الفصل الرابع

الحرية والفضيلة والمواطنة

في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، وتحديدًا من خلال «الخطاب» الأول والثاني و«رسالة عن الموسيقى الفرنسية»، ذاع صيت روسو في شتى أرجاء أوروبا كناقد للتنوير والمجتمع المدني. لم تُقَرِّبه كتاباته التي تناولت هذَيْن الموضوعَيْن من أبرز معاصريه الذين توقعوا مساندته لهم في حملاتهم ضد الوثنية الدينية والظلم السياسي، وشجب فولتير — وهو رائد دعاة الثقافة العالمية — سعي روسو الرجعي في ظاهره للترويج لضرورة العودة للحياة البربرية. علاوة على ذلك، في عام ١٧٥٦، عارض آدم سميث، الذي أمسى أبرز دعاة المجتمع التجاري في القرن الثامن عشر والمؤسسات المُهَذَّبَة أخلاقيًّا المرتبطة به، في مجلة إدنبره ريفيو أيضًا تفضيل الهمجية على الحضارة الذي عبر عنه روسو تحديدًا في «الخطاب» الثاني. وفي حين أن فولتير وسميث وغيرهما من المفكرين قدموا برامج تربوية وسياسية واقتصادية يمكن أن تسهم في التطور الأخلاقي للبشر، بدا روسو، في معارضته لهذا التوجه، عدوًّا للتطور بكل أشكاله. ومع ذلك، وكما لاحظ سميث في تعليقاته على «الخطاب» الثاني، فقد كرَّس روسو هذا العمل لجمهورية جنيف، وأقر بالإحساس العميق بالشرف الذي خلعه عليه كونُه مواطنًا في هذه الدولة. وقد أعلن روسو عن هويته المدنية والجمهورية بصفحة عنوان «الخطاب» الأول أيضًا، ورغم أنه اشتكى لاحقًا من أن معاصريه خانوا مبادئ دستورهم، ظل روسو فخورًا بأصوله وبالمدينة التي أشعلت جذوة حماساته الأولى، حتى بعد أن استنكر بعض أبناء وطنه مبادئه على اعتبار أنها مثيرة للفتن.

أيد روسو أكثر من غيره من أبرز الشخصيات في القرن الثامن عشر وجهةَ النظر التي تقول بوجود علاقة بين السياسة والأخلاق والتي استقاها من اليونان القديمة. وافترض أنه إذا كان بالإمكان عزو فساد أخلاق أهالي البندقية المعاصرين إلى فساد حكومتهم، فإن فساد غيرهم من الشعوب بالمثل يرجع إلى حد كبير للجرائم السياسية والاضطهاد اللذين تمارسهما حكوماتهم. وفي كتاباته الأولى، حاول روسو أن يتعقب أصول ذلك الانحطاط الأخلاقي على مدار فترات زمنية أوسع وأكثر تباعدًا تاريخيًّا من خلال التجريد الفلسفي للظلم السياسي الراهن. لقد كان على قناعة بأنه ما دامت أزمة الإنسان الحديث في ظل أغلب الحكومات المعاصرة خلقتْها ظروف سياسية، فإن الدول التي تتبنَّى مبادئ سياسية مغايرة يمكنها في المقابل جعل مواطنيها ينتهجون سلوكًا أفضل؛ مما يتمخَّض عنه إحلال الفضيلة محل الرذيلة. وفي مؤلفه «العقد الاجتماعي» المنشور في ربيع عام ١٧٦٢، رسم روسو بناءً على ذلك سيناريو ملهمًا للاجتماع السياسي يختلف تمامًا في طبعه عن رؤيته للمجتمع المدني في «الخطاب» الأول والثاني. والحقيقة أن «العقد الاجتماعي» يبدو أنه يتناول الفكرة المحورية ﻟ «خطاب عن اللامساواة» ولكن بطريقة عكسية؛ حيث يرسم الخطوط العامة لعقد للاجتماع السياسي يجمع بين المواطنين بدلًا من أن يفرقهم، ويحافظ على قيم المشاركة العامة العادلة التي تدعم حريتهم بدلًا من أن تدمرها. وبعد أن عرض روسو من قبل مراحل الفساد الأخلاقي للبشر في المجتمع المدني، طرح هنا بالتفصيل على نحو توجيهي لحجته السابقة ولكن بشكل عكسي عن طريق رسم صورة للمؤسسات الضرورية لحصول المواطنين على حريتهم. وبوضع الأسس الدستورية للسلطة السياسية الشرعية بأشكال مختلفة ملائمة للظروف المتباينة، استطاع أكثر مواطني جمهورية جنيف فخرًا بانتمائه لها شجب النظم الاستبدادية الملكية الحاكمة في عصره، وفي الوقت نفسه تقديم مخطط للدول التي ربما تتحقق فيها الفضيلة السياسية من خلال تجمع رعاياها معًا كي يحكموا أنفسهم بأنفسهم.

fig14
شكل ٤-١: صفحة من الفصل الثالث من الكتاب الأول لمؤلَّف روسو «مخطوطة جنيف» التي تتضمن الفقرة الافتتاحية للفصل الأول من الكتاب الأول من كتاب «العقد الاجتماعي».
تظهر العبارة الأشهر من «العقد الاجتماعي»، وربما الأكثر اقتباسًا من بين أعمال روسو كلها، في بداية الفصل الأول من الكتاب الأول، بعد ثلاث فقرات قصيرة تمهيدية أرسى فيها روسو خبرته التي تخوِّله تناول مسائل الحق والعدالة والمنفعة، لا من منطلق كونه أميرًا أو مُشَرِّعًا، ولكن لأنه أحد أبناء أو مواطني دولة حرة، ومن ثم فهو صاحب سيادة فيها. قال روسو وكأنه يوجز الملحمة الرهيبة لتحولنا السياسي السابق إيرادها في عمله «خطاب عن اللامساواة»: «يولد الإنسان حرًّا، ولكنه مكبَّل في كل مكان بالقيود.» تتناول الفصول الأولى من «العقد الاجتماعي» في واقع الأمر موضوعات شبيهة جدًّا بالموضوعات التي يرتكز عليها «الخطاب» الثاني، من حيث إنها تسعى مرة أخرى لبيان أنه لا يمكن أن يكون هناك أساس طبيعي للمجتمع المدني، سواء على مستوى العائلة أو على مستوى أي حق مفترض نابع من استخدام القوة الوحشية. زعم روسو أن الحق لا يمكن أن ينبع من القوة، كما زعم قبلَ ذلك أن اختلافاتنا الجسمانية لا تُقدِّم أي مسوغ على تفاوتاتنا الأخلاقية. وإذا كان للقوة أن تخلق الحق، فإنَّما هو حق سيكون عابرًا شأنه شأن كل تغير في نزعة القوة، ولتَحَوَّلَ العصيان إلى تصرف شرعي فوْرَ توَفُّر قوة كافية. وزعم هوبز في الفصلين الخامس والسادس من كتابه «المواطن»، والفصل الثامن عشر من «ليفايثن»، وفي مواضع أخرى أن القوة والحق لا بد أن يتلازما، ما دامت «الكلمات» (أي القوانين) من دون «السيف» (أي الوسيلة اللازمة لتطبيقها) ليست ملزمة بشكل كافٍ. ولكن في «العقد الاجتماعي» كرر روسو التمييز بين القوة والسلطة (وهما في اللغة اللاتينية potestas وauctoritas) وهو أمر لم يكن يعني الكثير بالمرة بالنسبة إلى هوبز، ولكنه عنَى الكثير بالنسبة إلى مواطني الجمهورية الرومانية.

إن إعادة ذكر روسو للتمييز بين الطبيعة والأخلاق في «العقد الاجتماعي» أيضًا جعلته ينكر أن الروابط الأسرية عملت كنموذج للعلاقات بين المواطنين في الدولة. وقبل ذلك بألفَيْ عام، وفي الكتاب الأول لمؤلَّفه «السياسة»، علق أرسطو بالفعل على الفرق بين الصلات غير المنصفة التي تربط بين أفراد الأسرة والمساواة الأساسية بين الرعايا والحُكام في سياق الاجتماع السياسي — ومن ثم الطوعي — وأقر روسو، في كل من «العقد الاجتماعي»، وخاصة في الصفحات الأولى من «خطاب عن الاقتصاد السياسي»، بأنه يدين بشدة إلى أرسطو بخصوص هذا الموضوع، وبأنه يعيد صياغة ما قاله أرسطو بالفعل إلى حد بعيد. والواقع أن مقابلته بين النطاقيْن العام والخاص في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» تتبع أيضًا تمييز لوك الذي أورده في «الأطروحة الثانية عن الحكومة» بين السلطة السياسية والسلطة الأبوية؛ فشأنه شأن لوك، وضع روسو في بادئ الأمر تمييزه الخاص هذا من أجل تفنيد ما وصفه ﺑ «النظام المضاد للصواب» الذي أورده السير روبرت فيلمر في كتابه «السلطة الطبيعية للملوك» الذي زعم روسو أن أرسطو إذا اطلع عليه لكان سيرفضه أيضًا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). لقد شارك روسو كلًّا من أرسطو ولوك اعتقادهما بأن الحكومة الشرعية بين أشخاص متساوين أخلاقيًّا تأسست بالاتفاق فيما بينهم ولم تُكتسب بشكل طبيعي، وفي «العقد الاجتماعي»، وبقدْر لا يقل عن كتاباته السياسية السابقة، كان روسو مصرًّا على أن سلطة الإنسان على أخيه الإنسان في المجتمع المدني — سواء بالخير أو بالشر — تأسست، وحريٌّ بها أن تتأسس، بالاختيار لا بالضرورة.

في الفصلين الثاني والثالث من مؤلفه، عبَّرَ روسو عن هذه الأفكار الجليلة بأسلوب جديد مميز، ومن ثم فقد خلع عليها زخمًا جديدًا عبر محاولته الثورية تفنيد منطق تقليد العقد الاجتماعي بأكمله السابق عليه، كما استوعبه هو. وأثارت فلسفة جروشيوس تحديدًا هنا ثائرته، كما فعلت من قبل فلسفة هوبز وبوفندورف ولوك في «الخطاب» الثاني. فبينما أشار جروشيوس إلى أنَّ موافقة الرعايا هي التي أدت إلى التأسيس الصحيح للسلطة السياسية، فقد حاجَّ، سائرًا على نهج شيشرون وغيره من الكُتَّاب القدماء، في مؤلفه «عن قانونية الحرب والسلام» (الباب الأول) الذي ظهر في عام ١٦٢٥، أن موافقة شعب بأكمله على طاعة أحد الملوك تشبه بالضبط جعل الفرد من نفسه عبدًا لغيره طواعيةً؛ أي بواسطة التنازل عن حريته أو نقلها إلى الأبد إلى سيد يرتضيه. ولم يكن جروشيوس وحده، بل هوبز وبوفندورف أيضًا، في طرح الأطروحة التي مفادها أن خضوع الأفراد أو الجموع الطوعي لحاكمهم أدى إلى التأسيس الشرعي للدولة، من خلال إجازة أو تخويل طاعة الرعايا إلى سلطة مطلقة بواسطة نقل للحقوق لا رجعة فيه. وأصر جروشيوس على أنه يمكن للمقاتلين المهزومين التنازل عن سلطتهم على أنفسهم للغزاة المنتصرين عليهم، متجاهلين بذلك حقيقة أن الحرب في واقع الأمر علاقة بين دول لا بين أشخاص؛ ولذا رفض روسو الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه تقليد العقد الاجتماعي قبله، الذي لم يكن هناك فارق جوهري فيه بحسبه — وبتعبير هوبز — بين السيادة التي تُكتسب بموافقة الناس والسيادة التي تُكتَسَب عن طريق الاستحواذ أو الغزو. زعم هوبز أنه رغم أن سلطة الدولة كانت غير محدودة، فقد كانت هي أو الحاكم مجرد وكيل أو قائم مقام أو ممثل لإرادة الشعب، مجرد ممثل يمثل رعاياه الذين هم بالتبعية المؤلفون الحقيقيون لكل عرض يقدمه باسمهم (ليفايثن، الفصل السادس عشر).

اعتبر روسو فكرة الخضوع الطوعي هذه حجر الأساس للتشريع القانوني الحديث، وإذ شجب عواقبها الجائرة وأفكارها المغلوطة بشأن الطبيعة البشرية في «خطاب عن اللامساواة»، نراه الآن، في «العقد الاجتماعي»، يطعن في شرعيتها، ويقترح رواية مختلفة تمامًا لتدعيم سلطة الدولة عبر الاختيار الجمعي لمواطنيها. لقد اقترف جروشيوس وأتباعه من المؤمنين بفكرة العقد الاجتماعي خطأين أساسيين في فلسفاتهم الخاصة بالخضوع الطوعي، بحسب ظن روسو. الخطأ الأول هو: الخلط بين العقد الاجتماعي الخاص بالدولة وعقد الخضوع، على فرض أن تأسيس السيادة وتأسيس الحكومة، اللتين أساءوا فهم أساسهما ومسئولياتهما، لا يختلف أحدهما عن الآخر. وكما حاجَّ في الفصل السادس عشر من الكتاب الثالث في «العقد الاجتماعي»، لا تتشكل الحكومة وفقًا لعقد، ولا يجوز قط تمرير السيادة التي لا تتجزأ التي للشعب إلى الملك. وعندما اختار جروشيوس إهداء أعظم إبداعاته للملك لويس الثالث عشر، لم يُبدِ أي تأنيب للضمير عندما سلبَ الناسَ جميعَ حقوقهم، بحسب زعم روسو في إضافة ناقمة له في نهاية الفصل الثاني بالكتاب الثاني، الأمر الذي يرسم مقابلة بشكل واضح بين تاريخه الفكري وتاريخ سلفه الخادم لمصلحته بوضوح. قال روسو إن الحقيقة لا تؤدي إلى الثروة، والناس لا يجعلون من أحد سفيرًا أو يعطونه كرسي أستاذية في الجامعة، ولا يعطون أحدًا معاشًا تقاعديًّا. وبدلًا من تحديد دور التأسيس الشرعي للدولة في العملية التي بموجبها يُسلِّم الناس مقاليدهم للملك، كان من الأفضل لو حدد جروشيوس العملية التي يصبح بموجبها الشعب شعبًا؛ وذلك لأن في هذا، بحسب تصريح روسو، يكمن «الأساس الحقيقي للمجتمع» (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل الخامس).

كان الخطأ الثاني الذي وقع فيه جروشيوس وأشار إليه روسو، وارتكبه بدوره هوبز وبوفندورف بالمثل، هو افتراضه أن الأشخاص ربما تنازلوا فرادى أو جماعات عن حريتهم بخضوعهم بإرادتهم لإرادة حاكمهم. على العكس، فإن التخلي عن الحرية تخلٍّ عن بشريتنا، بحسب تصريح روسو، وبالتالي نزعٌ للأخلاق من سلوكنا. إن العقد الذي يرسخ، من ناحية، للسلطة المطلقة، ومن ناحية أخرى للطاعة العمياء واهٍ وباطل؛ وذلك لأنه يستقي العبودية من الحرية، ويضع المشارك فيه في تعارض مع نفسه في الأداء المفترض لإرادته الخاصة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل الرابع). في هذا النقد للعبودية الطوعية، والموجَّه تحديدًا ضد آراء جروشيوس، وافق روسو على الحجة الواردة في الفصل الرابع من «الأطروحة الثانية عن الحكومة» للوك التي مفادها أن الإنسان لا يمكن أن يجعل من نفسه عبدًا لأي أحد بمحض إرادته. لكن مصدره الأساسي في هذا الشأن لم يكن لوك نفسه بقدر ما كان جون باربيراك، المُشَرِّع الهوجونوتي الفرنسي المعروف ومحرر الكتابات السياسية الأساسية لكل من جروشيوس وبوفندورف، الذي وبَّخه روسو أيضًا في «العقد الاجتماعي» لإهدائه عملَه (ترجمته لعمل جروشيوس «عن قانونية الحرب والسلام») لأحد الملوك (جورج الأول ملك إنجلترا)، لكنه تردد ووارب في التعبير عن ذلك تفاديًا لإثارة حفيظة سيدِهِ. ومن بين الملاحظات الضخمة التي أرفقها باربيراك في نسخته الفرنسية المُحْكَمة لمؤلف بوفندورف «قانون الطبيعة والأمم» المنشور لأول مرة عام ١٧٠٦، الملاحظة المضافة إلى الفصل الثامن بالباب السابع، التي ألمحتْ إلى زعْم لوك السابق بأنه «ما من إنسان يمكن أن يتنازل عن حريته بحيث يُخْضِع نفسه بالكلية لسلطة تعسفية؛ لأن ذلك سيكون بمثابة تخلصه من حياته التي لا سلطان لنفسه عليها.» في تأملاته النقدية في كل من «خطاب عن اللامساواة» و«العقد الاجتماعي»، كان يَدِين روسو بالكثير لتعليقات باربيراك على أعمال كل من جروشيوس وبوفندورف، ومن الواضح أن معرفته الأولى على الأقل بلوك تمت في بادئ الأمر عبر تعليقات باربيراك على بوفندورف. وفي «العقد الاجتماعي» تحديدًا، قام روسو بتطوير نسخة باربيراك لنقد لوك الشخصي للعبودية الطوعية؛ بغية تحدي أسس الفلسفة السياسية الحديثة التي تم وضعها في القرن السابع عشر، مُوَظِّفًا اصطلاحاتها هنا لكي يضمن الإدراك الجمعي للناس لحريتهم، لا القرار المتعمد لهم بإخضاع أنفسهم للملك. ولقد بنى روسو الكثير من أفكار الحرية والمساواة والسيادة في «العقد الاجتماعي» على خلافه مع جروشيوس وبوفندورف وهوبز.

في قلب هذا التقليد التخميني الطوعيِّ، كما تصوره روسو، استقر الاعتقاد بأن البشر الذين لا سيد لهم كانوا بطبيعة الحال بحاجة إلى دولة لحمايتهم. وكانت ممارسة الحرية غير المقيدة تُعرض الأمان الشخصي للأفراد للخطر، بحيث إنه حتى يحصل هؤلاء الأفراد على الأمان الذي اعتبروه — عن حقٍّ — أهم من حريتهم، كان يتعين عليهم التنازل عن حقوقهم لسلطة مخوَّلة بموجب القانون وقوة السلاح لحفظ السلام فيما بينهم، علاوة على إبعاد خطر الأعداء. ولم تتطلب المواطنة في الدولة وحسب التنازل الإرادي من جانب كل شخص عن حريته، ولكن لتأسيس التفوق الظاهري للحاكم على الجميع، حَوَّلَت تلك المواطنة المساواة الطبيعية بين كل البشر إلى تسلط وخضوع سياسيين. في الفصلين الثامن والتاسع من الكتاب الأول ﻟ «العقد الاجتماعي»، حاول روسو أن يقلب كل هذه الافتراضات رأسًا على عقب. إن انتقالنا الملائم من الحالة الطبيعية إلى حالة التحضر يجب ألَّا يكبِتَ حريتنا الحقيقية، بحسب زعم روسو، بل يتعين عليه تحقيقها بتحويل الغرائز لدينا إلى خضوع لقانون نوجبه على أنفسنا. ولا ينبغي أن يُؤسِّس هذا الانتقال مبادئ هرمية للخضوع في تجاوزه لمساواتنا الطبيعية المزعومة. على العكس، فهو يحل المساواة الأخلاقية والقانونية محل لامساواتنا الطبيعية المستندة إلى القوة أو الذكاء وحسب. والصلات التي يشترطها روسو بين هذين المبدأين — الحرية والمساواة — هي التي تمثل أغلب الأفكار المحورية في عمله «العقد الاجتماعي».

وكما أوضح في الفصل الثامن من الكتاب الأول والفصل السابع من الكتاب الثاني من «العقد الاجتماعي»، فإن تأسيس الدولة بالاتفاق المشترك لرعاياها ينتج عنه تغير ملحوظ في الإنسان؛ وهو التحول الذي يُوصَف هنا فيما يتعلق بأهمية التنازل عن الاستقلال الطبيعي لكل شخص الذي نتج عن هذا التحول، والذي صوره روسو في «خطاب عن اللامساواة» باعتباره خطوة مدمرة أدت إلى الفساد الأخلاقي والرذيلة. وبالزعم أن سوء استغلال الحالة الجديدة للبشر كثيرًا ما يفضي إلى أزمة أسوأ من حالتهم الأصلية، ألمح روسو إلى جوهر حجته السابقة، لكنه هنا بدلًا من ذلك شدد على الروح المُشَرِّفَة والسامية لهذا التغيير، عندما يُبرَم العقد الاجتماعي، ومن ثم يتأسس المجتمع المدني، على النحو السليم. وعوضًا عن الحرية الطبيعية التي ربما امتلكها البشر في غياب المجتمع المدني، يكتسب البشر حرية مدنية وأخلاقية؛ ويمكن وصف الأولى بأنها مقيدة بفعل الإرادة العامة، بينما تجعلهم الثانية، بإلزامهم بطاعة القوانين التي شاركوا جميعًا في وضعها، أسياد أنفسهم حقًّا. وبعد أن وصف الحرية الأصلية للبشرية في «خطاب عن اللامساواة» فيما يتعلق بالإرادة الحرة وغياب السيطرة علينا بفعل غرائزنا الحيوانية، كان من الممكن وحسب أن يُربِك روسو قُرَّاءه المتابعين لأعماله بتعريفه الجديد للحرية الطبيعية التي يصورها الآن على أنها عبودية لمثل هذه الغرائز. وعلى النقيض من «الخطاب» الثاني، لا يأتي «العقد الاجتماعي» مطلقًا على ذكر الحالة الطبيعية للبشر، وتعليقاته عن الحيوانات على وجه الخصوص قليلة، ولم يذكر الكثير عن خصالها الحميدة كما فعل في مناقشته السابقة.

لكن الغرض من حجة روسو أصبح الآن مختلفًا. فقد كان يأمل في إثبات أن المشاركة الجمعية للبشر في الحكم الذاتي من الممكن أن تزيد من حريتهم بشكل كبير يتجاوز ما يكفله الاستقلال الطبيعي للهمج في حالتهم الأصلية، الموصوفة هنا بالمقيدة داخليًّا بغرائزهم، إن لم تكن مقيدة أيضًا خارجيًّا باعتمادهم على الآخرين، بينما في «خطاب عن اللامساواة» زعم روسو أن البشر البدائيين لم تحكمهم غرائزهم. بخلاف المفكرين المؤمنين بفكرة العقد الاجتماعي قبله، صَوَّرَ روسو عقد الاجتماع الأساسي بين البشر في سياق تحقيقهم طموحات لم تكن لتخطر لهم على بال في غياب هذا العقد، بحيث إن حرية العيش دون الخضوع لسيطرة بعضهم على بعض، التي يستنكرونها بطبيعة الحال، تجلب بُعْدًا إيجابيًّا آخر عند فقدانها، حيث يكتسب المواطنون شخصيات أخلاقية ومصالح تعاونية لا يمكن أن يتخيلها الهمج المنعزلون. وعلى النقيض من زعم هوبز بأن الحرية في الدولة تتمثل في «صمت» القوانين، التي يُقيِّد إصدار الحاكم لها بالتبعية حرية الأشخاص من خلال إلزامهم بطاعتها، اعتقد روسو أن القوانين والحرية من الممكن أن تَمْضِيَا قُدُمًا معًا شريطة أن يشارك في وضعها أيضًا الخاضعون لها، فلا يعلو بذلك الحاكم أو ينفصم عن عموم المواطنين. وبينما الحرية بالنسبة إلى هوبز تُستبدَل بها السلطة من خلال إحالة البشر حقوقَهم الطبيعية إلى حاكمهم، فإن الحرية بالنسبة إلى روسو، شريطة أن يحكم المواطنون أنفسهم، تُكتَسَب داخل الدولة بدلًا من أنْ تُصان منها. وبهذا اللجوء للمُثُل الجمهورية القديمة التي تلزم بقوانينها الإنسان الحر في المدن المتحررة، سعى روسو إلى إعادة تعريف النظرية الحديثة للسيادة بما يناقضها بحيث يتم استحضار ألفاظها لاستعادة ما وضعتْ من أجل هدمه تحديدًا.

إذا كانت الحرية محورية لمفهوم روسو عن الدولة الشرعية، فالمساواة لا غِنَى عنها لتحصيل الحرية، بحسب زعمه، ولا سيما في الفصل التاسع من الكتاب الأول والفصل الحادي عشر من الكتاب الثاني. وكما شجب الآثار السلبية للتوزيع غير المتكافئ للملكية في «الخطاب» الثاني، فقد عارض بشدة في «العقد الاجتماعي» فرْطَ الثراء وفرْطَ الفقر اللذين يرى كلًّا منهما «مدمِّرًا للصالح العام» حيث تُعرَض الحرية في المزاد، فيزيد مشتروها من سلطات الطغاة، ويتخلَّى بائعوها عن حريتهم طلبًا لرفقة الطغاة. ولعل أكثر الأفكار تواترًا بإصرار في جميع كتابات روسو السياسية، وبالطبع في حياته الشخصية أيضًا، تجلت في رغبته في إنهاء علاقات التبعية والخضوع بين البشر، تلك العلاقات التي تسيطر على الأشخاص وتجعلهم لا يبرحون مكانهم في الحياة، وتدمر حريتهم. إن الاعتماد على البشر، بحسب زعم روسو في الكتاب الثاني من كتابه «إميل» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، تمييزًا له عن الاعتماد على الأشياء، يتسبب في كل الرذائل، فيفسد السيد والعبد على حدٍّ سواء. وعلى الرغم من أن روسو كان على قناعة بأن المساواة لا غنى عنها للحرية، فقد ظل مصرًّا على أنه يتعين السعيُ وراءَها لذَاتِها. ورغم حِدَّة نقْده للملكية الخاصة، لم يسعَ قط إلى إلغائها، كما ستحاول أجيال من علماء الاجتماع من بعده؛ وكان سببه في ذلك أنه تصور أن العالم المنزوع منه الملكية الخاصة من الممكن أن يجعل مبدأ المساواة يدخل في صراع مع مبدأ الحرية. فإذا مُنع الأفراد من حيازة الممتلكات من خلال عملهم وسعيهم، فإن خضوعهم سينتقل وحسب من الأثرياء إلى الدولة، ولن تُكبَتَ حريتهم بأقل من ذي قبل. ولأنه اعتبر أن الملكيات المحدودة من الأراضي دليل على اعتماد البشر على أنفسهم، فقد أقر بوجود الجمهوريات الزراعية. وفي «خطاب عن الاقتصاد السياسي» لاحظ أن «الملكية هي أساس العقد الاجتماعي»، مع الإشارة إلى أن الشرط الأول لذلك أن «يُكفَل لكل شخص حقُّ التمتُّع تمتُّعًا هادئًا بكل ما هو خاص به» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). في الفصل الحادي عشر من الكتاب الثاني من «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن فرْط الثراء والفقر يجب أن يخضع للسيطرة السياسية، بحيث لا يكون أي مواطن ثريًّا جدًّا بشكل يمكِّنه من شراء مواطن آخر، ولا يُعاني أي مواطن فقرًا مُدْقِعًا فيبيع نفسه. وبما أن «قوة الظروف تميل دومًا للقضاء على المساواة»، بحسب ما انتهى إليه روسو، «فإن قوة التشريع عليها دومًا أن تميل إلى صونها.»

وشدد روسو هنا على البعد السياسي للمساواة أكثر مما يتعلق بعلاقاتنا الاجتماعية والاقتصادية، فقد زعم أن كل قانون يكون ملزمًا للمواطنين جميعًا دون تمييز؛ حيث لا تميز الدولة بين الأشخاص المشمولين به (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصلان الرابع والسادس). وزعم أيضًا من قبلُ في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» أن «أول القوانين هو أن تحترم القوانين» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مضيفًا في «العقد الاجتماعي» أن كل المواطنين يخضعون لتلك القوانين سواء بسواء؛ لأن القوانين بهذا الشكل تتجاهل كل الاعتبارات والاختلافات الفردية التي تهتم بها الحكومة عند تنفيذ تلك القوانين، لكنها لا تسترعي اهتمام المجتمع ككل لها. ولعل استبعاد روسو لأي مزايا أو أضرار فردية ممكنة من تشريعات الدولة هو الذي حدا به أن يعلق على هذا الأمر، في الفصل السابع من الكتاب الأول من كتاب «العقد الاجتماعي» قائلًا: «إن الحاكم، بموجب ماهيته، دائمًا ما يكون ما ينبغي عليه أن يكون»، ولو أن المعنى الذي يرمي إليه في هذا الجزء الذي كثيرًا ما يُستشهد به ملتبس. لكن اهتمامه بالمساواة المدنية يتضح بجلاء شديد في تأكيده الحماسي على المسئولية المتساوية للمواطنين المتعلقة بالمشاركة الفعالة في المجلس التشريعي الذي له السيادة في كل دولة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول – الفصل السادس، والكتاب الثاني – الفصل الثالث، والكتاب الثالث – الفصل الخامس عشر). وافترض روسو، شأنه شأن غيره من المؤيدين المعاصرين للديمقراطية التشاركية الذين كثيرًا ما يرجعون لمؤلفاته لاستلهام الأفكار، أن سلطة أي حاكم — التي زعم، شأنه شأن جروشيوس وهوبز وبوفندورف، أنها لا بد أن تكون مطلقة — تكتسب صفة الشرعية فقط إذا لعب كل المواطنين دورًا نشطًا بالكامل في إطارها. وهنا يكمن لب فكرته عن السيادة الشعبية التي تشكل علاقاتها، خاصةً بنموذجه المثالي عن الحرية في الدولة، حجر الأساس للمذهب السياسي الذي اشتهر به روسو منذ الاحتفاء به، وكذلك تشويهه، خلال مسار الثورة الفرنسية.

يعدُّ ربط روسو بين كلٍّ من الحرية والمساواة والسيادة عنصرًا أصيلًا بشكل مدهش في كتاباته، الأمر الذي يميز فلسفته عن فلسفة أفلاطون ومكيافيللي ومونتسكيو وغيرهم ممن انشغلوا مثله بالحرية السياسية لا الشخصية وحسب. وقبل رؤية روسو لمفهوم السيادة في «العقد الاجتماعي»، ارتبط هذا المفهوم من قِبَل مفسريه بفكرة القوة أو السلطة أو الإمبراطورية، وكان يرتبط بصفة عامة بسيادة الملوك على رعاياهم، أيًّا كانت الطريقة التي اكتسب بها الملوك تلك السيادة، لا بحرية المواطنين. وبالنسبة إلى بودين وهوبز تحديدًا — وهما أشهر أنصار السيادة المطلقة قبل روسو — كان مقابل كلمة سيادة، سواء الفرنسي souveraineté أو الإنجليزي sovereignty — المشتقان من العبارة اللاتينية summa potestas أو summum imperium، يشير إلى السلطة المهيمنة — أي المطلقة — للحاكم. أما بالنسبة إلى روسو، في المقابل، تعتبر فكرة السيادة بالأساس مبدأً للمساواة، التي يراها العنصر الخاضع للحكم، أو الرعايا أنفسهم، باعتبارها السلطة المطلقة، وترتبط هذه الفكرة بمفهومَيِ الإرادة أو الحق، بحسب تعريفه لهما، لا بالقوة أو السلطة؛ مبينًا مرة أخرى التمييز بين البُعْدَيْن الأخلاقي والطبيعي للأمور البشرية الذي دار حوله مؤلفه «خطاب عن اللامساواة»، والذي يتجلى بقدْر لا يقل وضوحًا، ولو أن أولوياته أمستِ الآن معكوسة، في «العقد الاجتماعي».
fig15
شكل ٤-٢: صفحة عنوان كتاب «العقد الاجتماعي» (أمستردام، ١٧٦٢).

وبوصفه للشعب بأكمله — الذي قوامه المواطنون، إن لم يكن السكان جميعًا — بأنه صاحب السيادة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل السادس)، سعى روسو علاوة على ذلك، شأنه شأن باين من بعده، إلى أن يقوم عامة الناس في كل أمة بالإدارة المطلقة لشئونهم العامة. ونادرًا ما وصف روسو سيادة الشعب هذه بأنها ضرب من «الديمقراطية»، ولم يصفها بذلك مطلقًا في «العقد الاجتماعي»، حيث إنه اعتبر الديمقراطية شكلًا لا للسيادة المباشرة بل للحكومة المباشرة؛ مما استدعى من الناس أن يظلوا في حالة تشاور دائم لتنفيذ السياسة العامة وإدارتها، على غرار ما يقوم به الموظفون الحكوميون أو البيروقراطيون الذين يعملون بدوام كامل، وبذلك جعلوا الدولة عرضة تحديدًا للفساد والحرب الأهلية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع). وعلى فرض أن ممارسة المواطنين لسيادتهم الشعبية كان مرجحًا جدًّا في الدول الصغيرة المنعزلة جغرافيًّا بحيث لا تتعرض لأي غزو خارجي، وهي التي وُزِّعَت ثرواتها بالتساوي بشكل أو بآخر بين أشخاص يُقدِّرون حريتهم، رأى روسو أن جزيرة كورسيكا قد تكون الدولة الوحيدة في أوروبا التي ما زالت مناسبة للتشريع الجديد (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل العاشر). ولكن حتى في الدول الكبرى، كان للناس لا المسئولين التنفيذيين الذين يختارونهم السلطة العليا، وهو الأمر الذي حاول أن يضمنه لبولندا، عن طريق الانتخابات الدورية للنواب المفوضين في مجلسهم النيابي الوطني، عندما كُلف بإعداد دستور لحكومتهم المرتقبة. وفي كل مكان كان فيه للناس السيادة لا بد أنه كانت هناك مجالس دورية لم يكن بالإمكان حلها، هكذا حاجَّ روسو في «العقد الاجتماعي» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الثالث عشر)، مبينًا في أطول فصول عمله عن المجالس الشعبية الرومانية (العقد الاجتماعي، الكتاب الرابع، الفصل الرابع) كيف أكدت هذه المجالس، التي يشارك فيها كل المواطنين، على أنه تحت مظلة جمهوريتهم كان لأهل روما بالفعل السيادة على بلادهم، قانونًا وواقعًا على حد سواء. وأضاف روسو (العقد الاجتماعي، الباب الثالث، الفصل الخامس عشر) أن ممثلي الشعب، الذين استأمنهم الناس على مناصبهم المقدسة، لم يسعَوْا في تلك الدولة أبدًا لاغتصاب سلطات الناس لأنفسهم الذين باستطاعتهم إذا اقتضت الضرورة أن يقرروا الحكم مباشرة بالاستفتاء العام. في وجود المُمَثَّل، لا يمكن أن يكون هناك تمثيل؛ وذلك لأنه «لحظة أن يجتمع الناس قانونًا كصاحب سيادة، تتعطل الولاية القضائية كلها للحكومة» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع عشر). ورغم ذلك، فما لم يُسارِع الناس إلى مجالسهم بحماس في مثل هذه الظروف، وما لم يَخْدِم كلٌّ منهم بلدَه بشخصه لا بماله، فستضيع الدولة. لم يُبدِ أي مفكر سياسي قبل روسو قط مثل هذا الإخلاص لفكرة التعبير الذاتي الجمعي أو الحكم الذاتي الشعبي. ورغم أنه افترض أنه من الممكن أن يتعرض العامة للخداع أو التضليل، فقد آمن بأن السيادة الشعبية نفسها هي الإجراء الوقائي الوحيد الممكن من الاستبداد. فقط عندما يشارك الناس جمعيهم في التشريع يمكنهم ردع إساءة استخدام السلطة التي قد يسعى البعض لممارستها. وإذ تظاهرت السلطات الحاكمة التي أوردها جروشيوس وهوبز وبوفندورف وتلامذتهم بتمثيل المواطنين باعتبارها ممثِّلة لهم، اغتصَبَتْ حريات الحكام الحقيقيين لكل دولة الذين عكسوا دورهم، إذ قاموا به بأنفسهم باعتبارهم بُدلاء لأسيادهم، وبالتالي أمسَوْا صانعي إخضاع الناس وتبعيتهم.

كان روسو قد وضع من قبلُ أطروحة مماثلة في سياق الفنون عندما دعا في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» في عام ١٧٥٨، ردًّا على اقتراح إقامة مسرح في جنيف، وهو ما رآه روسو مفسدة لحرية أبناء بلده، إلى إقامة احتفالات عامة وأخوية للناس كبديل للعروض المسرحية الاحترافية التي يقدمها الممثلون، بحيث تعج جمهوريته الأم بالكامل، لا في جانب واحد من جنباتها وحسب، بالمواكب الفنية والفنانين، وذلك على غرار ما كان يشاهده في شبابه. في العالم القديم، وخاصة بين شعب أسبرطة، زعم روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح) أن «المواطنين، الذين كانوا يجتمعون باستمرار، كانوا يهتمون بشدة بوسائل الترفيه التي كانت الشغل الشاغل للدولة، والألعاب التي لم يتوقفوا عن ممارستها قط إلا للخروج للحرب.» في العالم الحديث، فُقدت روح المشاركة العامة هذه، وضاعت معها حرية الناس. ومن خلال الفنون والعلوم والدين، وبالقدْر نفسه السياسة، خُدِّرَ الناس وصاروا سلبيين، بحسب ظنه، وأُخرجوا من قلب الحياة الثقافية، وسِيقوا لأطرافها لاهثين وراء عروضها. وإذ تحولنا من عناصر فاعلة فيما نقوم به من أفعال إلى شُهود على ما يحدث لنا، فقد صرنا جمهورًا صامتًا، وتعلمنا الرضوخ والجبن وكأننا مشاهدون لقصة كنا من قبلُ شخصياتها الرئيسية. ولقد تعلم الممثلون الذين لعبوا أدوارنا؛ أي ملوكنا وبرلماناتنا وغير ذلك من رءوس الدولة، أن الرعايا يجب عزلُهم عن الحكم والسياسة. وذكر روسو في الفصل الأخير من «مقالة عن أصل اللغات» حيث فصَّلَ هذه الأفكار أن «هذا هو المبدأ الأول في السياسة الحديثة» (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولا شك أن شدة انجذاب روسو لما تصور أنه نموذج مثالي قديم للمشاركة العامة جعلتْه يؤمن بأنَّ المواطنين ينبغي ألَّا يُشجَّعوا بالمرة على إعلاء طموحاتهم الخاصة على مصلحة الدولة. وينبغي أن تكون المشاركة في المجلس التشريعي للدولة إجبارية، بحسب ظن روسو، وهو الاعتقاد الذي ربما استند إليه في زعمه، في الفصل السابع من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي»، بأن «كل مَن يرفض طاعة الإرادة العامة … يجب أن يُجْبَر على أن يكون حرًّا.» ومعنى هذه الملاحظة الغريبة، التي تعرضتْ لهجوم شديد من جانب نقاد روسو الليبراليين وذلك عن حق لما لها من آثار سيئة محتملة، غامض، رغم أنه يبدو وكأنه يتبنى فكرة أن القانون يُجبِر رعايا الدولة على التصرف بما يتفق مع ضمائرهم وإرادتهم كمواطنين، ومن ثم مع حريتهم الشخصية. ومع ذلك، فلا يبدو أن روسو في أي موضع آخر في كتاباته السياسية كان غافلًا جدًّا هكذا عن الفارق، الذي يصر عليه في مواضع أخرى، بين القوة والحق.

كانت «الإرادة العامة» الاصطلاح الذي استخدمه روسو لممارسة السيادة الشعبية، والذي استخدمه لأول مرة في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» عام ١٧٥٥ المنشور مع مقالة ديدرو عن «الحق الطبيعي» في «الموسوعة»، حيث ورد هذا الاصطلاح أيضًا، الذي استشهد به روسو بالتالي كإشارة مرجعية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، بعد أن اطلع على مخطوطة نص صاحبه. ويرجع الفضل في المقام الأول لمالبرانش في أن هذا الاصطلاح كان له بعض الرواج بشكل أساسي في الكتابات الفلسفية واللاهوتية الفرنسية بداية من منتصف القرن السابع عشر، وقد استخدمه ديدرو في العديد من إسهاماته في «الموسوعة» التي كان محررًا لها أيضًا. لكن روسو، أكثر من أي شخصية بارزة أخرى قبله أو بعده، هو الذي أخذه وأعطاه معنًى جديدًا خاصًّا به، ذا صبغة سياسية. وفي «خطاب عن الاقتصاد السياسي»، عَرَّفَ روسو هذا الاصطلاح باعتباره إرادة الدولة ككل، التي تُعدُّ مصدَرَ قوانينها ومعيارها الخاص بالعدالة. وفي «العقد الاجتماعي»، قال روسو إن هذا الاصطلاح يشير إلى الصالح العام أو المصلحة العامة التي يتعين على الدولة تحقيقها، وإلى الإرادة الفردية لكل مواطن التي يجب أن تحقق هذا الصالح العام، الذي كثيرًا ما يتعارض مع المصلحة الخاصة للمواطن نفسه كإنسان أو كعضو بمؤسسات أخرى داخل الدولة. زعم روسو أن تكوُّن جمعيات جزئية على حساب الجمعية العامة للشعب يمثل دومًا خطرًا جسيمًا على تحقيق الإرادة العامة لأية جمهورية، مستشهدًا كدليل على ذلك (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الثالث) بفقرة من كتاب «تاريخ فلورنسا» لمكيافيللي. ولذلك كان مصرًّا على أن الإرادة العامة، في تركيزها على الصالح العام، ينبغي ألَّا يُخلط بينها وبين مصلحة الجميع التي هي وحسب مجموع المصالح الشخصية ومن ثم المتعارضة بضرورة الحال، والتي خلق تفوقها عبر عدد الأصوات وحسب جمعيات جزئية غير مستقرة، وجمعيات سرية وشقاقًا سياسيًّا. وأحيانًا ما كان يقترح روسو أنه لتحقيق الإرادة العامة ينبغي ألا يكون هناك أية جمعيات جزئية من أي نوع بالدولة، لكنه في الغالب كان يفترض أن مثل هذه الجمعيات لا مناص منها، وينبغي حقًّا زيادة عددها حتى يقل خطر الواحد منها قدر الإمكان، بحيث لا تستثنيها الإرادة العامة بقدر ما تعارضها. وفي إشارة لفقرة في مُؤَلَّف الماركيز دارجنسون عن حكومة فرنسا الذي لم يُنشر حتى عام ١٧٦٤ لكنه اطلع على مخطوطته، لاحظ روسو أنه «إذا لم تكن هناك أية مصالح مختلفة، فإنه لا يكاد يشعر بالمصلحة المشتركة التي لا تجد عائقًا مطلقًا … ولن تمسي السياسة فنًّا فيما بعد» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الثالث).

بما أن عدد الأصوات كان ضروريًّا لإثبات الإرادة العامة وكذلك إرادة الجميع (العقد الاجتماعي، الكتاب الرابع، الفصل الثاني)، فمن غير الواضح كيف تخيل روسو أن المواطنين سيستطيعون التمييز بين الإرادتين، ولا سيما في ضوء زعمه بأن الإرادة العامة يمكن حسابها باعتبارها مجموع فوارق ما هو موجب وما هو سالب لإرادة الجميع. لكن الصدام بين الإرادة العامة والخاصة أمسى بعد ذلك محوريًّا لمحاجته، وتجلَّى أيما تجلٍّ في روايته للتوتر الذي يحدثه في عقل كل مواطن، والذي يجعله يفرق بين ما هو مفيد له وما هو مفيد للمجتمع (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل السابع). كثيرًا ما شجب نُقاد روسو الليبراليون فكرته عن الإرادة العامة نظرًا لنظرتها الجماعية الواضحة، ولكن في «العقد الاجتماعي»، من الواضح أن هذه الفكرة كانت مصممة لتفادي الترسيخ الاجتماعي للأفراد، لا لتحقيقه. ولأننا فقدنا الكثير من روحنا العامة، كانت الإرادة العامة لكل شخص في العالم المعاصر أضعف بكثير من إرادته الخاصة، بحسب اعتقاد روسو، الذي أشار إلى أنه يمكن تقوية تلك الإرادة أو إحياؤها لا بالترديد غير المتروِّي لكل مواطن لما يقوله جيرانه في أي تجمع عام، بل بالعكس تمامًا؛ أي بتعبير جميع الناس عن آرائهم كلٍّ على حِدَة، دون أي تواصل فيما بينهم من شأنه جعل أحكامهم المنفصلة متحيزة لمصلحة المجموعة هذه أو تلك. وقد اعترض جون ستيوارت ميل لاحقًا على الاقتراع السري هذا، ولربما وافق روسو أيضًا على أن نواب الشعب، حيثما تقتضي الضرورة، ينبغي أن يكونوا مسئولين دومًا أمام ناخبيهم. ولكن، في الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء العام أو التجمع العام لجميع المواطنين، ولضمان أن عدد الأصوات يضارع عدد الأفراد، يجب أن يتصرف كل مواطن دون اعتبار للآخرين، بحسب اعتقاد روسو، بحيث يسترشد بإرادته العامة كعامل مستقل؛ وبذلك ينزل على رغبة نفسه دون سواها. إن تمييز روسو، فيما يختص بالسياسة الدولية، بين «المصلحة الحقيقية» المتصورة بشكل غير واضح للدولة في إرساء سلام اتحادي تحت لواء القانون الدولي من ناحية و«المصلحة الظاهرة» المستمسك بها بإصرار في الحفاظ على استقلالها المطلق من ناحية أخرى، صيغ في السابق بألفاظ شبيهة في عمله «الحكم على مشروع السلام للأب دي سان-بيير» الذي خُطَّ حوالي عام ١٧٥٦ (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ روسو عن العلاقات الدولية).

بعد أن فَصَّلَ روسو «مبادئ الحق السياسي» (وهو العنوان الفرعي ﻟ «العقد الاجتماعي») في الكتابين الأول والثاني، انتقل بعد ذلك إلى تطبيق تلك المبادئ، عاكسًا أولوياته بين الجانبين الفعلي والأخلاقي للدولة، لكي يتعاطى مع سلطتها التنفيذية بدلًا من سلطتها التشريعية، مع الحكومة بدلًا من السيادة الشعبية، ومع القوة بدلًا من الحق، كما أوضح في الفصل الأول من الكتاب الثالث. فعلى العكس من السيادة التي لا يمكن تمثيلها مطلقًا، تتشكل الحكومة — التي وصفها روسو باعتبارها «كيانًا وسيطًا» بين المواطنين بصفتهم السيادية وكَرَعَايَا يحكمهم القانون — دومًا من ممثلين للشعب. وبينما تكون السيادة عامة دومًا في تشريعاتها، فإن القوة التنفيذية للحكومة تُمارَس فقط فيما يخص حالات بعينها (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الأول). وبينما تتخذ السيادة شكلًا واحدًا وحسب، تعتمد الحكومة على الظروف؛ ومن ثم فهي تتخذ عدة أشكال مختلفة مناسبة لسد احتياجات خاصة. ومؤسساتها محلية ومشروطة ومحددة.

إن العامل الأكثر محورية الذي يحدد طبيعة الحكومات التي يتعين أن تؤسسها الدول هو سكانها، حيث تتطلب الدول ذات الكثافة السكانية العالية الحكومات الأكثر تركيزًا، بينما تتطلب الدول ذات الكثافات السكانية الأقل الحكومات الأكثر انتشارًا، تبعًا للتناسب العكسي بين السلطات الحكومية، من ناحية، ونصيب كل مواطن من السيادة من ناحية أخرى، بحسب زعم روسو في الفصلين الأول والثاني من الكتاب الثالث من «العقد الاجتماعي». وتوجهه هذه القاعدة نحو إيراد التصنيف القديم للحكومات من حيث عدد القائمين عليها أو مسئوليها — أي من حيث كونها تتمثل في شخص واحد أو عدد قليل من الأشخاص أو عدد كبير من الأشخاص، أو الملكية والأرستقراطية والديمقراطية (أو نظام الحكم) على التوالي — الذي اشتهر بوصفه أرسطو، وذلك في الكتاب الثالث من كتابه «السياسة». وبالمثل على نفس خُطَا أرسطو، وجَّه روسو اهتمامه للبناء الطبقي للدول، وتوزيع الثروات الأنسب لكل شكل من أشكال الحكومات، مشيرًا تحديدًا إلى المساواة في المكانة والثروة الأنسب للديمقراطية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع) وللنبلاء والطبقات الوسيطة ما بين الأمير والرعايا في الحكومة الملكية. أشار روسو إلى أنه في دولة كبيرة، ساعدت القوى المتضادة هذه على تقويض السلطة الملكية التي قد يبدو تركزها في يد شخص واحد كميزتها الرئيسية فقط عندما تُمارس بما يخدم الصالح العام، وهو الوضع الذي ظنه روسو نادرًا.

زعم بودين وبوسويه وغيرهما من فلاسفة الحكم الملكي المطلق أنَّ تجانس الدولة يمكن الحفاظ عليه بأفضل ما يكون تحت سلطة القوة المتفوقة بشكل متفرد لشخص واحد، لكن روسو لم يكن مقتنعًا بمثل هذه المزاعم، حيث حاجَّ، بالمقابلة بفكرته عن السيادة، أنه من الخطأ افتراض أن «الأمير هو كل ما ينبغي أن يكونه» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل السادس). فالحكم الملكي في شكلَيْه الانتخابي والوراثي ليس عرضة بشكل خاص وحسب إلى أزمات التعاقب على الحكم، لكنه أيضًا عرضة لدسائس المرتشين وانعدام الكفاءة، بحسب زعم روسو، في ظل مكائد ضعاف المواهب أصحاب الطموحات العريضة. في «الحكم على مشروع السلام للأب دي سان-بيير»، صبَّ روسو احتقاره أيضًا على الخطط الأميرية للتوسع الإقليمي سعيًا لإقامة إمبراطورية وحيازة المال، مثنيًا على حكمة هنري الرابع ملك فرنسا الذي كان بروتستانتيًّا في فترة من الفترات، على سبيل المقابلة، وجهوده الدءوبة من أجل إنشاء كومنولث مسيحي دولي قرب نهاية القرن السادس عشر. لكنه أشار إلى أن سان-بيير من المستبعد أن يستطيع النجاح في تكرار هذه الجهود بعدها بمائتي عام، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى قدراته الأقل بكثير، وبشكل أساسي للتغير المهول الذي طرأ على المؤسسات الدبلوماسية والعسكرية لدرجة أنه ما من اتحاد كونفدرالي للدول الأوروبية كان يمكن تأسيسه إلَّا عن طريق الثورات (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ روسو عن العلاقات الدولية). وافترض هوبز أن الحكومة الملكية أفضل عمومًا من غيرها من أشكال الحكومات نظرًا للتماهي بين الصالح العام والخاص الذي تضمنه. ورغم ذلك، كان روسو مقتنعًا بقدر أكبر بكثير بتقييم مكيافيللي أن «الشعب أكثر تعقلًا واتزانًا، ويتمتع بحكم أفضل وأكثر حكمة من الأمير» (نقاشات، الباب الأول). وشأنه شأن مكيافيللي، آمن روسو بأن الحكومة الجمهورية أفضل من الملكية، وحتى في «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن كتاب «الأمير» لمكيافيللي، في تصويره للحكم البغيض حقًّا، كان يُراد أن يكون «دليلًا للجمهوريين» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل السادس)، مخفيًا عشق مؤلِّفه العميق للحرية الذي كان يشاركه روسو إياه.

في ضوء تلك الانتقادات الحادة، قد يبدو روسو وكأنه كان يرى أن الديمقراطية الشكل الأفضل للحكم، لكنه كان في واقع الأمر مُصِرًّا على أن الديمقراطية بالقدْر نفسه خَطِرة؛ وذلك غالبًا لأنها بطبيعتها تؤدي إلى الخلط ما بين صاحب السيادة الذي هو الشعب والحكومة في الدولة. ويجب ألا يقوم واضعو القوانين أنفسهم بتنفيذها، بحسب زعم روسو (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع)؛ لأن ذلك من شأنه أن يجعل صاحب السيادة يلهيه تنفيذ الجزئيات عن المقاصد العامة، ويخلط ما بين الصالح الخاص والعام بقدْر أكثر خبثًا مما يحدث تحت الحكم الملكيِّ. وزعم روسو أنه «عندما يحدث ذلك، تفسد الدولة من الداخل، ويستحيل إصلاحها.» ونظرًا «لفضيلة التمييز بين صاحب السيادة والحكومة» التي تتمتع بها الأرستقراطية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الخامس)، بدا أن روسو ميَّال أكثر إليها، أو بالأحرى الأرستقراطية الانتخابية، بما أنه كان يعتبر الأرستقراطية الطبيعية لا تناسب سوى الشعوب البدائية، وكان يرى أن الأرستقراطية الوراثية «أسوأ أنواع الحكومات على الإطلاق». ذهب روسو إلى أن الأرستقراطية الانتخابية لا تعتمد على أمانة كل مواطن وحكمته؛ ولذلك فهي بحاجة إلى فضائل أقل من الحكومة الديمقراطية. ورغم أنها يمكن أن تنجح فقط إذا وُزِّعَتِ الثروات بشيء من المساواة والاعتدال، فإن حقيقة أن المساواة الصارمة لا يمكن تحقيقها عمومًا يُناسِب هذا النوع من الحكم، حيث يُتِيح تكليف الإدارة اليومية للشئون العامة لأشخاص ذوي مواهب مناسبة تسمح لهم مواردهم المستقلة بتكريس كل وقتهم للدولة باتزان مالي. افترض روسو أنه تحت مظلة الأرستقراطية الانتخابية يستطيع أكثر المواطنين استقامة وذكاء وخبرة على الصعيد السياسي أن يضمنوا استقرار الدولة عندما يكونون أعلى مسئوليها وموظفيها الحكوميين.

اعتقد روسو هنا أن أهم حقيقية تتعلق بكل أشكال الحكومات المتنوعة تتمثل في اختلافها الجوهري عن صاحب السيادة في كل أمة. فإذا عجز الناس عن وضع وتنفيذ قوانينهم بشكل ملائم في الديمقراطية، فلن يستطيع حكامهم، في ظل الملكية أو الأرستقراطية على حد سواء، أن يحكموا بالنيابة عنهم. لقد استشعر روسو خطر إساءة استغلال السلطات التي تنتمي للشعب وحسب من قِبَل الحكومة بالقوة نفسها التي استشعرها لوك من قَبْله، ومن السائد جدًّا أن تميل الحكومات في الأعم الأغلب لإحلال إرادتها الخاصة محل الإرادة العامة لصاحب السيادة، الأمر الذي عدَّه روسو ضربًا من الاستبداد. فالشعب الإنجليزي لا يمارس الحرية إلَّا أثناء انتخابه لأعضاء البرلمان، بحسب ملاحظة روسو في الفصل الخامس عشر، بالكتاب الثالث من «العقد الاجتماعي»، وفي الفصل السابع من مقالته «حكومة بولندا». ففي تفويضهم الخاطئ لسلطتهم التشريعية كصاحب سيادة لهيئة عامة كان ينبغي أن تقوم على خدمتهم وحسب باعتبارها سلطة تنفيذية، أثبتوا أنهم غير مؤهلين للحرية التي كان حريًّا بهم ممارستُها بأنفسهم مباشرة.

وأيضًا، في جنيف، أمست السلطة التنفيذية (المُمَثَّلَة في المجلس الصغير) تدريجيًّا أكثر هيمنة؛ إذ انتزعتْ سلطاتٍ كان من المفترض أنها تنتمي للمجلس العام للمواطنين (المُمَثَّل في المجلس العام)، لدرجة أنها منعتْ حتى اجتماعَ هذا المجلس صاحب السيادة. وفي ظل إقصاء القوة التنفيذية لبلدِهِ الأم للإرادة الشعبية، فَسَدَ الحق المطلق وتحول إلى قوة مطلقة. قال روسو تعليقًا على هذه التطورات في «رسائل من الجبل»، مستعينًا هنا بلفظ «الديمقراطية» إشارة إلى صاحب السيادة إنه «حيثما تسود القوة وحدها، تتفكك الدولة. وهكذا … تنهار الدول الديمقراطية كلها في نهاية المطاف» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). وإذ خصص روسو «خطاب عن اللامساواة» لجمهورية جنيف التي طبَّقت مُثُلًا للسيادة الشعبية أكثر عداءً للحكومة الاستبدادية من أي دستور آخر لدولة حديثة، شهد روسو في حياته فساد المبادئ التي ربط بها هويته الشخصية. ولقد حَوَّلَت فكرة التجارة المسالِمة التي روَّج لها دُعاة التنوير في جنيف نظامًا ديمقراطيًّا عادلًا إلى حكم أقلية حَرَمَ أبناءَ بلدِه من حقوقهم المدنية؛ ولم تكن التحولات الطارئة على الطبيعة البشرية كتلك التي وصفها روسو من قبلُ في تاريخه التخميني للبشرية في أي مكان آخر قَطَنَه في العالم أكثر تجلِّيًا بشكل واضح في السياق السياسي كما تجلت في بلده.

ولقد سعى المعلِّقون الأوائل مرارًا وتكرارًا لتقديم ضمانات ضد تهديدات الاستبداد باستدعاء مبادئ خاصة بالقانون الطبيعي يمكن أن يخالفها الحكام فقط على حساب أرواحهم أو حتى حياتهم، مخاطرين بتعرضهم للقتل أو اندلاع ثورات ضدهم. ومن بين معاصري روسو، فصَّل مونتسكيو مذهبًا لحكم القانون، الذي ظهر أنه كان له تأثير عميق في الفكر الليبرالي الغربي، والذي مَيَّزَ بين سلطة الملوك ورغبات المستبدين في سياقه، وعزز أيضًا فكرته، فيما يتعلق بإنجلترا، عن النظام القضائي المستقل. لكن روسو، الذي اتضح أن إقامته القصيرة في إنجلترا بعد صدور «العقد الاجتماعي» بسنوات قلائل مرهقة لاستقلاله الشخصي إرهاق البرلمان للإنجليز بحسب رأيه، وجد مفهوم مونتسكيو للقانون غير مقنع أيضًا. وعلى العكس من النقاد الذين سيخشَوْن لاحقًا سوء استغلال سلطات السيادة التي رسمها روسو، فقد آمن بأن الممارسة الحذرة لهذه السلطات من قِبَل الناس أنفسهم هي الضمانة الوحيدة ضد الاستبداد. وبموجب مبادئ فلسفته السياسية، ما من قوة يمكن ممارستها ضد أشخاص بعينهم في أي دولة من قِبَل صاحب السيادة نفسه المُقيَّد بطبيعته بحيث لا يقدر على تنفيذ إرادته الخاصة. فهذه المسئولية كانت منوطة بالحكومة وحدها. ولذا فإن الحرية لا يحميها وجود قانون طبيعي شامل أو كيان قضائي مستقل داخل الحكومة، بل يكفل لها الحماية الفصْلُ البنيوي للسلطات، المُتَصَوَّر بشكل مختلف عن منظور مونتسكيو، بين الحكومة والسيادة.

في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن جروشيوس أعطى شرعية زائفة للعبودية والاستبداد بتقديمه حقيقة محضة على أنها دليل على الحق. وفي الكتاب الخامس من «إميل» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، حيث كرر هذا الادعاء، ادَّعى روسو أن مونتسكيو أخفق كذلك في تناول مبادئ الحق السياسي، واكتفى بدلًا من ذلك ﺑ «مناقشة الحق الإيجابي للحكومات القائمة». وأصرَّ روسو على أنه ما من شيء في عالم السياسة يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة أكثر من الحق؛ مما أشعل نزاعًا بين الفلاسفة والعلماء أدَّى إلى انقسام محبِّيه، وغيرهم، من تلامذة جروشيوس ومونتسكيو حتى يومنا هذا. لكن روسو في «العقد الاجتماعي» كان أيضًا توَّاقًا للتعاطي مع حقائق الحياة السياسية، وما يَدِين به لأسلوب مونتسكيو في تفسير تلك الحقائق كبير. فشأنه شأن مونتسكيو، كان روسو معنيًّا بالتاريخ الطبيعي للحكومات وتحليل أمراضها، وبالطريقة التي نشأتْ بها الدول وتوسعتْ وتفككتْ؛ وذلك أن «الأمة كجسم سياسي»، بحسب زعمه، «شأنها شأن جسد الإنسان، تبدأ في الاحتضار فَوْرَ ميلادها، وتحمل في طياتها دواعي انهيارها» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصلان العاشر والحادي عشر). وأقر روسو، سائرًا على خُطا مونتسكيو أيضًا، بأثر العوامل المادية على طبيعة الحكومة ودساتير الدول، ملاحظًا، بالإشارة إلى الكتاب الرابع عشر من مؤلف مونتسكيو «روح القوانين»، أن «الحرية ليست ثمرة كل الأقاليم»؛ ومن ثَمَّ فهي ليستْ في متناول كل الشعوب (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الثامن). وبينما أكد على مدى إمكانية تفسير أخلاق الأشخاص في المجتمع المدني بالرجوع إلى القوانين والعوامل السياسية، فقد شدَّد بالقدْر نفسِه تقريبًا على الطريقة التي تحدد بها الأخلاق القوانين الإيجابية، واصفًا قُوَى العادة والتقليد والإيمان، المحفورة، ليس على الرخام أو النحاس، بل في قلوب المواطنين وكأنها نوع رابع من القوانين (إضافةً إلى القوانين السياسية والمدنية والجنائية)، معتبرها «النوعَ الأهم على الإطلاق منها جميعًا» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الثاني عشر). وفي «إميل»، أثنى روسو على مؤلف «روح القوانين» تحديدًا لتناوله علاقة الأخلاق بالحكومة (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). ورغم الاختلافات الفكرية بين روسو ومونتسكيو، فقد تأثر روسو كثيرًا برواية مونتسكيو عن القيود الأخلاقية على التشريع التي تشكل اتجاهه، وتصبغه بروحها. وبينما تدبَّر في القوانين بحسب ما قد تكون عليه، فقد انشغل في «العقد الاجتماعي»، كما تجلَّى في عبارته الأولى، بتناول البشر كما هم. ورغم أن حقائق السياسة ومعاييرها شيئان مختلفان، فلا بد أن يتناولهما معًا حتى يستطيع تقييم ما هو ممكن في الشئون البشرية، وكذلك ما هو حق. وشأنه شأن مونتسكيو، محَّص روسو الدساتير من أسسها، في ضوء الأعراف الاجتماعية والتقاليد الشعبية التي تُعزِّزها، وبالقدْر نفسه من قمتها في سياق المبادئ الأولى.

إن حساسية روسو الواضحة في «العقد الاجتماعي» تجاه العادات المحلية والتقاليد الوطنية، إلى جانب تعلقه بمعايير ما هو حق دومًا، جعلاه يحظَى بمعجبين في شتى أرجاء أوروبا، وخاصة في الدول التي تكافح الاستعمار الأجنبي، أو التي تسعى للحفاظ على حريتها الطبيعية خلال الحروب الأهلية بعد أن كانت فريسة لقوًى خارجية. وعندما دعا البَطَل الكورسيكي ماتيو بوتافوكو روسو عام ١٧٦٤ ليكون المشرِّع الخاص بدولة حرة، التي قال روسو عنها بالفعل إنها مناسبة بشكل متفرد للتشريع، وعندما دعاه الكونت ميشيل فيلهورسكي عام ١٧٧٠ للتعليق على جهود اتحاد بار البولندي لتحرير بولندا من استبداد روسيا، استجاب روسو في كلتا الحالتين بحماس. وإذ كان حريصًا دومًا على ألا تبدو كتاباته مثيرة للقلاقل سياسيًّا، تردد روسو في أخذ زمام المبادرة في الأزمة السياسية التي حلت بمدينته الأم في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر، حيث بدا كارهًا لتقديم الكثير من الدعم للجمهوريين الراديكاليين المحبطين من بين أبناء بلده، الذين احتشدوا رغم ذلك في نهاية المطاف للدفاع عنه ضد الحكومة التي حظرتْ أعمالَه. اعترف روسو لتلميذه وكاتب سيرته برناردين دي سان-بيير قائلًا: «إنني أتمتع بطبيعة جريئة، ولكن شخصيتي مترددة.» ولمَّا لم يكن جسورًا قط لتجاوز أي عراقيل، شأنه شأن باكونين، أو لتوجيه مصير الأحزاب الثورية من غرف اللجان، شأنه شأن ماركس، رفض روسو توريط نفسه مباشرة في الصراعات السياسية في عصره، على الأقل، كما ذكر ذات مرة في رسالة أرسلها إلى كونتيسة وارتنسليبين؛ لأن «حرية البشرية بأسرها لا تبرر إراقة دم إنسان واحد» (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم ٥٤٥٠). لكنَّ وضْعَ دساتير بناءً على خيال مدني خصب، وهي ما ليست بحاجة لوضعها محل التجربة السياسية، كان بالنسبة إليه مسألة أخرى، أكثر جاذبية.

بالنسبة إلى الكورسيكيين، الذين وضع لهم في عمله «المشروع الدستوري» دستورًا لبلدهم، أوصى روسو بتعزيز اقتصادهم القائم على الزراعة بشكل أساسي لأجل تحقيق الاكتفاء الذاتي وليس تحقيق فائض، ومشاركة أراضيهم ومحاصيلهم فيما بينهم والتمتع بهما بالتساوي وباقتصاد قدْر الإمكان، وجمع ضرائبها العامة المستحقة بشكل عيني أو عملي بدلًا من الشكل النقدي. وبالنسبة للبولنديين الذين أثنى روسو على عشقهم للحرية، أوصى بخطة للتربية تشمل الألعاب والمِنَح الدراسية الوطنية، والاكتفاء بالمربين البولنديين؛ من أجل جعل الطلاب «أبناء الدولة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، إضافة إلى خطة للتشريع تتبنى وجود التزام شديد من جانب أعضاء المجلس النيابي الوطني الواحد تجاه ناخبيهم. يشير كل نص من النصين أو يُلمح إلى أفكار سبق أن أعرب عنها روسو في «العقد الاجتماعي»، وعملُه «حكومة بولندا» يعرض تحديدًا مقابلات عديدة بين المجلسين النيابيين البولندي والإنجليزي، وهي التي تأتي دائمًا في غير صالح مجلس العموم الإنجليزي الذي أثبت إقصاؤه عام ١٧٦٤ حتى لشخص مثل جون ويلكس، كما هو موضح هنا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مرة أخرى مدى السيطرة المحدودة التي كان يُمارِسها الشعب الإنجليزي على برلمانه.

fig16
شكل ٤-٣: صفحة العنوان لكتاب «حكومة بولندا» (١٧٨٢).

لم يُنشَر أيٌّ من هذين العملين أو يَنتَشِران على نطاق واسع في حياة روسو؛ ولذا لم يكن من الممكن إلقاء اللوم عليه بأي حال لاستحواذ فرنسا الكارثي على كورسيكا (في عام ١٧٦٩، وهو العام الذي وُلد فيه نابليون في أجاكسيو) أو التقسيم الأول لبولندا (في ١٧٧٢)، في كلتا الحالتين مباشرة بعد أن شرع في الدفاع الدستوري عن حريات مواطني الدولتين. ولا يمكن أن يكون هناك سبب وجيه لمشاركته الهاجس، الذي استحوذ عليه في لحظة من لحظات جنون الاضطهاد الشديدة، بأن الهدف من غزو كورسيكا النيل منه. لكن لعله وبعض أنصاره المعاصرين له، أخطئوا؛ إذ افترضوا أن أفكاره السياسية كمُشَرِّع للدول الجديدة لم يكن ليصبح لها أيُّ تداعيات ثورية. وعلى فرْض أن البشر يجب التعاطي معهم دومًا كما هم، حاجَّ روسو رغم ذلك في «العقد الاجتماعي»، كما فعل من قبل بالضبط في «خطاب عن اللامساواة»، بأن الطبيعة البشرية يمكن أن تتغير. في الفصل الذي يتناول فيه المُشَرِّع (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل السابع)، ذكر روسو أن مهمة مثل هذا الشخص المميز، الذي يُعَدُّ المؤسس الحقيقي للأمة أو الدِّين، تتلخص في تحويل الأشخاص المنعزلين إلى أجزاء من كيان أكبر منهم بكثير يستقي منه المواطنون بعدئذٍ حياتهم ووجودهم. واقترح روسو أن ليكرجوس من بين القدماء، وكالفين من بين المعاصرين ينطبق عليهما توصيف المشرع، مضيفًا إليهما النبيَّ مُوسَى بينَ اليهود ونوما بين الرومان وذلك في الفصل الثاني من عمله «حكومة بولندا». شغل كل من هؤلاء الرموز مكانة استثنائية في الدولة، على ما يبدو بوازع من وحْيٍ رباني، مثل الملك الفيلسوف من وجهة نظر أفلاطون أو الأفراد التاريخيين العالميين بحسب هيجل، ووجهوا الجهال والحيارى نحو فجْر جديد لم يكن باستطاعتهم تخيله دون عون خارجي. وفور وصولهم إلى الأرض الموعودة سياسيًّا، لم يضطلع المشرعون بأي جزء آخر من شئونها، كما لمَّح روسو بالفعل في «خطاب عن فضيلة البطولية» عام ١٧٥١ (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، الذي خطه متأثرًا بأفكار استلهمها من كتاب «المنافع» لشيشرون في محاولة للحصول على جائزة أدبية أخرى تقدمها أكاديمية كورسيكا، لكنه تخلَّى عنه لاحقًا. لم تكن وظيفة المشرعين ممارسة الحكم، بل تعزيز تمجيد كل من العقل والعمل للمصلحة العامة بين المواطنين بشكل من أشكال الإغواء السامي، بحسب زعم روسو. إنهم يتظاهرون بأنهم مفسرون للكلمة الإلهية، ويحثون دون إقناع. وهم لا ينتمون للحكومة ولا لصاحب السيادة. لكن شأنهم شأن بروميثيوس؛ إذ أهدى البشرية النار، فهم يجعلون التحول الأخلاقي للبشر ممكنًا. إن مثل هذا المجاز، الذي أعاد نيتشه الكاره لروسو صياغته، سيأخذ ليس شكلَ التوجيهِ وحسبُ، بل الطاقة والقوة الإبداعيتين؛ حيث سينتقل إلى مجال يتجاوز معايير الخير والشر المبتذلة للحضارة.

في «العقد الاجتماعي»، قُدِّرَ لروسو نفسه أن يُلهِم المشرعين المستقبليين في أواخر القرن الثامن عشر. ففي الفصل الخامس عشر من الكتاب الثالث، لاحظ روسو أن ثمة مؤسستين: المؤسسة المالية والمؤسسة النيابية، كانتا مجهولتين للبشر البدائيين الذين لم تكن لديهم حتى اصطلاحات للتعبير عن مثل هذه الأفكار. ولقد أدت الأولى، التي سماها «كلمة العبودية» وشجبها أيضًا باعتبارها بدعة حديثة في كل من عملَيْه «دستور كورسيكا» و«حكومة بولندا»، إلى نشأة الإلزام بدفْع بعض أموالهم — تلك الآفة المهيمنة الناجمة عن المجتمع التجاري، والتي انتقدها بالمثل في «مقالة عن أصل اللغات» — الذي يحث المواطنين على سداد الضرائب، حتى يمكن تعيين الجنود والنواب ليتسنَّى للمواطنين أنفسهم البقاء بالبيت. أما الثانية التي تمخضت عن فكرة الحكومة الإقطاعية عبر مفهومها الخاص بالسلطة المفوضة كما تتحقق في الأوامر المختلفة الصادرة من مجلس الطبقات العام، ومن بعد ذلك عبر الصلات التعاقدية التي وضع جروشيوس وتلامذته أفكارهم المتعلقة بالسيادة بناءً عليها، تُبعد بالقدر نفسه الأفراد في العالم الحديث عن واجباتهم العامة كأعضاء بالدولة، حيث إن ذاتها المشتركة أو هويتها المؤسسية تتخذ شكل «هيئة معنوية» لا تعدو كونها المواطنين أنفسهم يعملون بشكل جمعيٍّ، وذلك بحسب زعمه في الفصل السادس من الكتاب الأول، والفصل الرابع من الكتاب الثاني. إن الحرية المدنية، التي تقيدها وحسب الإرادة العامة، والحرية الأخلاقية، بحسب تجليها في استقلال المواطنين أو إذعانهم للقوانين التي يُلزِمون أنفسهم بها، في المقابل مبادئ عتيقة؛ فالأولى مبدأ روماني والثاني مبدأ يوناني، استبعد تعريفهما الذي أورده روسو في الفصل الثامن من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي» كلًّا من المؤسستين المالية والنيابية.

رغم سعي المشرعين القدماء إلى إقامة صلات من شأنها ربط المواطنين بدولتهم وبعضهم ببعض، فقوانين الأمم الحديثة تسعى فقط لإخضاع المواطنين للسلطة، وبذلك فإنها تُقصِي سعينا وراء الحرية من النطاق العام وتزجُّ به في النطاق الخاص. تساءل روسو في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» أين اليوم «التوافق بين المواطنين»؟ أين «الإخاء العام» (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح)؟ في «حكومة بولندا» بالمثل، دعا روسو الشباب البولنديين لإعادة إذكاء «روح المؤسسات القديمة» (الذي هو عنوان الفصل الثاني لهذا العمل) كي يعتادوا على «المساواة» و«الإخاء» (الفصل الرابع: الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، كمواطنين بدولة حرة حقًّا. وبينما كانت الحرية مرتبطة قبل ذلك بالمساواة والإخاء، دمرت المؤسسة النيابية الإخاء، وأهدرت المؤسسة المالية المساواة، بحسب ظن روسو، بحيث إنها أمستْ فعليًّا في العالم الحديث، بعد انقطاعها عن صلاتها القديمة، لا تعنِي شيئًا أكثر من السعي وراء المنافع الشخصية.

وبالربط بهذه الطريقة بين أفكار الحرية والمساواة والإخاء، قد يبدو أن روسو بشَّرَ بثورة فرنسية مرتقبة، حتى وإن كان يتحدث عن عالَم بائد. ويرجع جانب كبير من تقديره للحرية الجمهورية القديمة إلى مؤلَّف مكيافيللي «نقاشات»، لكن في أعماله أشعل هذا التقدير حماسًا جديدًا من جانبه، بما أنه على النقيض من مكيافيللي افترض أن الطبيعة البشرية كانت عرضة دائمًا للتغيير، وبينما تعرضت للفساد، كان بالإمكان رغم ذلك تحسينها، على الأقل نظريًّا. «لنستخلص من الشر نفسِه الدواءَ الذي ينبغي أن يُداويها»، هكذا صرَّح روسو في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «مخطوطة جنيف» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مضيفًا بعدها ببضع سنوات في الكتاب الثالث من «إميل» أننا «شارفنا على حالة الأزمة ودنونا من عصر الثورات.» وقال أيضًا: «أعتقد أنه من المستحيل أن تصمُد الممالك العظيمة لأوروبا لفترة أطول» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). لم يكن من المقصود الإعراب عن أي تحذير سياسي في هذا الزعم الذي أعلن عنه بقوة مماثلة غيره من رموز عصره الذين تمنَّوْا عدم حدوث ثورات في العالم المتحضر. لكن، إذا كان روسو نفسه قد تاقَ لمستقبل سياسي متغير بالكامل للبشرية، وفي الوقت نفسه لم يعلق آمالًا عريضة على ذلك، فإن مبادئ «العقد الاجتماعي» لاقت تقديرًا عظيمًا خلال مسار الثورة الفرنسية وكأنها شكلت الوصايا العشر لجمهورية فرنسا الجديدة.

ولقد أقر بذلك لوي سباستيان ميرسييه الذي يرجع عمله «روسو، كأحد أوائل كُتَّاب الثورة» إلى عام ١٧٩١، وكذلك بيرك الذي أدان في عمله «رسالة إلى عضو بالمجلس الوطني» في العام نفسه «سقراط المجنون» الذي ألْهَمَ إحياءً مدمرًا بالمرة لأخلاق البشر، والذي كان حينئذٍ مَثَّالو باريس يصوغون تماثيلهم تخليدًا لذكراه «بقدور الفقراء وأجراس الكنائس». إن النقاشات الثورية التي أفضت إلى تأسيس المجلس الوطني الفرنسي في يونيو ١٧٨٩ دارت بقدر كبير حول مسائل المساءلة العامة التي أصرَّ عليها روسو في «حكومة بولندا» لضمان شعور نواب البرلمان البولندي بالالتزام تجاه تفويض ناخبيهم لهم بالتعبير عن إرادة الشعب (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبينما فرض الأب سيياس وغيره من أنصار التمثيل النيابي غير المُقَيَّد رأيهم على النواب الذين وافقوا على وجهات النظر هذه، كانت جاذبية مبادئ روسو بشكل عام قوية للغاية طوال مسار الثورة الفرنسية لدرجة أنه في عام ١٨٠١، وبعد ١٢ عامًا من التحولات السياسية الكبرى على الإطلاق في العالم الحديث، نشرت مجلة جازيت دي فرانس أن «العقد الاجتماعي» كان كتاب الحياة الذي أدى إلى وقوع هذه الأحداث وأنار لها الطريق. حتى صعود نجم نابليون بونابرت، الذي لم يخفَ عليه إشادة روسو بكورسيكا في ذلك النص، ألهم إصدار طبعة جديدة من ذلك العمل مهداة إلى الرجل الذي أمسى أبرز مواطني فرنسا، وكأن إشاراته المرجعية للإرادة العامة كان يُراد بها في واقع الأمر إرادة الجنرال. لم يكن هناك أي مفكر سياسي آخر، قديمًا كان أو حديثًا، في تلك الفترة يحظى بتوقير كذلك الذي حظِيَ به روسو، وفي عام ١٧٩٤، بعد فترة الإرهاب الثوري، أُخرِج رفاته من قبره بجزيرة بوبلرز بإيرمنوفيل، ونُقلت إلى مقبرة العظماء بباريس حيث تُوِّجَ وسط احتفالات مهيبة بطلًا للأمة التي كَرِهَ سياستها وثقافتها ودينها أكثر من أي شيء، والأدهى من ذلك، تأبيدًا لعذابه، أنه دفن قُبالة فولتير.

ولكن في عام ١٧٦٢، لم يكن روسو ليتوقع حدوث مثل ذلك التقدير. فعندما ظهر «العقد الاجتماعي» إلى النور، تسبب في فضيحة فورية، وحُظِرَ توزيعه في فرنسا، واضطر روسو إلى الفرار من البلد خشية أن يُزجَّ به في السجن، ليجد الطريق أمامه مسدودًا إلى جنيف نظرًا للغضب العام المماثل الذي ماجت به المدينة. ورغم ذلك، لم تكن أفكاره عن الحرية أو السيادة هي التي أثارت القلاقل الحقيقية آنذاك. فقد نُظِر إليه أنه خطر على النظام المدني خاصةً لأن الفصل قبل الأخير من «العقد الاجتماعي» الذي تناول الدِّين المدني، إضافةً إلى أفكار شبيهة في كتاب «إميل» الذي نُشر تقريبًا في الفترة نفسها، عُدَّت تجديفًا، فاعتُبر نظامه السياسي بناءً على ذلك مجرمًا ومحرِّضًا على الفتنة والشقاق فقط بسبب إساءته للمسيحية.

fig17
شكل ٤-٤: قبر روسو بجزيرة بوبلرز، من نقش لمورو الأصغر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤