الفصل الرابع

الأدب الفلسطيني المكتوب باللغة الفرنسية

اختلفت تجربة الكاتب الفلسطيني الذي يعيش في الشتات، من حيث علاقته باللغة التي يكتب بها أدبه، عن أقرانه من الأدباء العرب الآخرين الذين يكتبون باللغة الفرنسية. فرغم أن هذا الكاتب وجد نفسه في شتات، إلا أنه لم يشأ أن يغيِّر من لغته التعبيرية؛ لإحساسه أنها شيء أساسي ورئيسي يربطه بوطنه الذي تشتَّت عنه. ونقصد بذلك الفلسطينيين الذين اختاروا أن يعيشوا خارج حدود الأرض العربية. وقد حاول السينمائيون من هؤلاء الفلسطينيين أن يقدموا أفلامًا ناطقة بلغاتٍ غير عربية، وذلك لأن على المخرج أن يمتثل لشروط المنتِج، ولمَّا كان المنتِج في أغلب هذه الأحيان أوروبيًّا فإن الأفلام الروائية والقصيرة التي قدمها الفلسطينيون ناطقة بلغاتٍ أوروبية، مثل أعمال ميشيل خليفي التي أُنتِجت في بلجيكا.

لكن الفلسطينيين لم يشاءوا أن يكتبوا إلا بالعربية، مهما عاشوا خارج حدود الوطن العربي، والأسماء كثيرة في هذا المضمار، ومنهم على سبيل المثال أفنان القاسم.

وسوف نقدِّم هنا كاتبًا فلسطينيًّا تشكِّل حالته كمبدعٍ لونًا فريدًا في الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية، وهو الكاتب إبراهيم الصوص. فهو دبلوماسي فلسطيني عمل سكرتيرًا عامًّا لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس منذ سنواتٍ طويلةٍ. إذن فهو موجود هناك بحكم منصبه الدبلوماسي، وليس مفروضًا عليه أن يكتب باللغة الفرنسية. لكن إبراهيم الصوص وجد نفسه في المدينة اليهودية الأولى في غرب أوروبا — باريس — والتي تضم أكثر من تجمع يهودي، واليهود هم الذين يسيطرون على الكثير من صحافة المدينة، وهم الذين يطلقون على الأشياء مسمياتهم الخاصة كأن نقول «أدب يهودي» و«فلسفة يهودية» و«فن تشكيلي يهودي» وما إلى ذلك؛ إذن، فكل من يحاول الخروج على هذا الناموس الذي يضعه اليهود متَّهم بمعاداة السامية، وقد يكون نازيًّا يريد أن يعيد للعالم صورة هتلر الذي عذَّب اليهود، ووضعهم في معسكرات الاعتقال الشهيرة.

أدرك إبراهيم الصوص أنه من أجل أن يفهم الفرنسيون قضيته التي يدافع عنها فيجب أن يمارس لونًا من الكتابة أقرب إلى هذه العقلية، يبعد صورة الشخص الزاعق الذي يدافع عن أرضه. فلا شك أن الكتابات التي تتفق مع عقلية الفرنسيين سوف تمرُّ من خلال مرشح خاص، لدرجة أن بعض اليهود أنفسهم لن يمانعوا في المساعدة لنشر مثل هذه الأفكار إلى القارئ في كل أنحاء أوروبا، ما دام أن أهداف هذا الإبداع، لا تتعارض مع ما ينادون به.

إذن، كان على إبراهيم الصوص أن يتغلغل من خلال أفكاره الخاصة ككاتبٍ مبدع، حتى وإن كانت هذه الأفكار لم تكن تناسب في البداية أهداف منظمة التحرير الفلسطينية التي يعمل ممثلًا لها في باريس منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا، إلا أن أشخاصًا من طراز الصوص ساعدوا في تغيير أفكار المنظمة.

لقد اختار الصوص أن يتحاور مع اليهود على الطريقة الأوروبية، أن يذهب إليهم في عقر دارهم، فيناقش ويبدع كما يشاء. ككاتبٍ متمكِّن يفهم ما يدور حوله. فقد دفع في أواخر عام ١٩٨٦م بروايته الأولى «بعيدًا عن القدس» Loin de jérusalem إلى ناشرة باريسية تُدعى ليانا ليفي، وغير خفيٍّ اسمها اليهودي، وانتهزت الناشرة الفرصة كي تدْفع بكتاب الصوص إلى السوق مصحوبًا بكتابٍ آخر من تأليف الكاتب الإسرائيلي يوري آفينري يحمل اسم «أخي العدو». ولم تكن مصادفةً أن تقوم دور نشرٍ فرنسية أخرى بدفع كتبٍ مماثلة من طراز «أشقاء إسرائيل الثلاثة» لشالوم كوهين، و«أنا يهودي عربي في إسرائيل» لمردخاي شوشان، وغيرها من أعمال الكُتَّاب الإسرائيليين الذين تُترجم أعمالهم مباشرة إلى اللغة الفرنسية.

أما رواية الصوص فهي مكتوبة مباشرة باللغة الفرنسية، وتروي قصة شاب فلسطيني يُدعى نبيل وفتاة يهودية مراهقة تسمَّى جابريللا. إنهما يعيشان في نفس المنزل بمدينة القدس، تربَّيا معًا. واقتربا من بعضهما البعض طوال سنوات الطفولة والصبا حتى ترعرعا، وتحابَّا ثم تزوَّجا. تبدأ أحداث الرواية عام ١٩٣٥م، قبل أن يتم نفي نبيل بثلاثة عشر عامًا بعيدًا عن مدينة القدس. والرواية أقرب إلى السيرة الذاتية؛ فإبراهيم الصوص لم يكن قد ولد في عام ١٩٣٥م الذي تدور فيه الأحداث. أما جابريللا فقد كان الصوص في الثالثة من عمره عندما شاهدها لآخر مرة، حين تم نفيه خارج القدس عام ١٩٤٩م مع أبيه الذي ظلَّ محتفظًا بمفتاح البيت الذي أقامت فيه، فيما بعد، أسرة يهودية جاءت من رومانيا. وعندما تركت أسرة الكاتب مدينة القدس عثر الصغير على بيانو قديم تعلَّم عليه عزف المقطوعات الموسيقية، وقد دفعه هذا إلى دراسة الموسيقى في باريس ثم لندن التي ألَّف بها أولى مقطوعاته الموسيقية، ثم عمل ممثلًا للمنظمة.

لقد حوَّل الصوص مهنة بطله من شاعر إلى موسيقار. فمن المعروف أن الصوص قد بدأ حياته شاعرًا، ونشر ديوانًا بالفرنسية يحمل عنوان «دافيد وجوليات»، ثم جاءت روايته باللغة الفرنسية التي اجترَّ فيها ذكريات الطفولة عن أبيه، حيث يروي تاريخ أسرته منذ عام ١٩٣٥م وحتى الآن. وقد أبدى الصوص إعجابه بأدب مرجريت دوراس وباتريك موديانو، وهو كاتب فرنسي يهودي من أصل تونسي. وفي الرواية تحدَّث عن مذبحة دير ياسين، وحرب عام ١٩٤٨م. وكما يقول ألكسندر بوساجون إن الصوص: «يكتب بلا حقد، ولكن هذا يكفي لتسوية الصراع الذي يسمِّم الشرق الأوسط والعالم منذ ثلاثة أجيال. ولكنه حسبما يقول: لست مسالمًا، ولكن شعبينا لا يمكنهما أن يمارسا الحرب إلى الأبد.»١

وجابريللا في الرواية يهودية، جاءت من ألمانيا بعد أن تعرَّضت أسرتها لمضايقات النازية التي كانت قد استولت على الحكم لتوِّها. وقد اختار الكاتب فترة الثلاثينيات لروايته؛ لأنها، كما يقول، لم يكن فيها «رجال مسلحون جاءوا من بلادهم من أجل البقاء في إسرائيل، ويحوِّلونها إلى مستعمرة متعجرفة.»

أما الكتاب الثاني لإبراهيم الصوص فقد نشر في أبريل عام ١٩٨٨م، تحت عنوان «رسالة إلى صديقٍ يهودي» Lettre a un ami juif وليس خافيًا أن الكاتب قد استعار هذا العنوان من كتيبٍ صغيرٍ كتبه ألبير كامي عام ١٩٤٢م، تحت عنوان «رسالة إلى صديق ألماني» إبان الاحتلال النازي لفرنسا. والكتاب ليس إبداعيًّا، ولكنه نصٌّ سياسي في المقام الأول. وقد اختار الصوص أن يكون ناشره هذه المرة دار غير يهودية. وتقول مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» إن الكتاب قد جاء كرسالة خالصة من الكراهية قبل الاحتفال بأربعين عامًا على قيام الدولة العبرية، وبعد فترة من مقتل المناضل الفلسطيني أبو نضال في تونس. وتقول المجلة إن الكاتب قد دعا هنا يهود الشتات أن يبرهنوا على حسن نواياهم بإقناع إسرائيل بالتفاوض مع المنظمة، ويهمُّنا أن نترجم جزءًا من الحديث الذي نشرته المجلة مع الكاتب بهذه المناسبة لإلقاء الضوء على آراء الكاتب:
  • لونوفيل أوبسرفاتور: لماذا تكتب الرسالة إلى صديق يهودي، وليس إلى صديق إسرائيلي؟
  • إبراهيم الصوص: في الواقع، لقد ترددت طويلًا، فإذا كتبت رسالة إلى صديق إسرائيلي، فإن عليَّ أن أوجِّهها إلى صديقٍ إسرائيلي حقيقي، وعليَّ أن أكتب إلى الإسرائيليين في معسكر السلام، الذين يتظاهرون في الشارع ضد قهر الجيش الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة. ولقد قلت لهم: حاولوا أن تذهبوا بعيدًا، وأن تحموا الفلسطينيين، في كل مرة ترون فيها الجنود أو العسكر يهاجمون قرية. ضعوا أنفسكم بين الجيش والفلاحين. في كل مرة ترون الجيش يفجِّر منزلًا بالديناميت، ادخلوا المنزل مع الأسرة الفلسطينية؛ لأنكم سوف تمنعون الانفجار.

ولكنني أعرف أن حركة السلام تشكِّل أقلية، وأنها كانت أقل قوة أثناء حرب لبنان. وعندما تظاهر أربعمائة ألف إسرائيلي في تل أبيب ضد مذبحتَي صابرا وشاتيلا كانت نسبة الإسرائيليين الذي يفضِّلون سياسة الضغط، ويقبلون سياسة أكثر تشددًا قد ارتفعت، إذا لم تكن حركة السلام قد فرضت نفسها على التجمعات اليهودية في الخارج، فإنها خُنقت؛ ولذا، وجَّهت رسالتي إلى كل اليهود عبر هذا الصديق الذي تخيَّلته.

– ألا تخشى أن يخرج الصديق من جيبه ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، ويخبرك أنكم تريدون تدمير دولة إسرائيل؟

– لا، فعندما سألت هذا الشخص أن يكون شجاعًا مثل الإسرائيليين الذين ينزلون إلى شوارع تل أبيب بنداء حركة السلام، عندما أتكلم عن الشعب الإسرائيلي أقول إن هذا الشعب له حق الوجود، وياسر عرفات نفسه لا يكفُّ عن ترديد هذا. نحن لا نحارب أشباحًا، وأنا أدعو الإسرائيليين أن يخرجوا ميثاقهم بدورهم، وألا يتجاهلوا وجود الشعب الفلسطيني. أقول للصديق اليهودي: إذا أردت أن تلغي ميراث الهولوكست فيجب أن تعرف أيضًا من ناحيتك، وتعي ماضينا. أعرف أنك يجب أن تعيش في سلامٍ وأمن، وأعرف مدى ارتباطك الروحي بهذه الأرض؛ ولكنني لا أعرف أن لليهود الحق في أرض الفلسطينيين، الحق التوراتي غير موجود، فحقي يأتي من أنني قد وُلِدت هناك، ويجب أن أعيش هناك. ولا أرى، أخذًا في الاعتبار الارتباط الروحي، إن حق اليهود يمكن أن يكون على أرضي، ومع هذا فأنا بوصفي فلسطينيًّا أقول لهم: ما دام ارتباطكم الروحي موجود، فأنا مستعدٌّ للمعايشة معكم، تعالوا معي للعيش على مقربة.

ولكن الزمن يمرُّ بسرعة. منذ اندلاع الانتفاضة في الأرض المحتلة، لم يعد يوجد سوى مائة وخمسين قتيلًا وآلاف الجرحى، والمبتوري الأعضاء، والمطرودين، والمساجين، القتلى والجرحى لديهم أسر وأصدقاء وعلاقات؛ حتى تتخيلوا درجة الحقد، ورغبة الانتقام التي يمكن أن توجد في الشعب الفلسطيني. لقد سمعتم تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يشبِّه الفلسطينيين بالجراد. لقد سمعتم عن عنصرية المستوطنين، فالفلسطينيون يشمُّون من هذه النغمة من العنصرية ضدهم، أنهم لا يمكن أن يكونوا سعداء بتشبيههم بالجراد، فلا يجب أن نعاملهم كالحشرات، ندهسهم ويموتون.

– هل قرأ ياسر عرفات مسوَّدة كتابك؟

– لا، ولكن ليس في هذا الكتاب ما يستحق أن يوقِّع عليه بنفسه.

الجدير بالذكر أن مجلة «لوبوان» الفرنسية قد نشرت في عددها الصادر في ٣ أكتوبر ١٩٨٨م أن ياسر عرفات أكد أمام رولان ديماس وزير الخارجية الفرنسية آنذاك: «لن أكون رئيس الحكومة الفلسطينية المؤقتة» ثم استدار، كما تؤكد المجلة، ناحية إبراهيم الصوص، وهو يقدِّمه مردِّدًا: ربما سوف يكون إبراهيم الصوص. والغريب أن الكاتب قد طلب بعد هذا التصريح بشهورٍ من السلطات الفرنسية أن تمنحه الجنسية الفرنسية، وقد كان.

لم يتأخر الرد الإسرائيلي كثيرًا على كتاب إبراهيم الصوص، فرغم أن الكاتب الفلسطيني لم يوجِّه رسالته إلى كاتبٍ بعينه، فإن الكاتب الإسرائيلي إيلي بارنافي قد ردَّ على إبراهيم الصوص في كتيبٍ صغيرٍ يقع في ثمانين صفحة تحت عنوان «رسالة من صديق إسرائيلي إلى الصديق الفلسطيني» بالتعاون بين مجلة الإكسبريس ودار نشر فلاماريون. وهو مدرس في جامعة تل أبيب. وأعتقد أنه ليس مجالنا ونحن نتحدث عن الأدب العربي المكتوب بالفرنسية أن نرصد ما جاء في هذا الكتاب، لكن يمكن أن نقدم بعض أفكاره؛ لأن ذلك كله قد جاء من مبدعٍ بدأ يتعامل في الصراع العربي الإسرائيلي بمفهومٍ جديدٍ. حيث يقول الكاتب: «علينا أن نتحاور مع منظمة التحرير الفلسطينية، لأن الكثير من الدلائل قد تغيَّرت، فعندما جرؤت حنا سنيورا الصحفية وإحدى المتحدثات باسم عرب الداخل أن تقول في القدس إنكم لن تجرءُوا على الكتابة في باريس أن الصهيونية هي الحركة الثرية للشعب اليهودي، لا شك أن هذا يعني، رغم كل ذلك، أن كل شيء يتحرك في ملعب الفلسطينيين.»

ومن الواضح الدور الذي لعبه أدب الصوص في التمهيد للتحاور بين الفلسطينيين، واليهود، وقد حدث ذلك إبان محادثات أوسلو السرية، واختفى الصوص، وها هو عرفات رئيسًا للحكم الذاتي الفلسطيني.

١  L’evenement de jeudi, 23-1-1987, p. 87.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤