الفصل الأول

السِّمات العامة للأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية

إنهم من وطنٍ واحد، وجميعهم مهاجرٌ إلى لغة وطنٍ لا يتكلَّم بها وطنه. وهم واقعون في ازدواجية ثقافية واضحة؛ ثقافة البلاد التي وُلِدوا فيها وانتموا إليها، وثقافة البلد الذي وجدوا أنفسهم يتكلمون لغته، أو يختارونه مَهْجرًا.

هذا هو حال أغلب الأدباء العرب الذين يكتبون إبداعهم باللغة الفرنسية، إن لم يكن حال جميعهم. ولا شكَّ أن هناك مجموعةً من السِّمات العامة التي يمكن أن تربط، فيما بينها، أدبَ هؤلاء الكُتَّاب أو إبداعهم، أو حتى علاقتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، سواء الذي جاءوا منه أو القادمون إليه، وسوف نتحدث هنا عن مجموعة من أهم هذه السِّمات:

ارتبط هذا الأدب في المقام الأول بوجود قوات احتلال فرنسية في بعض البلاد، فلا شكَّ أن بعض الأدباء في المغرب العربي يعتبرون أن لغتهم الأولى هي اللغة الفرنسية، وذلك بواقعٍ أكثر من مائة وثلاثين عامًا من الاحتلال الفرنسي لكلٍّ من الجزائر وتونس والمغرب. وقد لعب الاستعمار الفرنسي دورًا خطيرًا لم يلعبه أي احتلالٍ آخر في دول العالم العربي، حتى فرنسا نفسها لم تلعب مثل هذا الدور في دولٍ أخرى احتلتها في المنطقة. ولعل هذا يرجع إلى عدة أسباب، منها الفترة الزمنية الطويلة التي ظلَّت فيها قوات الاحتلال في شمال أفريقيا، وأيضًا لاقتراب هذه المنطقة جغرافيًّا من فرنسا.

هذا الدور الذي نقصده هو «الفرنسة» أو صبغ البلاد التي احتلَّتها بكل ما هو فرنسيٌّ وخاصةً اللغة. وقد تنبَّه الفرنسيون إلى أن اللغة، باعتبارها المنطوق الأساسي للبشر، يمكن أن تزيد من انتماء المتحدِّث بها إلى ثقافة هذه الدولة.

وعلى مدى أجيالٍ متعاقبة تمكَّنت اللغة الفرنسية من أبناء المغرب العربي، ثم بدأت هذه اللغة تصبح لغتهم الأولى. ولم يعد صعبًا على المواطن العربي الذي ينتقل بين بلاده وفرنسا أن يجد أيَّ اختلافٍ بين اللغة التي يتكلمها في أيٍّ من الأرضَين؛ فزاد إحساسه بالانتماء إلى الأرض الفرنسية من ناحية، كما زاد ارتباطه بالثقافة الفرنسية من ناحية أخرى.

ولذا، فإنَّ الأدباء العرب الأوائل الذين كتبوا بالفرنسية لم يجدوا أية غربة أو غرابة في أن تكون كتاباتهم باللغة الفرنسية، مثل كاتب ياسين. ليس لأن الفرنسية هي لغتهم الأولى فقط، بل لأن علاقتهم باللغة العربية كانت واهية وضعيفة، خاصةً أن تميُّز الكاتب غالبًا، وأساسيًّا هو تميُّزه في اختيار مفرداتِ لغته الأدبية.

ولذا، لم يكن غريبًا على الكاتب أن يكتب باللغة الفرنسية في البداية، ولعلَّ الأمر قد تغيَّر كثيرًا مع زيادة حركة التعريب في شمال أفريقيا. وهنا بدأت الأسباب تتغيَّر؛ حيث بدأت اللغة العربية تعود إلى حالة ازدهارها القديم. ولكن بعض المثقفين وجدوا أنفسهم يمتلكون ناصية اللغة الفرنسية أكثر، ثم وجد الكثير منهم أن الكتابة بالفرنسية أفضل لعدَّة أسبابٍ منها أن الكاتب يمكن أن يتعايش طيلة حياته من عائد كتابٍ واحدٍ لو نشره في إحدى دور النشر الفرنسية، بينما عائدات الكتب الصادرة في العالم العربي هزيلة، ولا تقيم أية حياة كريمة أو غير كريمة للكاتب. ومن هذه الأسباب أيضًا كثرة المحظورات الرقابية في العالم العربي أمام الكاتب، وانكماش حركة النشر والقراءة، بينما ازدهرت هذه الأمور بشكلٍ ملحوظٍ في فرنسا.

ولو نظرنا إلى نفس النقطة السابقة فسوف نجد أن السِّمة الثانية في الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية مرتبطةٌ — في غالب الأحيان — بالمهجر، أي هجرة الكاتب. ومن المعروف أن الأدب العربي قد شهد في بداية القرن ما يُسمَّى بحركة الهجرة الأولى، التي اتجهت نحو أمريكا اللاتينية. وقد شهدت هذه الحركة ازدهارًا ملحوظًا في الأدب العربي المكتوب خارج حدود الوطن؛ حيث ظلَّ الأدباء، لفترة، لا يكتبون إلا باللغة العربية، قبل أن يذوبوا، وأولادهم وأحفادهم في هذه البلاد … أما حركة الهجرة الثانية فقد جاءت من شمال المغرب إلى فرنسا، وقد ازدادت — بشكلٍ ملحوظٍ — عقب استقلال بلاد المغرب العربي. ووصلت حركة الهجرة إلى أعلى معدلاتها في نهاية الستينيات، ومع سنوات السبعينيات إلى درجة جعلت السلطات الفرنسية — كما جاء في جريدة الأهرام ٤ يناير ١٩٨٦م — أن تعتبر اللغة العربية هي اللغة الثانية في المدارس الفرنسية. وقد كتبتْ آني كريجيه كرينكي في كتابها «المسلمون في فرنسا»: أن «المناضلين الذين اشتركوا في الحرب لإخراج الفرنسيين من الجزائر قد سعوا بأنفسهم إلى فرنسا بعد أن أعلنوا: «لقد كسبنا هذه الحرب» … ليعملوا ويقيموا بها. ويبدو أن القادمين من شمال أفريقيا قد أرادوا أن يردُّوا الدَّين لفرنسا فسعَوا لاستعمارها مثلما استعمرتهم.»١
ويهمنا أن نذكر، كما جاء في نفس المرجع السابق، أن عدد الجزائريين الذين وصلوا إلى فرنسا وصل إلى ١,٨ مليون نسمة. والآن، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا ظهرت ثلاثة أجيالٍ من المهاجرين، أو حسبما يقول أحد الشباب المسافرين حديثًا إلى فرنسا … «نتلقَّى ثلاثة أنماطٍ من التعليم: تعليم من آبائنا، وآخر من مدرسينا، وثالث من الحياة … وهذه الأنماط تتضارب، فهؤلاء الذين رحلوا في النصف الأول من الستينيات قد تجاوزوا الآن الثلاثين.»٢

وتقول الكاتبة إن العرب يعملون هناك في مهنٍ عديدة، ويضع أكثرهم عينَيه على عالم الفنون. وتقول إن الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية التي يبدعها المهاجرون تنادي بالارتباط بالوطن الأم من ناحية، والعودة إليه من ناحية أخرى، حتى لا تنقطع الروابط بين المرء ووطنه إذا طال غيابه.

وما دمنا بصدد هذه النقطة، فإن العرب الذين يسافرون إلى فرنسا قد كتبوا باللغة الفرنسية في المقام الأول، ورغم أن المطابع العربية قد انتقلت إلى فرنسا لتصدر الصحف والمجلات والكتب التي توزع في المنطقة العربية لأسبابٍ سياسية وأمنية؛ فإن أدب هؤلاء القادمين من شمال أوروبا كان في الغالب ناطقًا باللغة الفرنسية. أما ما كانوا يكتبونه في مجلاتٍ وصحفٍ مثل «اليوم السابع» وغيرها فكان غالبه مترجَمًا عن اللغة الفرنسية.

لم ينحصر همُّ الكاتب العربي الذي يكتب باللغة الفرنسية بالانبهار فقط بالثقافة الأوروبية، بل كان همُّه الأول هو البيئة العربية وثقافتها القديمة والحديثة؛ ولذا، فنحن نقول إننا أمام أدبٍ «عربي» مكتوب باللغة الفرنسية؛ لأنه مرتبطٌ بالمكان الذي يُكتَب عنه، وبالناس الذين يعيشون في هذا المكان؛ بثقافتهم وسلوكهم الخاص والعام. وهو دائمًا أسير هذا المكان الذي عاش فيه أغلب سنوات طفولته وشبابه لا يستطيع أن ينزع نفسه منه. وأغلب هؤلاء الأدباء عرفوا لحظات الإبداع الأولى في بلادهم قبل أن يفكروا في الرحيل إلى أوروبا، بل إن الكثيرين منهم قد نشروا كتاباتهم الأولى في بلادهم قبل أن يفكروا في الرحيل إلى فرنسا. وعندما تمَّ الرحيل، وهو غالبًا رحيل اختياري، فإن الكاتب ظلَّ ملتصقًا بوطنِه، ليس فقط من خلال احتفاظِه بالجنسية العربية التي جاء منها، بل أيضًا في ارتباطه بالأرض النبع.

ولعلَّ هذا يرجع إلى عدة أسباب؛ منها أن الكاتب مهما فعل، ومهما تجنَّس بالجنسية الفرنسية فهو في منظور الوطنيين الفرنسيين «أجنبيٌّ» مهما فعل. كما أن القارئ الغربي يميل إلى أن يقرأ عن أجواء الشرق، بلغتِه، من قِبَل أدباء قادمين بأنفسهم من هذه المنطقة وينتمون إليها، وليسوا مجرد سائحين سافروا لبضعة أيامٍ أو أكثر للإقامة في الشرق، ثم يعودون مرة أخرى حاملين ذكرياتٍ عابرة.

لذا، فنحن نؤكد أنهم أدباء «عرب» إبداعًا وانتماءً … وقد تكون هناك حالاتٌ استثنائية، غيَّرت في إبداعاتها الأدبية مثلما حدث مع جويس منصور مثلًا، لكن هذه الشاعرة المصرية كانت منذ البداية سريالية الاتجاه … حاولت في كل أعمالها تجريد المكان من مدلولاته ورموزه.

والكاتب العربي الذي هاجر إلى فرنسا للمعيشة فيها كان مضطرًّا بدافع الضرورة؛ فلو لم يفعل ذلك فلن يكون مقروءًا، لا في بلاده، ولا في فرنسا، مثلما حدث مع الشاعر المصري أحمد راسم. وهؤلاء الكُتَّاب لا ينبهرون عند سفرهم إلى فرنسا بنفس الدرجة التي تحدث لمن يكتبون عامة باللغة العربية؛ لأنهم يحسُّون أنهم توجهوا إلى بلدٍ يعرفون لغته وثقافته، موجود داخلهم، وكثيرًا ما تدفع الهجرة، أو فلنقل المنفى الاختياري، الكاتب إلى أن يرتبط أكثر بجذوره القادم منها، وألا ينفصل عنها. وبعض هذا الأدب يتحدَّث عن التباين الذي اكتشفه الكاتب في هذا المجتمع الذي يعامله على أنه «عربي»، أو مواطنٌ من الدرجة الثانية، فلا يسعى إلى نفي هذه الهوية، بل يؤكدها … هو في كلا الجانبين: العربي والفرنسي يُعتبَر غريبًا، وأجنبيًّا … وقد اتضح هذا الأمر في مقدمة رواية «نجمة» للكاتب الجزائري كاتب ياسين، حيث أكد صاحب دار نشر سوي Seuil أننا أمام كاتبٍ أجنبي.

لعبت المدارس الأجنبية التي تم إنشاؤها في كلٍّ من مصر ولبنان وسوريا دورًا في تكوين مجموعاتٍ من الناس يحسُّون أنهم ينتمون إلى ثقافة واحدة. ففي البداية تم إنشاء مدارس فرنسية لأبناء الخبراء والموظفين الفرنسيين الذين استعانت بهم الحكومات في مصر والشام، ثم بدأ أبناء البلد من المواطنين في الانضمام إلى هذه المدارس. وقد خلقت هذه الظاهرة التعامل المباشر باللغة، أولًا في المجتمعات المغلقة، كالبيوت والنوادي والصالونات، باللغة الفرنسية. وقد اعتُبرت هذه الظاهرة سمةً من سِمات الارتقاء الاجتماعي، لأنه في تلك الآونة، وربما حتى الآن، فإن تكاليف الدراسة في مثل هذه المدارس لا تتناسب إلا مع أصحاب الدخول المرتفعة. وقد تولَّدت صداقاتٌ عميقة بين المتحدثين بالفرنسية أو «المتفرنسين»، وظهرت حركة نشِطة لصناعة أدبهم، بدأت أولًا في المدن الساحلية كالإسكندرية، ثم انتقلت إلى العاصمة. بمعنى أنه كان هناك الأدباء أولًا. ثم كان لا بد من ظهور صحفٍ ومجلاتٍ لتستوعب كلَّ هذا الإنتاج، ثم كان لا بد من ظهور نقادٍ لهذا الأدب من الذين يكتبون أيضًا باللغة الفرنسية.

انقسمت المنطقة العربية جغرافيًّا إلى قسمَين رئيسيَّين، حسب البيئة التي يتكلم بعض أدبائها باللغة الفرنسية. القسم الأول يمثِّل مصر وسوريا ولبنان، ثم القسم الثاني الذي يمثِّل المغرب والجزائر وتونس … وقد بدا كأن هناك انقسامًا ما واضحًا بين القسمَين، وفي كلٍّ منهما كانت حركة الأدباء واتصالاتهم تتم بشكلٍ حيوي، بينما تبدو الأمور كأن هناك سورًا عاليًا يفصل بين القسمَين. فقد راح أدباء لبنان وسوريا ينتقلون بين القاهرة وبيروت؛ فتعلَّم أبناء دمشق وبيروت في بعض مدارس الإسكندرية، وصنع هذا أدبًا عربيًّا وليس محليًّا. فقد أحسَّ اللبناني — غالبًا — أنه في وطنه مصر، وكم كتب عنها كأنه مصري، مثل جان أركاش وأندريه شديد وسيلين أكسلوس. وفي الكتب التي تتحدث عن أدباء لبنانيين يكتبون بالفرنسية نجد أن الكثيرين منهم عاشوا طويلًا في مصر … وليس بين أيدينا مِن كتَّابٍ مغاربة جاءوا للعيش في القاهرة سوى روبيربلوم الذي جاءت أسرته من تونس لتعمل في القاهرة عام ١٩٠٤م، ولكن إقامته لم تطل بها؛ حيث رحلت أسرته عام ١٩٢٤م إلى باريس.

أما في المغرب العربي فقد بدت الصلة قوية بين أدباء الدول الثلاث، ولكن حالات الاتصال مع أدباء الشرق العربي لم تكن بنفس القوة. ولعل هناك اتصالًا حدث فيما بينهم عندما اختار الكثير منهم باريس من أجل الإقامة فيها؛ فارتبط بعضهم بصداقاتٍ قوية مع الأدباء الفرنسيين، مثلما حدث مع ألبير قصيري وأندريه شديد. بينما راح كاتبٌ مثل الطاهر بن جلون يكتب عن الأدب العربي بشكلٍ عامٍّ وتعريف القارئ الفرنسي باتجاهاته وجذوره.

هناك ظاهرةٌ في غاية الأهمية، وهي أن الأدب العربي المكتوب بالفرنسية لم يقتصر على أبناء طائفةٍ دون غيرها، أو أبناء دينٍ دون غيره. فهناك أدباء يونانيون اختاروا الكتابة باللغة الفرنسية، وهناك أدباء أرمن كتبوا أيضًا في مصر باللغة الفرنسية، بل هناك من لهم جذورٌ إيطالية، كما كتب هذا الأدب مسيحيون ومسلمون ويهود. وإذا كان بعض الكُتَّاب قد اهتم، بشكلٍ عابر، بمسألة الدين، خاصةً بعض اليهود، فإن الكاتب العربي الذي يبدع باللغة الفرنسية كان همُّه الأساسي هو الارتباط بالمكان … حيث كان لدى هذا الكاتب شغفٌ خاصٌّ بالمكان، سواء عندما عاش فوقه أو عندما هجره إلى أرضٍ أخرى للإقامة فيها. فأدباء مثل ألبير قصيري وقوت القلوب وكاتب ياسين وإدريس شرايبي ورشيد بوجدرة قد كتبوا عن بلادهم العربية، واختاروا قاع هذا المجتمع بالذات، وهم يعيشون فوق أرضها. وذلك قبل أن يرحلوا إلى فرنسا. وسوف نرى أن الأدباء المغاربة من اليهود قد ارتبطوا على سبيل المثال بالحركة الوطنية لمناهضة الاستعمار … وسوف نرى أن هؤلاء الأدباء اليهود من المصريين قد توجَّهوا إلى فرنسا، ولم يفكر أيٌّ منهم في الاتجاه إلى تل أبيب، كما لم يشأ أيٌّ منهم أن يمارس لعبة السياسة، وكانوا يكتبون دائمًا عن أوطانهم التي جاءوا منها خاصة إدموند جابيس، أو جابيس، الذي ترك مصر عام ١٩٥٧م، وظلَّ يكتب قصائد عن الصحراء المصرية حتى مات عام ١٩٩٠م.

وإذا كانت المدارس الفرنسية قد استقبلت في أول الأمر الكثير من المسيحيين في مصر، فإن المسلمين ما لبثوا أن التحقوا بهذه المدارس. وهكذا فإن الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية كان مرتبطًا في المقام الأول بالمكان قبل الدِّيانة، بل إن الدِّين كان يأتي دائمًا في الخلفية؛ حيث كان اهتمام هؤلاء الأدباء هو الاطلاع على الثقافات المعاصرة، والتعريف بها، ومحاولة تحطيم الأشكال التقليدية في الفن، وخاصة في فن الشعر.

هناك سمة غريبة في لغة الكاتب، وخاصة الروائي العربي الذي يكتب باللغة الفرنسية؛ فعند قراءة أعمال ألبير قصيري أو أندريه شديد، أو عند قراءة الأعمال الأخيرة لكاتب ياسين أو الطاهر بن جلون؛ فسوف نلاحظ أن الحوار الفرنسي المكتوب في هذه الروايات مكتوبٌ أساسًا في داخل الكتاب باللغة العامية، وأنَّ الكاتب قد قام بترجمته من هذه اللغة المحلية إلى الفرنسية مباشرة. وقد اتضحت هذه الظاهرة في رواياتٍ من طراز «نوم الخلاص» و«اليوم السادس» لأندريه شديد؛ حيث إن أبطالها يسكنون البيئات الشعبية، ويستخدمون مصطلحاتٍ شعبية في المقام الأول. وتبدو هذه الكلمات واضحة لدى متابعتها. ولا شك أن من قام بترجمة مثل هذه الروايات سوف يقع في حيرة أمام ترجمتها إما بالفصحى أو العامية. وقد حدث هذا لمترجم رواية «نوم الخلاص» المنشورة في روايات الهلال عام ١٩٩١م. والغريب أن القارئ لم يستسِغ هذه اللغة، باعتبار أنه أمام أدبٍ مترجَم؛ ولذا، فإن كاتب هذه السطور قد وقع في نفس الحيرة وهو يترجم روايات «شحاذون ومعتزون» و«منزل الموت الأكيد» و«العنف والسخرية» لألبير قصيري إلى اللغة العربية، واختار اللغة العربية البسيطة، خاصة عند ترجمة الحوار، رغم أنه يعرف أن في هذا قصورًا واضحًا.

انحصر الإبداع العربي المكتوب باللغة الفرنسية في الشِّعر في المقام الأول … ثم في الرواية وفن القصِّ بشكلٍ عامٍّ. وقد جاء الشعر في هذا المقام لما لهذا الفن من مكانة لدى المبدع العربي في المقام الأول. وقد استفاد الشاعر العربي الذي يكتب بالفرنسية، خاصة في الشرق العربي، من شكل القصيدة الفرنسية؛ فراح يسعى بدوره إلى كسر البِنية التقليدية للقصيدة العربية، ولم تجئ الاتجاهات الحديثة في الشعر، المعروفة باسم الحداثة، إلا من خلال هذا الالتقاء.

وبينما غلب فن الشعر في مصر ولبنان وسوريا إلى جانب الرواية، فإن الروائيين قد تملَّكوا ساحة الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية في المغرب العربي. وبشكلٍ عام، فإن هذا يرجع إلى الحركة التاريخية، باعتبار أن الأدب العربي المكتوب بالفرنسية في الشرق العربي كان أقدم من مثيله في المغرب العربي؛ وعليه، فقد بدأ بالشِّعر، ثم لمعت الرواية. أما الأدباء العرب في المغرب فقد ظهروا في منتصف الأربعينيات في زمن ازدهار الرواية. ورغم هذا؛ فإن الكثير من هؤلاء الكُتَّاب قد كتبوا الشعر والرواية في نفس الوقت، مثل الطاهر بن جلون وأندريه شديد وكاتب ياسين وغيرهم.

من الغريب أن هذا الأدب قد احتضنه الفرنسيون، وقدَّموا عنه الكثيرَ من الدراسات، بينما ندرت مثل هذه الدراسات في الوطن العربي. وعلى مدى علمي، فإنه لا يوجد كتابٌ واحدٌ باللغة العربية عن هذا الأدب. ولكن حكومات المغرب العربي تنظر دائمًا بعين الارتياح إلى الهجرة الدائمة التي يقوم بها بعض أبنائها إلى أوروبا؛ حيث إن أغلب المهاجرين يحقِّقون إنجازاتٍ بارزة في ميادين الأدب والفن بشكلٍ عام. فقد حظي عربٌ عديدون بمكانة متميزة في مجال الأدب والسينما. وسعيًا وراء تقليل المسافة بين المهاجرين وأوطانهم فإن الجزائر، مثلًا، تبثُّ إذاعة لأبنائها في المهجر باللغة العربية، وتذيع القرآن الكريم والسنة النبوية وبعض التعاليم الدينية التي يجب أن يحافظ عليها المسلمون في غربتهم، وتحثُّهم على اتِّباع تعاليم دينهم والارتباط بالتقاليد الشرقية أينما كانوا. ولذا؛ فإن العربي ما إن يعود إلى بيته حتى يحسَّ أنه عاد إلى بلده … لأنه مؤثَّث على الطراز العربي: الجدران والأثاث واللغة؛ ولذا فإن الحنين أقل حدة. ولا شك أنه قد ظهر نوعٌ ثالثٌ من الأفراد الذين مزجوا بين العربية والفرنسية ليس فقط في اللغة، ولكن أيضًا في العادات المتناقضة بين العالمَين.

كان السؤال المطروح دومًا هو عن علاقة الكاتب العربي المهاجر بالوطن الذي هاجر إليه. فهل يُعَد الكاتب العربي المهاجِر إلى باريس عبئًا على ثقافتها، أم إضافة إليها؟ لقد خصَّصت الحكومة الفرنسية في عام ١٩٧٧م مبلغ عشرة آلاف فرنك لكل مهاجرٍ يعود إلى بلده؛ ففرنسا إذن تسعى إلى التخلُّص من بعض العمالة المهاجرة إليها وليس كلها. لكن بلا شك، فإن فرنسا مستفيدة من هذه العمالة على المستوى المهني من ناحية، ومن الناحية الثانية على المستوى الفكري والثقافي كما قال عبد الله بوحميدي: «إن ما قدَّمه المهاجرون إلى الثقافة الفرنسية لم يكن يُستهان به في خاتمة المطاف؛ فبفضل رحلاتهم المتعددة بين شواطئ البحر المتوسط شمالًا وجنوبًا أصبحوا يشكِّلون رابطة عضوية بين فرنسا والمغرب العربي، ويسهمون بذلك في التقاء الثقافتين».٣ كما أنها أصبحت أكثر وعيًا بتعدُّد مقومات هويتها؛ فقد تعرَّفت تلك الهوية على حقيقتها، ووقفت عند مصادر ثرائها. والأدب المكتوب باللغة الفرنسية صادر أغلبه، خاصةً في السنوات الأخيرة، عن دور النشر الفرنسية. وقد كان جزءٌ كبيرٌ من هذا الإبداع منشورًا في البلاد العربية خاصة المكتوب في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات في مصر ولبنان. لكن الأدب العربي المكتوب بالفرنسية في السنوات الأخيرة صادر داخل فرنسا وبتمويلٍ فرنسي، ومع ذلك فإنه يحمل روحًا جديدةً وهوية مختلفة. فبدا كأن بعضه قد تم تطعيمه بخبرات الهجرة؛ فالازدواج الثقافي أصبح غالبًا، وبدت الحركية في الأعمال الإبداعية الجديدة، وقد أدى ذلك إلى ازدهار هذا الأدب بشكلٍ ملحوظٍ يدفعنا إلى أن نخصِّص له كتابًا.
١  Les muslumans en France, Annie K. Kriniki: Maisonneuve, Paris, 1985, p. 32.
٢  المرجع السابق.
٣  مجلة رسالة اليونسكو، العدد ٢٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤