الساعة المكسورة

لأول مرة في حياته تقريبًا كان «تختخ» متحمِّسًا للذهاب مع والدَيه إلى إحدى الحفلات؛ ذلك لأن أصدقاءه سيذهبون إليها، ولأن تذاكر الحفلة كانت شيئًا مبتكرًا؛ فعلى أحد الوجهَين كُتبت الدعوة العادية:

يتشرَّف الدكتور «منير زكي» وحرمه وأولادهما بدعوة المهندس «خليل توفيق» وحرمه وأولادهما لحضور الحفل الذي يُقام بمناسبة عودة الدكتور من بعثته العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية.

وعلى ظهر الدعوة كُتبت هذه السطور:

ألعاب مسلية للجميع؛ الساعة المكسورة، القصة الناقصة، الحذاء ذو الكعبَين، دعوة للسرقة، وألعاب أخرى يُعلن عنها في الحفل.

وكانت «لوزة» أكثر المغامرين الخمسة حماسة؛ فالأشياء الغامضة تشدها، وهي تُريد تعلُّم الألعاب المدهشة المكتوب عنها في ظهر بطاقة الدعوة، وبخاصةٍ حكاية دعوة للسرقة.

وكانت «لوزة» تُحدِّث شقيقها «عاطف» وهما يرتديان ثيابهما: هل استنتجتَ شيئًا من هذه العناوين المثيرة؛ الساعة المكسورة … الحذاء ذو الكعبَين، دعوة للسرقة؟

هزَّ «عاطف» رأسه وهو يقول: وما الداعي للاستنتاج الآن وسوف نُشاهد كلَّ شيء بعد نصف ساعة أو ساعة؟ ثم إن هذه ألاعيب جديدة لم نسمع عنها من قبل، وكل ما علينا أن نفتح عيوننا وآذاننا لنعرف كلَّ شيء عنها، ثم نقوم نحن بها بعد ذلك.

وكانت «نوسة» تُحدِّث «تختخ» تليفونيًّا قائلة: إن المثير أيضًا أننا سنُشاهد قصر الدكتور «منير». إنه قصر قديم، ويقولون إنه حافل بالتحف الأثرية، والغرف الخفية، والسراديب، وغيرها من الأماكن التي تُهمنا كمغامرين أن نُشاهدها.

تختخ: إن الدعوة كلها مثيرة … سواء ما كُتب على بطاقة الدعوة من ألعاب مسلية، أو ما نسمع عن قصر الدكتور «منير» من شائعات، وهذا كله حمَّسني إلى قَبول الدعوة برغم أنني كما تعرفين لا أُحب الحفلات.

نوسة: لهذا أتصل بك لأطمئن على أنك ستأتي.

تختخ: اطمئني … فليست هناك ألغاز في هذه الأيام، ونحن في حاجة إلى ترفيه بعد الأيام التي قضيناها في السويس الباسلة في أثناء محاولة العدو الاستيلاء عليها وإخفاقه.

نوسة: كانت أيامًا مجيدةً لا تُنسى.

تختخ: هل انتهيت من ارتداء ثيابك؟

نوسة: نعم … ولكن والدتي كما تعلم تقضي وقتًا طويلًا في اختيار ثيابها، حتى إنني أخشى أن نتأخَّر.

تختخ: إذا عرفتما أنت و«محب» أنكما ستتأخَّران فاتصلا بي، وسوف نمر بكما بسيارتنا؛ فيجب ألَّا تفوتنا لعبة من ألعاب هذه الحفلة.

ولحسن الحظ وصل الجميع في الوقت المناسب.

وكان قصر الدكتور «منير» يقع في أطراف المعادي، تُحيط به حديقةٌ كبيرة تكاثرت أشجارها والتفَّت حتى كادت تُصبح كالغابة. وكان القصر يتلألأ بالأنوار، والسيارات تُلقي بالمدعوِّين وأولادهم. وأسرع المغامرون الخمسة يجتمعون معًا عند سُلَّم القصر الخارجي … ثم دخلوا معًا.

وقالت «لوزة»: لا ينقصنا الآن سوى «زنجر».

فقال «عاطف»: للأسف إنه ليس مدعوًّا … وهو بالطبع لا يقبل أن يحضر الحفلة دون دعوة رسمية.

وضحك الأصدقاء وهم يقفزون فوق السلالم جريًا … ويدخلون إلى القاعة الواسعة التي قُسِّمت إلى قسمَين … قسم للرجال والسيدات … وقسم للأولاد والبنات …

وكان القسم الأول هادئًا، تدور فيه أحاديث، وترتفع منه ضحكات خفيفة … أما قسم الأولاد والبنات فكان هائجًا كأنه خلية نحل … ولم يكَد المغامرون الخمسة يدخلون حتى ارتفعت صيحات الأولاد والبنات: المغامرون الخمسة!

والتفت أكثر المدعوِّين من القسمَين ليُشاهدوا المغامرين الخمسة المشاهير، يسيرون وقد توسَّطهم «تختخ» السمين وهو محشور في ثيابه … وبجواره «لوزة» الظريفة وقد احمرَّ وجهها من فرط الانفعال … وبجوارها شقيقها «عاطف» النحيل ذو الابتسامة الساخرة … ومن الناحية الأخرى «نوسة» ذات الوجه الهادئ والجبين المرتفع، ثم «محب» ذو الملامح الحادة والخطوة النشيطة.

وانضمَّ المغامرون الخمسة إلى عشرات الأولاد الذين ضمَّهم المكان … وأخذوا يتبادلون التحيات مع من يعرفونهم من أبناء المعادي … ثم التفُّوا حول «وحيد»، ذلك الولد «المشلول» الذي التقَوا به في لغز «الفهود السبعة»، وأصبح صديقًا عزيزًا لهم بعد أن كان يقود مجموعةً من الأولاد ضدهم.

فقال «وحيد» موجِّهًا حديثه إلى «تختخ»: إنني سعيد جدًّا بحضوركم … وبخاصةٍ أنت … فقد علمتُ أن إحدى الألعاب سيكون فيها دور البوليس السري … وأنت أحسن من يلعب هذا الدور …

قال «تختخ»: أنت أيضًا تستطيع … فقد قمتَ بدوركَ بمهارة في مغامرة «الفهود السبعة».

ودقَّت الساعة الثامنة … وتوقَّفت فرقة الموسيقى عن العزف … وصعد رجل وسيم أسمر في الخمسين من عمره على منصة عالية وُضعت في جانب الصالة، وسمع «تختخ» «وحيد» وهو يقول له: إنه الدكتور «منير» … عالم الذرة المصري المشهور … وقد عاد ليُسهم في خدمة الوطن.

وصفَّق المدعوُّون جميعًا للدكتور الذي ابتسم، ثم رفع يدَيه إلى فوق وقال: أيها الأصدقاء مرحبًا بكم … وشكرًا لكم بقَبول هذه الدعوة من زميل قديم، وجارٍ لكم في المعادي. ويسرُّني أن أُقدِّم لكم الساحر الهندي العظيم «رام سيخ»، وقد كنتُ أتمنَّى أن يكون صديقي الأستاذ «هارون» الذي وضع برنامج الحفل موجودًا ليُقدِّمه لكم … ولكنه للأسف لن يستطيع الحضور الآن … ومرةً أخرى أشكركم … وأتمنَّى لكم سهرةً جميلةً مع الساحر العظيم «رام سيخ».

ونزل الدكتور «منير» بين تصفيق المدعوِّين … ثم شقَّ الصفوف رجل أسمر، طويل القامة، له حدبة واضحة في ظهره … ولحية كبيرة تتدلَّى على صدره … أسمر اللون … وعلى رأسه عمامة بيضاء … حتى وصل إلى المنصة.

قال الساحر: والآن سيداتي سادتي … انتبهوا جيدًا … فإن الألعاب التي نُقدِّمها لكم الآن لم يسبق عرضها في مصر … بعضها سحر خالص … وبعضها يعتمد كله على الذكاء والفِراسة … وهناك جوائز خصَّصها الدكتور «منير» لمن يستطيع حلَّ الألعاب والألغاز التي أعرضها عليكم.

ثم أشار إلى الفرقة الموسيقية؛ فدقَّت أنغامًا سريعة، ثم وضع يده في جيبه وأخرج كيسًا صغيرًا، أخذ يُقلِّبه بين يدَيه قائلًا: جلا … جلا … إنه كيس فارغ كما ترون … ليس به شيء على الإطلاق … جلا … جلا … جلا.

ثم أخرج مطرقةً صغيرةً يدها من الخشب، ورأسها من الحديد، وأخذ يمر باليد في الكيس قائلًا: جلا … جلا … جلا … لا شيء.

ثم خلع ساعته وقال: والآن … هذه الساعة … ماركة شهيرة … غالية … اشتريتُها من سويسرا في رحلة لي هناك … نضع الساعة هكذا …

ثم وضعها في الكيس الفارغ، ومضى يقول: ثم … انتبهوا جميعًا … وأمسك بالمطرقة وبمنتهى القوة أخذ يدق الساعة التي في داخل الكيس دقًّا شديدًا.

وارتفعت من بين المدعوِّين أصوات آسفة على الساعة وما جرى لها … ولكن «رام سيخ» مضى يضرب ويكسر حتى أصبحت الساعة — كما تصوَّر كلُّ المدعوِّين — قطعًا صغيرةً محطمةً من الحديد والزجاج.

وأشار «رام سيخ» إلى الفرقة الموسيقية؛ فتوقَّفت عن العزف، ثم قال: سيداتي سادتي … والآن … جلا … جلا … جلا! انتبهوا جيدًا!

ثم فتح الكيس ببطء شديد قلَّبَه في يده … والآن … سيداتي … سادتي … من منكم يعرف الذي سينزل من الكيس الآن؟

على الفور تقدَّم أحد المدعوِّين قائلًا: أنا أعرف.

قال «رام سيخ»: عظيم يا سيدي … ماذا سينزل؟

الرجل: ستنزل الساعة سليمة … لأنك لم تضَعها في الكيس، لقد وضعتَها في كُم قميصك، وأوهمتنا أنكَ كنتَ تدق عليها … والحقيقة أنك تدق على بعض قطع الزجاج والحديد والصفيح …

قال «رام سيخ»: هل أنتَ متأكِّد يا سيدي؟

الرجل: طبعًا …

رام سيخ: إذن هل تسمح لي أن أقوم بالتجرِبة على ساعتك أنت؟

قال الرجل: طبعًا … إنني رأيتُ هذه اللعبة من قبل.

وخلع الرجل ساعته وأعطاها ﻟ «رام سيخ» الذي رفعها بين يدَيه قائلًا: والآن سيداتي سادتي … انتبهوا جيدًا … هذه ساعة سليمة تُعلن منتصف التاسعة، وسأضعها في هذا الكيس وأدق عليها … وسنرى ماذا سيحدث؟

ثم التفت إلى الرجل قائلًا: وأنتَ يا سيدي موافق على التجرِبة؟

قال الرجل: طبعًا …

عاد «رام سيخ» يقول: كما تسمعون جميعًا أن الأستاذ قد وافق على إجراء التجرِبة على ساعته.

ثم عاود الالتفات إلى الرجل قائلًا: وستتحمَّل النتائج يا سيدي؟

الرجل: لقد قلتُ ذلكَ من قبل.

أشار «رام سيخ» إلى الموسيقى فعاودت العزف، ووضع الساعة في الكيس، ثم أمسك بالمطرقة، وأخذ يهوي على الساعة بكل قوة … وأنظار المدعوِّين جميعًا مشدودة إليه.

كان وجهه الأسمر يبدو صلبًا كالحجر … وعيناه اللتان أحاطهما بالكحل الأسود تلمعان، وذراعه القوية ترتفع وتنزل بالمطرقة الصغيرة على الكيس؛ فيرتفع صوت تكسير الساعة.

واختلس بعض المدعوِّين النظر إلى وجه صاحب الساعة، فوجدوه يبتسم … وأخيرًا انتهى «رام سيخ» من دقِّ الساعة دقًّا جيدًا … ثم توقَّف، وأشار إلى الفرقة الموسيقية فتوقَّفت … ثم قال: والآن سيداتي … سادتي … سترَون نتيجة وضع الساعة في الكيس ودقها بالمطرقة.

ورفع الكيس عاليًا وقال موجِّهًا حديثه إلى صاحب الساعة: أنت يا سيدي الذي طلبتَ إجراء التجرِبة على ساعتك؟

ردَّ الرجل في ضيق: لقد أعلنتُ موافقتي مرتَين من قبل!

قال «رام سيخ» وهو يُفرغ الكيس في راحة يده: إليكَ النتيجة يا سيدي … ونزلت الساعة وقد تكسَّرت إلى عشرات من القطع الصغيرة … وساد الصمت الثقيل المدعوِّين، وأخذ صاحب الساعة ينظر إلى يد «رام سيخ» وقد احمرَّ وجهه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤