ الدنيا له ثوابًا حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته مغبوطًا محمودًا … وَأْمُرْهُم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم في شوال سنة ١٩٣ھ،٣ وكتب مثل ذلك إلى أخيه القاسم.

أما المأمون فقد بلغه نعي أبيه قرب مرو، يريد سمرقند، فرجع إلى مرو ودخل دار الإمارة، ثم نعى أباه وبايع لأخيه ثم لنفسه، وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرًا، وبقي هناك يترقَّب الأخبار مستقلًّا بإمارته، وقائمًا بما يجب عليه للخليفة أخيه خير قيام إلى أن جرت الفتنة بين الأخوين.

(٣) الفتنة بين الأخوين

في فجر سنة ١٩٤ھ خلا الفضل بن الربيع بن يونس وزير الرشيد بالأمين وحثَّه على خلع أخويه المأمون والقاسم من ولاية العهد، وصرفها إلى ابنه موسى وتسميته الناطق بالحق، وكان مما قاله له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك، فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا بعدك واحدًا بعد واحدٍ، فأعجبت الأمين هذه الفكرة وكتب إلى عمَّاله في الأمصار بالدعاء لموسى بالآخرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم، ثم رأى أن يبدأ خطته فعزل أخاه القاسم عن إمارته في ديار الجزيرة، ولما بلغت هذه الأخبار مسامع المأمون علم ما بيَّته أخوه فقطع البريد عنه وأسقط اسمه من الخطبة، وسمى نفسه «إمامًا» ولم يَتَسَمَّ بالخلافة، ثم أخذ وزيره الفضل بن سهل يشجعه على إعلان الثورة على أخيه وينشر له الدعوة بين الخراسانيين، فحط عنهم ربع الخراج وطَابت نفوسهم بذلك وأخذوا يؤيدونه ويحملون على أخيه، ويقولون ابن اختنا وابن عم رسول الله (كتاب الوزراء للجهشياري، ص٢٧٨)، وصار المأمون يراوغ أخاه ويداريه؛ فبعث إليه بالهدايا الجليلة ورسائل التعظم يوهمه بوجوب المصالحة وإعادة القاسم إلى إمارته، ولكن الأمين استمر في خطته وردَّ ما بعثه أخوه إليه من الهدايا، وكتب إليه يطالبه أن يتنازل عن بعض أجزاء مملكته؛ فحذَّره القاسم بن صبح أحد مستشاريه من ذلك، ثم إن الأمين كتب للمأمون يطلب إليه الحضور إلى بغداد مع وفد سماه؛ فاستشار المأمون وزيره الفضل في السفر فمنعه من ذلك (الطبري، ١٠: ١٤٧).

وبعث الأمين إلى المأمون رسالة جاء فيها: «إن الإمام الرشيد ولَّاني هذه الأرض على حين كَلَب من عدوها، ووهي من سدها وضعف من جنودها، ومتى أخللتُ بها أو زُلْتُ عنها لم آمن انتقاض الأمور فيها وغلبة أعدائها عليها بما يصل ضرره إلى أمير المؤمنين …»٤ ولما تأكد الأمين أن المأمون مصرٌّ على بقائه في خراسان، أعاد عليه الكرَّة وكتب إليه ثانية يُطالبه بالتنازل عن بعض كور في خراسان — سمَّاها له — قاصدًا بذلك إضعاف المأمون وتهوين أمره، فشاور المأمون رجاله فأشاروا عليه جميعًا بإجابة طلب الخليفة إلا الفضل وزيره، ووافقه المأمون على رأيه وكتب إلى الخليفة كتابًا يقول فيه: «قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سمَّاها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إليَّ … وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمتُ لم يطلع بما كتب بمسألته إليَّ، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان» (الطبري، ١٠: ١٣٣).

ولمَّا أرسل رسالته إلى الأمين أخذ يشتد في حراسة الحدود، ثم إن الأمين جدد الكتابة إليه والمطالبة بالتنازل عن بعض أجزاء مملكته، وبعث الرسالة مع وفد أوصاه بالتشنيع على المأمون، فلما قرأ المأمون الرسالة اغتاظ وكتب إلى أخيه يقول: «… فلا تبعثني يا بن أبي على مخالفتك، وأنا مذعن بطاعتك ولا على قطيعتك، وارْضَ بما حكم الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق» (الطبري، ١٠: ١٣٤).

فلما قرأ الأمين هذه الرسالة غضب جدًّا، وكتب إلى المأمون يقول: «أما بعد؛ فقد بلغني كتابك، محافظًا لنعمة الله عليك، فيما يكن لك من ظلها، متعرضًا لحراق نار لا قِبَلَ لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع، وإن كان قد تقدم مني متقدم فليس بخارج من مواضع نفعك إذا كان راجعًا على العامة من رعيتك …» (تاريخ الطبري، ١٠: ١٣٤)، ولكن المأمون لم يغيِّر رأيه وبعث إلى أخيه برسالة شديدة اللهجة قال له فيها: «فأولى به أن يدبر الحق في أمره ثم يأخذ به ويعطي في نفسه، وأما ما وعد به من بر طاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارقه الحق في فعله فأبقى للمتبيِّن موضع ثقة بقوله؟» (تاريخ الطبري، ١٠: ١٣٤)، فأجاب الأمين على هذه الرسالة بوفد يُفاوض أخاه في الصلح وفي تقديم موسى عليه في ولاية العهد؛ ولكن الوفد رجع خائبًا ورُدَّ شرَّ ردٍّ، وصاح الفضل بن سهل في رئيس الوفد العباس بن موسى بن عيسى: «اسكت فهذا بين أخواله وشيعته.» فلما بلغت هذه الأخبار مسامع الأمين خلع أخاه من ولاية العهد وأعلن أمر عصيانه ووجوب محاربته، وعقد البيعة لابنه موسى، وجعل علي بن عيسى بن ماهان صاحب أمره، ثم جمع وجوه القوم من أهل بيته ومواليه وقواد ورؤساء الأجناد الخراسانية في المقصورة بالشماسية، وكان ذلك أحد أيام الجُمَع من شعبان سنة ١٩٥ھ، فصلى الجمعة ثم دخل المقصورة وبقي ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع، فقام فقرأ عليهم كتابًا من الأمين يعلمهم فيه ما أحدثه عبد الله (المأمون) مِنْ قَطْعِهِ البريد عن أمير المؤمنين والدعاء لنفسه وتسمِّيه بالإمامة، وأن ذلك ليس من الشروط التي شرطها أبوه الرشيد عليه في العقد، ثم ذكر الفضل أنه لا حقَّ لأحد في الخلافة والإمامة إلَّا لأمير المؤمنين الأمين فهو يوليها بعده من يشاء، ثم قال: إن الأمير موسى ابن أمير المؤمنين قد أمر لكم معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم، ووزع الأموال بينهم، ولما انتهى الاجتماع أخذ الفضل يهيئ جيشًا بقيادة علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون، ولما تمَّ كل شيء سار علي بن عيسى في جمادى الآخرة من سنة ١٩٥ھ للقاء المأمون فودعه الأمين إلى النهروان، وكان جيشه زهاء أربعين ألف، على رواية الطبري (التاريخ، ١٠: ١٣٩)، ولما وصل الريَّ لقيه الجيش الذي بعث به المأمون للقائه بقيادة طاهر بن الحسين، وكانت الغلبة لطاهر وقُتل علي بن عيسى فيمن قُتل.

ولما وُضع رأس علي بن عيسى بين يدي المأمون حمد الله على ذلك وأثنى عليه، وأمر أن يُطاف بالرأس في خراسان، ثم دخل عليه قادته فهنَّئوه وسلموا عليه بالخلافة.

أما الأمين فإنه لما بلغته أخبار السوء هذه طاش صوابه، وبعث إلى نوفل خادم أخيه المأمون وقيِّمِهِ في أهله وولده ووكيل أمواله وضياعه في بغداد، فصادر الأموال وقبض على الأهل والضياع، ثم وجه عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي فنزل همذان في عشرين ألفًا لمقاتلة طاهر بن الحسين، وزحف إليه طاهر والتقوا عند خراسان وتقاتلوا قتالًا شديدًا، وكثرت القتلى بين الجانبين حتى كاد طاهر أن يتغلب، فقال عبد الرحمن لأصحابه: «يا معشر الأبناء، أبناء الملوك وألفاف السيوف، إنهم لعجم وليسوا بأصحاب مطاولة ولا خير، فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي.» وجعل يمرُّ على جنوده رايةً رايةً، ويقاتل بيديه قتالًا شديدًا، وكاد الظفر أن يتم له، ولكن بعض أصحاب طاهر استطاع أن يحمل على أصحاب عَلَم عبد الرحمن فقتله، ثم هجم أصحاب طاهر على الأبناء فاضطروهم إلى الهروب والدخول إلى همذان؛ فحاصرهم طاهر فيها حتى إذا اشتدَّ الحصار عليهم طلب عبد الرحمن الأمان فأمنه طاهر، وهكذا انتهت المعركة.

ولما بلغت أخبار انتصار طاهر هذه إلى خراسان فرح المأمون كثيرًا وأنعم على طاهر بلقب «ذي اليمينين»، ثم أخذ طاهر بن الحسين يطرد عمال الأمين من قزوين وسائر الجبال، ثم قتل عبد الرحمن في مدينة أسد آباد حين رآه يتآمر من جديد للفتك بجيشه، ثم سارت جيوش طاهر حتى بلغت حلوان وما إليهما ظافرة مُوَفَّقة، فلما بلغ خبرها الأمين أراد أن يُنقذ الموقف ولكنه فشل؛ لأنه كان مهملًا لشئون دولته، قال الطبري في حوادث سنة ١٩٦ھ: «إن الفضل بن الربيع لما بلغه مقتل عبد الرحمن الأبناوي قال عن الأمين: «ينام نوم الظربان لا يُفكر في زوال نعمة ولا يروَّى في إمضاء رأي ولا مكيدة، وقد ألهاه كأسه وشَغَلَهُ قدحه، فهو يجري في لهوه، وقد شمَّر عبد الله عن ساقه، وفوَّق له أصيب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبَّى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنَّة الرماح وشفار السيوف.» ثم استرجع.»

أما الأمين فإنه بعث أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لتدارك الموقف ولقتال طاهر، ولكنهما تقهقرا أمام جيش طاهر الظافر، ثم سار طاهر إلى الأهواز فقتل عامل الأمين، وسار نحو واسط فدخلها، وبعث أحمد المهلب أحد قادته نحو الكوفة فدخلها في رجب سنة ١٩٦ھ، ثم كتب إلى أمير الموصل المُطَّلب بن عبد الله، وأمير البصرة المنصور بن المهدي، أن يبايعا المأمون ويخلعا محمد الأمين فوافقاه على ذلك، ثم بعث داود بن عيسى بن موسى أميرًا على الحجاز فدخلها وأعلن بيعة المأمون، وكذلك بعث يزيد بن جرير البجلي أميرًا على اليمن فدخلها وأعلن البيعة للمأمون، ثم جموعه للاستيلاء على المدائن فاستولى عليها، ثم توجه للإحاطة ببغداد فعسكر على نهر صرصر، وطالت إقامته عليه حتى ضاق جنده ذرعًا بالحصار، وهرب منهم نحو خمسة آلاف انضموا إلى جيش الأمين، ففرح بهم ووعدهم ومناهم، وجيَّش جيشًا قويًّا للقاء طاهر على نهر صرصر، فعبَّى طاهر أصحابه كراديسَ كراديسَ، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم فيقول لهم: لا يغرَّنكم كثرتهم، ولا يمنعنكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع العبر واليقين، ثم أمرهم بالتقدم فتقدموا وانهزم أهل بغداد أمامهم، وبلغ الخبر محمد الأمين فأخرج خزائنه وذخائره ووزعها على الناس من أهل بغداد للقتال.

دخلت عيون طاهر بغداد فأفسدوا الجوَّ على الأمين واستمالوا الناس إليهم، ومَنَّوْهُم الأمانيَّ فلم يُجْدِ عمل الأمين نفعًا، ولا أفادته أمواله التي أنفقها فيهم فائدة، وعمَّت الفوضى في مدينة بغداد ونقب المسجونون السجون وعاثوا في البلد، وثار معهم الشُّطَّار والدعَّار واختل الأمين، وضيَّق طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين وزهير بن المسيب الخناق على الأمين وجنده وأهل بغداد؛ فتفرق جمعهم واستأمنوا الطاهر فأمنهم، ثم أخذ يحتل أرباض المدينة ربضًا ربضًا، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة ١٩٧ھ، ثم حاصر المدينة نفسها ومنع الأقوات والميرة عنها، فغلت الأسعار فيها، واشتد البلاء بالناس وأيقن الأمين بالهلاك، فأخذ يُفرق ما بقي عنده من الأموال في الناس ليحموه ويستميتوا معه فأخذوها وخذلوه، وحين نفدت الأموال من خزائنه وطلب الناس الأرزاق لهم فلم يجدوا عنده ما يعطيهم.

قال الطبري (في تاريخه، ١٠: ١٩): «ولما رأى الأمين ذلك قال: «وددت أن الله قتل الفريقين وأراح الناس منهم، فما منهم إلَّا عدو ممن معنا وممن علينا، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي.» ثم إن طاهرًا حمل حملة قوية قاتل فيها بنفسه، فدخل المدينة قسرًا، وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ثم قصد المدينة المدورة، مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد، وكان محمد الأمين وأمه زبيدة وولده في مدينة أبي جعفر، فتحصن بها حتى فقد زاده وماءه، فاستشار من بقي معه من رجاله فيما يفعل، فأشار عليه بعضهم أن يطلب الأمان من هرثمة بن أعين، فرضي وكتب إلى هرثمة بذلك، فأجابه هذا إلى طلبه، ولما علم طاهر بذلك أبى إلا أن يكون الاستسلام إليه، فرفض الأمين واتفق هو وقواده على أن يخرج إلى هرثمة، وأن يدفن إلى طاهر الخاتم والقضيب والبردة، ثم علم طاهر أنهم يمكرون به، فاستعد للأمر وكمنَ حول القصر جنوده، فلما خرج الأمين متخفيًا إلى حيث كانت حرَّاقة هرثمة تنتظره في النهر، فركبها ولم تكد تسير به إلَّا قليلًا حتى خرج عليه أصحاب طاهر فرموا الحرَّاقة بالسهام والحجارة حتى غرقوها، وغرق الأمين وهرثمة، وسبح الأمين وتمكن من الهرب والالتجاء إلى دار في بغداد.

ولكن جماعة طاهر من الخراسانيين دخلوا عليه وبيدهم السيوف، فلما رآهم وقف في وجههم وقال: «أنا ابن عم رسول الله أنا ابن هارون أنا أخو المأمون، اللهَ اللهَ في دمي.» فلم يُفِدْهُ ذلك كله، وتقدم إليه واحد منهم واسمه خمارويه غلام قريش الدنداني مولى طاهر، فضربه بالسيف فأصاب مقدم رأسه، ثم هجم الآخرون فذبحوه ذبحًا من قفاه، وأخذوا رأسه إلى طاهر، فنصبه على باب الأنبار، ثم رفعه وبعث به إلى المأمون مع البردة والقضيب والخاتم، مع محمد بن الحسن بن مصعب، وكتب إليه كتابًا يقول فيه: «أما بعدُ؛ فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال والملك والسلطان، كان فيما قدَّرَ الله فأَحْكَمَ، ودبَّر فأبرمَ انتكاثُ المخلوع ببيعته، وإنقاضه بعهده وارتكاسه في فتنته وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه، وقد كتب إلى أمير المؤمنين في إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها …» ثم سرد كيف تم له الاستيلاء على المدينة كلها وإرباضها، وكيف أن هرثمة بن أعين أراد استئمان الأمين، ولكن طاهرًا لم يوافقه على ذلك خوفًا من المكيدة والفشل وفساد الأمر، ففرح المأمون بذلك وشكر له سعيه وجهده.»٥

(٤) معنى الفتنة وأسبابها ونتائجها

كان لهذه الفتنة التي مزَّقت وشائج الرحم بين الأخوين عوامل متعددة يمكن إجمالها فيما يلي:
  • (١)

    إذا رجعنا إلى نصوص العهد الذي كان قد كتبه الرشيد لأولاده الثلاثة من بعده، نجده عملًا غير طبيعي؛ لأن استقلال المأمون بخراسان والولايات الشرقية استقلالًا تامًّا يخوِّله حق التمتع بخيرات تلك البلاد والسيطرة على أحوالها، يجعله يفكر في الانفصال عن سلطان الخليفة في بغداد، ثم إن حصر سلطان الخليفة في بقعة محدَّدة بجنوب العراق والشام وشبه الجزيرة العربية ومصر — مع ما ينبغي أن يكون للخلافة من سلطان وقوة وعزَّة — يجعله يطمع في فرض سيطرته على أقاليم أخرى ليست تحت تصرفه؛ لأنه هو «الخليفة الشرعي» صاحب السلطان «الأكمل» على كل أجزاء الدولة الإسلامية، فكيف لا يستطيع أن يسمِّي قائدًا في منطقه أو يحوِّل عاملًا من عماله؟

  • (٢)

    فشل الفرس في غايتهم التي ساعدوا العباسيين من أجلها لقوة الخلفاء العباسيين الأولين، فانتهزوا هذه الفتنة بين الأخوين وخصوصًا المأمون ابن أختهم؛ لأن أمه فارسية، يقول الجهشياري (في كتاب الوزراء والكتَّاب، ص٢٦٦): «إن الفضل بن سهل شجع المأمون على الوقوف في وجه أخيه؛ لأنه نازل في أخواله وبيعته في عنقهم، أما الأمين فإن جماعته كانوا من الهاشميين والعرب بصورة عامة مع بعض العناصر الفارسية التي ما كانت تعمل معه إلا لمنافع شخصية.»

  • (٣)

    أن مطامح الطامعين من الوزراء والمستوزرين كانت قد لعبت دورًا خطيرًا في إيقاع الفرقة بين الأخوين، كما كان الفضل بن الربيع يشجع الأمين على خلع أخيه أو الفتك به وتقطع أوصال إمارته.

  • (٤)

    أن الفضل بن الربيع الرجل الخطر الداهية الحَذِر القوي له يدٌ فعَّالة ورغبة واضحة في إفساد ملك بني العباس، فهو الذي أوقع بين الرشيد والبرامكة كما رأينا، وهو الذي أوقع بين الأمين والمأمون كما نرى، وهو الذي تخلَّى عن الأمين حين عاكسه الدهر وأخنى عليه، إلى أن استقر الأمر للمأمون، فظهر من جديد وأراد العود لسيرته الأولى فنافق للمأمون، ولكن المأمون كان أقوى من أن يُخدع فأبعده وأهمله واضطره أن يقضي أواخر أيامه بعيدًا عن العاصمة حتى مات في طوس سنة ٢٠٨ھ.

  • (٥)

    أن مطامع الخلفاء في نقل الخلافة إلى أولادهم من بعدهم، كائنًا ما كانوا، وعدم إعطائهم الحق لأربابه في ولاية العهد واختيارهم الأفضل والأحزم استئثارًا وافتئاتًا على الحق، كان سببًا لكثير من الفتن التي ضعضعت مركز الدولة وشتتت قواها، ولم نرَ خليفة له ولد إلا كان يسعى لخلع صاحب الحق من عمٍّ أو أخٍ وابن عمٍّ ووضع ولده موضعه غير مراعٍ في ذلك خير الأمة، مع أن الدروس والعِبر السابقة كانت كافية لهؤلاء الخلفاء في الاعتبار، ولكنَّهم ما كانوا يعتبرون.

  • (٦)

    كان لهذه الفتنة من النتائج المادية والمعنوية شيء كثير، فمن النتائج المادية أنها ضعضعت بيت المال، وأتت على ثروة القصور، وبعثرت نفائسها وشتَّتت تحفها وأفسدت معالمها، هذا فضلًا عن الضرر العام الذي لحق بالعاصمة والأهلين في تجاراتهم ومرافقهم وبيوتهم، أما النتائج المعنوية فهي أنها أحيت من جديد نار العصبية بين الخراسانيين من الفرس بصورة عامة، وبين العرب بصورة خاصة، وعادت الفتنة جذعة فلقي الإسلام والعروبة من مفاسدها ما قلقل أركان الإمبراطورية العربية.

  • (٧)

    لكل أمر خطر ناحيتان من خير وشر، فالشر في هذا الأمر ما رأينا، والخير هو أن هذه الفتنة أذكت قرائح الشعراء فأنتجوا نتاجًا أدبيًّا رائعًا، سواء في تأييد الأمين أو في الحمل عليه وتأييد المأمون، وقد تجلَّى ذلك في المقطوعات والقصائد الرائعة والآثار الأدبية الجميلة التي حفظها لنا المؤرخون أمثال الطبري واليعقوبي وابن الأثير وابن طباطبا وغيرهم، مما حفظوا لنا في تواريخهم ما يعطينا صورة عن الأدب السياسي والشعبي لذلك العصر، وهو جدير بالبحث والدرس.

(٥) خاتمته

اختلفت الناس في أمر الأمين اختلافًا كبيرًا؛ فمنهم من حمل عليه بقسوة واتهم سلوكه وطعن في أخلاقه ومواهبه، قذفه بشتَّى التهم من فسق وإسراف ولهو، ومنهم — وهم قليل — من دافع عنه وأثنى عليه، وقالوا: إنه، وإن كان يلهو ويسرف، كان حازمًا مدبِّرًا عاقلًا أريبًا، ولكن الأعاجم هم الذين أفسدوا عليه أمره، كما شوهوا تاريخه، تقرُّبًا لأخيه من جهة، وحطًّا للجانب العربي من جهة أخرى، وأنا أعجب لمؤرخ مدقق كابن الأثير يقول عن الأمين هذه الكلمة الغريبة: «لم نجد للأمين شيئًا في سيرته مما يُستحسن ذكره من حلم أو معدلة أو تجربة حتى نذكرها.» فكيف يصدر هذا الحكم القاسي من مؤرخ كابن الأثير وهو العالم بدقائق الأمور الخبير بحقائق التاريخ، ولكن الدعاية المأمونية والأباطيل الشعوبية هي التي استهوته فجعلته يحكم ذلك الحكم الظالم، فالطبري يذكر (في تاريخه، ١٠: ١٤٥): «إن الأمين كان يقضي الليالي الطويلة في النظر بشئون الدولة.» وطاهر بن الحسين خصمه الألد وقاتله يعترف له بالمقدرة والدهاء بعد أن تغلب عليه فيقول: «إنه ليس بالضعيف، ولكنه مخذول» (مروج الذهب للمسعودي، ٣: ٣٠٨)، والطبري يذكر (في التاريخ، ١٠: ١٥٠) أن الأمين حين بعث علي بن عيسى بن ماهان لِقتال أخيه أوصاه وصيَّة تدلُّ على عقل وإدارة وحزم، فمما قاله: «امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء، وولِّ الري يحيى بن علي واضمم إليه جندًا كثيفًا، ومُرْه ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وولِّ كل كورة ترجل عنها رجلًا من أصحابك، ومن خرج إليك من أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تُعاقب أخًا بأخيه، وَضَعْ عن أهل خراسان ربع الخراج.»

وبعد؛ فإن الأمين كان ذا مواهب ومزايا، ولكن سوء طالعه وفساد حاشيته وقبح خاتمته قد نقلت محاسنه إلى مساوئ، والناس دومًا مع الغالب، وقديمًا قال الشاعر:

والناسُ من يَلقَ خيرًا قائلون لَهُ
ما يشتهي ولأم المُخطئ الهَبَلُ
١  الفرج بعد الشدة للتنوخي، ٢: ٢٢؛ وتاريخ الفخري، ص١٨٧.
٢  الصواعق المرسلة لابن القيم، ج١، ٢٣١.
٣  تاريخ الطبري، ١٠: ١٢٤.
٤  كتاب الأخبار الطوال للدينوري، ص٢٩٠.
٥  انظر تاريخ الطبري، ١٠: ٢٠٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤