خاتمة

لقد تقصينا عبر الصفحات المتقدمة من هذا الكتاب ثلاثة آلاف عام من تاريخ أورشليم في السياق العام لتاريخ فلسطين، وتشابكاته مع تاريخ بلاد الشام والشرق القديم عامة. وقد قادنا هذا التقصي إلى نتيجة مفادها أن كل الوثائق الأثرية والتاريخية المتوفرة حتى نهاية القرن العشرين، تنفي وجود اليهود كإثنية، واليهودية كدين، قبل القرن الخامس قبل الميلاد، وفي مقاطعة يهود الفارسية تحديدًا، وخليفتها مقاطعة اليهودية الهيلينستية والرومانية. أما ما سبق ذلك من تاريخ فلسطين ومملكتَي يهوذا وإسرائيل الكنعانيتين، فهو ملك لتاريخ وثقافة سورية القديمة، رغم تعديات محرري التوراة عليه والإفادة من أحداثه، خصوصًا فيما يتعلق بأخبار مملكتَي يهوذا وإسرائيل، وإدماجها في قصة الأصول التي ابتكروها لمجتمع مقاطعة اليهودية؛ استنادًا إلى موروثات أدبية وشعبية ذات أصول ومصادر متنوعة.

إن الغموض يحيط بأصول الجماعات التي أُسكنت في مقاطعة يهود الفارسية، مثلما يحيط أيضًا بالظروف التي أحاطت بصياغتها لديانتها وتدوينها لأسفارها المقدسة. ففي مطلع القرن الخامس قبل الميلاد، لم يكن هنالك يهود ولا يهودية، وفي مطلع القرن الثاني قبل الميلاد، كان في مقاطعة اليهودية إثنية واضحة وديانة يهودية محورها أسفار التوراة. أما ما جرى خلال هذه القرون الثلاثة، فغير قابل للتقصي التاريخي؛ بسبب انعدام الوثائق، ولا يستطيع المؤرخ بخصوصها سوى القيام بتكهنات أوردناها في حينها. ففي حال فقدان الوثائق المناسبة التي تعين المؤرخ في عمله، من الأسلم الاعتراف بالجهل بدلَ صياغة نتائجَ مبنية على الخيال والمواقف الأيديولوجية المسبَّقة.

بقي اليهود يعيشون في عزلتهم تحت الحكم الفارسي فالبطلميِّ فالسلوقي حتى عام ١٤٢ق.م.، عندما استغل سمعان المكابي تفكك الدولة السلوقية؛ فأعلن استقلال أورشليم وأنشأ دويلة يحكمها الكاهن الأعلى الذي يجمع بين يديه السلطاتِ الزمنية والدينية. تحولت هذه الدويلة في عهد خلفاء سمعان إلى مملكة، وتوسعت على شكل مدٍّ استعماري شمِل كامل فلسطين وشرقي الأردن، وتميز بالعنف والإرهاب وتهويد السكان بقوة السلاح. دامت دولة المكابيين حتى استيلاء الرومان على سورية ودخولهم أورشليم عام ٦٣ق.م.، حيث تم تجريد أورشليم من كلِّ ما استولت عليه بالقوة، وإعادتُها مقاطعةً رومانية ضمن مساحتها التقليدية السابقة. وقد كان من نتائج الفتح الروماني أن عاد السكان الذين تهودوا بالقوة إلى معتقداتهم التقليدية السابقة، وقام الرومان بإعادة بناء المدن التي تهدمت نتيجة تعديات المكابيين، وساعدوا أهلها على ترميم المعابد وإعادة الآلهة القديمة إليها. وكان على رأس هذه المدن مدينة السامرة ومدينة سقيثوبوليس (بيت شان). وبذلك لم يبقَ خارج مقاطعة أورشليم سوى جيوب يهودية صغيرة، أهمها الجماعات الجليلية التي نعرف من الأناجيل أن يسوع قد ابتدأ رسالته التبشيرية بينها. ويبدو أن أسرة يسوع كانت من بين هؤلاء المتهودين الجدد من ذوي النزعة الهيلينستية البعيدة عن التَّزمت وعن الأصولية الأورشليمية، ولهذا فقد جاءت دعوته بمثابة انقلاب على التقاليد الدينية القديمة، وتجاوزها نحو دعوة عالمية رحبة.

لقد دامت دولة اليهود في فلسطين مدة ثمانين سنة، وذلك من عام ١٤٢ق.م. إلى عام ٦٣ق.م.، وهي الفترة الوحيدة التي كان لليهود فيها كيان سياسي على جانب من الأهمية. وفيما عدا الفترة المعترضة التي أعطى خلالها الرومان حكم فلسطين وسورية الجنوبية للملك هيرود العربي (٣٨–٤ق.م.)، فقد استمرت اليهودية مقاطعة رومانية صغيرة، ولكن مزدهرة اقتصاديًّا بسبب ما أفاءه عليها حكم هيرود من ثورات وخيرات. ولكن النزعة الأصولية الانتحارية التي قادت ثورتَي ٦٦ق.م. و١٣٢ق.م. قد أودت بأورشليم ومحَتْها من الخارطة الجغرافية والتاريخية. أما اليهود فقد اختفوا من مقاطعتهم نفسها بسبب المذابح الرومانية والنزوح الجماعي، وابتدأ ما يدعى بالنسبة إليهم بتاريخ الشتات، وهو شيء لا يعني أحدًا سواهم.

وأخيرًا، لقد قلت في مقدمة الكتاب إننا في كتابتنا للتاريخ لا نستطيع سوى تقديم تصورات عما حدث في الماضي، لا تقديمَ تقرير صادق ودقيق عنه، فالماضي قد ولى ولم يترك لنا سوى شذراتٍ متفرقة من نصوص ولُقًى أثرية، علينا أن نفسرها بطريقة علمية؛ لنخرج بأقرب التصورات إلى ما حدث فعلًا، مع ترك هامش من الشك والاعتراف بالجهل. كلُّ ما آمُله أن أكون قد استطعت وضْع اليد على معظم الشذرات التي تركها لنا ماضي فلسطين، وأني قد عملت على تفسيرها والربط فيما بينها بمنهجية تاريخية صارمة، ومن غير أن أخرج بقصة مطردة ملؤها اليقين؛ استنادًا إلى وثائق غير مطردة. إن الاعتراف بأننا جاهلون بكثير مما حدث في الماضي، هو الذي يحمينا من سطوة الأيديولوجيا ومن أمان اليقين، ويبقينا في حيرة العلم.

fig32
شكل ١: الخط الفاصل بين العمارة الهيرودية والعمارة الفينيقية في الجدار الشرقي لمصطبة الحرم الشريف؛ وفق كينيون.
fig33
شكل ٢: نماذج من عاجيات السامرة؛ القرن التاسع ق.م.
fig34
شكل ٣: نماذج من عاجيات المدرسة السورية؛ القرن التاسع ق.م.
fig35
شكل ٤: دمية جذعية من موقع أورشليم تمثل الإلهة عشيرة؛ القرن الثامن ق.م.
fig36
شكل ٥: نقش من موقع عجرود يذكر الإله يهوه وزوجته عشيرة؛ القرن السابع قبل الميلاد.
fig37
شكل ٦: أختام على الجرار الفخارية تحمل اسم مقاطعة «يهود» من القرن الرابع قبل الميلاد.
fig38
شكل ٧: مصور فلسطين الطبيعية وعليه أهم المواقع الفلسطينية القديمة.
fig39
شكل ٨: نموذج من تمثيلات الآلهة الفلسطينية القديمة، ربما للإلهة عشيرة، من أواخر القرن الحادي عشر.
fig40
شكل ٩: دمية جذعية من موقع أشقلون في السهل الفلستي تمثل الإلهة عشيرة؛ القرن الثامن قبل الميلاد.
fig41
شكل ١٠: نماذج متنوعة من الدمى الجذعية عُثر عليها في يهوذا؛ القرن السابع قبل الميلاد.
fig42
شكل ١١: نموذج عن صفائح الذهب المضغوط التي تمثل الإلهة عشيرة؛ موقع تل العجول بيهوذا.
fig43
شكل ١٢: رمز الإلهة تانيت؛ عشيرة.
fig44
شكل ١٣: أورشليم في القرن الأول قبل الميلاد؛ عصر هيرود أغريبا، إعادة تصور.
fig45
شكل ١٤: لوحة من الفسيفساء عليها خريطة لمدينة إيليا كابيتولينا من العصر البيزنظي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤