الفصل الثالث

الاسترقاق في الأزمان الحديثة

إذا انتقلنا إلى الأزمان الحديثة وجدنا أن استرقاق١ الزنوج يشبه الاستعباد عند الرومانيين من حيث الشخص المستخدم، ولكنه يخالفه مخالفة جوهرية من حيث أصله ومنشؤه؛ وذلك لأن فتوح المستعمرات لم يأتِ بامتلاك الأرض مع العامل الذي يحرثها، بل إنه بعد اكتشاف الأراضي صار تبديد أهاليها أو إبادتهم، فكانت الحاجة ماسَّة إلى إعادة السكان فيها، ولم يكن ثمة من واسطة سوى جلب الزنوج إليها.

القانون الأسود

اعلم أن هذا الاسم يطلق في جميع البلدان على مجموع القواعد والأصول المدونة بشأن الاسترقاق.

وقد صدر في ١٧ مارس سنة ١٦٨٥ مرسوم بتنظيم أحوال الأرقاء والعتقى في جميع المستعمرات الفرنساوية، وتقرر فيه تخويل الحق المدني والسياسي للأحرار من ذوي الألوان، واعتبار العتق ولادة جديدة للمعتوق، على أن الجمعية الدستورية لمَّا أرادت العمل بهذا المبدأ واستنباط النتائج المترتبة عليه عقلًا صادفت صعوبات عنيفة ومعارضات قوية، وما ذلك إلا لأن القانون الأسود لم تنفذ منه إلا القواعد الصارمة والأحكام البالغة في الشدة، أما الأصول المقتضية حصر سلطة الموالي أو تحميلهم بحقوق لأرقائهم، فكانت مهملة متروكة كأنها لم تكن.

وإذا اعتدى الزنوج بأقل إكراه على ساداتهم، أو على الأحرار، أو ارتكبوا أخف السرقات، فجزاؤهم القتل أو العقاب البدني بالأقل، وهذا دليل كافٍ على ما في القانون من الشدة التي ليس بعدها شدة، وإن الإنسان ليمتلئ غيظًا وغضبًا إذا ذكر أنواع العقاب التي كانت موضوعة للآبقين، فقد كان عقاب الإباق في المرة الأولى والثانية قطعًا للآذان ومسحًا بالسوق وكيًّا بالحديد المحمي، وفي الثالثة القتل.

ومهما بلغت شدة هذا القانون فإنها لا تنقص عن قانون المستعمرات الإنكليزية إذا قابلناها بها، فقد تقرر في مستعمرة الجاماييك وأنتيجوا٢ أن من أبق واستمر في إباقه أكثر من ستة شهور جزاؤه الإعدام.
ومن أسوأ الأحكام التي جاء بها المرسوم الصادر في مارس سنة ١٦٨٥ أنه عندما يرتكب المالك أو الرئيس أية جناية على الرقيق، ولو كانت جناية القتل، يكون للقضاة الحرية في مراعاة أحوال البراءة، وأن يبرئوا ساحة المتهمين الغائبين من غير أن تكون هناك حاجة للاستحصال على العفو، وقد كتب هيليار دوبرتوي في (ملاحظاته على مستعمرة سان دومينج)٣ أن «المرسوم الصادر في سنة ١٦٨٥ لا يمنع من هلاك الأرقاء في كل يوم بسبب تكبيلهم بالسلاسل أو جلدهم بالسياط، ولا من ضربهم ضرب التلف والإزهاق، ولا من إحراقهم عسفًا واستبدادًا، وكل هذه الفظائع يرتكبها القوم في المستعمرة، ولا رادع يردعهم، حتى إن كل ذي لون أبيض يعامل الأسوَد بالغلظة والقسوة ولا حرج عليه في ذلك، وإذا أُلحق ضرر بعبد من العبيد، فالقضاة اعتادت عدم النظر إلى هذا الضرر إلا من حيث إنه ينقص من ثمن العبد المجني عليه».

وقد أيدت الجمعيات الاستعمارية في كل زمان هذه القاعدة، وهي أنه لا يسوغ للمتشرعين أن يتوسطوا ويتدخلوا بالشرائع بين العبد ومولاه، وكان الأحرار من ذوي الألوان محرومين من وظائف النفوذ والاعتبار.

بل قد صدرت أوامر متنوعة من نظارات الحكومة بمنع التوسع في تأويل مواد القانون الأسود، فمنها ما كان بالنهي عن البحث في الأوراق المثبتة أن صاحبها من طائفة الأشراف متى تزوج بامرأة امتزج بها دم الأرقاء، وكان مثل ذلك الرجل يعد غير جدير بأية وظيفة في المستعمرات، بل يعتبر ساقطًا من درجة ذوي اللون الأبيض، ومنها ما كانت بتحريم حضور ذوي الألوان إلى بلاد فرنسا للتغذي بألبان المعارف واقتطاف ثمرات التأديب والتهذيب، ومنها ما تضمن عبارات صريحة هذا تعريفها: «إن حسن النظام مما يوجب عدم إقلال الصغار والاحتقار المرتبط بالجنس الأسود مهما كانت درجته ومنزلته، وقد صمم جلالة الملك على إبقاء الحكم الاعتباري الذي مقتضاه أن يحرم إلى أبد الآبدين ذوو الألوان وذريتهم من المزايا الخاصة بالجنس الأبيض.» (يناير سنة ١٧٦٧).

هذا كله كان جاريًا في أواخر القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنساوية، وما زالت مواد القانون الأسود تزداد شيئًا فشيئًا بما يصدر من مركز الحكومة أو جهات السلطة بالمستعمرات من الأوامر ومعظمها لم يقصد به ترقية حال الرقيق ولا تحسين درجته كما رأينا، وقد صار هذا القانون أساسًا لتقرير الأحكام وسن النظام في الأملاك الفرنساوية وفي الجهات المستعمرة لها، إلى أن حصلت الثورة في فبراير سنة ١٨٤٨ فعملت على إبطال الاسترقاق مرة واحدة، فكان لها بذلك فخر يذكر فيشكر.

أما القوانين القديمة الخاصة بذوي الألوان، وبالأرقاء في الولايات الجنوبية من بلاد أمريكا المتحدة، المعروفة أيضًا بالقوانين السوداء، فكان فيها من الشدة والصرامة ما تنقبض له النفوس، وتنفر منه القلوب؛ فقد صرحت الشريعة في ولايات لويزيانا وكارولينا٤ وغيرهما من الولايات الجنوبية أن المولى «له حق المالك المطلق على عبده»؛ فله بيعه وإجارته ورهنه وخزنه وإجراء الجرد عليه، وأن يقامر عليه، وغير ذلك من الأعمال، ولما كان العبد مسلطًا عليه أبدًا كان من المحتوم عليه أن يحترم سيده وأعضاء عائلته احترامًا ليس بعده احترام، ويطيعهم طاعة لا حد لها (يراجع القانون الأسود لولاية لويزيانا).

أما حق مدافعة الإنسان عن شخصه، وهو من الحقوق المخولة بالطبع لكل فرد من أفراد بني آدم، فما كان للزنجي المستعبد أن يتمتع به، ذلك كما قضى القانون الأسود لولاية كارولينا الجنوبية، ولم يكن للعبد حق في الذهاب والمجيء، وما كان له أن يخرج من الزرع إلا بتصريح قانوني وافٍ لجميع الشروط المفروضة، على أن هذا التصريح كان له آفة تذهب بالغاية منه، وذلك أنه إذا اجتمع في الطريق العام أكثر من سبعة من الأرقاء يعتبرون مخالفين للأوامر، وأول أبيض يصادفهم في الطريق له أن يلقي القبض عليهم ويجلدهم عشرين جلدة. وكان العبد معتبرًا شيئًا لا إنسانًا، فكان الذين ينقلونه من مكان إلى آخر مسئولين عن فقده وضياعه، وعن العوارض التي تصيبه، كما كانوا يسألون عن خسارة أو تلف حمل من الأحمال أو طرد من الطرود.

هذا، وقد نص القانون على أن العبيد لا نفس لهم ولا روح، وقضى بأن لا فطانة ولا ذكاء لهم، ولا إرادة، وما كانت الحياة تدب إلا في أذرعتهم فقط.

فمن ذلك يتضح أن حرية الزنجي كانت معدومة لا وجود لها، ولكن في نظير ذلك كانت مسئوليته عظيمة جدًّا، فكان يعتبر شيئًا من الأشياء فيما يختص بحقوقه، وأما فيما يتعلق بالواجبات المفروضة عليه فإنه كان يعود له اعتبار الصبغة الآدمية والصفة البشرية، وكان القوم يعتبرونه حرًّا كلما كانت حريته تسوغ الحكم عليه بالسوط أو بالموت، وكان القانون ومشيئة المولى يفرضان عليه واجبات كثيرة، ويلزمانه بأمور متعددة، ويعاقبانه بالشدة والصرامة إذا ظهر منه العصيان، وكل ما يعتبر جناية من الأبيض فهو كذلك بالنسبة إلى الأسود من غير عكس، فيعاقب القانون الزنجي على جنح وجنايات يفعلها، ولا يسوغ معاقبة الأبيض عليها إذا وقعت منه، وما هذا إلا لمجرد اللون، ولذلك كانت العقوبات مختلفة اختلافًا بيِّنًا بحسب الحكم بها على الأسود أو على الأبيض، وكان القانون العادي يحكم بالإعدام على كل زنجي يَضرب ويَجرح مولاه أو مولاته أو أولادهما أو يبتر عمدًا عضوًا من أعضاء شخص أبيض، أو يعود لضرب أبيض مرة ثالثة، أو يسرق أو يرفع لواء العصيان، أو يرتكب ما أشبه ذلك من الجرائم، ويُحكم بالجلد على كل من كان سائرًا بلا تصريح أو يغضب مولاه بسبب ما أو غير ذلك.

وفي الولايات الجنوبية المختلفة كان العتقى واقعين تحت طائلة القوانين الصارمة المسنونة لأجلهم، فما كان لهم قبل إبطال الاسترقاق أن يشهدوا في قضية ما إلا إذا دُعُوا للشهادة على الأرقاء أو على أمثالهم، ومع ذلك فما كان يجوز تحليفهم اليمين القانونية، لأنها أشرف وأسمى من أن يتفوَّهوا بها فيدنسوها بتفوُّههم، وكان لا يجوز لهم حمل السلاح، ومن خالف هذا النهي حُكم عليه بالجلد، وقد ورد في نص القانون نفسه أنهم لا يجوز لهم أن يستروا جلودهم إلا بثياب من القماش الخشن الدنيء، حتى يكون في ذلك إعلام بشأنهم لمن يراهم من بعيد؛ مثل الليمانجية (المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة)، وكان ذو اللون الذي يسب الأبيض أو يضربه يعاقَب بالحبس والغرامة، فإذا كان الأبيض هو الذي سبق بضربه ثم تجارأ هو بالدفاع عن نفسه، وقتل المعتدي عليه حفظًا لحياته، كان يُعتبر مرتكبًا لجريمة القتل، وواقعًا تحت العقاب الذي تستوجبه، ولم يقتصر القانون على هذه النصوص والأحكام، بل حرَّم عليهم تقريبًا حرية المرور، ولم يكن لهم الحق في طلب ورقة الجواز،٥ وكان لونهم سببًا للريبة في أمرهم والاشتباه في أحوالهم، لأنه يجعلهم بمثابة الأرقاء، فلذلك ما كان يجوز لهم أن يسافروا خارج الحي المتوطنين به، لئلا يعرِّضوا أنفسهم للحبس والإهانة من ذوي اللون الأبيض، فإنهم يمكنهم أن يسرقوهم ويبيعوهم، وفي بحر سنة ١٨٥٩ اقترعت الجمعية التشريعية في ولاية أركانزاس٦ على قانون مقتضاه نفي جميع ذوي الألوان من أراضيها، ثم ضبطت الحكومة جميع المنفيين الذين لم يُتَح لهم مفارقة مواطنهم قبل أول يناير سنة ١٨٦٠ وباعتهم أرقاء في المزاد العمومي، وقد حصل مثل ذلك أيضًا في ولايتَي ميسوري٧ ولويزيانا وغيرهما.

أما الذين كانوا يسعون في إبطال الاسترقاق، وينادون بوجوب إلغائه، فأولئك كانوا موضوعًا للاحتقار والإهانة بنوع خاص في مواد القانون الأسود، وكان الإعدام جزاء لكل من أشار على أحد الأرقاء أو على جماعة منهم بالهيجان وخلع الطاعة، سواء كان ذلك بقول أو فعل أو كتابة أو بغير ذلك من الطرق الأخرى، وكان الإعدام أو الأشغال الشاقة مؤبدًا جزاء لكل من نشر رسالة أو كراسة أو مطبوعًا في أي موضوع من شأنه إحداث السخط وعدم الرضى بين الأحرار من السود، أو تحريض الأرقاء على عدم الامتثال، وكان الإعدام أو الأشغال الشاقة من خمس سنين إلى إحدى وعشرين سنة عقابًا لكل من قال مقالًا أو أشار إشارة أو عمل عملًا من شأنه أن يثير الغيظ في قلوب الزنوج الأحرار أو الأرقاء، وكذا كل من أدخل بعمله في أرض الحكومة جرائد أو كراسات أو كتبًا مؤلفة بالطعن في الاسترقاق.

هذه هي أخص الأحكام التي كانت مدونة في القانون الأسود قبل أن تهيج الحرب المدنية التي خربت الولايات المتحدة سنين متوالية مبدؤها سنة ١٨٦٢، وهي تأتينا بالنبأ الصادق والدليل الواضح على ما كان يجول في خواطر واضعي القوانين نحو الأرقاء والمستبعدين، ولكن الزنوج أصابوا من الحروب غنيمتهم، ألا وهي الحرية، ونعمت النعمة.

هوامش

(١) قد اعتاد أهل التاريخ عند الإفرنج على قسمة سِني العالم إلى ثلاثة أقسام؛ وهي: الأزمان القديمة، والقرون المتوسطة، والأزمان الحديثة. وجمهورهم على أن الأزمان القديمة تبتدئ من خلق الدنيا إلى سنة ٣٩٥ ميلادية التي انقسمت فيها المملكة الرومانية إلى شرقية تختها القسطنطينية وغربية وعاصمتها رومة، ويقول آخرون إنها تنتهي في سنة ٤٧٦ التي انقرضت فيها المملكة الرومانية الغربية على يد الأمم المتبربرة (وليس في ذلك الخلاف أهمية كبيرة، فإن انقراض الهيئة الاجتماعية الرومانية لم يتم في يوم واحد، بل ابتدأت في السقوط على أثر موت تيودوز الذي قسم المملكة الرومانية بين ولديه إلى شرقية وغربية كما ذكرنا، ثم إن انقراضها تم نهائيًّا في سنة ٤٧٦ ميلادية)، والقرون الوسطى هي المدة التاريخية المنحصرة بين انقراض الهيئة الرومانية؛ أي انتهاء الأزمان القديمة، وبين فتح المسلمين لمدينة القسطنطينية في سنة ١٤٥٣ مسيحية وتدميرهم المملكة الرومانية الغربية، وأما الأزمان الحديثة فتاريخها من ابتداء استيلاء السلطان محمد الفاتح على القسطنطينية إلى أن وقعت الثورة الفرنساوية في سنة ١٧٨٩ مسيحية، وأما تاريخ الأزمان التي بعد سنة ١٧٨٩، فقد اتفقوا على تسميته بالتاريخ العصري. ا.ﻫ. مترجم.
(٢) جزيرة چاماييك هي من أكبر جزائر أنتيليا التابعة لإنجلترا في بحر أنتيليا المعروف ببحر الكاراييب، وعدد سكانها ٥٨٠٨٠٠ نفس، وتختها كنجستون (أي حجر الملك)، وجزيرة أنتيجوا هي من صغار جزائر أنتيليا التابعة لإنجلترا أيضًا، وأما جزائر الأنتيليا برمتها، فهي عبارة عن أرخبيل كائن بين قسمي أمريكا، وينقسم إلى أنتيليا الكبيرة وجزائر أنتيليا الصغيرة، وعدد سكانها كلها ٤٦٢٠٠٠٠ نفس. ا.ﻫ. مترجم.
(٣) هي عاصمة الجمهورية الدومينيكانية (أحد قسمي جزيرة هايتي) وعدد سكانها ١٦٠٠٠ نسمة. وجزيرة هايتي (ومعناها البلاد الجبلية) هي من كبار جزائر أنتيليا. ا.ﻫ. مترجم.
(٤) لويزيانا هي إحدى الولايات الشمالية من الممالك المتحدة بأمريكا على خليج مكسيكا، وعدد سكانها ٩٣٩٩٤٦ نفسًا، وعاصمتها باتون روچ (العصا الحمراء)، وفيها معادن الخارصين والنحاس والفحم الحجري والحديد، وأرضها خصبة خصوصًا في إنبات القطن والأرز وقصب السكر. وأما ولاية كارولينا، فهي في شمال بلاد أمريكا المتحدة، وهي قسمان: كارولينا الشمالية، وينبت بها الأرز والذرة وكثير من الحبوب والقنب، وفيها غابات كبيرة من الصنوبر؛ وكارولينا الجنوبية، وفيها كثير من البطائح وغابات الصنوبر الراتنجي، وهي خصبة خصوصًا في إنبات القطن والأرز والذرة والنيلة، وصناعتها قليلة، ولكن زراعتها زاهرة. ا.ﻫ. مترجم.
(٥) وقد ضبطها في دائرة المعارف بالكسر سهوًا، قال في القاموس: الجواز كسحاب صك المسافر. وقال في أساس البلاغة: وخذ جوازك وخذوا أجوزتكم، وهو صك المسافر لئلَّا يُتعرض له. والفسح بالفتح شبه الجواز يقال: فسح له الأمير في السفر إذا كتب له الفسح، كما نص عليه صاحب القاموس وغيره من علماء اللغة، وهذان اللفظان يؤديان تمامًا المعنى المقصود من لفظة بسابورت Passe-port الشائعة الآن. ا.ﻫ. مترجم.
(٦) هي إحدى الأقطار الشمالية من الولايات المتحدة، وسكانها ٨٠٢٥٢٥، وقاعدتها ليتل روك (الصخرة الصغرى). ا.ﻫ. مترجم.
(٧) هي أيضًا من الأقطار الشمالية الداخلة في الولايات المتحدة، وسكانها ٢١٧٠٠٠٠ وقصبتها چفرسون. ا.ﻫ. مترجم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤