الفصل الأول

شَائِعَةُ قِتَالٍ

اخْتَفَى الْبَرْدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَنْ سَطْحِ الْأَرْضِ، وَكَشَفَ الضَّبَابُ الْمُنْقَشِعُ عَنْ جَيْشٍ يَرْتَدِي جُنُودُهُ الزِّيَّ الْأَزْرَقَ وَيَسْتَرِيحُونَ فَوْقَ التِّلَالِ. عِنْدَمَا اسْتَيْقَظَ الْجُنُودِ اسْتَطَاعُوا رُؤْيَةَ الْمَزِيدِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوحِلَةِ وَالنَّهْرِ، ذَهَبَ جُنْدِيٌّ طَوِيلُ الْقَامَةِ لِيَغْسِلَ قَمِيصَهُ، ثُمَّ عَادَ مُهَرْوِلًا لِيَنْشُرَ خَبَرًا قَدْ سَمِعَهُ.

قَالَ الْجُنْدِيُّ: «سَوْفَ نَتَحَرَّكُ غَدًا، سَنَتَحَرَّكُ نَحْوَ أَعْلَى النَّهْرِ، ثُمَّ نَعْبُرُهُ وَنَلْتَفُّ مِنْ خَلْفِهِمْ.»

قَالَ جُنْدِيٌّ آخَرُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ: «لَا أُصَدِّقُ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَعْدَدْتُ لِلتَّحَرُّكِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ فِي الْأُسْبُوعَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، وَلَمْ نَتَحَرَّكْ بَعْدُ.»

وَبَيْنَمَا وَاصَلَ الرِّجَالُ نِقَاشَهُمْ حَوْلَ مَا إِذَا كَانُوا سَيَتَحَرَّكُونَ الْيَوْمَ التَّالِيَ أَمْ لَا، ذَهَبَ جُنْدِيٌّ شَابٌّ يُدْعَى هنري فليمنج إِلَى كُوخِهِ لِيَخْلُوَ إِلَى نَفْسِهِ وَيُفَكِّرَ. أَذْهَلَهُ التَّفْكِيرُ فِي احْتِمَالِ نُشُوبِ الْقِتَالِ قَرِيبًا، وَأَنَّهُ سَيُشَارِكُ فِيهِ! سَيَكُونُ وَاحِدًا مِنْ أَهَمِّ الْأَحْدَاثِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ.

كَانَ هنري يَحْلُمُ طَوَالَ حَيَاتِهِ بِالْمَعَارِكِ وَبِأَنْ يُصْبِحَ بَطَلًا، لَكِنَّهُ لَمْ يُفَكِّرْ قَطُّ أَنَّهُ سَيُشَارِكُ فِعْلِيًّا فِي الْحَرْبِ. هُنَالِكَ فِي وَطَنِهِ، لَمْ يَكُنْ يُصَدِّقُ أَنَّ الْحَرْبَ حَقِيقِيَّةٌ، بَلْ ظَنَّ أَنَّ الْبَشَرَ قَدْ أَصْبَحُوا أَفْضَلَ حَالًا الْآنَ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ أَكْثَرَ مَيْلًا إِلَى السِّلْمِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي، وَمُؤَكَّدٌ أَنَّهُمْ لَنْ يَخُوضُوا غِمَارَ الْحَرْبِ. لَكِنَّ حَرْبًا أَهْلِيَّةً كَانَتْ تَشْتَعِلُ الْآنَ بَيْنَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ، وتِلْكَ فُرْصَتُهُ لِيُصْبِحَ بَطَلًا.

أَرَادَ هنري الانْضِمَامَ إِلَى صُفُوفِ الْجَيْشِ مَرَّاتٍ عِدَّةً، لَكِنَّ وَالِدَتَهُ كَانَتْ تَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ، كَانَتْ تَسُوقُ لَهُ مِائَةَ سَبَبٍ لِضَرُورَةِ وُجُودِهِ فِي الْمَزْرَعَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ. وَأَخِيرًا، عِنْدَمَا ضَاقَ بِالانْتِظَارِ ذَرْعًا، ذَهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ. وعِنْدَمَا أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: «فَلْتَكُنْ مَشِيئَةُ الرَّبِّ يَا هنري.»، ثُمَّ وَاصَلَتْ حَلْبَ الْبَقَرَةِ، وَأَضَافَتْ: «احْتَرِسْ، وَاعْتَنِ بِنَفْسِكَ. لَا تَظُنَّ أَنَّ بِمَقْدُورِكَ هَزِيمَةَ جَيْشِ الْمُتَمَرِّدِينَ كُلِّهِ عَلَى الْفَوْرِ؛ فَلَسْتَ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ بَيْنَ كَثِيرِينَ آخَرِينَ.»

طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَحْتَرِسَ مِنَ الْأَشْرَارِ الَّذِينَ يَسُبُّونَ أَوْ يَفْعَلُونَ أَشْيَاءَ أُخْرَى تَكُونُ سَبَبًا فِي شُعُورِهَا بِالْخِزْيِ مِنْهُ، وَأَضَافَتْ: «لَا أَدْرِي مَا الَّذِي يَجِبُ أَنْ أُخْبِرَكَ بِهِ أَيْضًا سِوَى أَلَّا تَتَخَلَّى عَنْ وَاجِبِكَ أَبَدًا بِسَبَبِي. وَإِذَا أَتَى وَقْتٌ يَجِبُ أَنْ تُقْتَلَ فِيهِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِ الصَّوَابِ، فَلَا تُفَكِّرْ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَا هنري إِلَّا فِي فِعْلِ الصَّوَابِ.»

بَلَغَتْ رُوحُهُ الْمَعْنَوِيَّةُ عَنَانَ السَّمَاءِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى واشنطن. كَانَتِ الْكَتِيبَةُ كُلُّهَا تَلْقَى مُعَامَلَةً حَسَنَةً لِلْغَايَةِ أَثْنَاءَ سَفَرِهِمْ حَتَّى إِنَّهُ شَعَرَ كَمَا لَوْ كَانَ بَطَلًا حَقِيقِيًّا. بَعْدَ الْعَدِيدِ مِنَ الرِّحْلَاتِ الشَّاقَّةِ وَفَتَرَاتِ التَّوَقُّفِ الطَّوِيلَةِ، حَلَّتْ شُهُورٌ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُضْجِرَةِ دَاخِلَ أَحَدِ الْمُعَسْكَرَاتِ. فِي الْمُعَسْكَرِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَيُّ صِرَاعٍ مَعَ الْمَوْتِ. كُلُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ هو مُحَاوَلَةُ الِاحْتِفَاظِ بِدِفْءِ أَجْسَامِهِمْ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى التَّدْرِيبِ مِرَارًا وَتَكْرَارًا، وَكَانَ كُلُّ مَا يُفَكِّرُ فِيهِ هنري فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ الْمَعَارِكَ الْقَادِمَةَ.

لَمْ يَهْتَمَّ هنري كَثِيرًا بِطَبِيعَةِ الرِّجَالِ الَّذِينَ سَيُحَارِبُهُمْ؛ إِذْ كَانَتْ هُنَاكَ مُشْكِلَةٌ أَخْطَرُ، وَهِيَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّأَكُّدَ أَنَّهُ لَنْ يَفِرَّ مِنْ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ. لَمْ يَكُنْ فِي حَاجَةٍ إِلَى التَّفْكِيرِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ قَبْلُ، لَكِنَّ مَعْرَكَةً سَتَقَعُ حَقًّا، وَهُوَ يُدْرِكُ أَنَّهُ رُبَّمَا يَفِرُّ مِنَ الْمَيْدَانِ. لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ فِيمَا يَخُصُّ الْحَرْبَ.

بَعْدَ وَقْتٍ قَصِيرٍ، دَخَلَ الْجُنْدِيُّ طَوِيلُ الْقَامَةِ إِلَى كُوخِهِ وَتَبِعَهُ الْجُنْدِيُّ عَالِي الصَّوْتِ الَّذِي كَانَ قَدْ خَالَفَهُ الرَّأْيَ سَابِقًا، وَكَانَا لَا يَزَالَانِ عَلَى خِلَافِهِمَا. كَانَ الْجُنْدِيُّ طَويِلُ الْقَامَةِ يُسَمَّى جيم كونكلن، وَالْجُنْدِيُّ عَالِي الصَّوْتِ يُسَمَّى ويلسون.

قَالَ جيم وَهُوَ يَدْخُلُ الْكُوخَ مُلَوِّحًا بِيَدَيْهِ: «هَذَا صَحِيحٌ، يُمْكِنُكَ أَنْ تُصَدِّقَ ذَلِكَ أَوْ لَا، كُلُّ مَا عَلَيْكَ فِعْلُهُ هُوَ أَنْ تَجْلِسَ وَتَنْتَظِرَ. سَتَعْرِفُ عَمَّا قَرِيبٍ أَنَّنِي كُنْتُ مُحِقًّا.»

قَالَ ويلسون: «حَسَنًا، إِنَّكَ تَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟»

رَدَّ جيم فِي حِدَّةٍ: «لَمْ أَقُلْ إِنَّنِي أَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ.» وَبَدَأَ يَجْمَعُ مُتَعَلَّقَاتِهِ دَاخِلَ حَقِيبَةِ ظَهْرِهِ.

رَاقَبَهُمَا هنري فِي قَلَقٍ، وَفِي النِّهَايَةِ سَأَلَ جيم: «أَمِنَ الْمُؤَكَّدِ إِذَنْ أَنَّنَا بِصَدَدِ إِحْدَى الْمَعَارِكِ يَا جيم؟»

رَدَّ جيم: «بِالطَّبْعِ، هُنَاكَ مَعْرَكَةٌ، انْتَظِرْ فَقَطْ حَتَّى الْغَدِ، وَسَتَرَى وَاحِدَةً مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَارِكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. انْتَظِرْ فَحَسْبُ.»

تَحَدَّثَ جيم عَنِ السَّرَايَا الْأُخْرَى وَعَنِ الْمَعَارِكِ الَّتِي سَمِعَ عَنْهَا، ثُمَّ سَأَلَهُ هنري عَمَّا قَدْ تَفْعَلُهُ كَتِيبَتُهُمَا.

قَالَ جيم فِي هُدُوءٍ: «أَظُنُّ أَنَّهُمْ سَيبلُونَ بَلَاءً حَسَنًا مَا إِنْ يَحْتَدِمُ الْقِتَالُ. يَسْخَرُ مِنْهُمُ الْجَمِيعُ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو الْعَهْدِ بِالْقِتَالِ، لَكِنَّهُمْ سَيُبْلُونَ بَلَاءً حَسَنًا.»

سَأَلَهُ هنري: «هَلْ تَظُنُّ أَنَّ أَيًّا مِنَ الصِّبْيَةِ سَيَلُوذُ بِالْفِرَارِ؟»

قَالَ جيم: «رُبَّمَا يُقْدِمُ قَلِيلُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَتِلْكَ الْفِئَةُ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ كَتِيبَةٍ، خَاصَّةً عِنْدَمَا يُشَارِكُونَ فِي الْقِتَالِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. لَا يُمْكِنُكَ الْمُرَاهَنَةُ عَلَى شَيْءٍ، لَكِنْ أَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ سَيُقَاتِلُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْبَعْضِ وَأَسْوَأَ مِنْ آخَرِينَ.»

سَأَلَهُ هنري: «هَلْ فَكَّرْتَ أَنَّكَ أَنْتَ نَفْسَكَ رُبَّمَا تَفِرُّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ يَا جيم؟» ثُمَّ ضَحِكَ كَمَا لَوْ كَانَ يَمْزَحُ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُغْضِبَ صَدِيقَهُ.

قَالَ جيم: «حَسَنًا، فَكَّرْتُ فِي أَنَّ الْمَعْرَكَةَ قَدْ تَحْتَدِمُ كَثِيرًا، وَإذا فَرَّ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ الفِتْيَةِ، فَسَأَفِرُّ أَنَا الْآخَرُ، وَعِنْدَمَا أَفْعَلُ، سَأَجْرِي بِأَقْصَى قُوَّتِي. لَكِنْ إِذَا صَمَدَ الْجَمِيعُ وَقَاتَلُوا، فَسَوْفَ أَصْمُدُ وَأُقَاتِلُ. أُرَاهِنُ عَلَى ذَلِكَ.»

شَعَرَ هنري بِالسَّعَادَةِ لِسَمَاعِهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَقَدْ ظَنَّ أَنَّ جَمِيعَ الرِّجَالِ الْآخَرِينَ مِمَّنْ لَا يَمْتَلِكُونَ الْخِبْرَةَ يَثِقُونَ بأَنْفُسِهِمْ تَمَامَ الثِّقَةِ، أَمَّا الْآنَ وَبَعْدَ أَنْ عَرَفَ الْحَقِيقَةَ، شَعَرَ بِأَنَّهُ فِي حَالٍ أَفْضَلَ قَلِيلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤