الفصل التاسع

أدب المهجر الناطق باللغة الفرنسية

أغلب الأدباء العرب الذين كتبوا باللغة الفرنسية، بدءوا حيواتهم الأدبية في بلادهم العربية، ثم سافر الكثير منهم إلى باريس إلى حيث فرص النشر الأفضل، وإلى إمكانية أحسن للتواجد، خاصةً أن عملية نشر الكتب المطبوعة بالفرنسية في الوطن العربي بدأت تتقلَّص بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

ومع سنوات الستينيات والسبعينيات لاحت في أفق هذا الأدب ظاهرة جديدة، وهي ظاهرة أبناء المهاجرين إلى أوروبا. لقد وجد هؤلاء الأبناء أنفسهم بين ثلاثة محاور. فهم ينتمون إلى مجتمعٍ عربي مسلم جاء منه الأهل، ثم هم يعيشون في مجتمعٍ غربي يختلف، وهناك محور ثالث يمثِّل مزيجًا بين الاثنين السابقين.

وقد ذكرت آني كريجيه كرينكي أن شابًّا من الجيل الثالث من المهاجرين الجزائريين قد تحدَّث إليها قائلًا: «نحن نتلقَّى ثلاثة أنماطٍ من التعليم؛ تعليم من آبائنا، وآخر من مدرسينا، وثالث من الحياة، وهذه الأنماط الثلاثة تتضارب.»١

فأبناء هذا الجيل الثاني، أو الثالث عليهم أن يعيشوا في ازدواجية ملحوظة، فهم في المدرسة قد يضطرون إلى تغيير أسمائهم، فيتحوَّل محمد إلى ميمو أو موريس، وجميل إلى جيمي. كم هم في أمسِّ الحاجة إلى الجماعة، وأن يذوبوا في داخلها، ويخشون أن يبدوا مختلفين عنها. إنهم قد يخجلون من أصلهم الذي جاءوا منه، ويدفعهم هذا، كما قالت السيدة كرينكي، إلى تغيير أسمائهم، وارتداء الزيِّ الأوروبي كالجينز والحذاء الطويل والبلوز، ويصبح من الصعب عليهم السير في ركاب آبائهم أثناء رحلات العطلات الأسبوعية وهم يرتدون زيَّ البدو. ولا تواجه هذه المشكلة الغلمان وحدهم، بل الفتيات أيضًا. فالفتاة لا ترغب أن تكون سندريلا، ولكنها تحاول أن تبدو طبيعية في مجتمعٍ أكثر تحررًا من مجتمعها الذي يرى أنه يجب أن تتزوج الفتاة مبكرًا.

ولا شك أن مثل هذه التجربة يمكن أن تولِّد أعمالًا فنية وأدبية متميزة؛ فهؤلاء الأدباء من الجيل الثاني والثالث لم يعيشوا في بلادهم إلا القليل من سنوات الطفولة الأولى، أو لعل بعضهم لم يطأ قطُّ الأرض العربية لكنه يحمل هويتها وجنسيتها، وهو مسلم عليه أن يلتزم بتعاليم الدين في المجتمع الغربي.

ولذا، فإن تجربة هذا الكاتب قد اختلفت كثيرًا عن أدب الأديب الذي عاش ردحًا من شبابه الأول في الوطن العربي. فمن المعروف أن أندريه شديد وألبير قصيري وأمين معلوف والطاهر بن جلون وكاتب ياسين وغيرهم قد تركوا بلادهم وهم في سن النضج. لذا، فإن أغلب أعمالهم تدور في الساحة العربية بغضِّ النظر عن الزمن الذي تجري فيه أحداث رواياتهم.

وبينما وجد الكثير من أبناء الجيل الثالث أن السينما والمسرح هما أفضل سبل الإبداع؛ فإن هناك نماذج أخرى قد اتَّجهت فقط إلى الكتابة. وسوف نختار هنا نموذجَين متقاربَين متناقضَين؛ الأول أديب نشر روايته الأولى عام ١٩٨٣م، ثم سرعان ما تحوَّل إلى السينما، فجاءت شهرته في عالم الفن السابع أكبر من شهرته ككاتب، وهو مهدي شرف، أما النموذج الثاني فهو لكاتبة عاشت أغلب سنوات حياتها في فرنسا وهي ليلى صبار.

مهدي شرف (١٩٥٢م)

يقول مهدي شرف في حديثه إلى مجلة «سينما توجراف»: «وُلدت في قرية صغيرة جدًّا على مسافة خمسين كيلومترًا من مدينة «تلمسان» في الجزائر، وذلك في عام ١٩٥٢م، وكنت أتصور أنني سأعيش وأموت في هذه القرية الصغيرة. إلى أن وقع ذات يومٍ حادث غيَّر مجرى حياتي؛ فقد ماتت أختي، وقررت أمي أن ترحل عن القرية إلى المدينة، ودفع هذا بأبي إلى أن يسافر إلى فرنسا بحثًا عن فرصة عملٍ. حدث هذا أيام حرب التحرير، وأصبح من الصعب على أبي أن يعود إلى الجزائر؛ لذا رحلنا إلى فرنسا للحاق به، وأصبح اندماجنا صعبًا في المجتمع الفرنسي. وعندما أتحدَّث عن العنصرية فأنا أذكر المدرسة بشكلٍ خاصٍّ … كنت صبيًّا عربيًّا؛ ولذا فقد تم إيداعي في فصلٍ للمتخلفين في مركزٍ لإصلاح الشباب المنحرف … كان كل الصبية من أصحاب المشاكل أو من أبناء مدمني الخمر وبنات الهوى.»٢

ومهدي شرف لم يتلقَّ تعليمًا منتظمًا، ولكنه عمل في المصانع الباريسية لسنواتٍ عديدة، حيث عمل في البناء وفي أعمالٍ أخرى وضيعة. ومنذ صغر سنِّه وهو فريسة لهذا التناقض الحضاري الذي يعيش فيه. وقد استفاد مهدي شرف من هذه التجربة؛ فكتب روايته الأولى «الشاي في مخدع آرشي أحمد»، والعنوان قد يبدو غريبًا بعض الشيء، لكن من سياق الرواية سنعرف مدى المعاناة التي عاشها البطل الذي ليس سوى صورة من شرف نفسه.

فنحن هنا أمام قصة صداقة تربط بين شابَّين مراهقَين، الأول عربي مهاجر في باريس والثاني فرنسي. هذان الشابَّان انخرطا في زمرة الشباب، ولا يملكان الكثيرَ من المفردات للتعبير عن رغباتهما، أو لتحقيق أحلامهما، هناك حيث البطولة سائدة في الأحياء الشعبية أو الأحياء التي يسكنها المهاجرون العرب. وفي هذه الأحياء تزداد حوادث السرقة والاغتصاب، وتبرز العنصرية وعدم المساواة، بينما يحاول الكثيرون من الناس المحافظة على معاني الصداقة والحب.

وفي الرواية نرى امرأة فرنسية تُدعى جوزيت تترك ابنها لامرأة جزائرية تُدعى ماليكة، وابن ماليكة يعمل في البناء: «ماذا هناك من فجوات في أعمال الفرسان، ففي القلب تمامًا، مثلما في الحياة، يبدو كلُّ شيء صغيرًا، ولكنه يتسع مع مرور الزمن، ويزداد اتساعًا، ويبدو أشبه ببحيرة، تمزُّق وندوب لا تُعالَج … لقد عادت هذه الفجوات، ويجب أن نهتمَّ بها وإلا اختنقت؛ لذا فالمرء تنتابه الرغبة في الصراخ والرغبة في الانفجار.»٣

كثيرًا ما يدور حوارٌ بين جوزيت وماليكة في الهاتف، أما الابن الصغير مجيد فإنه يصحب أباه كثيرًا إلى مدينة الغجر التي جاء إليها الكثير من المهاجرين، وبعد أن سقط الأب من السقف فإنَّ على مجيد أن يصحب أباه بنفسه.

والرواية تعبِّر عن الصعوبات التي يعانيها الشاب العربي وهو يتلقَّى تعليمه في هذه البلاد، فهو لا يمكنه أن ينطق بكلمة «أرشميدس» إلا لو قسَّمها ونطقها بمفهومه الخاص «آرشي أحمد» ثم يدمج الكلمتين معًا.

والمهاجرون في الرواية لا يتحدَّثون عن الوطن، ولكنهم يتحدَّثون عن البلاد التي يعيشون فيها الآن. فهم يخرجون في يوم العطلة مثل الآخرين من أجل النزهة، ولكن هذه المرأة المسلمة تمارس شعائرها التي تعلَّمتها بنفس الطريقة، إنها في البيت امرأة عربية، فهي ترى أن التليفزيون قد يكون مفسدة للأبناء عندما يعودون من الخارج. ويقول مهدي شرف في جريدة لوموند، ٢ مايو ١٩٨٥م: «لقد كتبتُ الرواية كي أنشرها، ولم تُبَع الرواية لفترة طويلة؛ فبدأت أفكر في تحويلها إلى سينما.» ويقول أيضًا في نفس الجريدة: «يتخيَّل البعض أن الناس الذين يسكنون المناطق الشعبية يعيشون في جحيم؛ أردت أن أظهر العكس، وأنه يوجد في هذا المحيط الهائل حنان كبير.»

والجدير بالذكر أن هذه الرواية قد فازت بجائزة أدبية بارزة تحمل اسم الأديب جان فيجو عام ١٩٨٣م، ثم حوَّلها مهدي شرف إلى فيلم في أول محاولة له في الإخراج السينمائي عام ١٩٨٥م، وحصل من خلال هذه التجربة على جائزة أحسن مخرج في جوائز سيزار عام ١٩٨٦م، وقد أجرى تعديلًا في عنوان الرواية إلى «الشاي في مخدع أرشميدس».

وبعد ذلك انشغل مهدي شرف بالسينما؛ فأخرج فيلمًا عن المهاجرين عام ١٩٨٧م، يحمل عنوان «الآنسة منى»، ثم بدأ يقدِّم أفلامًا فرنسية الموضوعات لا توحي أن مخرجها من المهاجرين. إلا أن المفاجأة الحقيقية هي عودته في عام ١٩٨٩م إلى الإبداع الروائي من خلال عمله الثاني «حركي مريم» le Harki de Meriem، لدى نفس الناشر.

وفي روايته الثانية عاد مهدي شرف للحديث عما يدور في أحياء العرب بباريس، ففي هذا الحي تبرز العنصرية واضحة، ويموت شابٌّ عربي على أيدي العنصريين. تدور الأحداث هنا في سنوات الخمسينيات، وسليم بطل الرواية في الثانية والعشرين من عمره. وهو ابن لرجلٍ جزائري من المناضلين، كان أبوه متطوِّعًا في الجيش الفرنسي في شمال أفريقيا في زمن الاستعمار. وُلِد عز الدين أبو سليم وتربَّى في فرنسا، وكان يحمل الجنسية الفرنسية. إذن، نحن هنا أمام جيلَين مختلفين من العرب الذين يعيشون في فرنسا؛ الأول انتمى تمامًا إلى الفرنسيين، وخدم في صفوفهم، والثاني دفعته ظروفه أن يعيش في فرنسا.

ووالد سليم يُدعى عز الدين، كان عليه أن يعمل سائق أوتوبيس، ويعيش مع ولديه وزوجته في المدينة. وهو رجل جاد، ويتسم بالخلق الكريم، ولديه اعتزاز واضح بكرامته. وقد قام عز الدين بإلحاق ابنه في مدرسة تحفيظ القرآن بفرنسا، وذلك بدافع ألا ينسى الصغير سليم القرآن الكريم ولا اللغة العربية، ومع ذلك فإن زملاءه في الكُتَّاب يسمونه «الفرنسي».

وعندما كبر سليم قرَّر أن يدرس القانون بناءً على رغبة أبيه الذي تمنَّى أن يراه محاميًا كي يمسح عن نفسه كلَّ إحساسه بالمنفى. ويدفع هذا بسليم إلى التفوق، ويزداد إحساس الأب بالفخر، فيقول لزوجته مريم: «أصبح ابننا أقوى من الفرنسيين.» ويصبح سليم محطَّ أنظار المدينة؛ فعمدة المدينة يستقبله، ومدير المدرسة يقف إلى جواره كي تُلتقَط له الصور.

وسليم هذا، المتفوِّق، عليه أن يدفع حياته ثمنًا لعنصرية بعض الفرنسيين ضد العرب؛ ففي الليل، وبينما هو عائد إلى بيته، يفاجأ براكب دراجة بخارية يعترضه ثم يطعنه بالمطواة.

ويقول محمد عبد القوي: «في نهاية سنوات الخمسينيات لم تكن كلمات الحرب والاستقلال موجودة في الريف الذي كان يعيش فيه عز الدين، بعيدًا عن العاصمة الجزائر أو عن الأوراس؛ لذا، فقد كان يسخر حين يسمع أن هناك حربًا أو استقلالًا. كان في الرابعة والعشرين من العمر عندما انضمَّ إلى الجيش الفرنسي، ليس ضد أحد، ولكن ضد الجوع والبطن الخاوية وأرضه الجافة والشمس التي جفَّفت النهر الذي يخترق التربة. كانت الأرض شديدة القسوة وتشبه ثعبانًا يولي الفرار، ليس فيها شيء إلا ونفق؛ مات أخواه الأكبر والأصغر، فهرب من الريف يدفعه الجوع، وهو الذي لم يبق له شيء في حياته كي يعطيه لأقرانه.»٤

عز الدين هو بالطبع الأب الذي سافر إلى فرنسا كما تحدث مهدي شرف عن أبيه، فعندما هاجر إلى فرنسا كان يتصوَّر أن الحياة فتحت أبوابها له، ولكن بعد أن أنجب لها ولدًا متفوِّقًا ومتميزًا فإنه يحصد موته على أيدي نفس الأشخاص.

الأرض العربية غير موجودة بالمرة في هذه الروايات، ولكننا أمام عرب يعانون فوق الأرض التي هاجروا إليها، ولا شك أن الحنين هنا أضعف كثيرًا من نوع الحياة التي يحاول أبطال مهدي شرف أن ينجحوا فيها مهما كان الثمن.

ليلى صبار (١٩٤١م)

الكاتبة الثانية التي تنتمي إلى هذا الجيل الثاني من المهاجرين هي ليلى صبار، إنها لا تعرف مثل مهدي شرف من اللغة العربية سوى كلمات مكسورة الأحرف، ولكنها تحاول أن تخرج من هذه الازدواجية الثقافية التي تعيش فيها، والتي عبَّرت عنها بنفسها في الكثير من المواقف. فقالت في كتاب «المسلمون في فرنسا»: «لا يمكن أن نقول إن مشاكل الهجرة المغربية أكثر عنفًا وألمًا، وإن هناك بلادًا قد تحرَّرت وتجاوزت الحروب، وتعيش في حرية. فماذا عن هؤلاء القادمين من الجزائر أو المغرب أو تونس، يشعرون أنهم ليسوا على ما يرام، سواء في فرنسا أو في الجزائر. لكن لماذا جاءوا إلى هنا؟ ربما لأنهم لا يشعرون بالراحة في بلادهم الأصلية، وأن هناك نظامًا سياسيًّا للنساء، بشكلٍ خاص، وعلى الرجال أن يعيشوا الحياة التي يرغبون فيها سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.»٥
وُلدت ليلى صبار في ١٩ نوفمبر عام ١٩٤١م في قرية آفلو لأبٍ جزائري وأمٍّ فرنسية. عاشت في الجزائر إلى أن بلغت سن السابعة عشرة، ثم سافرت إلى فرنسا للاستقرار هناك، حيث عملت مدرسة. وليلى صبار تكتب المقال والرواية والشعر. نشرت مجموعة من المقالات عام ١٩٨٠م تحت عنوان «إنهم يقتلون الفتيات»، ثم جاءت روايتها الأولى في نفس السنة تحت عنوان la pédophile et la maman ثم نشرت روايتها الثانية «شهرزاد» عام ١٩٨٢م، و«تكلم يا ولدي» Parles fiston عام ١٩٨٤م، و«شيء يبحث عن شقيقة روحه» عام ١٩٨٧م.

ويقول حسن محمد موسى إن تجربة المنفى عند ليلى صبار تنطوي على بُعدٍ شخصي أصيل ومميز، وهي قد وُلِدت وعاشت طفولتها وصباها في الجزائر لم تتعلم من العربية إلا النزر اليسير. فالفرنسية بالنسبة لها هي لغة التخاطب والتعبير الأدبي، والمنفى عندها يراوح بين لغتَي أمها وأبيها: «كانت أمي في منفاها تتكلَّم لغتها، وكان أبي يكلِّمني بلغة أمي، كان هو الآخر منفيًّا في لغة أخرى، لغة المستعمِر. لغة أبي كانت في أذني وعلى الدوام، لكنها بقيت قريبة ومبعثرة في آنٍ. ورغم ذلك كنت أعشق سماعها ملغمةً بالمفاجآت وبالمصاعب في كل لحظة. حين يشرع أبي يتحدث لغته، لا أفهم سوى بعض كلمات معزولة أترجمها أو أرتِّق منها خرقة معنى، لكنني لا أبحث عن المعنى، إنني أسمع فحسب، وأندهش للأصوات والنبرات، وأتمنى لو أن أبي لا ينقطع عن الكلام.»

«حين حضرتُ إلى فرنسا انقطعت زمنًا عن سماع العربية، لغة أبي، وقد عزلتني ذريعة الدراسات العليا عن الجزائر الأم، وعن الأب. لم ألاحظ إحساسي بالوحدة في لغة أمي، ولأمي وطنها فأنا لست منفية هنا؛ إذ أكتب بلغة أمي نصوصًا أكاديمية للجامعة في لغة دراسية اصطلاحية، وكنت أحاول الكتابة الأدبية خارج اللغة الدراسية فتستعصي عليَّ فكأنني فقدت الذاكرة.»٦

ومن المعروف أن ليلى صبار قد تبنَّت الدفاع عن حقوق المرأة، وكتبت في هذا المضمار مقالاتٍ كثيرة نُشرَت في العديد من المجلات الفرنسية، منها مجلة «العصور الحديثة»، كما نُشرت لها مقالات تحمل توقيعها في مجلة «اليوم السابع».

وقد اعتبر خميس خياطي أن ليلى صبار — في مجلة اليوم السابع، أكتوبر ١٩٨٧م — كاتبة فرنسية … وهو يرى أن لرواياتها طعمًا خاصًّا، طعم البحث عن الهوية والأم والابتعاد عن الأب والعالم الخارجي المأساوي والشقي. أما ثقافة الشمال الغربية فهي ممثَّلة في كل صفحة مما تكتبه ليلى صبار عبر بيئة ثقيلة، ثقل آلامها، لكنها تحمل وراءه طعم الحرية. شهرزاد التي تجوب أنحاء فرنسا بحثًا عمَّا يكوِّن شخصيتها العربية، فقد سافر الابن كثيرًا لكنه لم يجد ما يقوله لأمه التي لا تترك له أية فرصة كي يتحدث إليها.

وفي روايات الكاتبة، كما يقول الخياطي: «تبحث ليلى صبار عن مخرجٍ يمزج بين ثقافتَين، وذلك حال جيل عربي بأكمله وُلِد في فرنسا، ولكنه لا يعتبر نفسه فرنسيًّا. وُلِد بعيدًا عن موطنه الأصلي، ولكنه لا يعرف عن هذا الوطن إلا الخرافات والحواديت، جالس بين كرسيين، ولا يُعنى بهذا أو ذاك.»٧

وفي روايات الكاتبة هناك دائمًا النساء اللائي يعِشن بين عالمَين متناقضَين، وهناك مسافات في حياة هؤلاء النساء، سواء مسافات زمنية أو مكانية. ومثلما حدث في رواية «الشاي في مخدع آرشي أحمد»، فإن رواية «شيء يبحث عن شقيقة روحه» نجد صداقة بين فتًى من أصلٍ عربي وآخر فرنسي، وإذا كانت الصداقة قد نمت بين الشخصين عند مهدي شرف في أزقة باريس العتيدة، فإن صداقة جعفر بالفرنسي رولان قد نمت في زنزانة.

وفي السجن تاق جعفر إلى مخاطبة العرب من أمثاله … لذا فلم يكن يميل إلى محادثة المساجين الفرنسيين الذين لا يخلو سلوكهم من العنصرية، ومن خلال قصاصات الصحف تمكَّن من معرفة عنوان فتاة عربية راح يراسلها ويخبرها أنه في سجنه يبحث عن شقيقة لروحه … فتصله رسالة من فتاة عربية تسكن فرنسا تخبره أنها أيضًا تفتِّش عن هذا الشقيق.

ويبدأ جعفر في الاحتكاك بالعالم الخارجي الداخلي، فهو يريد أن يعبِّر عن شعوره للفتاة بأن يرسل لها قصيدة مسجلة على شريط، إلا أن صوته يزعج زميل الزنزانة الفرنسي، ومن هنا تقوم الصداقة بين جعفر ورولان.

ويتعلم رولان هذه التجربة الجميلة من السجين العربي، فيرسل خطابات إلى فتاة فرنسية تُدعى «آني» مشغوفة بمسألة الغيبيات، وتدور الرسائل دافئة تعبِّر عن أفكار الإنسان، وتعكس ما في روحه.

وعندما يخرج جعفر من السجن يفتِّش عن الفتاة العربية التي كانت تراسله فلا يجدها … لعلها كانت خيالًا لا وجود له. وفي وسط زحمة بحثه عنها يلتقي بفتاة تُدعى «ليز»، إنها المرأة التي كانت سببًا في دخول رولان، السجن: «لقد كان للعامل الثقافي تأثيره في علاقة ليز بجعفر. ترى ليز في جعفر صورة الفارس العربي، ويرى جعفر فيها الطبيعة الفرنسية والأرض الفرنسية التي يودُّ امتلاكها. وفي فصول شيقة القراءة تصوِّر ليلى صبار التحام جعفر بالريف الفرنسي بوالدة ليز بالطبيعة الفرنسية وكأنه وجد في كل هذه العناصر أوجهًا عديدة من شخصيته الدفينة، فتستغل ليز هذا التماثل، وتؤثر على جعفر للقيام بسرقة أحد بائعي المجوهرات، وتفشل السرقة ويُرمَى بجعفر مرة أخرى في السجن، فيلتقي ثانية برولان، ويتغلب عليه الصمت.»٨
إذن، فليلى صبار قد فعلت ما فعله مهدي شرف، فليست أرض هذا النوع من الروايات فقط هي فرنسا، بل إن الأبطال الآخرين، غير العرب، هم أيضًا من الفرنسيين. وقليلًا ما نجد أن هناك صداقة بين عربي وآخر، بل على العربي، في هذه الروايات، أن يختار أصدقاءه من الفرنسيين، سواء من الذين يدفعونه في الحياة، أو من الذين يقتلونه، ويدفعون به إلى الهاوية. وقد اختلفت هذه السِّمات عما كتب بعض الفرنسيين أنفسهم حين صوَّروا حياة العرب في الأحياء التي يعيشون فيها، ومنهم مثلًا رواية «هي نقطة الذهب» Gout d’or التي كتبها ميشيل تورنييه عام ١٩٨٥م؛ فالعرب في هذه الرواية يعيشون في عالم عربي لا يخرجون منه إلا عند الضرورة القصوى.
١  Les muslumans en France, A. K. Kriniki, Maisonneuve, Paris, 1986.
٢  Cinematograph, Juillet, Paris, 1985.
٣  Le the au harem d’archi Ahmed, M. Sharef, mercure de France, Paris, 1983.
٤  Discours de la litterature, notre libraire, 1992, Paris, p. 129.
٥  المرجع السابق.
٦  كتابة في منفى اللغة، مجلة أوراق أبو ظبي، العدد ٣٠.
٧  جعفر رولان في الزنزانة، خميس خياطي، اليوم السابع، باريس، أكتوبر ١٩٨٧م.
٨  المصدر السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤