الفصل السابع

التعامي عن المعايير وقضايا حقوق الإنسان المُعلَّقة

نفاق العصر1

مقدمة

دَرَج استخدام التعبير «حقوق الإنسان» منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام ١٩٤٨م، إلا أن الاستخدام الشائع لا يدل ضمنًا على المعنى الشائع. ويتناول هذا الفصل نموَّ حقوقِ الإنسان وانتشارها مع الاهتمام بحقوق الإنسان للمرأة بصفة خاصة. وعلى الرغم من أن الإعلان في حدِّ ذاته كان علامةً بارزة في تاريخ المجتمع الإنساني، فإن وقتنا هذا يستدعي التأمُّلَ لا الاحتفال؛ فبناءً على ما يصل إلينا عبر وسائل الإعلام ومن معارفنا الشخصيين، ومن تحليلنا الخاص لما يحدث حول العالم، نحن بحاجة الآن إلى نشطاء في مجال حقوق الإنسان أكثر من أي وقت مضى. ويجب أن يكون هؤلاء النشطاء مواطنين عالميين، متيقِّظين لسرعة تأثير التكنولوجيا على العالم وتركيز السلطة وسماتها غير الشخصية، كما تنعكس في الحروب التي تُشَنُّ بعيدًا عن الوطن كما في حربَيْ باكستان واليمن اللتين تتحكَّم فيهما أمريكا عن بُعْدٍ. إن العالم بحاجة إلى الكثير من العمل.

ويغطِّي هذا الفصلُ العديدَ من الموضوعات؛ أبدؤها باستعراضِ القيود التي أحاطَتْ بالإعلان الأصلي لحقوق الإنسان، حتى ندرك التقدُّم المفاهيمي الكبير الذي تحقَّقَ منذ أربعينيات القرن العشرين، ثم أعلِّق بعدها على القضايا المُعلَّقة في الإعلان، التي أدَّى مَنْحُها الأولوية إلى رسم أُطُر جديدة لأعمال حقوق الإنسان، شملت وجهات نظر الفئات المُهمَّشَة مثل: العالم الثالث، والعالم الرابع، وعالم المرأة. وأخيرًا أدعو إلى الاعتراف بانتهاكات حقوق الإنسان المترتبة على النزعة التجارية الخارجة عن كل سيطرة. كذلك أتناول موضوعاتِ الفصل بالكامل من خلال منظورٍ مُقارَن يتطلَّب تأمُّلَ الذات منذ اللحظة الأولى، والتحلِّي بالوعي الذاتي بدور النشطاء الأورو-أمريكيين العاملين في مجال حقوق الإنسان. وقد لُوحِظت حاجتنا في القرن الحالي إلى أن يقفز نشطاء حقوق الإنسان قفزة عملاقة إلى الأمام في مجال نشاطهم، غير أن مثل هذه القفزة إلى الأمام تتطلَّب حين تتعامل مع انتهاكات معينة لحقوق الإنسان أن تتشبَّثَ بجذورها في أرضية فلسفية ذات معايير شاملة، تتعامل مع المعاناة الإنسانية وتتجاوز نقاط الاختلاف.

القيود الأولى

تكمن أهميةُ إعلان الأمم المتحدة في المبادرة نفسها. تخيَّلِ المشهدَ العالمي فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ووفود الدول الغربية والشيوعية ودول العالم الثالث تتناقش حول محتوى الإعلان المستقبلي لحقوق الإنسان على أسس فلسفية، وكلٌّ منهم يتناقش من وجهة نظره الخاصة: الممثِّلون الصينيون مُصِرُّون على إدماج الفلسفة الكونفوشيوسية في الإعلان، والكاثوليكيون على تعاليم القديس توما الأكويني، بينما يدافع الليبراليون عن آراء جون لوك وتوماس جيفرسون، والشيوعيون عن آراء كارل ماركس. وما أشقَّ التوصُّل إلى اتفاقٍ بين مثل تلك الأطراف المتنوِّعة المختلفة حول مقوِّمات حقوق الإنسان، ولكن يُحسَب لهم على الأقل أنهم أخذوا الخطوة الأولى.

وقد تولَّتْ إليانور روزفلت رئاسةَ لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ودأبت على تذكير شركائها في العمل بأنهم جميعًا مُكلَّفون بصياغة إعلان مقبول لدى كل الديانات والأيديولوجيات والثقافات. وبالرغم من كل جهودها ظلَّتِ الخلافاتُ الهائلة والفجوات الشاسعة تفصل بين الأطراف، فضلًا عن ذلك لم يكن من بين المشاركين في صياغة الإعلان ممثِّلون عن الشعوب الأصلية لما يُسمَّى بالعالم الثالث أو من الشعوب الإسلامية، وكانت مشارَكة النساء ضئيلةً كذلك بالرغم من وجود السيدة روزفلت. كانت روزفلت سيدة عملية؛ لذا تعامَلَتْ مع الوضع القائم أمامها، دول شرقية تريد أن تقصِر الميثاقَ على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية من جانب، في مقابل الإعلانات الغربية للحريات الواردة في وثيقة الحقوق الأمريكية والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان من جانب آخَر. وانتهت المجموعة في النهاية إلى توافُقٍ بضمِّ مواد اشتراكية الطابع تضمن العمالة الكاملة، والإسكان الملائم، والرعاية الصحية اللائقة، والضمان الاجتماعي من المهد إلى اللحد.

هذا وتنبغي الإشادة بالسيدة روزفلت؛ لأنها لم ترتضِ الحلولَ الوسط فيما يتعلَّق بأي حقوق أساسية لمجرد الوصول إلى إجماع؛ وبنص كلماتها: «نأمل أن يكون إعلان الجمعية العامة لحقوق الإنسان حدثًا على مستوى إطلاق الشعب الفرنسي إعلان حقوق الإنسان عام ١٧٨٩م، واعتماد الشعب الأمريكي لوثيقة الحقوق، واعتماد ما شابهها من إعلانات في أزمنة مختلفة في دول أخرى» (بيرجين، ١٩٨١: ٧٣). كانت السنوات الأولى من عمر الأمم المتحدة حماسيةً ومثيرةً، وبعدها بسنوات عند ترشيح السيدة روزفلت لنَيْل جائزة نوبل، التي لم تحصل عليها، أثنى عليها جان مونيه، أبو السوق الأوروبية المشتركة (لاش، ١٩٧٢: ٣٣٧) قائلًا: «أرى في الأساس أن أعظم إسهاماتها كان إصرارها على تطبيق إيمانها الراسخ بالحرية والمساواة على أرض الواقع … كان العالم بالنسبة إليها عالَمًا واحدًا بحقٍّ، بجميع سكانه.» بينما تقول روزفلت:

أين تبدأ حقوق الإنسان العالمية على أي حال؟ في الأماكن الصغيرة القريبة من البيت؛ الأماكن التي تبلغ درجةً من القُرب والصِّغَر يستحيل معها رؤيتها على أي خريطة في العالم، ولكنها بالرغم من ذلك تمثِّل العالمَ بالنسبة إلى الفرد؛ الحي الذي يعيش فيه، المدرسة أو الجامعة التي يرتادها، المصنع أو المزارع أو المصانع التي يعمل بها. في مثل هذه الأماكن يسعى كل رجل أو امرأة أو طفل إلى التمتُّع بالمساواة في العدل والفرص والكرامة، دونما تمييز، وإنْ لم يكن لهذه الحقوق معنًى في هذه الأماكن، فلا معنى لها في أي مكان آخَر (اقتباس ورد: روماني، ١٩٩٤: ٩٠).

ولكنَّ روزفلت ونساء «الصفقة الجديدة» كنَّ ينتمين لعصرهن؛ حيث تبنَّين — وظللن يؤدِّينَ — دورَ المُصلِحات أولًا، وعاملات الرعاية الاجتماعية قبل أي اعتبارات أخرى: كُنَّ يدركن الأفضل للآخرين (هوف-ويلسون ولايتمان، ١٩٨٤؛ بيرجر، ١٩٨١). وكما أشار آخَرون، كانت إنجازاتهن في مجال الدفاع عن حقوق المرأة إنجازات مؤقتة؛ إذ كانت المكاسبُ الهزيلة التي حقَّقَتْها النساء الناشطات في السياسة مستندةً إلى طبقاتهن الاجتماعية المترسخة في الأيديولوجية الثقافية والمؤسسات الاجتماعية، وكان أي تحليل لمثل هذه العناصر وإعداد أجندة هادفة لتغييرها أمرًا بعيدَ المنال بالنسبة إلى هؤلاء النسوة اللاتي ركَّزن — تركيزًا محدودًا — على المشاركة السياسية والطموحات والحقوق الفردية، بدلًا من التركيز على القضايا الجذرية.

القضايا المُعلَّقة

إن القضايا المعقَّدة المُعلَّقة منذ زمن السيدة روزفلت هي نفسها القضايا التي لم تزَل مطروحةً أمامنا اليومَ، وفيها تدور المباحثات حول بدائل ثنائية: فهل نركِّز على الحقوق الفردية على حساب الحقوق الجمعية؟ هل الأجدى بنا الاهتمامُ بالقضايا العامة على حساب القضايا الخاصة؟ كذلك تزيد المشكلات مع محاولة تحقيق التوازن بين السيادة القومية للدول وحقوق الإنسان العالمية. وأخيرًا، فإن قضية حقوق الإنسان نفسها تُعَدُّ محورًا للاهتمام المتزايد بوصفها جزءًا من حركة هيمنة غربية، بل أمريكية أيضًا بالأساس (رينتيلن، ١٩٩٠). وبالرغم من كل شيء، تظل لجنة صياغة إعلان حقوق الإنسان والأمم المتحدة ككلٍّ غربيَّتَيْن بالدرجة الأولى بالفعل. ولا شك أن الحركة الهادفة لخلق منظومة دولية جديدة للارتقاء بحقوق الإنسان كانت إلى حدٍّ كبير تسير تحت قيادة الأمريكيين؛ حيث كانت وزارة الخارجية الأمريكية هي مَن تولَّى تنظيم المسودات الأولى، وانعقدت أهم الاجتماعات في الولايات المتحدة، بل حتى تحديد الهدف نفسه — صياغة ميثاق حقوق دولية — كان ذا نكهةٍ أمريكية يستحيل إنكارها. لكل شخص الحقُّ في الحياة والحرية والأمن وحرية التفكير والضمير والدين وحرية التنقُّل … ولا يجوز استرقاقُ أيِّ شخص أو تعريضه للتعذيب، ولا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسُّفيًّا. وقد حُرِّرَت المسوَّدات كافة باللغة الإنجليزية باستثناء مسوَّدتَيْن اثنتين فقط. ومن الضروري إن أردنا استيعابَ التحديات التي لم تزَل تواجِهنا أن نفهم تاريخَ صياغة الإعلان؛ لذلك سوف أتناول فيما يلي هذه القضايا الواحدة تلو الأخرى.

كان التركيزُ على الحقوق الفردية في مقابل الحقوق الجمعية أمرًا مهمًّا وخطيرًا بالنسبة إلى الشعوب الأصلية؛ إذ كان يعني أن الفائدة التي ستعود على الشعوب الأصلية من إعلان الأمم المتحدة سوف تكون ضئيلةً، في الوقت الذي يؤمن فيه السكان الأصليون لأمريكا أن الحقوق الجمعية للشعوب الهندية هي الأهم بين كافة حقوق السكان الهنود الأصليين لأمريكا وأكثرها تعرُّضًا للخطر؛ فتأمين الحق في الحكم الذاتي، والحق في الاحتفاظ بالملكية المجتمعية للأرض والموارد، والحق في الحفاظ على ثقافاتهم ولغاتهم وعلى دينهم، جميعها تدعو لضمان حماية الحقوق الإنسانية الجمعية؛ حيث تحتاج الجماعاتُ الهندية لأراضيها ومواردها المائية الخاصة للحفاظ على بقائها كمجموعة، وأَخْذ هذه الأراضي والموارد المائية منهم أو منعهم منها يُعَدُّ في واقعه بمنزلة الإبادة العِرقية (أُو ونادر، ١٩٩٨).

يتناول ريتشارد فوك (١٩٩٢) — وهو باحث تميَّزَ ببُعد نظره وجلاء بصيرته فيما يتعلَّق بقضايا حقوق الإنسان — ظاهرة «التعامي عن المعايير»؛ وهو نوع من التعامي أو فقدان البصيرة يكون مصاحِبًا للرؤى الحداثية التي تنظر إلى الثقافات التي تواجدَتْ في فترة ما قبل الحداثة باعتبارها شكلًا من أشكال التخلُّف والرجعية، وينبغي التغلب عليها لصالح الشعوب الأصلية نفسها. وذلك ليس من منطلق احترام الاستقلال الثقافي لتلك المجموعات، وإنما من منطلق الدمج المنظَّم والعادل داخل فضاء الأخلاقيات الحداثية الأكثر خيريةً. وهكذا — باسم التنمية — تعرَّضَتِ الشعوب الأصلية وما زالت تتعرَّض للتدمير والتشريد في أجزاء كثيرة من العالم الثالث (فوك، ١٩٩٢: ٤٧-٤٨)؛ فتُنهَب ثرواتهم بتنوُّعها النباتي وملكياتهم الفكرية. ويرى فوك أن الاستبعاد من عملية صياغة حقوق الإنسان هو في حد ذاته إنكارٌ لهذه الحقوق. والسبب لا يحتاج للتفسير؛ فالشعوب الأصلية لم تشارك في جهود الصياغة عام ١٩٤٨م، والمفارقة أن الفلسطينيين هم أيضًا لم يشاركوا فيها؛ لأنهم كانوا مطرودين من بيوتهم عام ١٩٤٨م.

وبالمثل، أسهم الاهتمام بالدولة على حساب الحيِّز الخاص للعلاقات الحميمة في استبعاد العديد من حقوق الإنسان المرتبطة تحديدًا بالمرأة: كالتعذيب، وضرب الزوجات، وحق التحكُّم في قرارات الإنجاب، والتحرُّش الجنسي، وحق الحياة نفسها. ومنذ عام ١٩٤٨م، شجَّعَ إدراك هذا الانقسام ما بين العام والخاص على صدور العديد من الأبحاث القانونية حول العوامل غير المتعلِّقة بالدولة، التي تؤثِّر على حياة ملايين السيدات في منازلهن وأماكن عملهن.

كذا طغى التركيزُ على حقوق الإنسان الدولية مقابلَ حقوق الإنسان العالمية على قضايا حساسة مثل السيادة والنسبية القومية، وهذا هو المجال الذي نرى فيه أقوى أداءٍ للنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، وغالبًا ما يكون غرضهم الإصلاح، ولكنهم يكونون لاهين تمامًا عن تأمُّل وضعهم، وتملؤهم جرعاتٌ كبيرة من الإيمان بصلاحهم الذاتي، فينطلقون في المؤتمرات النسائية الدولية شارحين حقوق الإنسان، غالبًا بصحبة القوميين أصحاب العقلية الإصلاحية المشابهة، وسوف أتطرَّق لهذا فيما بعدُ.

وأخيرًا قضايا استعلاء المكانة الغربية التي كتب عنها إدوارد سعيد (١٩٧٨)؛ بمعنى التعامُل مع خطاب حقوق الإنسان باعتباره جزءًا من الخطاب الغربي، أو حتى أحد خطابات الهيمنة الغربية. إن أي شخص حساس للقضايا الثقافية المشتركة، أو أي عضو متيقِّظ من ممثِّلي أيٍّ من دول ما يُسمَّى بالعالم الثالث، يعرف أن هذه القضايا تؤدِّي إلى الاستخفاف بمفهوم حقوق الإنسان كاملًا، وغالبًا ما يظهر هذا النوع من الخطاب في صحفنا، ويمر مرور الكرام دون أن يلتفت إليه أحدٌ، وكأنه لا يتناول فكرةً عالميةً أو من المفترض أن تكون عالميةً تتعلَّق بحقوق الإنسان. نشرَتْ على سبيل المثال صحيفةُ نيويورك تايمز (إيكهولم، ١٩٩٨) خبرًا عنوانه: «رجال دين أمريكيون يستعرضون قضايا العقيدة في الصين»، وعنوانه الفرعي «قضية جوهرية من قضايا حقوق الإنسان: حرية العقيدة في الصين». يُستَهَل الخبر كما يلي: «بدأ وفدٌ رفيعُ المستوى من رموز دينية أمريكية الوصولَ إلى بكين اليومَ في إطار جولة تستمر لثلاثة أسابيع في الصين لمتابعة ممارسة حرية العقيدة في البلاد، وهي إحدى أقل قضايا حقوق الإنسان استقرارًا في الدبلوماسية الأمريكية.» وفي جزء آخَر منه: «وسوف تواجِه المجموعةُ اختلافًا حادًّا في وجهات النظر حول معنى حرية العقيدة في إطار سعيها لإقامة الحوار» (إيكهولم، ١٩٩٨).

تأمَّلِ التباينَ للحظة واحدة، تخيَّلْ مثلًا وفدًا صينيًّا يزور الولايات المتحدة ليستعرض حقَّ السكان الأمريكيين الأصليين في ممارسة حرية العقيدة، سواء أكانت رقصة الأشباح أم عقيدة البيوط أم استشراف الرؤى؛ وانظر كيف أنه على الرغم من قانون عام ١٩٧٨م بشأن حرية العقيدة للهنود الأمريكيين، قضَتِ المحاكمُ الفيدرالية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين بحرمان الأمريكيين الأصليين من ممارسة حرية العقيدة في أكثر من عشر قضايا متتابعة (انظر مثلًا قضية لينج ضد رابطة حماية المقبرة الهندية الشمالية الغربية، في نادر وأُو، ١٩٩٨).

أو تخيَّلْ وفدًا صينيًّا جاء ليستعرض قضايا الاضطهاد السياسي للأقليات الأمريكية. إن ببلادنا أحد أعلى معدلات السجن في العالم (إن لم تكن الأعلى على الإطلاق)، وأغلب نزلاء السجون من الأقليات.

إن حقوق الإنسان منذ بدايتها تمثِّل شيئًا تقدِّمه الولايات المتحدة للآخرين؛ على سبيل المثال: تضمُّ كلية حقوق بولت هول في جامعة كاليفورنيا في بيركلي عيادةً لحقوق الإنسان، وهي عبارة عن منشأة تقدِّم مجانًا خدماتٍ قانونيةً وتحقيقاتٍ في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان للعملاء من الداخل والخارج. ومن بين أوائل عملاء العيادة كان يوجد شخصان من دولتين أفريقيتين، وكانَا لاجئين فرديين يسعيان للحصول على حق اللجوء السياسي من دائرة الهجرة والتجنُّس الأمريكية، التي تُعَدُّ خدماتُها في حدِّ ذاتها غير سيئة، ولكن عند تأمُّلها في إطار الصورة الكاملة لنظام الهجرة، سنجد أنها تسهم في مشهدٍ يعوزه الاتساقُ.

وقد قضيتُ أسابيعَ خلال التحضير لكتابة هذا الفصل في القراءة عن حقوق الإنسان، التي توجد عنها أعدادٌ هائلة من المؤلفات، جزءٌ كبير منها فنيٌّ ومُجرَّد، ولكن من أهم التطورات التي طرأت على هذا النوع من الكتابات هو ظهور مدافعين عن حقوق الإنسان من دول غير أورو-أمريكية، وهؤلاء لديهم الكثير لينقلوه لنا لنعرف أنفسنا. على سبيل المثال: تشير إحدى المقالات الشائقة حول برامج التكيُّف الهيكلي (كوينياها، ١٩٩٤: ٤٣٠) إلى النتائج السلبية المترتبة على الوضع الإنساني من جرَّاء التكيُّف الهيكلي؛ إذ تلفت الكاتبة الانتباهَ إلى أن غانا قد عانَتْ من التراجُع بدلًا من التنمية في مجالات التغذية والتعليم والتوظيف والرعاية الاجتماعية. ويقول المدافعون عن حقوق الإنسان من دول العالم الثالث إن حقوق الحصول على الغذاء والتعليم والعمل والمساعدات الاجتماعية أصبحَتْ بلا معنًى، بسبب الشروط التي يفرضها صندوقُ النقد الدولي بوجه عام، والتي يتعيَّن على الدولة الحاصلة على الدعم الوفاءُ بها قبل الحصول على التمويل من البنك الدولي، أو قبل اعتبارها قادرةً على الوفاء بديونها على المستوى الدولي. ونتيجةً لبرامج التكيُّف الهيكلي في غانا وغيرها من الدول، زاد العبء الإجمالي لعمل المرأة إلى مستويات غير إنسانية، وقد صدر أخيرًا كتابٌ يحرِّر حقوق الإنسان من محدوديتها بأسلوب ملائم تحت عنوان «حقوق الإنسان: أصوات جنوبية» (توينينج، ٢٠٠٩)، وفيه يعرض أربعة حقوقيين «آراءً جنوبية» من السودان وكينيا والهند، حول الدعوة إلى تحقيق الطابع العالمي في خطابات حقوق الإنسان؛ بينما قام آخَرون (مرسي، ١٩٩٥) بتوثيق تجارب استخدمَتِ التقنيات الإنجابية الأمريكية المنشأ، مثل نوربلانت، باعتبارها انتهاكاتٍ جسيمةً لحقوق الإنسان في مصر. فالمؤسسات يلغي بعضها بعضًا، والمقصود هنا تحديدًا هو أن مجهود المدافعين عن حقوق الإنسان الأمريكيين يُلغَى على يد حكومتهم نفسها.

ولكن لم تكُن مثل هذه المشكلات هي محور الاهتمام عام ١٩٤٨م، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى العدد المحدود للمشاركين؛ إذ كانت الأهداف في ذلك الوقت تنصبُّ على الدول القومية، وكانت عمليات العولمة محدودةً بالمقارنة بها، أما اليومَ فقد انفتحَتْ أبوابُ الفرص والعراقيل على حدٍّ سواء في وجه مسيرة حقوق الإنسان بفضل تقنيات النقل والمواصلات، والسفر والسياحة، والاهتمام الإعلامي، والتعليم بين الثقافات، والزيادة الهائلة في التفاعُل البشري بمُختَلف أنواعه. وإذا نظرنا إلى النصف الملآن من الكوب، فقد لعب السائحون على سبيل المثال دورًا تنظيميًّا مهمًّا في انتفاضة الشياباس جنوب المكسيك، كما لعب السائحون من دول عدة دورًا مهمًّا في الدفاع عن القرويين ضد عنف الدولة في موريلوس في المكسيك. وفضلًا عن السائحين، تظاهر الأمريكيون ضد مستثمري الولايات المتحدة في موريلوس، وتناقل الصحفيون الأمريكيون والكنديون والأوروبيون والمكسيكيون كذلك أخبارَ انتهاكات حقوق الإنسان التي سُجِّلَت عن طريق تكنولوجيا الفيديو.

وتعتمد احتمالات تحسُّن وضع حقوق الإنسان على عملية تواصُل مفتوحة غير مُقيَّدَة بأي تدخُّل عقائدي، فنحن بحاجة إلى فلسفة أكثر انفتاحًا لتناول حقوق الإنسان؛ وبما أن مفهوم حقوق الإنسان يعلو على جنسية الفرد، يجوز أن يأتي دعم حقوق الإنسان من أي شخصٍ، بصرف النظر عمَّا إذا كان مواطِنًا من نفس دولة الشخص الذي تتعرَّض حقوقُه للتهديد أم لا، وهذا سبب أقوى للجوء إلى التفكير العملي. ويُعَدُّ التواضع من المقومات المهمة لأي خطة عمل، مثله مثل الشغف؛ ووجود جيل أول وثانٍ وثالث من حقوق الإنسان، على نحو ما نرى، يعني أننا نحقِّق شيئًا من التقدُّم من الناحية المفاهيمية.

وتَسُوق أستاذة القانون الكندية بيرتا هيرنانديز-ترويول (١٩٩٦: ٣٤٣) احتمالَ إعادة الهيكلة الثقافية على النحو التالي: «لا يجوز الحكم بصلاحية أيِّ دراسة تحليلية لأي ممارسات ثقافية، إلا إذا أُجرِيَت من وجهة نظر الأطراف «الداخلية» و«الخارجية» ذات الصلة بتلك الممارسات.» على سبيل المثال: يجب على المدافعين عن المرأة التابعين للدولة الصناعية أن يتمعَّنوا في كيفية تفسير ممارسات معيَّنة للآخرين. انظروا مثلًا ظاهرةَ السقف الزجاجي، وتأنيث الفقر، وحرمان الأمهات من مزايا الرعاية الاجتماعية إذا كان لديهن أطفالٌ أكثر ممَّا تسمح به الحكومة، بينما الآباء لا يستفيدون من «معادلة إصلاح الرعاية الاجتماعية». كما تُبرِز هيرنانديز حقيقةَ أن «المرأة لا تتمتَّع بنفس الفرص التي يتمتَّع بها الرجل في أي مجتمع في يومنا الحالي.» وتشير: «إنَّ ملاحظة أن عدم المساواة بين الجنسين إنما هي حقيقة عالمية … تمنع أيَّ أطراف في الولايات المتحدة من التعامُل مع المشكلات والمخاوف الجنسانية باعتبارها موجودةً فقط في «الأماكن الأخرى»» مثل دول العالم الثالث أو الدول صاحبة التقاليد غير الغربية (١٩٩٦: ٣٢٩). فنحن نتحدَّث مثلًا عن استخدام صدام حسين للأسلحة البيولوجية في الحرب، بينما يورد أحد أعداد مجلة نيشن عام ١٩٩٨م أعمالًا توثِّق استخدام الولايات المتحدة للأسلحة البيولوجية والكيماوية ضد كوبا (نيشن، ٩ مارس، ١٩٩٨: ٩). بيت القصيد أننا جميعًا نحيا في بيوت من زجاج.

مجهود غير حكومي من أجل حقوق الإنسان

أنتقِلُ الآن بالتركيز على القضايا المُعلَّقة إلى الشرق الأوسط الذي تفاقمت واستفحلت فيه انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها أطرافٌ داخلية وخارجية على حدٍّ سواء. أيُّ شخصٍ لديه إدراكٌ سليم لماهية الظلم كان سيتأثَّر بغارات إسرائيل على لبنان، أو بحرب الخليج عام ١٩٩١م، وقصف بغداد، وحرب العراق، التي تضمَّنَتْ عمليات قصف عشوائية على مدنيين، وكذلك سيتأثر بالانتفاضات الأخيرة وعنف الدولة في اليمن والبحرين وسوريا وليبيا. أتذكَّر متابعة مشاهد حرب الخليج على شاشة التليفزيون، كانت تلك التجربة سيرياليةً تركت أثرها على الكثير من بيننا، وبعد انتخاب كلينتون مباشَرةً تسبَّبت إحدى عمليات القصف في مقتل فنَّانة عراقية شهيرة، وحينها فكَّرْتُ أنه لو كان يوجد مزيدٌ من التوافُق، مزيدٌ من الاحترام المتبادل، لما كانت عملية القصف هذه وقعت، غير أنها أشعلَتْ شرارةَ عمل من أجل حقوق الإنسان استُخدِمَت فيه أعمالُ فنَّانات عربيات كوسائط للإيضاح؛ فتعاونتُ أنا وصديقة لي مع صديقتين أخريين لتنظيم المجلس العالمي لفنون المرأة، وكان أول التحديات التي واجهت المجلس هو الوصول إلى فنانات عربيات، والتخطيط لإقامة معرض، وافتتاح هذا المعرض في واشنطن العاصمة حتى يُعرَف بأمره وتصل أخباره إلى صنَّاع السياسة الأمريكيين. لم تكن المهمة هيِّنة، وكان باعثنا على العمل هو إرجاع الطابع الإنساني إلى الوضع في الشرق الأوسط، بعد أن جرَتْ شيطنتُه وتجريدُه من إنسانيته. كان هدفنا أن نفتح قنواتٍ للتواصُل.

والمجلس العالمي لفنون المرأة هو منظمة أُقِيمت على رماد نيران حرب الخليج، وجَذَبَ المعرض الافتتاحي روَّادًا أكثر من أي معرض سابق في المتحف الوطني لفنون المرأة في واشنطن. وبما أننا قد كتبنا بالفعل عن هذا المجهود في منشورات أخرى (النشاشيبي وآخَرون، ١٩٩٤)، أود هنا فقط أن أذكر بعضًا من هؤلاء الفنانات العربيات اللاتي عبَّرْنَ بكلماتهن وأعمالهن الفنية الخاصة عن علاقتهن بحقوق الإنسان والكرامة بوجه عام في إطار الصراعات المسلَّحة والاحتلال والبيئة الخَرِبَة، وقد تميَّزَتْ قصصهن بردود أفعالهن تجاه الحرب والتلوُّث والهجرة ودورة الحياة الأسرية وغيرها من الحوادث، وكشفت أعمالهن عن فنٍّ ذي طابع سياسي يقاوِم السيطرةَ والهيمنة بنشاطٍ، ويخلق ثقافةً جديدةً. وقد كان الشرق العربي ساحةً للحرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأُخضِع العربُ للحكم الأجنبي على مدار المائتَيْ عام الأخيرة، وهو وضع لم يَفُت هؤلاء الفنانات. ومن هنا نجد أن العنف والتراجيديا والدمار والموت، جميعها دوافع مشتركة بينهن. وفيما يلي بعض النماذج:

سلوى روضة شقير هي إحدى رائدات الفن التجريدي في لبنان، وإحدى أفضل النحَّاتات في العالم العربي، وتسترجع شقير كيف أن التزامها الأول بالفن بدأ تحدِّيًا لأستاذ الفلسفة الذي درَّسَ لها في الجامعة الأمريكية في بيروت، شارل مالك (أحد المشاركين في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أصحاب النزعة الأوروبية)، الذي قال إن «الفن العربي مجرد فن زخرفي منخفض المستوى، وبعيد كل البُعْد عن اعتباره فنًّا أصيلًا؛ لأن العرب لم يستلهموا فنَّهم من العُراة.» فبدأت شقير، طالبة الرياضيات والفيزياء، في استكشاف هندسة الفن الإسلامي وأشكاله وألوانه.

أما الفنانة المصرية إنجي أفلاطون، فقد كانت جزءًا من الاضطرابات التي اجتاحت المنطقةَ عقب الحرب العالمية الثانية، والتي دفعت الفنانات إلى تسييس أعمالهن بانفتاح أكبر. كانت اتجاهات أفلاطون ماركسية تتمثَّل في إعادة هيكلة العلاقة بين مُلَّاك الأراضي والفلاحين، وقد اعتُقِلَت لمدة أربع سنوات في عهد الرئيس عبد الناصر بسبب معتقداتها السياسية، وشكَّلت هذه التجربة الأساسَ لعدد من لوحاتها.

واكتسب الكفاح من أجل حقوق الإنسان بُعْدًا جديدًا مع النزاع الدائر في فلسطين، الذي أدَّى إلى نشوب خمس حروب بين إسرائيل والدول العربية منذ ١٩٤٨م؛ حيث انجذبَتْ منى حاطوم — وهي فنانة فلسطينية من أحد مخيمات اللاجئين في لبنان — إلى فن الأداء، فاستخدمت في فنِّها المتضادات الثنائية بأسلوبٍ سياسيٍّ؛ إذ يتباين في أعمالها النظامُ والفوضى، وكذلك القمعُ والمقاومة، وينكشف دومًا الوجهان المكوِّنان لنفس الواقع: المنتصر/الضحية، القوة/الضعف، الزي العسكري/العري.

أما الحوار الخاص بالاحتلال الاستعماري، فقد عبَّرت عنه حورية نياتي من الجزائر، التي تسترجع ذكريات اعتقال السلطات الفرنسية لها لكتابتها شعارات مناهِضة للاستعمار على الحوائط وهي في سن الثانية عشرة، لتعود بعد سنوات وتُدشِّن سلسلةَ أعمالها الفنية التي حملت اسم «لا للتعذيب»، وقالت عنها: «كانت النساء في الجزائر يحارِبن ويلقَيْن حتفهنَّ، كنَّ يتعرَّضن للتعذيب»، بينما كانت الانطباعات الغربية عن الشرق ترسم صورةً لعالم خيالي من النساء؛ فكانت المرأة العربية تظهر في أعمال ديلاكروا نصف عارية، ولكن النساء الجزائريات في لوحات نياتي لا يشبهن روعة النساء في لوحات ديلاكروا، بل يفضحن ديناميكيات السلطة المتأصِّلة فيها. نياتي تقول لا للتعذيب في كل مكان.

وألهَمَ الحوارُ المتعلِّق بالاستعمار والاحتلال في فلسطين ليلى الشوا من غزة لتسجيل الواقع القاسي للاحتلال الإسرائيلي؛ فأخذت تلتقط الصورَ الفوتوغرافية للوحات الجرافيتي على حوائط غزة قبل أن يغطِّيها جيشُ الاحتلال الإسرائيلي، وصوَّرَتْ كذلك خريطةَ فلسطين التي رُسِمَت على جوانب الحواجز الإسمنتية التي تحيط بشوارع غزة لمنع أطفال الحجارة من الهرب. وفي حديثها عن عملها وتعليقها على صمت العالم «المتحضِّر»، قالت الشوا: «لقد سجَّلتُ وسيلة للتواصل وعقوبات أقَرَّها «العالَمُ المتحضِّر».»

ولعل أكثر التعليقات إثارةً للحزن هو تعليق الفنانة العراقية ليلى كعوش وهي تتحدَّث عن تأثير حرب الخليج على فنِّها:

أثناء الحرب على العراق … ضرب الأمريكيون ذاك المأوى [وكان به] الكثير من الأطفال، فجرى الأطفال كلهم وصرخ أحدهم: «الله أكبر». وكنت أرسم وقتَها لوحةً، وعندما عدتُ إليها، وصدى هاتين الكلمتين في أذني، بَدَا الأمر وكأن الطفل استجمع كلَّ ما يملك من قوةٍ … بَدَا وكأنه يقاوِم الحرب بأسرها بهاتَيْن الكلمتين … فرسمتُهما باستخدام الألوان البخاخة على اللوحة، وطمسَا كلَّ الألوان الذهبية التي كنت ألوِّن بها من قبلُ.

وأذكر هنا أن كعوش هي مَن فقدَتْ أختَها الفنانة أيضًا من جرَّاء عمليةِ القصف الجوي الدقيق التي نُفِّذَت في بداية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس كلينتون.

عبَّرَتِ الفنانات العربيات عن شعورهن بالخيانة، ولخَّصَتِ الفنانة الغزَّاوية مشاعِرَهن عندما وصفت المشاعر الرهيبة التي يحملها العرب إزاء الغرب: «قوة تحاول تدميرك دون أن تحاول بالمرة فَهْمَ كيانك … فَهْمَ أنك تمثِّل ثقافةً عريقةً؛ أنك شعبٌ ينتمي إلى حضارة عظيمة، أن جذورك تضرب في أعماق الماضي فتعود إلى آلاف السنوات.» وقد وصف أحد المُعلِّقين أعمال الفنانات العربيات قائلًا: «تبدو أعمالهن تعبيرًا عن الألم أكثر منها بحثًا عن الهوية.» إن أعمالهن تعبِّر عن نوع الألم الذي قد يستوعبه الناشطون في مجال حقوق الإنسان، إلا أن هموم الفنانات العربيات، همومهن المتعلِّقة بحقوق الإنسان، ليست هي نفسها الهموم التي يحملها نشطاءُ حقوق الإنسان أصحابُ الصوت العالي، الذين يتحاشون في أغلب الأحيان التعرُّضَ للنقاشات التي تتناول انتهاكاتِ حقوقِ الإنسان التي ترتكبها أطراف خارجية، للتركيز على موضوعات مثل ختان الإناث، على حساب تجاهُل قضايا حقوق الإنسان المتعلِّقة بآلاف النساء والأطفال الذين لقوا حتفَهم في عمليات قصف بغداد، أو المتعلِّقة بأطفال الحجارة الذين تُنظَّم حقوق الإنسان الخاصة بهم في فلسطين/إسرائيل. وكما أشارَتِ الفنانات كان صمتُ العالَمِ «المتحضِّر» يصمُّ الآذان.

والعديد من بيننا يساهم في هذا الصمت المُهيمِن على قضايا حقوق الإنسان التي لا تُعَدُّ لائقةً سياسيًّا. ولا تنسَ أن الاعتراض على فكرة حقوق الإنسان في العديد من الدول يرجع إلى منشئها الغربي، والسبب وجيه، كما أن تمييز المخاوف الغربية المتعلِّقة بحقوق الإنسان يدخل في إطار التعصُّب العِرقي، ولا يجوز الاهتمام بهذه المخاوف على حساب المشكلات الأشمل المتعلِّقة بحقوق الإنسان، ولكن السبب في الاهتمام الزائد بها له علاقة بمفهوم استعلاء المكانة؛ فَهُم يمارسون عادةً ختانَ الإناث، وتلك عادة بربرية. ولكننا لا نمارس مثل هذه العادات البربرية؛ على الأرجح.

الصحة وحقوق الإنسان

تتجلَّى العلاقة بين الصحة وحقوق الإنسان في تقريرٍ حول «الصحة العامة وحرب الخليج الثانية» (هوسكينز، ١٩٩٧)، يتناول تبعات عمليات قصف المدنيين عشوائيًّا. فلقد عانَى المدنيون العراقيون لما يزيد عن خمسة أعوام بعد نهاية حرب الخليج الثانية من محنة عصيبة تدهورَتْ خلالها الرعايةُ الصحية والتغذيةُ والتعليمُ والمياهُ والصرفُ الصحي وغيرُها من الخدمات إلى أدنى مستوياتها، ويُعتَقَد أن عدد الأطفال الذين لقوا حتفَهم بعد الحرب وصل إلى ٥٠٠ ألف طفل، وأن السبب الرئيسي لوفاتهم يرجع إلى سوء التغذية وعودة ظهور الأمراض المرتبطة بالإسهال، التي كان من الممكن الوقاية منها بالتطعيم. وكانت الخدمات الصحية تعمل بالكاد بسبب نقص الموارد والمعدات. وفي عام ٢٠٠٧م وثَّقَت باربرا نمري عزيز هذا الدمارَ.

كان العراق قبل حرب الخليج يُصنَّف ضمن الشريحة العليا للدول المتوسطة الدخل، وكان يمتلك بنيةً تحتيةً اجتماعية حديثة، ولكن الانهيار الذي أعقب حرب الخليج في قطاعات الصحة والمياه والصرف الصحي وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأساسية، أدَّى إلى زيادةٍ ضخمةٍ في معدلات الإصابة بالأمراض المُعدِية؛ مثل الكوليرا والتيفود والأمراض الناتجة عن سوء التغذية؛ هذا بخلاف الأثر الجسيم على نسبة وفيات الأمهات والفترة المحيطة بالولادة. كانت النساء العراقيات ترزحن تحت وطأة عبءٍ ثقيلٍ، وترمَّلَت ١٠٪ منهن، علاوةً على ما سجَّلته مجموعات الدراسات الدولية من انتشار الاكتئاب، والتوتُّر، والصداع، والأرق، وخسارة الوزن، واضطراب مواعيد الطمث، وصعوبة الرضاعة الطبيعية، وغيرها من الأمراض. لقد تعرَّضَتْ حياةُ السكان للخطر عندما تأثَّرَ مصدر مياههم مباشَرةً، ثم جاءت المشكلات البيئية التي تسبَّبَتْ في حدوث أنواع مختلفة من التلوُّث السام لِتُفاقِم من حدة الدمار والخراب.

والواقع أن الأشخاص الذين قادوا عمليةَ الخروج من هذا المستنقع يعملون بنشاط في فاعليات الحركة الحالية للصحة وحقوق الإنسان (هيجينهوجن، ٢٠٠٠). ويرى أخصائيو الصحة أن التعامُلَ مع التحديات الحديثة في الصحة العامة من خلال هيكل حقوق الإنسان يُعَدُّ أفضلَ وأفيد من أي منهجٍ آخَر موجود في الطب البيولوجي؛ حيث يزداد أخصائيو الصحة العامة إدراكًا بلزوم التعامُل مباشَرةً مع المفاهيم الاجتماعية الاقتصادية الأساسية التي تحدِّد الأولويةَ في الحياة وأوقات الوفاة وأسبابها. ويتجلَّى أثرُ إدراك أهمية المشكلات المجتمعية في كلية هارفرد للصحة العامة في تسلُّم خريجي الكلية نسخةً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع شهاداتهم، مع التركيز بصفة خاصة على المادة ٢٥ منها المتعلِّقة بحقوق الإنسان والصحة. لا يضطر أخصائيو الصحة العامة إلى الحكْم بأي الأحداث التالية أسوأ: استيلاء حركة طالبان على الحكم في أفغانستان (فايز، ١٩٩٧)، أم مبادرة حرب الخليج، أم السياسات الإندونيسية في تيمور الشرقية! فكل هذه الأحداث ضارة بالصحة. بل نستطيع كذلك جميعًا الاتفاقَ مع جوناثان مان وغيره على أن: «المجتمعات الذكورية تُعرِّض الصحةَ العامة للخطر» (وارد في رودريجوز-ترياس، ١٩٩٢: ٦٦٣؛ انظر كذلك مان، ١٩٩٦). إن العنف الذي تتعرَّض له المرأةُ من الأزواج والعشَّاق — الحاليين أو السابقين — يسبِّب لها إصاباتٍ تتجاوز تلك التي تلحق بها من جرَّاء حوادث السيارات والاغتصاب والسرقة مجتمعةً. ويمكن توضيح أسلوب التفكير الشامل في حركة الصحة وحقوق الإنسان ككلٍّ، بالرجوع إلى قضية الختان أو استئصال البظر أو كليهما.

لقد تكوَّن لديَّ على مدار السنوات نفورٌ من المحاضرات والنقاشات العامة التي تتناول قضيةَ استئصال البظر أو الختان في أفريقيا؛ إذ غالبًا ما ينتج عن هذه المواجهاتِ الاستعلائيةِ وما تتَّسِم به من تبادُلٍ للاتهامات، تشبُّثُ كلِّ طرفٍ برأيه وتصميمه عليه، وهو ما يذكِّرني بالطقس الهندوسي لإحراق الأرامل في الهند (الساتي). فعندما أدانَه البريطانيون وجرَّموه، لم يؤثِّر ذلك إلا في زيادة عمليات تضحية الأرامل بأنفسهن. وطالما رأيتُ أن الحوار الدائر حول التشويه الجنسي يشوبه خللٌ ما، وأنه يحمل قدرًا كبيرًا من التعصُّب العِرقي، ويفتقر إلى مراقبة الذات.

منذ فترة ليست بالطويلة أعطاني أمين المكتبة التي أتردَّدُ عليها كتابًا شائقًا عنوانه «التشويه الجنسي: تراجيديا إنسانية» (دينيستون وميلوس، ١٩٩٧)، وقد حقَّقَ هذا الكتاب ما كان يجب فعله منذ سنوات، وهو نتيجة أعمال المنتدى الدولي الرابع حول التشويه الجنسي الذي أُقِيم في لوزان بسويسرا (وأُقِيمت دورته الأولى عام ١٩٨٩م في كاليفورنيا). اسمحوا لي أن أقتبس جزءًا من مقدمة الكتاب لكي تصلكم فحوى النهج المتَّبَع فيه: «يُعَدُّ التشويه الجنسي مشكلةً عالميةً تؤثِّر على ١٥٫٣ مليونًا من الأطفال وصغار الراشدين سنويًّا، ومن حيث النوع يخضع ١٣٫٣ من الذكور ومليونان من الإناث لعمليات التشويه الجنسي قسرًا كلَّ عام … ويقع الانتهاك مع أول جرح يُشَق في جسم شخص آخر» (دينيستون وميلوس، ١٩٩٧: ٥). ولكن بالرغم من أن تعبيراتٍ مثل «الختان» و«بتر الأعضاء التناسلية» تبدو أقلَّ خطرًا وأذًى ممَّا قد يثير حساسياتنا، فإنها تعبيرات ضارة في النهاية؛ لأنها تُخفِي حقيقةَ ما يُرتَكَب في الواقع في حقِّ الرُّضَّع والأطفال. فبحسب المعتقدات السائدة في الثقافات التي ترتكب التشويه الجنسي في حق الأطفال، لا تخصُّ الأعضاءُ التناسلية الشخصَ الذي توجد بجسده تلك الأعضاء، بل هي تُعَدُّ مِلكًا للمجتمع، وتخضع للسيطرة المباشِرة للأطباء، أو المشعوذين، أو الرموز الدينية، أو كبار أفراد القبائل، أو الأقارب، أو الدولة. وتلقى أعدادٌ كبيرة من الأطفال حتفها نتيجةً لعمليات التشويه الجنسي التقليدية مباشَرةً، وأكثرُ منهم الأطفالُ الذين يشارفون على الوفاة؛ إذ يُقدَّر عددُ الرُّضَّع الذين يلقون حتفهم كلَّ عام من جرَّاء مضاعفات عمليات التشويه الجنسي الناتجة عن بتر القُلْفَة الروتيني، بنحو ٢٢٩ رضيعًا، هذا بالإضافة إلى أن واحدًا من بين كل ٥٠٠ يعاني من مضاعفات خطيرة تتطلَّب الاهتمامَ الطبي الطارئ، وتُجرَى عملياتُ التشويه الجنسي التقليدية بالأساس في أفريقيا والمملكة العربية السعودية وجزر ميلانيزيا في المحيط الهادئ. وتواصِلُ مقدمةُ الكتاب: «إن النشأة الأقرب إلى التلقائية للتشويه الجنسي في تاريخ الولايات المتحدة على يد الأطباء، [تطرح] أدلةً كاشفةً حول الأصول الأسبق للتشويه الجنسي فيما قبل التاريخ» (١٩٩٧: ٦).

وقد بدأتُ ألحظ كذلك أن بعض التقارير الصحفية حول التشويه الجنسي صارت أكثر إنصافًا، ولعله يوجد تغيير ما؛ حيث نشرت صحيفة نيويورك تايمز (١٩ ديسمبر ١٩٩٧م: صA3) خبرًا عن قرار المحكمة العليا المصرية أن الختان وما يشابهه من ممارسات ليس من الممارسات الدينية الإسلامية. ثم صدَرَ مقالٌ بعد أيام قليلة حول بحثٍ كنديٍّ يدعو لاستخدام مسكنات الألم في عمليات ختان الذكور (نيويورك تايمز، ٣٠ ديسمبر ١٩٩٧م: صCT)، لتتبعه رسائل عدة إلى المحرِّر تعبِّر عن الارتياح لاعتراف المجتمع الطبي أخيرًا بأن الأطفال الحديثي الولادة يشعرون بالألم، مع طرح التساؤل: «إذن لماذا يرتكب العديد من المستشفيات هذا الإجراء إذا لم يَكُن يوجد داعٍ لذلك؟» بينما تُنبِّه رسالةٌ أخرى: «أنت ترفض بحكمةٍ ممارساتِ تشويهِ الأعضاء التناسلية في أفريقيا، ولكن كيف تجرؤ على إغفال ذِكْر أن ما يقرب من ١٫٦ مليون رضيع يصبحون ضحايا لعمليات الختان الروتينية كلَّ عام في الولايات المتحدة؟» (نيويورك تايمز، ٣ يناير ١٩٩٨م: صA28).

وشمل كتاب «التشويه الجنسي» العالَم أجمع، ومن بينه الولايات المتحدة، في استعراضه للموضوع؛ إذ لم يتناول حقوقَ الإنسان الخاصة بالآخَرين فقط، ولكن تلك الخاصة بالأمريكيين أيضًا. وقد كسبتُ الكثير من المعلومات التي لم أكن أعلمها أو ألحظها قبل مطالعتي للكتاب. على سبيل المثال: بيَّنَتِ المقابلات التي أُجرِيت مع الأشخاص الذين يقبلون إجراءَ عمليات التشويه الجنسي في كلٍّ من أفريقيا والولايات المتحدة، أنهم يدَّعون أن ممارسات التشويه الجنسي التي يمارسها كلُّ واحد من الإقليمَيْن تكون في أضيق حدٍّ لها، وغير مؤلمة، وتجميلية، ولازمة طبيًّا، وصحية، ووقائية، وتحسِّن الأداءَ الجنسي، وعالَمية، وتُعامَل بأسلوب طبي، وغير ضارة، وعادةً ما يتردَّد كلٌّ من النساء المختونات الأفريقيات والرجال المختونين الأمريكيين في تصديق أنهم قد فقدوا أيَّ شيء؛ بصرف النظر عن حجم الأنسجة التي فقدوها.

أما بالنسبة إلى الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، فالختان يمثِّل لهم انتهاكًا لحقوق الإنسان الأساسية المتمثِّلة في الاستقلال، والسلامة الشخصية، والسلامة الجسدية، والصحة الجسدية والنفسية، وتقرير المصير. ويُمارَس التشويه الجنسي للإناث في ٢٢ دولة، العديد منها دول عربية أو إسلامية، بينما يُمارِس التشويهَ الجنسي للذكور حوالي مليار مسلم، و٣٠٠ مليون مسيحي، و١٦ مليون يهودي (دينيستون وميلوس، ١٩٩٧).

غير أن أكثر فصول الكتاب تنويرًا هو ذاك الفصل الذي تناوَلَ عمليةَ إضفاء الطابع المؤسسي على التشويه الجنسي القسري في الولايات المتحدة. كان اختلال القوى العقلية يُعالَج في الولايات المتحدة منذ زمن بعيدٍ يعود تاريخه إلى عام ١٨٤٥م، عن طريق استئصال الأعضاء التناسلية الخارجية لدى النساء، ومن خلال ممارسات مشابِهة بالنسبة إلى الرجال، وصارت تلك هي الوسيلة المُفضَّلة لعلاج الاستمناء، والصرع، والوقاية من الزهري، والفتق، وسوء الهضم، والتهاب المثانة، وداء مفصل الورك، وانحراف العمود الفقري، وغير ذلك من الحالات (انظر على سبيل المثال فيبلمان، ١٩٩٧؛ وشيان، ١٩٩٧). كذلك كان التشويه الجنسي يُستخدَم لعلاج الشلل عند الفتيات، ثم أصبح من العادات الصحية الأخلاقية. وبدءًا من عام ١٩١٤م، أضحى الأمرُ أشبهَ بحملةٍ لإجراء الختان القسري على نطاق واسع، وتحوَّلَتِ المسألةُ إلى عمل تجاري، واستمرت التبريرات في تقديم التفسيرات — علاجًا للبرود الجنسي، والتهاب المسالك البولية، والوقاية من الإيدز، وسرطان عنق الرحم لدى السيدات، وسرطان القضيب — مع بيع القُلفَة المُستأصَلَة لمختبرات الأبحاث البيولوجية والشركات عبر الوطنية. والهدفُ من هذا السرد التاريخي الإشارةُ إلى أن الهستيريا المتعلِّقة بالأمر كانت بسبب الاستمناء، ثم الصرع، ثم الأمراض المنقولة جنسيًّا، ثم السرطان، ثم الإيدز، وكانت الجراحات الجنسية هي الحل كلَّ مرة، باسم العلم. ولكن لا يمكن استيعاب الوضع المعاصر حول المسألة، وقد أخبرتني إحدى المديرات في جامعة كاليفورنيا ببيركلي في حديثٍ عابرٍ، أنها خضعت لجراحة جنسية في سن السابعة عشرة؛ لأن طبيبها أوصى بأنها ستكون أكثر جاذبيةً لزوجها إن قامت بذلك، وهو ذات الطبيب الذي جعلها تربط ثدييها بدلًا من إرضاع أطفالها لنفس السبب (انظر كذلك شيبر-هيوز، ١٩٩١).

ولكن مع أواخر القرن العشرين كان الأطباء والممرِّضون هم أنفسهم مَن يعارِض إجراءَ الختان، باعتباره خطأً علاجيًّا شائعًا تسبَّب في انتشاره الأطباءُ، وحافَظَ على استمراره اختلاقُ أسبابٍ طبيَّة مزعومة وانتشارها، ومع دحض كلِّ سبب من هذه الأسباب الطبيَّة على أُسُس علمية، سرعان ما كانت تُختَلَق أسبابٌ جديدة لإجراء الختان.

أخيرًا، لا يمكن التفكير في نوع الإنسان بمعزل عن الاعتبارات الأخرى، كما لا يمكن التعامُل معه باعتباره العامِلَ الأساسي في التعامُل مع الأمور، بل ينبغي أن يكون تناولنا مُنطلِقًا من أبعادٍ عدَّة لكي يكون إنسانيًّا. والمثال على ذلك أن قرار آشلي مونتاجو لوضع حدٍّ لتشويه الأعضاء التناسلية للأطفال حول العالم، كان في الأساس عريضةً قُدِّمَت أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. والمُراد من عرض مثال الجراحة الجنسية المُوضَّح أعلاه هو تقديم نموذجٍ لرأب الفجوة بيننا وبين الآخَر، بين النموذج المثالي والواقع، وتقديم وسيلة للحد من مفاهيم استعلاء المكانة، وطريقة لا يحتاج معها نشطاءُ حقوق الإنسان استغلالَ الثقافة كدرعٍ لحماية الممارسات التي تمثِّل انتهاكًا لحقوق المرأة، أو استخدام حقوق الإنسان كسلاح للإمبريالية المعنوية بهدف قمع المجتمعات وأساليب الحياة الأخرى. وقد سمعتُ بأذنَيْ رأسي خلال حرب الخليج الثانية أناسًا يقولون: «اقصفوهم، هؤلاء الذين لا يعرفون كيف يعاملون نساءهم!» أو «انظروا ماذا فعلوا بالأكراد، اقصفوهم!»

حقوق الإنسان والنزعة التجارية

أمرٌ أخير أودُّ أن أعرِّج على ذِكْره فيما يتعلَّق بالمرأة وحقوق الإنسان. لقد استقرَّتْ مفاهيمُ حقوق الإنسان على الساحة المحلية والساحة الدولية، وعلى المستويين الرسمي وغير الرسمي، وفي المرحلة الأولى من صياغة هذه الحقوق كان التركيز منصبًّا على كيان الدولة، وفي الجيل الثاني منها على السياقات المنزلية والمهنية الخاصة، ولكني لم أسمع بالرغم من ذلك أيَّ دراسةٍ مؤكَّدة حول دور النظام التجاري المتوسِّع والمتوغِّل الذي يروِّج بنفسه لعمليات التشويه، مبرِّرًا الأمرَ على أساس أنه «اختيار المرأة». إن حرية الاختيار — كما سبق أن كتبتُ في سياق آخَر — مفهومٌ معقَّدٌ ينبغي تفصيله. وقد ركَّزَ العديدُ من المدافعين عن حقوق المرأة على هذه النقطة تحديدًا في سياق مفاهيم الجمال المعيارية (نادر، ١٩٩٧).

بنهاية عام ١٩٩٤م كانت أكثر من مليون امرأة في الولايات المتحدة قد أجرين عمليةَ زراعة أكياس السيليكون في أثدائهن — و٨٠٪ من هذه الحالات كانت بغرض تكبير حجم الثدي (كوكو، ١٩٩٤) — وهذه الأرقام تواصل الزيادة وتمتد إلى بلدان أخرى كالبرازيل وإيران ولبنان والصين وغيرها من الأماكن. ولكن كيف سنفسِّر سببَ إجراء هذه الجراحة لمجموعة من نشطاء حقوق الإنسان الأفارقة الذين رأوا أن مثل هذا النشاط يندرج تحت بند التشويه؟ كيف سنجعل أشخاصًا من ثقافات أخرى يستوعبون الصلةَ بين حجم ثدي المرأة وثقتها بنفسها ورفاهتها الشخصية وقيمتها الاجتماعية، في حين يرون هم أن ذلك غرسٌ خبيثٌ للأفكار والمفاهيم، واستعمارٌ أبويٌّ لعقل وجسد المرأة، وظاهرةٌ غير طبيعية؟

إنَّ صناعة التجميل — كما نعلم جميعًا — صناعةٌ تعمل على أعلى مستوًى من التنظيم؛ فحجم المال المستثمَر فيها والموضوع على المحك هائلٌ، وأبرز الرسائل التي تنقلها الصور التجارية لمعايير الجمال تتعلَّق بالشباب والنحافة وكِبَر حجم الثدي وملامح الوجه الأوروبية، والسلبية. كما تبيع تلك الصورُ وعدًا بالارتقاء الذاتي من خلال نشر وترويج صورة الجمال الرسمي، وقد وصف أحد الكُتَّاب ما يحدث بأنه قصفٌ ساحِقٌ لنفوس النساء لا يترك مجالًا لحقائق الوجود المادي. وإجمالًا، فإن الصور التجارية للمرأة النموذجية تمثِّل أفضل عملية دعاية للتجميل على الإطلاق، وتشجِّع النساء على الوفاء بمتطلباته عن طريق الجراحة: شد الوجه، وجراحة الجفون، والحقن بالكولاجين، وتجميل الأنف، وشفط الدهون، وأنواع عديدة من جراحات تجميل الثدي. وهكذا تتحوَّل عميلةُ صناعة التجميل المُفتقِدَة إلى الثقة بنفسها إلى مريضة، إلى عليلة مشوَّهة لا يمكن علاج مرضها الاجتماعي وقبحها إلا عن طريق المِشرَط؛ والدور الرئيسي لجرَّاح التجميل هو تشخيصُ الأثداء الصغيرة بالمرض (تشخيصها بمرض قائم بالفعل يُسمَّى تضخُّم الخلايا)، ثم وصْفُ العلاج أو سبيل الشفاء، وهو إعادة تكوين «الثدي الرسمي». وليس من النادر أن تجد جرَّاحي التجميل يقيمون دعايةً عن «نحت الجسم»، ولكن طالما كان التركيز منصبًّا على ثدي المرأة.

يتطلَّب فهم عمليات زراعة أكياس السيليكون في الثدي في الولايات المتحدة استكشافَ النزعة الأبوية للمجتمع، والتسويق التجاري، والجراحات التجميلية المنظَّمَة؛ إذ إن ثدي المرأة الصحي الذي يتمُّ تصوُّره من خلال غرس الإحساس بالنقص، ينتج عنه تكوين فكرة «الثدي الرسمي». هل يُشكِّل هذا المثال حالةَ انتهاكٍ لحقوق المرأة؟ اسأل النساء اللاتي عانين من مضاعفاتٍ طبيةٍ حادَّةٍ، أو اسأل النساء الأفريقيات. إن عملية التشويه التي تُرتَكَب في كلٍّ من الختان وتكبير حجم الثدي، يُزعَم أنها من أجل المرأة وليست في حقِّها، وتكون بغرض إعادة إنتاج مظهرها، بل تحمل أيضًا العمليةُ التي تُجرَى على ثدي المرأة في أمريكا نفْسَ المعنى الاجتماعي تقريبًا المرتبِط بالتشويه الجنسي في أفريقيا؛ ففي كلا المكانين يجري اختيار إجراء الجراحة الترميمية بمعزلٍ عن الفرد المعنيِّ: في بلادنا يُتَّخَذ القرار نتيجةً لعملية إضفاء النزعة التجارية على الأمور، التي تتحوَّل المرأةُ بموجبها إلى آلةٍ، وتُعامَل باعتبارها حالةً مرضية يُجرَى تسليعها، بينما تتخذ الأسرة القرار في أفريقيا.

ولكن إذا كان البعض يرى أن مسألة زراعة أكياس السيليكون في الثدي تقع في المنطقة الرمادية من حيث انتهاكات حقوق الإنسان، فلعلَّ إضفاء النزعة التجارية على الحياة نفسها يُصنَّف مباشَرةً داخل نطاق حقوق الإنسان (باروز، ١٩٩٦). اسأل جون مور، مصدر سلالة «مو» الخلوية، موضوع براءة الاختراع الأمريكية رقم ٤٤٣٨٠٣٢: «ما شعورك وقد سُجِّلت ببراءة اختراع؟ أن أكتشف فجأةً أنني كنتُ مجرد أداة … الأمر يتجاوز كلَّ التصوُّرات. كان يوجد الكثير من التفاصيل … شعرت بالخيانة، أقصد، لقد امتلكوا جزءًا مني لا يمكن استرداده أبدًا» (وارد في: باروز، ٢٠٠١: ٢٤٦).

وقد أقام جون مور دعوى قضائية عام ١٩٨٤م ضد الطبيب، وأعضاء مجلس جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وشركات الأدوية التي رخَّصَت سلالة «مو» الخلوية. وفي عام ١٩٩٠م حكمت محكمة كاليفورنيا العليا بأن الطبيب المُعالِج لجون مور خانَ واجب الأمانة المُلقَى على عاتقه تجاه جون، بعدم إفصاحه عن اهتمامه البحثي والمالي بخلايا جون، إلا أنها رفضت دعوى جون مور بملكية الخلايا المأخوذة من جسده، على أساس أن الأبحاث التي تُجرَى على الخلايا البشرية تلعب دورًا حيويًّا في الأبحاث الطبية. وهي نفس قصة محاولة الولايات المتحدة الحصولَ على براءة اختراع للسلالة الخلوية لسيدةٍ من جماعة الجوايمي الهندية. هل تُعَدُّ هاتان القصتان من قضايا حقوق الإنسان؟ أيًّا كانت إجابتك فإنها لن تغيِّر من حقيقة أن مثل هذه الحالات تؤكِّد على ضرورة إدراج انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الشركاتُ ضمن المعادَلة الكبرى والإطار الأشمل للمسألة. فبأي منطق نتحدَّث عن القتل الجماعي في أفريقيا دون التحدُّث عن صناعة الأسلحة؟ وعجبًا، كيف نجرؤ على الكلام عن العراق دون التطرُّق إلى دور المجمع العسكري الصناعي؟ إن إضفاء النزعة التجارية على الحياة يساعد على ابتذالها والاستهانة بها، ونفس الشيء ينطبق على الحاجة لتجربة الأسلحة؛ لذا ينبغي علينا التعامل مع المعاناة بجدية. في تكساس وفي عهد الحاكم جورج بوش، وُقِّعَ عقدٌ لإقامة مكبِّ نفايات نووية في سييرا بلانكا استهدَفَ تحديدًا مجتمعًا محدودَ الدخل أغلبه من الأمريكيين من أصول مكسيكية. فهل تُعَدُّ تلك من قضايا حقوق الإنسان؟ الموقع على بُعْد ١٦ ميلًا من نهر ريو جراندي، أعلى خزان جوفي (نيشن، ٩ مارس ١٩٩٨م، ص١٩). ولكن أحد زملائي في جامعة بيركلي يجيب بالنفي؛ لأن الغرض الأساسي ليس تدمير حياة الأمريكيين-المكسيكيين، بل هذا مجرد أثر جانبي.

تعليقات ختامية

أتمنَّى أن أكون قد تمكَّنْتُ من توضيح أنَّ تبنِّي مفهومٍ أشمل لحقوق الإنسان يساعد على الحدِّ من النفاق من خلال إدخالنا نحن والآخَر تحت مظلة واحدة تشملنا جميعًا، وتقرِّبنا من الأسباب الجذرية للمشكلات. قد لا يَعتبر الأمريكيون الرئيسَ كارتر بين ألمع رؤسائنا، ولكنَّ الشعوب الأخرى تراه كذلك؛ لأنه على أقل تقديرٍ أعطى أهميةً رمزيةً لحقوق الإنسان في سياسته الخارجية. ولكن لم تكن تلك سوى البداية؛ حيث إن هذا الرأسمال الرمزي لا يفيد إلا إذا كنَّا منصفين. وباختصار، تتطلَّب مصداقية روح حقوق الإنسان أن نتأمَّلَ أنفسنا وكذلك هؤلاء الذين نسعى لمساعدتهم. علاوةً على ذلك، فإن المصداقية تتطلَّب وعيًا أعمق بالأسباب الجذرية للمشكلات، وهو ما يحتاج، من بين أشياء أخرى، أن نفحص على وجه الخصوص المبيعات الصناعية هنا وفي الخارج، ولا داعي لأن تكون الدلالات المرتبطة بالعولمة سلبيةً بالدرجة الأولى؛ وهو ما نعرفه من الدراسات التاريخية لما قبل مجهودات العولمة الأوروبية (أبو لغد، ١٩٨٩)، ولكن إن أردنا أخْذَ خطوةٍ عملاقة للأمام لتحقيق الإنجازات في مجال حقوق الإنسان، فعلينا تحقيق التعاون بين الأشخاص، أو المجموعات والأشخاص، أو المجموعات والمجموعات في جميع أنحاء العالم، حتى يكون متأصِّلًا في فلسفةٍ قائمةٍ على الاحترام المتبادل، ومعرفة بتوزيع السلطة، وبالأعمال الناتجة عن عدم المساواة في توزيعها داخل البلاد وخارجها، التي تترتَّب عليها اليومَ تبعاتٌ بعيدةٌ كلَّ البُعْد عن حقوق الإنسان المبنية على الثقافة والكرامة.

مراجع

  • Abu-Lughod, Janet (1989) Before European Hegemony: The World System AD 1250–1350. New York: Oxford University Press.
  • Aziz, Barbara Nimri (2007) Swimming Up the Tigris: Real Life Encounters with Iraq. Gainesville: University of Florida Press.
  • Berger, Jason (1981) A New Deal for the World: Eleanor Roosevelt and American Foreign Policy. New York: Social Science Monographs, Columbia University Press.
  • Burrows, Beth (1996) Second Thoughts about U.S. Patent #4, 438, 032. Genewatch, 10, no. 2-3, October, pp. 4–7.
  • Burrows, Beth (2001) Patents, Ethics and Spin. In Redesigning Life? The Worldwide Challenge to Genetic Engineering, Brian Toker, ed. New York: Palgrave, pp. 238–251.
  • Coco, Linda (1994) Silicone Breast Implants in America: A Choice of the “Official Breast?” In Essays on Controlling Processes. Laura Nader, ed. Kroeber Anthropological Papers, no. 77, 103–132.
  • Denniston, George C. and Marilyn Fayne Milos (eds) (1997) Sexual Mutilations: A Human Tragedy. New York: Plenum Press.
  • Eckholm, Erik (1998) A Look at Religion in China by U.S. Clerics. New York Times, February 9. Available at http://www.nytimes.com/1998/02/09/world/a-look-at-religion-in-china-by-3-us-clerics.html?pagewanted=all&src=pm (accessed 25 April, 2012).
  • Faiz, Abbas (1997) Health Care under the Taliban. The Lancet, 349. April 26, pp. 1247-1248.
  • Falk, Richard (1992) Cultural Foundations for the International Protection of Human Rights. In Human Rights in Cross-Cultural Perspectives: A Quest for Consensus. Abdullahi Ahmed An-Na’im, ed. Philadelphia: University of Pennsylvania Press, pp. 44–64.
  • Feibleman, Peter (1997) Natural Causes. Double Take Magazine, Winter Issue. Available at http://www.fictionwriter.com/double.htm (accessed April 15, 2012).
  • Heggenhougen, H. K. (2000) More Than Just “Interesting!”: Anthropology, Health and Human Rights. Social Science and Medicine, 50, no. 9, pp. 1171–1175.
  • Hernandez-Truyol, Berta E. (1996) Women’s Rights as Human Rights: Rules, Realities and the Role of Culture: A Formula for Reform. Brook Journal of International Law, xxi, no. 3, pp. 605–677.
  • Hoff-Wilson, Joan and Marjorie Lightman (eds) (1987) Without Precedent: The Life and Career of Eleanor Roosevelt. Bloomington: Indiana University Press.
  • Hoskins, Eric (1997) Public Health and the Persian Gulf War. In War and Public Health. Barry S. Levy and Victor W. Sidel, eds. New York: Oxford University Press, pp. 254–277.
  • Kuenyehia, Akua (1994) The Impact of Structural Adjustment Programs on Women’s International Human Rights: The Example of Ghana. In Human Rights of Women: National and International Perspectives. Rebecca, J. Cook, ed. Philadelphia: University of Pennsylvania Press, pp. 422–436.
  • Lash, Joseph P. (1972) Eleanor: The Years Alone. New York: W. W. Norton & Co.
  • Mann, Jonathan M. (1996) Health and Human Rights. British Medical Journal, 312, pp. 924-925.
  • Morsy, Soheir A. (1995) Biotechnology and International Politics of Population Control: Long-term Contraception in Egypt. SIGNS Journal of Women, Culture, and Society, 20, no. 4, pp. 1054–1057.
  • Nader, Laura (1997) Controlling Processes–Tracing the Dynamic Components of Power. Current Anthropology, 38, no. 5, pp. 711–737.
  • Nader, Laura and C. Jay Ou (1993) Idealization and Power; Legality and Tradition in Native American Law. Oklahoma City University Law Review, 23, no. 1, pp. 13–42.
  • Nashashibi, Salwa, Laura Nader, and Etel Adnan (1994) Arab Women Artists. In Forces of Change: Artists of The Arab World. Washington, DC: The National Museum of Women in the Arts, pp. 1–36.
  • Renteln, Alison (1990) International Human Rights: Universalism versus Relativism. Newbury Park, CA: Sage Publications.
  • Rodriguez-Trias, Helen (1992) Women’s Health, Women’s Lives, Women’s Rights. American Journal of Public Health, 82, no. 5, pp. 663-664.
  • Romany, Celino (1994) State Responsibility Goes Private: A Feminist Critique of the Public/Private Distinction in International Human Rights Law. In Human Rights of Women: National and International Perspectives. R. J. Cook, ed. Philadelphia: University of Pennsylvania, pp. 85–115.
  • Said, Edward W. 1978. Orientalism. New York: Vintage Books.
  • Scheper-Hughes, Nancy (1991) Virgin Territory: The Male Discovery of the Clitoris. Medical Anthropology Quarterly, 5, no. 1, pp. 25–28.
  • Sheehan, Elizabeth A. (1997) Victorian Clitoridectomy. Isaac Baker Brown and His Harmless Operative Proceedure. In The Gender/Sexuality Reader: Culture, History, Political Economy. Roger Lancaster and Micaela di Leonardo, eds. New York: Routledge, pp. 325–334.

هوامش

(1) The paper on which this chapter is based was first presented in Houston, Texas at the Rothko Chapel on March 7, 1998. The author acknowledges with gratitude critical help from many colleagues including especially Dr. Alison Renteln, whose impressive knowledge of the human rights literatures launched this work, Dr. Rania Milleron for her input on health and human rights issues, and Suzanne Calpestri for her insightful attention to human rights material relevant to anthropological interests.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤