«البويك» الخضراء

في صباح اليوم التالي استيقظ «تختخ» على تليفون من المفتش «سامي»، وتوقَّع «تختخ» أن يكون المفتش قد قبض على «رام سيخ»، ولكن صوت المفتش لم يحمل هذا الخبر … على العكس قال بصوت متضايق: لقد اختفى «رام سيخ» كأنه فص ملح وذاب … وهذا شيء غريب؛ فقد أخطرنا الموانئ والمطارات … وهناك كمائن في مختلِف الأماكن التي يمكن أن يتردَّد عليها الساحر الهندي.

قال «تختخ»: هل تُقابل الأستاذ «هارون»؟

المفتش: لا بأس من مقابلته على كل حال كما قلت أمس …

تختخ: ما رأيك يا سيادة المفتش أن نلتقي به في فندق «هيلتون»؟

المفتش: معقول جدًّا … هل تُناسبك العاشرة؟

نظر «تختخ» إلى ساعته … كانت التاسعة … ووجد أنه من الممكن أن يصل في الموعد.

فقال: سأكون هناك في العاشرة …

المفتش: فليكن موعدنا في «الكافتيريا»، وسأطلب من «هارون» انتظارنا في هذا الموعد.

وأسرع «تختخ» يغتسل، ويلبس ثيابه … ثم تناول «ساندويتش» وكوبًا من الشاي، ثم أخذ طريقه إلى محطة السكة الحديد، واستقلَّ قطار المعادي إلى «باب اللوق»، ثم سار على قدمَيه إلى «الهيلتون»، وعندما وصل إلى «الكافتيريا» كانت الساعة العاشرة وخمس دقائق، ووجد المفتش وحده.

تبادلا تحيَّة الصباح وقال المفتش: سيحضر الأستاذ «هارون» في الحادية عشرة لأنه مرتبط بموعد سابق في العاشرة.

تختخ: إن ذلك يُناسبني تمامًا … فهناك بعض أسئلة أُريد أن نُوجِّهها لموظَّف الاستقبال في «الهيلتون».

ابتسم المفتش قائلًا: إنكَ مستعد تمامًا للعمل …

تختخ: لقد ظلِلت أُفكِّر فترةً طويلةً من الليل لهذا الغرض. إننا كي نوقع ﺑ «رام سيخ» لا بد أن نعرف كل شيء عنه، ولن نستطيع أن نعرف شيئًا إلا عن طريق الأستاذ «هارون»، ثم السفارة الهندية في القاهرة.

بدا الجد على وجه المفتش، وقال: لقد فكَّرتَ في كل شيء يا «توفيق» … وفكرة سؤال السفارة الهندية معقولة جدًّا؛ فأنت تشك في جنسية هذا الرجل؛ فقد لا يكون هنديًّا.

تختخ: بالضبط …

المفتش: ومعنى ذلك أنه يحمل جواز سفر مُزيَّف.

تختخ: لا أستبعد هذا.

المفتش: لقد قابلتُ عددًا كبيرًا من النصَّابين واللصوص الذين يتخفُّون في شكل المشعوذين من سحَرة، ولاعبي أكروبات، وغيرها.

تختخ: إن أكثر الناس يُصدِّقون أن الهند هي بلد السحر، والغموض، وغيرهما من وسائل الاتصال بعالم الأرواح … فإذا شاء أي مشعوذ أن يبدو ساحرًا خطيرًا؛ فسرعان ما يُطلق على نفسه اسم الساحر الهندي.

المفتش: معك حق … وقد يكون «رام سيخ» إنجليزيًّا أو فرنسيًّا …

تختخ: أو مصريًّا.

المفتش: وبخاصةٍ أنه يُجيد اللغة العربية.

تختخ: إننا نُريد أن نعرف بدقة متى وصل إلى القاهرة … ورقم جواز سفره … وعاداته في طعامه وملابسه … كل شيء ممكن الوصول إليه سيُساعدنا.

المفتش: هيا بنا …

واتجها معًا إلى موظَّف الاستقبال الذي استمع إلى الأسئلة، ثم فتح دفتر النزلاء وقال: السيد «رام سيخ ماهارباتي» … الجنسية هندي … رقم جواز السفر ٩٥٢٣١٧ … نزل في الفندق منذ خمسة أيام وحده … منذ أمس ليلًا لم يرَه أحد، ولم يُسلِّم مفتاح غرفته … ولم يدفع حسابه.

ثم رفع الموظَّف عينَيه عن الدفتر وقال: أمَّا بقية المعلومات عن طعامه وملابسه فيُمكن سؤال الموظَّفين المسئولين …

قال «تختخ»: من فضلك الأستاذ «هارون».

الموظف: اسمه بالكامل؟

تختخ: لا أعرف إلا أن اسمه «هارون».

تدخَّل المفتش قائلًا للموظف: إن «هارون» اسم ليس منتشرًا، وأعتقد أنه ليس عندكم سوى «هارون» واحد …

عاد الموظف يفحص دفتره، ثم قال: هناك اثنان باسم «هارون» … أحدهما وصل اليوم فقط … والثاني نزل بالفندق منذ عشرة أيام … اسمه بالكامل «هارون موسى هارون».

المفتش: جواز سفره؟

الموظف: جواز سفره أمريكي رقم ٩٠٠١٣٩٩.

المفتش: جواز سفر أمريكي؟

الموظف: نعم.

المفتش: لكنه مصري؟

تختخ: لعله أحد المصريين الذين هاجروا إلى أمريكا، وتجنَّسوا بالجنسية الأمريكية.

المفتش: معقول جدًّا … هيا بنا.

وشكر المفتش موظف الاستقبال … ثم نظر إلى ساعته، وقال: لم يبقَ سوى دقائق على موعد الأستاذ «هارون».

تختخ: ما رأيك أن نُقابله ولا داعي لبقية الأسئلة عن «رام سيخ»، ونُحاول التأكُّد من السفارة الهندية عنه.

المفتش: أوافق، وسأتصل بأحد رجالي ليذهب إلى السفارة الهندية ويسأل.

وذهب المفتش إلى التليفون، وجلس «تختخ» في «كافتيريا» يُفكِّر … وبعد لحظات وصل المفتش وقال: سيذهب أحد رجالي إلى السفارة الهندية الآن.

ولم يكَد المفتش ينتهي من كلامه حتى ظهر الأستاذ «هارون» … قادمًا يمشي بنشاط وهو يبتسم، وسلَّم على المفتش بحرارة، وكذلك على «تختخ»، ثم قال: إنني تحت أمرك أيها المفتش … فإنني أشعر بالذنب لأنني رشَّحت «رام سيخ» ليُقدِّم ألعابه السحرية في منزل صديقي الأستاذ «منير»، ولم أكن أتوقَّع أبدًا أن يكون لص مجوهرات.

قال المفتش: أستاذ «هارون» … يُهمُّنا جدًّا أن نعرف كيف تعرَّفت على «رام سيخ»، وكيف رشَّحته لحفل الدكتور «منير».

قال الأستاذ «هارون» وهو يُثبت نظارته السوداء على عينَيه: قابلت «رام سيخ» في مدينة «ديترويت» في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة تقريبًا … كان يقوم ببعض ألعابه السحرية في أحد المحلَّات هناك، وأُعجِبت به جدًّا … فإنني أيضًا من هواة الألعاب السحرية … وسعيتُ إلى التعرُّف به، وسرَّني أنه يعرف اللغة العربية.

المفتش: هل عرفتَ منه كيف تعلَّم اللغة العربية؟

هارون: قال لي إنه عاش فترةً طويلةً يعمل في البلاد العربية حيث تعلَّم اللغة وأجادها … وهؤلاء الناس يُحاولون تعلُّم أكبر عدد من اللغات حتى يُخاطبوا المتفرِّجين بلغتهم.

المفتش: وبعد أن تعرَّفت به؟

هارون: أصبحنا أصدقاء، وعلَّمني بعض ألعابه التي كنتُ أعرضها في حفلات المصريين في أمريكا.

المفتش: أنت مصري يا أستاذ «هارون»؟

ضحك الأستاذ «هارون» وقال: إنني مصري أمريكي؛ فقد وُلدت في القاهرة، وتخرَّجت في جامعة عين شمس، ثم سافرتُ إلى أمريكا، وتجنَّست بالجنسية الأمريكية، ثم صدر قانون يُبيح للمصري الاحتفاظ بجنسيته المصرية حتى إذا كان قد تجنَّس بجنسية أخرى، وهكذا أنا مصري أمريكي.

المفتش: كيف قابلتَ «رام سيخ» بعد ذلك؟

هارون: عندما حضرتُ إلى القاهرة للزيارة نزلت بفندق «هيلتون» منذ نحو عشرة أيام، وذات يوم منذ أربعة أيام فوجئت ﺑ «رام سيخ» ينزل في الفندق نفسه، بل بالدور نفسه الذي أنزل به … كانت مفاجأةً ظريفةً جدًّا … وعلمتُ منه أنه متعاقد على العمل في أحد الملاهي في القاهرة، وكان صديقي الدكتور «منير» قد أخبرني بالحفلة التي ينوي إقامتها في قصره بعد عودته من أمريكا؛ لإعادة تقديم نفسه إلى المجتمع المصري، ولتجديد صداقاته في مصر، فاقترحتُ عليه أن يُقدِّم «رام سيخ» بعض ألعابه في الحفل، ووافق على ذلك.

المفتش: ألم تشكَّ مطلقًا في «رام سيخ»؟

قال «هارون» وهو يهز رأسه: أبدًا … أبدًا.

المفتش: على كل حال لن يذهب «رام سيخ» بعيدًا؛ فقد وضعنا كمائن في كل مكان … ولا أظن أنه يستطيع أن يُفلت منا.

كان المفتش يتحدَّث وهو يجلس بجوار «تختخ» … وظهره وظهر «تختخ» للجدار الزجاجي الكبير الذي يفصل «كافتيريا» عن حديقة الفندق الواسعة … وكان «هارون» يجلس ووجهه في مواجهة الجدار الخلفي … وفجأةً وقف «هارون» وهو يُشير بيده وقد انعقد لسانه … ثم صرخ: «رام سيخ»!

ووقف المفتش مسرعًا، وأطلَّ حيث أشار «هارون»، وكذلك فعل «تختخ» …

وقال المفتش: أين هو؟

قال «هارون» وهو يُشير بإصبعه، ويجري في اتجاه الباب الزجاجي: إنه يركب سيارة.

وأسرع المفتش وخلفه «تختخ» إلى الخارج … كانت هناك سيارة تدور حول الحديقة، ثم تنطلق في الميدان الواسع.

أسرع الثلاثة إلى سيارة المفتش التي كانت تقف بالباب، وقفزوا إليها، وسرعان ما كانت تندمج بين عشرات السيارات التي تزحم الميدان الكبير، وهي تُطلق صفَّارتها المدوية … ولكن ذلك لم يؤدِّ إلى شيء … فقد استطاعت السيارة الهاربة أن تسبقهم بمسافة كافية … ولم يعد في الإمكان اللحاق بها.

قال المفتش يسأل «هارون»: ما هو شكل السيارة ونوعها؟

قال «هارون»: إنها من طراز «بويك» … خضراء.

المفتش: بالطبع لم ترَ أرقامها؟

هارون: لم يكن ذلك ممكنًا.

المفتش: على كل حال هذه الأوصاف كافية للبحث … هل تأتي معنا، أو تُريد العودة إلى الفندق؟

هارون: سأعود إلى الفندق؛ فعندي بعض المواعيد هناك، وسأسافر غدًا وما زال عندي الكثير ممَّا يجب أن أُنجزه قبل سفري.

نزل الأستاذ «هارون» وأوصل المفتشُ «تختخ» إلى محطة «باب اللوق»، حيث استقلَّ القطار عائدًا إلى المعادي … وتوجَّه فور وصوله إلى حديقة منزل «عاطف» حيث كان في انتظاره بقية المغامرين.

استلقى «تختخ» على كرسي بجوار الأصدقاء الذين كانوا متلهِّفين لسماع أخباره، وقال «محب»: ماذا حدث؟ … إنك تبدو مشغولًا للغاية!

روى «تختخ» للأصدقاء ما جرى من حديث بين المفتش وبين «هارون»، وقصة السيارة «البويك» الخضراء.

قالت «لوزة» في ضيق: يا للحظ السيئ! … لقد كاد «رام سيخ» أن يقع.

نوسة: إن المفتش سيُطلق في أثره رجاله … وسوف يعثرون عليها حتمًا، وبخاصةٍ أنهم عرفوا السيارة التي ركبها … أليس كذلك يا «تختخ»؟

ونظر إليها «تختخ» دون أن يرد … وظلَّ يُحدِّق في الفضاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤