الفصل الثامن

أدباء عرب … يهود … يكتبون بالفرنسية

لم تبرز مسألة الدين لدى الأدباء العرب الذين يكتبون بالفرنسية، مثلما يحدث في الكثير من الآداب العالمية … فقد كتب كلٌّ من المسلمين والمسيحيين واليهود باللغة الفرنسية، وذلك لأن أبناء الأديان الثلاثة قد وجدوا أنفسهم في ظروفٍ اجتماعية، وفي أسرات تتكلم اللغة الفرنسية. وقد ارتبطت هذه الظاهرة بالطبقات الاجتماعية التي ينتمي إليها هؤلاء الأدباء، بصرف النظر عن أديان كلٍّ منهم. فقد كانت المدارس المسيحية في مصر تضم في تلاميذها الكثيرَ من المسلمين، وأيضًا من اليهود. ومن المعروف أن المسلمين قد ارتفع عددهم كثيرًا في هذه المدارس عن المسيحيين، ولم تكن مسألة الأديان حسَّاسة بالتالي عند الأدباء الذين كتبوا بالفرنسية.

كما أن أغلب الأدباء الذين كتبوا بالفرنسية قد هاجروا طواعيةً إلى فرنسا باعتبارها الأرض الخصبة للغتهم، وباعتبار أن دور النشر يمكن أن تفتح لهم أبوابها مثلما فتحت لأقرانهم الذين سبقوهم؛ فتدفقوا الواحد تلو الآخر. وقد هاجر هؤلاء الكُتَّاب من مسلمين أيضًا ومسيحيين ويهود ومعهم أديانهم التي لم يفتقدوها، فمارسوا شعائرها في أي مكانٍ ذهبوا إليه، ولم يكن هناك افتقادٌ للشعور الديني، ولكن كان الافتقاد الأكبر هو الحنين إلى الوطن الذي عاشوا فيه، وتربَّوا هناك أثناء طفولتهم، ودائمًا ما تكون الطفولة أسعد الأيام، وبها أجمل الذكريات لدى الكثيرين.

وهناك سِمة في الأدباء اليهود الذين يكتبون باللغة الفرنسية، والذين تركوا بلادهم العربية، تُحسَب لهم. وهي أنهم جميعًا لم يهاجروا إلى إسرائيل مثلما فعل أغلب اليهود في الشتات، بل اتَّجهوا لفورهم إلى فرنسا. وفي القائمة التي لدينا عن هؤلاء الأدباء فإنهم لم يعملوا في مجال السياسة، ولم يصل إلى مسامعنا أنهم سافروا إلى إسرائيل، وذلك مثلما فعل أغلب الأدباء اليهود من الأشكيناز الذين باركوا قيام إسرائيل، وأيَّدوها في سياستها ضد العرب. بل إن شاعرًا مثل إدموند جابيس قد بكى مصر كثيرًا عندما هاجر منها بعد أن طردت الثورة أبناء الجالية اليهودية في مصر، وامتلأت أشعاره بالحنين لبلاده حتى مات في عام ١٩٩١م.

وقد وصلت الدرجة بهؤلاء الكُتَّاب أنهم اعتبروا أنفسهم في شتاتٍ بعد طردهم من مصر، أو بعد أن خرج منها بعضهم طواعيةً مثلما فعلت جويس منصور عام ١٩٥٣م؛ ليس الشتات المقصود به هو البُعد عن إسرائيل، ولكنه شتات عن مصر، بلد طفولتهم، وصباهم.

وبمطالعة القائمة التي لدينا، والتي سنقدم بعضًا من نماذجها هنا، سوف نرى أن هذا المهجر قد ميَّز الأدباء اليهود القادمين من مصر إلى فرنسا، بينما أسماء اليهود القادمين من شمال المغرب قد ظلَّت شبه مجهولة إلا من اسم أو أكثر. ففي الأدب العربي المكتوب بالفرنسية تبرز أسماء كُتَّاب مصريين أمثال إدموند جابيس وجويس منصور وألبير عدس وغيرهم، ولكن من المغرب العربي يلمع اسم الكاتب المغربي أرمان المالح، وذلك باعتبار أن المغرب لم تطرد أبناءها من اليهود، باعتبارهم مواطنين مغاربة.

وقد تركَّزت الطائفة اليهودية في كلٍّ من المغرب وتونس، ومن بين الأسماء التي وردت في قاموس الأدباء المغاربة «الذين يكتبون بالفرنسية» نقدم أسماء الأدباء اليهود في مراكش، وهم إليزا شمنتي، وإدمون أرمان المالح، وإيلي ملقا. أما محمد هاجر فيقول القاموس إنه كاتب مجهول الهوية، وقد نشر كتابًا عام ١٩٧٣م يحمل عنوان «مجنون بإسرائيل مجنون بالله»، وهي رواية عن لقاء اليهود بالمسلمين، «يجب ألا يعتبر اليهود والعرب أنفسهم كأعداء، فنحن بشر، وفي بلادنا جميعًا مغاربة».١

أما الكُتَّاب التونسيون فهناك روبير عتال، وألبير ميمي، وسيزار بن عطار، وبول غيث، وريفل — واسمه الحقيقي رفاييل ليفي — وجاك فيل، وأوزيت فاسيل. وكما نرى فإنها أسماء لم تصبها الشهرة العريضة مثلما حدث للأدباء القادمين من مصر. ولعل العبارة التي وردت في كتاب محمد هاجر لخير دليل على الاعتبارات التي يضعها المغاربة في دخائلهم، فهم في المقام الأول مغاربة، ويدينون باليهودية، وقد حدث هذا أيضًا لدى الكُتَّاب المصريين الذين احتفظوا بهويتهم حتى اللحظات الأخيرة من حيواتهم.

إدموند جابيس (١٩١٢–١٩٩١م) Edmond Jabes

وُلِد إدموند جابيس في القاهرة في ١٦ أبريل ١٩١٢م، من أسرة ذات أصلٍ إيطالي، ودرس في مدارس الفرير، ثم في الليسيه الفرنسية في العاصمة. وكتب الشعر في سنٍّ مبكرة من حياته؛ فنشر أعماله وهو في سن السابعة عشرة، ثم اكتشف الشاعر ماكس جاكوب ففُتِن به وبأعماله، وتأثر به تأثرًا واضحًا، كما تأثر بالشاعر جابرييل بونور. وكان إدموند شغوفًا كثيرًا بالصحراء في مدينة القاهرة، ويحبُّ كثيرًا المساحات الشاسعة من الرمل الممتدة أمام عينيه. وقد سافر إدموند إلى فرنسا من أجل استكمال دراسته، وهناك سرعان ما اختلط بالحركات والمدارس الفنية التي كانت منتشرة بشكلٍ ملحوظ، وخاصة السرياليين، التي جذبت الكثيرَ من المصريين. وهناك التقى بماكس جاكوب، وقامت صداقة بين الاثنين استمرت عندما عاد إدموند إلى القاهرة، وكان لا يتوقف عن مراسلة جاكوب.

وفي مصر أصبح إدموند عضوًا في جماعة «الفن والحرية» التي أسَّسها جورج حنين وماري كافاديا، وأسَّس الثلاثة معًا دار نشر تحمل اسم «حصة الصحراء» في عام ١٩٤٧م، ثم ما لبث أن انفصل عن الدار. وفي عام ١٩٥٧م كان على إدموند جابيس أن يترك بلده بعد أن أصدر جمال عبد الناصر أمرًا بترحيل اليهود من مصر. وتقول مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» إن كل أعمال إدموند قد كرست من أجل الكتابة عن الشمس الأصيلة في مصر.٢ أما كتاب «الأدب العربي الفرانكفوني» فيقول: إنه بالرغم من أن إدموند قد اختار لنفسه أن يكتب باللغة الفرنسية، إلا أنه لم يندم على شيءٍ قدر ندمه بأنه بعيدٌ عن اللغة العربية، وأنه قد أبدع أشعارًا رائعة، وأجمل الأغنيات المليئة بالأنوار والموسيقى التي لا نجدها سوى عند الشاعر الفرنسي رينيه شار، وبول إيلوار، وأيضًا جورج شحادة. ففي هذه النصوص يبدو الشرق وهو يتنفس من اتساع الصحراء، كما يبحث مبدعوها عن معاني الأشياء: «عن بياض الكلمات، وسواد المعاني.»

نشر إدموند ديوانَه الأول في باريس تحت عنوان «أوهام عاطفية» عام ١٩٣٠م، أما أعماله التالية فقد نُشرَت في القاهرة مثل: «ماما» التي نشرت في مجلة «الأسبوع المصري»، التي كان يعمل فيها جورج حنين، وذلك عام ١٩٣١م. وفي «مجلة القاهرة» نشر ديوان «الأقدام في الهواء» مع رسالة موجَّهة إلى ماكس جاكوب، وذلك في عام ١٩٣٠م، وفي عام ١٩٤٥م نشر مجموعة من الرسائل التي أرسلها لماكس جاكوب مع مقدمة كتبها الأديب الفرنسي أتمبل. وقد نشر في عام ١٩٤٧م ديوانه «أعماق المياه»، ثم نُشِر له في باريس ديوانان هما «أغنية لوجبة الفول» و«٣ بنات من حيِّنا». وفي عام ١٩٤٩م نشر في القاهرة ديوان «صوت الهلب»، وبعد ذلك نشر كتبه كلها في باريس، ومنها «أشيِّد مسكني» عام ١٩٥٩م، و«كتاب المسائل» عام ١٩٦٣م، وكتاب «يوكل» عام ١٩٦٤م، ثم «عودة الكتاب» عام ١٩٦٥م، و«بيل» ١٩٦٧م، و«إيلي» عام ١٩٧٢م.

والكتابة عند إدموند جابيس بمثابة غوصٍ في الأعماق، وهي خلق الزمن كي يستمر العالم، وتدخل في مسألة الخلق شعلة الحياة، وذلك مثل خلق العالم. والكتابة عملية مستمرة متجددة في كل لحظة، والكتابة تُعتبَر بمثابة سؤالٍ موجَّه إلى الزمن، ومهما انتهى الكاتب من مخطوطه فإن الكتابة لا تنتهي.

وربما لهذا السبب فإن أبيات قصائد الشاعر طويلة، مثل قصيدته الغريبة «إليك أتكلم» المنشورة في ديوانه «أشيِّد مسكني»، وهي أشعار كتبها بين عامَي ١٩٤٣م و١٩٥٧م في مصر، ولكنه نشرها في باريس عقب سفره إلى هناك. ويقول:

إليك أتكلم أيها الصَّدى … أيتها الأغاني المنقولة، أيها الخبر اللامع، أعلن لك رغبتي؛ فالبحر بلا مسيرة في الفم.
إليك، يا ربيبة ذروة رأسي التوءم، وحركة الجليد، هناك … لا مثيل لك.
إليك، أيها الحب المغتاظ، والحقائق الأولى، والأجل المربوط بالحجارة المثبَّتة.
إليك، إليك وحدك، يا صراع الشموع، ولحن الصحراء، وبطاقة مليئة بالتوقعات.
أنا مجروح في براءتي، وطهارتي. والروابط المتوحشة في الهواء والماء. أنقذت مرة. أكثر جمالًا، وقد عرضت مشاعري، وسباتي، وصحبة العميق.
وعقبة الحب في الهروب السهل.

وفي نفس الديوان نشر إدموند قصيدة تحمل عنوان «الزقاق» تختلف تمامًا في معانيها وطول المقطع، فهو يقول:

مسقط المياه،
والبهجة،
وخطوة المطر
في الألم،
تؤثر بلا أملٍ.
ونسيان الزقاق،
والخطى تطيع السلالم،
كل الصيحات راضية،
ويختطف المجداف الصوت،
وتخطو النداءات من بابٍ لباب،
وتتبادل المجهول بين الجيران.
مسقط المياه،
انتقام المياه،
فوق المظلات.
الألم وحده،
بلا أوخاز.

لقد آمن إدموند جابيس أن معرفة كلمة، والتوغل فيها أشبه بمعرفة كتابٍ بأكمله والتوغل فيه. وهو يرى أن الشعر كان سلوته وهو في المنفى: «يجب أن نتوه، وأن نرتبط بالخير أو الدروب كما نلحظ، في النهاية فإننا لا نترك ذوينا في أية لحظة.» وقد كتب إدموند في ديوانه الأخير المعنون «كتاب الضيافة» المنشور في عام ١٩٩١م قبل وفاته بأشهر عديدة أن كل شيء قد تمت إعادة كتابته.

وهو يقول في هذا الديوان إن «الكتابة الآن مصنوعة من أجل أن نعرف أنه ذات يومٍ سوف أتوقَّف عن الوجود، وأن كل شيء من أعلاي ومن حولي قد أصبح أزرق وكثيفًا، متمدِّدًا في فراغٍ كي أطير طيران النسر ذي الجناحين القويين وهو يضرب بهما، وهو يتَّجه نحو مجهول مشيرًا إشارات وداع للعالم.»

«أجل، بالضبط كي نؤكد أنني توقَّفت عن الوجود في اليوم الذي يبقى فيه طير الكواسر وحيدًا في فضاء حياتي وكتابي الذي يحكم سادته، ويتخلَّص مما كان يبحث عنه في داخلي، وقد تولد عندما كنت أعبر.»

ومن الواضح أن الشاعر في هذه الأعمال الأخيرة قد اختار شكلًا جديدًا تمامًا للقصيدة، ليست بالطبع القصيدة النثرية التي كان يكتبها أحمد راسم باللغة الفرنسية، ولكنه شعر مليء بالموسيقى. وقد بدا الشاعر في هذه القصائد كأنه قادم إلى خلودٍ قاتم اللون: «الأسود هو لون الخلود.» وقد اختار لديوانه الأخير عنوانًا غريبًا هو «رغبة بداية المعاناة في النهاية الوحيدة».

الجدير بالذكر أن إدموند جابيس قد عرف نشاطًا مكثفًا في الإبداع خلال السنوات الأخيرة من حياته. ففي ١٩٨٥م نشر ديوانًا يحمل عنوان: «مسافات»، وفي عام ١٩٨٧م نشر ديوانًا يحمل عنوان: «الصحراء في كتاب» و«كتاب الاقتسام». ومن عنوان الكتابين يبدو مدى صدق الجملة التي سبق أن سقناها أن إدموند قد ظلَّ محبوسًا بإبداعه في صحراء مصر، حيث يقول: «أنت تعتقد أن العالم مثل دودة في الصحراء تفكِّر في المحيط. لقد خلق الله الدنيا بعد أن خلق الصحراء. يسكن النسر في الحجر الصوان، وهو يطير فوق الرمال.» والصحراء هنا هي صحراء مصر، كما يقول الكاتب في مجلة لونوفيل أوبسرفاتور.٣

وفي عام ١٩٩٠م نشر إدموند جابيس مجموعة من القصائد التي كتبها بين عامَي ١٩٤٧م و١٩٨٨م تحت عنوان «عتبة الرمل». والديوان ضخم الحجم يقع في أكثر من ٤٠٠ صفحة، وأغلب هذه القصائد من ذوات المقاطع الطويلة، بل إن فقرة بأكملها، كما سبق أن رأينا، يمكن أن تكون قصيدة أو بيتًا من قصيدة.

«في الواقع فإننا لم نستسلم للقطيعة، بأن نُطرد من مصر. لقد جئت إلى باريس، وعشت في المدينة التي يعيش فيها الشعراء الذين أرغب في أن أكون وريثًا لهم. وبدلًا من أن أرتبط بهم، فعلى العكس؛ فإنني ابتعدت عنهم. وجدت نفسي على مسافة منهم، ليس على مسافة، ولكن في ابتعاد؛ لأنني أنا مرتبطٌ بمكاني.»٤

ويقول جابيس في نفس الكتاب عن الصحراء: «عندما نتعرَّف على الصحراء، فإننا نبقى فيها إلى الأبد، ومن الصعب نسيانها؛ فصمت الصحراء ينخر فيك. فأنت هناك تكون نفسك، بمعنى لا شيء.»

«لأنه قبل أن تكون كلمة» فإن الكتابة سماعية. أنا شخص مرئي، أنا أرى الكلمة، أراها تتكوَّن وترسم، وفي نفس الوقت أسمعها. هناك أولًا نوعٌ من الحركة تخرج فجأة من الكلمة، وتروح تأخذ معناها. وهكذا الشعر. كما أن بعض الشعر يبقى صامتًا، ليس هناك سوى الصوت الذي يمكن إضافته، والخيال الذي يدخل الجزيرة فجأة.

«الكتابة حياة اختفت، الشعر يوقظ أو ينبِّه فينا الذكرى. وما دام أنه يمكن أن يكون أيضًا، فإنه يثير ذكرياتنا، وفيه تبدو الدهشة أمام الجملة التي تتفكك تقريبًا دون أن تعنينا كثيرًا. كي نعبِّر عن الحب. لا نريد أن نقول «أحبك» ثم سيصبح للشعر حركته وحبه الذاتي.»٥

جويس منصور (١٩٢٨–١٩٨٦م)

تنتمي الشاعرة والروائية جويس منصور إلى عائلة يهودية كبرى عُرفَت في مصر من خلال أنشطتها الاقتصادية والتجارية، وهي عائلة عدس. فجويس هي ابنة تاجر كبير، اقتضى عمل الأب أن يتنقَّل بين بريطانيا ومصر، وفي أثناء إحدى هذه الجولات وُلدَت جويس في عام ١٩٢٨م.٦

ورغم أن جويس الصغيرة قد أتقنت اللغة الإنجليزية بحكم تردُّدها الدائم على بريطانيا، إلا أنها التحقت في القاهرة بإحدى المدارس الفرنسية، باعتبار، كما أشرنا، أن هذه اللغة تمثِّل انعكاسًا للرقي الاجتماعي أكثر من الإنجليزية في تلك الآونة. لذا فقد قرأتْ الأدب الفرنسي، وراحت تعبِّر عن مشاعرها بهذه اللغة. ثم انتهت من كتابة أول قصيدة وهي في الخامسة عشرة. في عام ١٩٤٨م كانت قد انتهت من جميع ديوانها الأول «صرخات»، وفي تلك الآونة كانت قد تعرَّفت بالشاعر السريالي جورج حنين الذي راح يشجِّعها، وكان أكثر الشخصيات التي تأثرت بها.

وقد تمتَّعت جويس منصور بقدرٍ من الجمال قلَّ أن تتمتع به امرأة في عصرها، هذا الجمال كان أيضًا مفتاحًا للدخول إلى عالمٍ رحب وواسع، وكم أحسَّت الفتاة أن الله وهبها كلَّ ما تتمنَّاه أية امرأة في الوجود … الجمال الباهر والثراء الشديد والثقافة العميقة والإبداع المتميز، بل وأيضًا الزوج الذي تحلم به كل النساء، فقد تزوَّجت من شاب مصري أكثر جاذبية ويؤمن بموهبتها؛ فراح يشجِّعها ودفعَها إلى السفر إلى باريس عندما وجد أن فرصة نشر شعرها المكتوب بالفرنسية أفضل. ففي عام ١٩٥٣م نشر ديوانها الأول بعد خمس سنوات من الانتهاء من تأليفه لدى الناشر.

وفي باريس كان اللقاء عاصفًا ومدوِّيًا، فقد علَّق أندريه بريتون أنه من أجمل ما قرأ من شعر في حياته، وطلب لقاء الشاعرة، وراح يعبِّر عن دهشته لجمالها «الفرعوني» حين التقاها مع زوجها، وهو يقول: «أنت أول امرأة أمكنها أن تكتب عملًا غريبًا كشف عن كل ما بمكنون صدرها.»

ولم تقطع جويس منصور علاقتها بالقاهرة، وقد كتب أنيس منصور عن الصالون الأدبي الذي كانت تعقده في جريدة أخبار اليوم — ٦ سبتمبر ١٩٨٦م — قائلًا: «كان الحاضرون من رجال ونساء يأكلون ويشربون حول حمام السباحة، ويتحدثون في الشعر والأدب والفن بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية والعربية … وكانت معجزة هذا اللقاء أو الغذاء طفلة تلقي شعرًا باللاتينية، فعكفنا جميعًا على الترجمة والتفسير والنقد والمقارنة.»

ويقول: «كأننا في قمة جبال الأوليمب … أو حبل باراموس، حيث يلتقي الآلهة وأنصاف الآلهة والشعراء والمطربون في كورس سماوي … كأنهم ليسوا على هذه الأرض، وكأنهم ليسوا منها … لم أكن أعرف ذلك، ولا تخيَّلت، ولكنه أمكن.»

في العام التالي ١٩٥٤م نشرت جويس ديوانها الثاني تحت عنوان «تمزقات» الذي أثار ضجة جديدة حول هذه الموهبة، وكتب عنه أدباء بارزون مثل أندريه بيير وهنري ميشو. ومنذ ذلك الحين أصبحت جويس وزوجها صديقين حميمَين لأندريه بريتون الذي كان لا يخفي أن المرأة هي ملهمته لكل أشعاره. كما انتقل هذا الإلهام لأغلب الشعراء والرسامين السرياليين الذين أعجِبوا بجويس كشاعرة وكامرأة جميلة؛ فكم رسموا لها من لوحات! كما راحت الشاعرة تنشر قصائدها في كتالوجات معارض رسامين عديدين مثل الفنان الكندي جان بنوا والإسباني «باتا» الذي صوَّرها كثيرًا تحرق صدر الفنان، ثم ألفريدو لام، وبيير الشينسكي، وسافنبرج، وتوين، ولينور فيني.

وقد عبَّر أندريه بريتون عن إبداع جويس منصور قائلًا إنها «حديقة هذيان هذا القرن.» كما أكد أكثر من عرفها أنه لا يوجد اختلاف بين أناقة هذه المرأة كما عرفها الناس، وبين أناقة شعرها، وكأنهما كيان واحد.

في أعمالها الكاملة نجد كافة نصوصها النثرية وقصائدها المنشورة، والتي ظلَّت تكتبها حتى وفاتها في ٢٨ أغسطس عام ١٩٨٦م، وقد تم ترتيب هذه الأعمال حسب النوع الأدبي. فهناك نصوص قصصية نثرية نشرتها عام ١٩٥٨م تحت عنوان «الراقدون الراضون»، ومسرحية قصيرة منشورة عام ١٩٦٨م، تحت عنوان «أزرق الأغوار»، ومجموعة قصص قصيرة منشورة عام ١٩٧٠م باسم «هذا»، أما دواوينها الشعرية فهي «صرخات» عام ١٩٥٣م، ثم «تمزقات» ١٩٥٤م، و«كواسر» ١٩٦٠م، ثم «المربع الأبيض» ١٩٦٥م، و«اللفتات» عام ١٩٦٧م، و«فالوس والمومياء» عام ١٩٦٩م، ثم مجموعات من القصائد المتناثرة كتبتها في كتالوجات معارض الفنانين — كما أشرنا — «الابن الكبير» عام ١٩٨١م، و«نيران مستعمرة» ١٩٨٥م، و«ثقوب سوداء» عام ١٩٨٦م.

وفي إبداع جويس منصور تجد الفنان المؤمن بحرية التعبير، وبانطلاقة القدرة على العطاء، فلا حواجز يمكن أن تقف أمامه من أجل أن يعبِّر عن مشاعره. فنحن في الأحلام نرى كل شيء مباحًا، والكوابيس مثلًا تمثِّل حقلًا خصبًا لتحطيم الأزمنة، والأماكن والألوان والتركيبات المألوفة.

ومن المعروف أن السرياليين كانوا يؤمنون بثلاثة فنون، ويتعاملون معها في المقام الأول عن بقية الفنون، وهي على الترتيب: الفن التشكيلي، والقصيدة، ثم السينما. ففي هذه الفنون يمكن للفنان أن ينطلق دون أن تعرقله حدود، وهو لا يصبح أسيرًا إلا لما يعتمل في نفسه. أما الرواية وفن القصة بشكلٍ عامٍّ فإن الفنان غالبًا ما يجد نفسه فيه محبوسًا في إطار الحدوتة، ومشاعر الآخرين. أما في القصيدة فإن الشاعر مجبَر على أن يعبِّر عن نفسه في المقام الأول، وفي اللوحة فإن الريشة والألوان هما نبض الفنان وخفقات قلبه.

ولذا، فلا يمكن أن نعتبر تلك النصوص النثرية التي قدمتها جويس منصور بمثابة إبداعات قصصية، كما لا يمكن إدراجها تحت تقسيم الشعر المنثور؛ فهي نصوص طويلة مختلفة الشكل، فيها الأشخاص يتحركون، لكننا لسنا أمام موضوعٍ قصصي محدد، مثلما نحن في اللوحة السريالية ننتقل من عالمٍ هلامي لآخر دون أن نتساءل عن السبب، ولا نعرف النتيجة.

وفي أقصوصة «ماري أو شرف الخدمة» تمزج الكاتبة بين أزمنة وأماكن عديدة، فهي تشير في السطور الأولى إلى أن الأحداث تدور في بدء الخليقة، ثم نعرف أنها تدور في شمال أفريقيا داخل فندقٍ صغيرٍ تحفُّه الشوارع الواسعة المكتظَّة بالناس. وماري بطلة القصة تتمتع بحسية واضحة، وفي القصة هناك سفَّاح يجالس الناس ويضحك معهم، وماري تشعر بالقلق لأن السفَّاح قد يغيب بضعة أيام. تجلس إلى جوار النافذة تنتظر ظهوره. تتعمد ألا تتحدث إلى أختها جيرمي عن انتظارها، لكن قلقها لا يمكن إخفاؤه. وماري امرأة تعشق الأحلام … ففي كل ليلة تنام مرة واحدة، وتعيش الحلم ببكارته في روحها. ترى نفسها تجري بلا ملابس وسط رياح مستعرة أن تكشف سرها، وتحس بالمياه ثقيلة، وترى طائر الكوندور يحلِّق في السماء، والطيور تصدح. وتتقلب ماري كي تتمتع أكثر، فتقدم نفسها وعفَّتها فوق آخر شعلات العفة، وترى الشارع وقد أفقده الأسمنت عفَّته، فتهرول في ضباب المدينة، وتحسُّ بارتعاد أصابعها، وتلمس جلدها الطري والرخو تحت أشعة القمر، فتسبح في الرمال، والضباب والمستنقع والسماء. وترتطم المصابيح بين السحب العابرة كأنها الكعك، وتتشكَّل الأزرار في جوهر كل حقل، وتمسك ماري بزهور المرجريت، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وأمسكت في سعادة بالأوراق الوردية المثنية.

ومن هذه الفقرة نرى أننا لا يمكن أن نعيش مثل هذه الأجواء إلا في أحلامنا؛ حيث تتعاقب الأشياء دون إقناعٍ أو تتابعٍ. وتتدفق دون ترتيبٍ أو انتظار. فرغم أننا أمام علاقة غير موجودة بين ماري وسفاحها الذي لا نعرف عنه الكثير، إلا أن ماري في حالة حلمٍ وتفكيرٍ ومعايشة لخيالها طيلة أوقاتها، سواء عندما تنام أو وهي تجلس على مقربة من النافذة، تنتظر وصول هذا السفاح أو طوال ساعات النهار.

حتى هذا السفاح، فإن ماري تراه بمنظورها الخاص، فهو «بشر» مثلها يمتلك خيالًا واسعًا، ويعيش داخل ذكرياته، يردد: أنا صاحب أسرة متزمتة ومحترمة، تتمتع بصحة طيبة، ولديها أفكار تربوية؛ أنا رجل فريد ووحيد.

وهذا السفاح يأتي إلى ماري، ربما في خيالها، من أجل قضاء لحظات حب غير ملموسة. يقول لها: «قفي، سوف تعيشين تبعًا لرغبتي، تذكري عقدنا معًا.» وعندما يغيب السفاح ترقد ماري فوق مضجعها، وتنظر إلى الببغاء تناديه بدلًا من السفاح الحاضر الغائب، وقد تقرض بعض الأشعار، وتهتف أكثر من مرة باسم السفاح، «تتنهَّد ماري، وتترك نفسها تسبح لحظة طويلة بين حالتين من الوعي، ودون أن تضيع في قطيفة نومها. ليست لديها قوة التفكير ولا القدرة على التنفس. تبدو أفكارها باردة كأنها أشياء تتسلَّق بتكاسلٍ فوق فروة رأسها، وصور رخوة غير محددة الأشكال.»

وفي هذه الأقصوصة الغريبة لا تنسى جويس منصور أنها شاعرة، فماري تقرض الشعر، وهناك مقاطع من قصائد تنطق بها. والقصة لا تضم سوى شخصيتين فقط هما ماري والسفاح الذي ليس بقاتلٍ. «غنَّى السفاح بصوته الجميل كرجلٍ فخور بقوته، وتتبعه النساء متكاتفات الأيدي، وواثقات في أنفسهن، نظرت إلى الباقيات من كوخها، وقالت بحزنٍ: لست سوى فأرة في فندق، إنسانة مسكينة، ثم انثالت الدموع على خدِّها. وهبَّت رياح شريرة. الزهور والعصافير والأشياء ذات الألوان اللامعة والروائح العطرة، هبَّت من الضوء المعتم في الروح الممتدة وسط حالتَي النوم واليقظة.»

ورغم أن «ماري أو شرف الخدمة» هي الأقصوصة الأولى في كتابها «المتمدِّدون الراضون»، إلا أن الناقد لا يمكن أن يضعها في تقسيمٍ أدبي معين. فهي ليست بالأقصوصة لأنها تقع في أكثر من سبعين صفحة ضخمة الحجم، وهي ليست رواية بالمعنى المتعارَف عليه، إلا إذا أدرجناها تحت تسمية «الرواية الجديدة»، أو الإبداع السريالي، وكما أشرنا فإن النصوص الروائية التي كتبها السرياليون نادرة للغاية.

والنساء في بقية نصوصها القصصية غارقات في أحلامهن مثلما كانت ماري، وهن يعشن في عالمٍ غامضٍ مثل كلارا في أقصوصة «السرطان»، فهي لم تخرج أبدًا من منزلها، ولم يسبق لها أن شاهدت أحدًا.

كما أن الموت موجودٌ ككائن رئيسي في أغلب إبداع جويس منصور النثري. ففي أقصوصة «السرطان» تموت بين ذراعَي حبيبها الراوية الذي يفاجأ بالشرطة تقبض عليه ثم تخلي سبيله عندما تعرف سر موت كلارا: «ماتت في الرابعة صباحًا، والذكرى التي أحتفظ بها عن هذه الليلة هي أنني لن أستطيع أبدًا أن ألقاها. هناك مقعد من الضباب حولي، وبعض الحبر الرديء في دمي، فغدوت كالمجنون.»

أما في مجموعة النصوص القصصية التي تحمل عنوان «يوليوس قيصر» فإن الموت موجود في الدماغ: «ماتت رأسي معه، لست سوى كتلة من الرماد المكتوم والتي ترحل كل صباح من المصنع حتى أكسب حياتي، لأنه يجب أن نستمر على قيد الحياة، حتى ولو كنا بدون رءوس. لقد تركت آخر أسناني اللبنية في فم زوجي الذي مات من التضخم الاقتصادي، ورحت أعدُّ نفسي لإجراءات الدفن.»

«ارتديت ثوبًا أسود، به ألف ثنية من الذكريات، بالغ الاتساع عند الفخذين، وبالغ الضيق أعلى الصدر، لقد دفنت صديقي يوم خطبتنا.»

ورغم شهرة جويس منصور كشاعرة، إلا أنه بمراجعة أعمالها الكاملة فإن مساحة أعمالها النثرية تكاد تعادل كل ما أبدعته من شعر، لكن يبدو أن مقولة الكاتب عباس العقاد، أن خمسين قصة لا تعادل في قيمتها بيت شعر متميزًا، صادقة. فلا تكاد تُذكر جويس منصور بين كُتَّاب القصة القصيرة، ولا الإبداع النثري بالمرة، رغم أهمية هذه النصوص كما رأينا. ولا تجيء أهمية هذه النصوص فقط في سلاستها ولغتها الراقية، بل لأنها بذلك تكون من بين السرياليين الذين سعوا لإفساح مجال الإبداع أمام عطائهم. فكما أشرنا فإن القليلين من السرياليين قد اتَّجهوا إلى فن القص، وقد تعمَّدنا أن نعود إلى هذه النصوص ونقتطف منها لنتأكد إلى أي حدٍّ أفادت جويس منصور النثر بشاعريتها.

وجويس منصور ظلَّت وفية لسرياليتها حتى آخر كلمة كتبتها قبل وفاتها. ليس فقط لأنها أخذت كافة أعمالها إلى أندريه بريتون رائد الحركة السريالية، ولكن أيضًا لأنها رسمت في نثرها عشراتٍ بل مئات من اللوحات السريالية، ولم تنس أبدًا أنها شاعرة وهي تكتب النثر، سواء النصوص القصصية أو المسرحية ذات الفصل الواحد، التي تضمَّنتها الأعمال الكاملة.

لكن، من الواضح أن نثر جويس منصور قد اختلفت أبعادُه طوال السنوات الإبداعية، ففي مجموعتها «هذا» المنشورة عام ١٩٧٠م بدت كأنها تتكلَّم وتصف ظواهر الأشياء أكثر من أعماقها. لكن الموت ومراسيم الدفن لا تزال ماثلة في ذهنها؛ ففي أقصوصة «النقطة» تصف جنازة بتفاصيل دقيقة من خلال المراسيم نفسها، ومن المعروف أنها في النصوص التي سبقتها عن مثل هذه الشعائر، كانت تتعامل معها كأنها أشياء من الأحلام، نابعة من الوعي والماضي والحاضر والمستقبل معًا في مزيجٍ من الصعب تحديد هويته، أو معرفة أبعاده.

إلا أنها تتحدث عن هذه الأمور في هذه القصة، مثلًا على النحو التالي: «تم الدفن في اليوم الرابع، بدت الأم كأنها تنتحب وسط الخطبة، بدا النحيب طويلًا ومثيرًا للملل رغم هذا المشهد الدائر في غابة «ماري كيلو» قالت ماري إنني لم أسمع شيئًا عندما حضرت الحفل، بل رأيت الأم تتمخَّط مراتٍ عديدة بقوة».

وكما نلاحظ فإن أغلب هذه القصص لا تنتمي إلى البيئة العربية مثلما فعل أدباء آخرون، لكننا بشكلٍ عام أمام حالات إنسانية مجردة، فرغم الأسماء غير العربية؛ إلا أن النحيب، مثلًا، عند المقابر ظاهرة إنسانية.

وبملاحظة القصة التي كتبتها في الثمانينيات تحت عنوان «القيلولة» نجد أن جويس منصور قد ابتعدت بشكلٍ ملحوظٍ عن أعماق النفس البشرية وتصويرها، واهتمَّت بالحديث عن البشر من الخارج أكثر. فالراوية هنا يراقب الآخرين كيف يمشون ويتحركون، وهو يسجل رؤيته لما تراه العين أكثر مما يحدث للمرء من تأثُّرٍ نتيجة لهذه الرؤية. ورغم تغيُّر أسلوب الكاتبة، فإننا نجد نفس الهم الذي طاردها دومًا. فالكاتبة التي أصيبت بداء السرطان سنوات لا تزال تتحدَّث عن الموت، وعن هذا المرض اللعين بانكسارٍ شديدٍ: «راح ظل السرطان ينعكس فوق شاطئ مجهول، سريره خاوٍ الآن … وتبدو الهموم قابعةً فوق وجوه مجموعة صغيرة من الزوَّار، بدءوا يفهمون أن عليهم أن يتمتعوا كي يتعلموا.»

وكتبت جويس منصور مسرحيتين قصيرتين، إحداهما لا يتجاوز عدد صفحاتها الاثنتين، وفي هذا النوع من المسرحيات نجد أنفسنا أمام شخصيات قليلة للغاية. فنحن في غرفة شبه خاوية حتى الجدران في مسرحية «أزرق الأغوار». ومن الشخصيات هناك رجل عجوز وامرأة جميلة تدعى مود ثم ابنتها الصغيرة. أما الجو العام للمسرحية فهو الموت؛ فالمرأة ترتدي زيَّ الحداد، والرجل يتألم من المرض، وهو ينظر إلى ماضيه بحسرة؛ فقد كان يتمنَّى أن يصبح كاتبًا ذات يوم، ولكنه الآن لا ينتظر سوى الذهاب إلى الطبيب. أما الصغيرة جيروم فهي تنطق شعرًا، وترقب ما يحدث في البيت دون أن تمتلك حلًّا لما يدور حولها. تسمع أمها تقول: «كم أحسُّ بالبرودة، في كل مرة أريد أن أتجمَّل أحسُّ أن عليَّ أن أحطم المرآة. لا أجرؤ أن أرى أثداء الأخريات أكبر من صدري»، ومود امرأة مليئة بالأحزان، وعليها أن تتخيَّل نفسها بالغة السعادة حتى تتخلص من آلامها الحقيقية.

والمسرحية بمثابة محاورة تنكشف فيها العلاقات الممزَّقة بين الأب وابنته وحفيدته. فهو يذكِّر ابنته أنه بمثابة أب، فهو الرباط الوحيد بينها وبين طفولتها. أما الصغيرة جيروم فإنها تتخيَّل وجود شخصيات خيالية قابعة خلف زجاج نافذة غرفتهم الضيِّقة.

أما المسرحية الثانية «سكرة المدن الكبرى» فهي محاورة بين رجل وامرأة أثناء لحظة هوى يبدوان وكأن كلًّا منهما يحطم الآخر.

هذا هو عالم جويس منصور النثري، فماذا عنها كشاعرة؟

لا شك أن شكل القصيدة قد تغيَّر كثيرًا عند جويس منصور. ففي ديوانها الأول «صرخات» اتسمت أبياتها بالعبارات القصيرة، وبمقاطع لا تزيد على خمسة الأبيات غالبًا في كلٍّ منها. ثم أصبحت هذه المقاطع طويلة. وبشكلٍ عام فإن جويس منصور مهمومةٌ في شعرها بالحب والرجل، والحياة، وأيضًا الموت والمرض. وفي قصائدها الأولى كانت تستعذب الحب، إلا أنها في قصائدها الأخيرة استعذبت المرض والألم. وفي كل عشقها للأشياء ذهبت جويس منصور إلى أقصى الحدود؛ أحبَّت حتى النخاع، ولدرجة إسالة الدماء. ولم يكن يهمُّها في ديوانها «صرخات» أن تعنون أشعارها، فبدا الديوان كله وكأنه بمثابة قصيدة واحدة، ثم أصبحت لكل قصيدة في دواوينها التالية عناوين وموضوعات.

وقد تخطَّت جويس منصور الكثير من قيود القصيدة، وإن كانت قد التزمت بموسيقى الشعر. وفي أغلب قصائدها هناك دائمًا تساؤلات ممزوجة بالتعجب، لا إجابات عليها. ويهمُّنا هنا أن نقتطف بعضًا من نماذجها الشعرية في مراحل عطائها المختلفة، ففي «صرخات» تقول:

رأيتكَ عبر عيني المغلقة،
تتسلَّق سور أحلامك الخائف،
وتفقد قدمًا من قدميك على العشب النائم.
ترقد عيناك فوق المسامير الناتئة،
بينما أصرخ دون أن أفتح فمي،
كي أفتح رأسك لليل.
تقبل صلواتي،
التهم أفكاري الملونة،
ونقِّني، حتى تتفتح عيناي،
لتريا ابتسامة السفاح الداخلية،
نقية ولو مرة.
اصلبني يا يهوذا.

وفي نفس الديوان «صرخات» أو فلنقل في نفس القصيدة التي لا تكاد تنتهي تقول:

الذباب فوق السرير،
فوق السقف، في فمك وعينيك،
نائمًا فوق ملاءة حتى رقبته،
هناك رجلٌ ماكر جاهل.
اترك لي جلدي،
ولا تفرغ بطني.
وليس لظلِّك فم،
وليس لغرفتك باب،
وعيناك بلا نظرات،
وبلا رحمة … بلا لون،
وخطاك تسير،
بلا أثر،
نحو الضوء المثير،
إنه جحيمي.

ويكاد يكون ديوانها الثاني «تمزُّقات» المنشور عام ١٩٥٤م مشابهًا للديوان الأول، سواء في شكل القصيدة، أو في موضوعها، وأيضًا في لغتها، لكن كل هذا بدا يحدِث شكلًا جديدًا في ديوان «كواسر» المنشور عام ١٩٦٠م. فنحن أمام قصائد متعددة، ولكل منها هوية محددة. ولأول مرة تكتب جويس منصور القصيدة ذات التفعيلات المتعددة، مثل قصائدها «لأنه ليست لك ساقان»، و«الموتى في رءوس الكلاب» و«عيون الأصدقاء»، إلا أنها استعملت التفعيلة الواحدة في ديوانها الرابع «المربع الأبيض» المنشور عام ١٩٦٥م. ويكاد يكون هذا الديوان بمثابة فحوى لقصائد متعددة التفعيلات، ويهمنا هنا أن نقتطف بعضًا من أبيات قصيدتها «باب الليل مقفول بالقفل»:

أبحث عن الصحراء،
فوطني جلف وسري،
والحياة هي نفسها،
والمطرب نائم في السرايات العميقة،
وسجاد
يمشي في الحديقة المغلقة،
و …

ولم تستطع الشاعرة أن تخفي آلام المرض في ديوانها الأخير «ثقوب سوداء» المنشور عام ١٩٨٦م، فقد تحوَّلت الأحلام الوردية والمشاعر الحسية التي ملأت ديوانها الأول إلى تأوُّهات ألم، واختفت مشاعر الحب بشكلٍ واضح، فهي تقول في آخر قصيدة نُشرَت لها قبل رحيلها:

نحن لا نعيش مع الموتى،
فهم ينزلقون فوق ملاءات النسيان.
نحو ثقوب سوداء،
يسبحون ويرتعدون في رياح المساء،
وتخوى عيونهم كأنهم الحمام،
وتختنق أعضاؤهم،
في وحل الذكريات.
نحن لا نعيش مع الموتى؛
فأفواههم مليئة بالزبد،
ومهما بذلنا من جهد،
فإن تنهداتهم الجائعة تمزق الهواء.
كم نتحاب،
لكنهم لا يذكرون شيئًا،
مشغولون بمن يكونون،
ويتمتعون بحدادهم.
مشغولون بمن يكونون،
ويتمتعون بحدادهم.

ومن الواضح أن الشاعرة جويس منصور قد ابتعدت كثيرًا عن عالم الباطن الذي يشغف به السرياليون كثيرًا، وصنعت عالمًا جديدًا تمامًا في قصائدها الأخيرة، عالمًا سوف تذهب إليه راضية. ومثلما كرَّمت مشاعر الحب في قصائدها، ومثلما مجَّدت الحياة في أشعارها، فلِمَ لا تفعل ذلك تجاه عالمها الجديد الذي تتَّجه إليه فبدت كأنها تضع لنفسها رثاءها الخاص بها.

إدمون المليح (١٩١٧م)

عُرِف إدمون عمران المليح في الثقافة المغربية الحديثة، كواحدٍ من كبار الفلاسفة، وكبار المهتمِّين بالفكر الشيوعي، وذلك حتى عام ١٩٨٠م؛ حيث نشر روايته الأولى «مسيرات ساكنة»، أي وهو في الثامنة والستين من العمر. والطريف أن هذا الفيلسوف الذي بدأ الكتابة الإبداعية وهو في هذه السن قد نشر ثلاث روايات في خلال ستِّ سنوات، ففي عام ١٩٨٣م نشر روايته الثانية «عيلن عيلن أو ليلة الحكي» Ailen Ailen ou la niut de recit وبعد ذلك بأربعة أعوام نشر روايته الثالثة «ألف عام، يوم واحد» 1000 ans, un jour.

والمليح من مواليد مدينة صافي المغربية في عام ١٩١٧م من عائلة يهودية، وفي عام ١٩٤٥م انضمَّ إلى الحزب الشيوعي الذي كان في طور التكوين، ثم تولَّى وظيفته كسكرتير شباب الحزب. وفي عام ١٩٤٨م انضم إلى اللجنة المركزية بالحزب، ثم إلى المكتب السياسي. وقد اشترك المليح في النضال من أجل استقلال بلاده، ثم استقال من الحزب عام ١٩٥٩م، وقطع علاقته نهائيًّا بالسياسة، وفي عام ١٩٦٥م سافر إلى فرنسا واختارها مستقرًّا له.

والجدير بالذكر أن الكتب الثلاثة التي نشرها المليح، ليست روايات بالمعنى المفهوم عن فن الرواية، ولكنها أقرب إلى نصوص روائية، يسترجع فيها الكاتب سنوات الحنين التي عاشها، خاصة في المغرب. وفي هذه الروايات تتكرر نفس الشخصيات، مثل شخصية «عيلن» التي كانت بطلة روايته الثانية؛ لذا، فكما جاء في جريدة «لوموند» — ٢٣ مايو ١٩٨٦م — فإن رواياته الثلاث بمثابة ثلاثية.

ورواياته، كما أشرنا، هي روايات ذكريات، خاصة روايته الثالثة: «ألف عام ويوم واحد»؛ فهو يصوِّر حياته كما عاشها: «على المرء أن يكتب عن حياته دون أية علامات تنقيط، أحترم أن تطرح هذه العلاقات نفسها أمام عيني. إنها مرتبطة معًا بنفس الطريقة التي يرتبط فيها الزمن بالحياة. أحبُّ الزمن الممتد أمامي، وأحب تقطيع المَشاهِد. لقد رفضت التقسيمات دومًا. فترى هل هذا الكتاب رواية؟ لنقل إنه نص أدبي، ولكنه ليس الشكل التقليدي للرواية، فقصة الحياة تثير فيَّ الشجون، ولكنني لن أرويها بأسلوب تقسيم النبات في علم النبات.»٧

وبطل الرواية يُدعى نسيم، وهو يبحث عن أودسيوس كي يرحل معه في مركبه التي تسافر عبر البحار، وأن يسلم أمره إليه. وبينما هو في رحلته، يتأمَّل المصير الغامض لشعبٍ يبحث عن آثاره، في ومضات التاريخ، وفي العنف الذي ساد البشرية، والصداع واللحظات البارزة من انتصاراتٍ وإخفاقٍ في تاريخ البشر.

يتصرَّف المليح كأنه إذا أراد أن يتكلم عن نفسه، فليجعل آخرين يفعلون ذلك نيابةً عنه. ويروي الكاتب الحياة التي عاشها اليهود العرب مع أقرانهم من المسلمين في المغرب طوال ألف عام. هذه العلاقات بدأت الآن في التغيُّر «ليس هذا الكتاب مصنوعًا من أجل الشباب اليهود الذين لم يعرفوا هذه الجماعات، ويتساءلون مثل كل الشباب المغربي؛ فالمغرب التي أتكلم عنها لم تعد موجودة الآن ما دام أنها افتقدت واقعها الحالي.»٨

ويتحدث المليح عن رحيل مجموعة من اليهود المغاربة، إنه في أعماقه مغربي أولًا، ثم يهودي ثانيًا، حتى لو عاش في فرنسا أكثر من عشرين عامًا، وذلك مثلما فعل الشاعر المصري إدموند جابيس. ويختلف المليح في أن ذكرياته عن بلاده التي جاء منها ليست مليئة بالمرارة، مرارة الحنين بأنه يودُّ أن يعود مرة أخرى؛ فالمليح يمكنه أن يعود، أما جابيس فليس ذلك في مقدوره. إن إدمون المليح مليء بمشاعر الحنين، ولكن يكفيه أنه عاش هناك كل هذه السنين.

في روايته «ألف عام يوم واحد» عام ١٩٨٦م، يتحدث الكاتب عن حرب لبنان، فهو يحسُّ أن لبنان هو أيضًا وطنه، لأن هناك عربًا مثله، ويتكلم بصفة خاصة عن الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف يونيو عام ١٩٨٢م، وكيف كان أثر ذلك على الذين عاشوا تحت سماء باريس، لقد تمزَّق الكاتب من ذلك العنف المتوحِّش «هل حقيقة ما يحدث هناك؟»٩
وقد عبَّر الكاتب في الصفحات الأولى من كتابه أن ما حدث في لبنان كان الدافع الأول لتأليف هذه الرواية: «لا شك أن هذا الكتاب مرتبط بحرب لبنان، لكنني لا أريد أن أغلق على نفسي باب السياسة، فليس هذا الكتاب بمثابة رواية ملتزمة، بل إنه ضد كل ما كنت أتمنَّاه؛ أن أخرج من كل رسوم الكاريكاتير، وأن أهرب من كل الشعارات.»١٠

لا شك أن عمران المليح يعرف عمَّا يتكلم بالضبط؛ فقد سبق أن اشترك في تحرير وطنه، المغرب، من الاستعمار، ولكنه عندما كتب هذه الرواية لم تكن لديه أية قدرة كي يناضل من جديد؛ لذا، فهو يكتب كتابًا لعله يكون رسالةً بدلًا من السلاح الذي حمله فيما قبل. فهو، على سبيل المثال، يصف كيف بدأ اليوم جميلًا في مخيمي صبرا وشاتيلا قبل أن تجيء القوات الإسرائيلية. في هذا اليوم كان العشب ينمو فوق الأرض الممدَّدة، لكنه انتهى وقد تلوَّن باللون الأحمر من كثرة الدم. في هذا اليوم توجَّه نسيم بطل الرواية، إلى الشاطئ في المغرب. الناس هناك تتصرَّف كأن شيئًا لم يحدث؛ فالمحلات مفتوحة، والناس تثرثر، والأصدقاء يلتقون ويلتهمون الفول الساخن ويستمعون إلى أغنيات الحب المصرية في شرائط الكاسيت.

ويقول الكاتب إن اسم نسيم مكثف بالحروف الناطقة، اسم حقيقي يأتي منه الزمن والكلام، وكذلك اسم حامد، وهو اسم الطفل في الرواية. والجدير بالذكر أن شخصيات هذه الروايات لها موقف من العالم ومن السياسة بصفةٍ خاصَّةٍ. وهذه سمة قد لا نلاحظها، السياسة، كثيرًا لدى الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية. فنسيم له رأيه الخاص في الموت، وهو لا يريد أن يموت، لكنه لا يريد للآخرين أن يموتوا، وهو يتساءل هل يمكن للموت أن يصنع للآخرين هويتهم؟ هؤلاء الآخرون الحبالى بالنسيان. كما أن موقفه مما يحدث في لبنان على أيدي قوات الغزو الإسرائيلية واضح، فهو يرفضه بعنفه ووحشيَّته، كما أنه يرفض سلبية العرب من وجهة نظر أخرى. ولا شك أن الكاتب يسكب من أفكاره وفلسفته على سلوك بطله، والكاتب يسمِّي البطل بالرجل ذي الألف قيمة، وصاحب الألف وجه والألف تيمة.

ألبير ميمي (١٩٢٠م)

وُلِد في ١٥ ديسمبر عام ١٩٢٠م في أسرة يهودية بتونس، كان أبوه يعمل في صناعة البرادع، ولغته الأساسية هي العربية. التحق بالمدرسة الحاخامية، وانضمَّ إلى حركة الشباب اليهودي، ومدرسة كارنو. درس الفلسفة في الجزائر، ثم سافر بعد الحرب إلى باريس ليكمل دراسة الفلسفة في جامعة السوربون، وتزوَّج من فرنسية ثم عاد إلى تونس حيث عمل مدرسًا، وأقام معملًا للدراسات النفسية الاجتماعية، كما عمل مدرسًا للفلسفة، وأصبح مسئولًا عن الصفحة الأدبية في صحيفة «لاكسيون»، ثم رحل إلى فرنسا في عام ١٩٥٦م عقب إعلان استقلال تونس، وعمل مدرسًا في جامعة نانتير، ثم مديرًا لمجموعة الأبحاث حول الاستقلال والأدب في المغرب. وقد نشر ألبير ميمي روايته الأولى، «تمثال من ملح» عام ١٩٥٣م بمقدمة من ألبير كامي، ثم جاءت روايته «آجار» عام ١٩٥٥م، وتتابعت أعماله الروائية «صورة مستعمر تسبقها صورة استعماري» عام ١٩٥٧م، و«صورة يهودي» عام ١٩٦٢م، و«الرجل السائد» عام ١٩٦٨م، ثم مجموعة مقالات تحمل عنوان «يهود وعرب» عام ١٩٧٤م. وقد توقَّف عن كتابة الرواية في السنوات الأخيرة بعد روايته «الصحراء أو حياة مغامرات جبير علي الميمي» عام ١٩٧٧م، وفي عام ١٩٨٢م نشر كتابًا عن «العنصرية».

ويقول جان ديجو في كتابه «قاموس الأدباء المغاربة»: «إن ميمي أراد أن يوسِّع مدارك الأفق ويزوِّج العالم، ولكنه أدرك الاختلافات في المزيج المتَّحد، فتابع أبحاثه حول الاختلافات وسيكولوجية الإنسان المغلوب على أمره كي يصل إلى الإيمان في التفكير حول الاستقلال، وفي نفس الوقت الذي يحقِّر فيه مفاهيم العنصرية والاختلافات المتعارضة في داخله.»

وفي كتاب «الأدب الفرانكفوني» أن ميمي رغم مغادرته تونس في عام ١٩٧٦م، إلا أنه صرَّح بعد ذلك بعشرين عامًا بأنه رجل وفيٌّ لانتمائه التونسي وليس إلى إسرائيل؛ فتونس هي إلهامه، وهي اللوحة التي يرسم عليها، فهو يقول: «أرضي هنا، وقد وجدت فيها عالمي وكتبي.»١١

وفي نفس الكتاب إشارةٌ أن ميمي اعتبر نفسه يهوديًّا، وقد عكس تجربته الخاصة في جميع كتبه، سواء أكانت روايات أم مقالات: «في حياتي، فإن تجربتي المعاشة تعطي وحدتها لعملي.»

والكاتب في روايته متمرِّدٌ من خلال أبطاله على كافة أشكال الضغط على الإنسان، وهو يرى أن الرواية هي وسيلة للمواجهة. وفي رواياته الأولى يمكن أن نكتشف أن للكاتب جيتو خاصًّا يُسمَّى «الحارة»، وما لبث هذا الجيتو أن اختفى في أعماله التالية، وأصبح هناك إشراق خاصٌّ يعبِّر عنه. ففي روايته الأولى «تمثال من ملح» يحكي عن طفولته وسنوات المراهقة، إنه شخص يحس بالمهانة والمرارة والتمرُّد، ويعاني كثيرًا من اللغة الفرنسية التي يتكلَّمها في المدرسة، ولغته العربية الأم التي يتكلَّمها خارج جدران المدرسة. إنه طفل من أسرة بسيطة، وفقيرة، لكن هذا لا يمنعه أن يلحظ أن الثقافة الغربية التي يتلقَّاها في المدرسة تسيطر على الثقافات الأخرى؛ لذا، فهو يتركها خلفه ما إن يترك المدرسة، «أنا اسمي موردخاي، ألكسندر بن لوشي.»

«آه! هذه الابتسامة الرقيقة من زملائي، هل هي زقاق مسدود، أم درب؟ كنت أجهل أنني أحمل اسمًا سخيفًا. في المدرسة أعي اسمي في المقام الأول، لا أعرف سوى اسمي الذي أخرجه من حافظتي، ومن خجلي.»

يجد الصغير نفسه يحمل العديد من الأسماء الثقيلة النطق، ولا يعرف إلى أيٍّ منها ينتمي. وهو لا يستطيع أن يعتاد على أيٍّ منها … «سمِّ نفسك بيير أو جان، وغيِّر عاداتك، وغيِّر تمثالك الظاهر في هذا البلد «أنا يهودي» وبشكلٍ محددٍ أنا أسكن الجيتو» أو «أنا التمثال الكريه، أو أنا رجل شرقي العادات» أو «أنا مسكين». وعليَّ أن أرفض كل هذه المقولات الأربع، وألا أخجل منها بعد أن كانت مبعث احتقار، أو أن يسخر منها البعض إبَّان طفولتي.١٢

وفي روايته الثانية «آجار» يتحدث الكاتب عن تجربة الزواج المختلط، والبطل هو تقريبًا صورة مكررة من المراهق في الرواية الأولى، لكنه أصبح طبيبًا وتزوَّج من فتاة فرنسية جاءت إلى تونس. ويرى الكاتب أن الزواج من أجنبية قد أعطى البطل تجربة جديدة عليه أن يتعلم منها. فعلى الزوجة أن تواجه عالمًا يختلف عن عالمها. ويقول الكاتب إن هذه الرواية بمثابة محاولة لكشف النقاب عن بعض الأمور السلبية من أجل الوصول إلى إنجاح الزواج المختلط، والأخوة بين الشعوب.

وقد عاد الكاتب إلى نفس الشخصية في روايته «العقرب» المنشورة عام ١٩٦٩م، فنحن أمام الطبيب اليهودي مارسيل، إنه أحد الذين ظلُّوا في تونس عقب الاستقلال. وهذا الطبيب عليه أن يقوم بترتيب أوراق أخيه الأديب إميل الذي اختفى في ظروفٍ غامضة، ويعثر في أحد أدراجه على بعض الأوراق، فيعكف على دراستها.

«سألته عن مهنته، كي نستريح. ولأن هذا يسبب له المتعة دائمًا. لم نبق طويلًا في هذا المستوى الأول. إنه فقير، نصف أعمى، رحل أبناؤه جميعًا، تزوَّجوا، واستقرُّوا. ولكنه لم يطلب منهم شيئًا. بدا غير يائس. وبفضل هذه الآلة التي تملأ الغرفة كان يغزل الخيوط الصفراء والحمراء والخضراء والبيضاء في لفَّات طويلة.»

«إذا لم تودَّ ألَّا يعاملوك كفقير، فالتزم الصمت.»

«ولكن هل كنت فقيرًا، ضعيفًا، مجهولًا من الآخرين يا عم مخلوف؟»

«أجل، يا بني، أجل، لكن عمَّ تتكلم؟ لست فقيرًا ولست واهنَ القوى، هل تودُّ أن تقول إنك فاقد أهلية الاحترام؟ هذا خطأ، من المهم ألَّا تهين الآخرين، هل تعني أنك غاضب على نفسك؟ أسرع وعش في سلامٍ يا بني، وإلا ستظل فقيرًا ومنقسمًا.»١٣

وكما سبقت الإشارة، فإن هذه النماذج من الأدباء العرب اليهود تؤكد أننا أمام أدباء وطنيين، تجاه أوطانهم التي تربَّوا وعاشوا فيها، وعندما رحلوا عنها، أو ظلُّوا فوق أرضها، فإن إبداعهم مستمدٌّ من أديم هذه الأرض العربية.

١  Dictionnaire des auteurs maghrébins, Karthala, 1983, p. 238.
٢  E. Jabes, le nouvel observateur, 11-7-1991, p. 86.
٣  المصدر السابق.
٤  Le seuil du sable, Gallimard, Paris, 1990.
٥  المصدر السابق.
٦  تم الرجوع إلى الأعمال الكاملة التي صدرت للشاعرة جويس منصور من خلال ما ننشره هنا عن الشاعرة. والكتاب منشور عن الناشر actes sude عام ١٩٩٠م.
٧  Edmond el maleh, le monde, 23-5-1986.
٨  المصدر السابق.
٩  Mille ans, un jour, Edmond el maleh, la pensée sauvage, 1986.
١٠  المصدر السابق.
١١  La litterature francophone; Paris 1980, p. 220.
١٢  نفس المصدر.
١٣  نفس المصدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤