الفصل التاسع والعشرون

انْتِزَاعُ الرَّايَةِ

انْدَفَعَ هنري إِلَى الْأَمَامِ بِكُلِّ مَا لَدَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ. لَمْ يَسْتَطِعْ رُؤْيَةَ أَيِّ شَيْءٍ سِوَى الدُّخَانِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ بِوُجُودِ سِيَاجٍ قَدِيمٍ هُنَاكَ. لَا بُدَّ أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِأَحَدِ الْمُزَارِعِينَ فِي السَّابِقِ، لَكِنَّهُ الْآنَ أَصْبَحَ فِي يَدِ الْعَدُوِّ.

أَثْنَاءَ جَرْيِ هنري، لَمَعَتْ فِي ذِهْنِهِ فِكْرَةُ اللِّقَاءِ الْأَخِيرِ بَيْنَ جَيْشِهِ وَجَيْشِ الْعَدُوِّ، وَتَوَقَّعَ أَنْ تَكُونَ مُوَاجَهَةً شَرِسَةً، وَهُوَ مَا جَعَلَهُ يُسْرِعُ فِي الْعَدْوِ عَنْ أَصْدِقَائِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْتِفُونَ فِي قُوَّةٍ وَحَمَاسٍ.

لَكِنْ سُرْعَانَ مَا رَأَى هنري أَنَّ عَدَدًا كَبِيرًا مِنْ جُنُودِ الْعَدُوِّ لَنْ يَصْمُدُوا لِلْقِتَالِ. ومَعَ انْقِشَاعِ الدُّخَانِ، رَأَى هنري جُنُودَ الْعَدُوِّ يَلُوذُونَ بِالْفِرَارِ. كَانَ بَعْضُهُمْ يَلْتَفِتُونَ لِيُطْلِقُوا النَّارَ عَلَى كَتِيبَةِ هنري قَبْلَ أَنْ يُوَاصِلُوا فِرَارَهُمْ.

لَكِنْ فِي بُقْعَةٍ مُحَدَّدَةٍ بَيْنَ صُفُوفِ الْعَدُوِّ، كَانَتْ هُنَاكَ مَجْمُوعَةٌ مُتَجَهِّمَةٌ وَحَازِمَةٌ لَمْ تَتَحَرَّكْ مِنْ مَكَانِهَا. كَانُوا ثَابِتِينَ فِي أَمَاكِنِهِمْ خَلْفَ السِّيَاجِ تُرَفْرِفُ فَوْقَهُمْ رَايَةٌ مُتَمَوِّجَةٌ جَامِحَةٌ.

اقْتَرَبَتْ كَتِيبَةُ هنري أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ حَتَّى الْتَقَى الْفَرِيقَانِ، وَأَصْبَحَتْ صَرَخَاتُهُمَا إِهَانَاتٍ مُتَبَادَلَةً. كَادَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا تَخْتَفِي تَمَامًا.

رَكَّزَ هنري نَظَرَهُ عَلَى رَايَةِ الْعَدُوِّ الَّتِي كَانَ يُرِيدُهَا أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ. انْقَضَّ عَلَيْهَا كَالْحِصَانِ الْجَامِحِ، وَكَانَتْ رَايَتُهُ تَتَأَرْجَحُ كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْهَا.

فَجْأَةً تَوَقَّفَتْ كَتِيبَةُ هنري عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَأَطْلَقُوا وَابِلًا مِنَ الرَّصَاصِ تَفَرَّقَ عَلَى إِثْرِهِ جُنُودُ الْعَدُوِّ، لَكِنَّهُمْ وَاصَلُوا الْقِتَالَ. أَطْلَقَتِ الْكَتِيبَةُ صَيْحَةً أُخْرَى ثُمَّ انْدَفَعُوا نَحْوَ الْعَدُوِّ.

رَأَى هنري بَعْضَ جُنُودِ الْعَدُوِّ يُقَاتِلُونَ حَتَّى النِّهَايَةِ وَأَحَدُهُمْ يَحْمِلُ الرَّايَةَ. كَانَ قِتَالًا مَهُولًا. اكْتَسَى وَجْهُ حَامِلِ الرَّايَةِ بِالْغَضَبِ وَتَشَبَّثَ بِهَا حَتَّى وَهُوَ يَتَعَثَّرُ وَيَسْقُطُ أَرْضًا. جِرَاحُهُ جَعَلَتِ الأَمْرَ يَبْدُو وَكَأَنَّ كَائِنَاتٍ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ تَتَشَبَّثُ بِقَدَمَيْهِ وَتُعِيقُ تَحَرُّكَهُ. بَدَا قَلِقًا لِلْغَايَةِ عِنْدَمَا قَفَزَتْ كَتِيبَةُ هنري فَوْقَ السِّيَاجِ.

عَبَرَ ويلسون السِّيَاجَ، وَانْقَضَّ عَلَى الرَّايَةِ كَنَمِرٍ يَنْقَضُّ عَلَى فَرِيسَتِهِ. انْتَزَعَ ويلسون الرَّايَةَ وَلَوَّحَ بِهَا وَهُوَ يُطْلِقُ صَيْحَةَ انْفِعَالٍ بَيْنَمَا سَقَطَ حَامِلُ رَايَةِ العدو أَرْضًا.

أَطْلَقَتْ كَتِيبَةُ هنري عَاصِفَةً مِنَ الْهُتَافِ.

انْتَهَتْ مَعْرَكَةُ التَّلِّ الصَّغِيرِ! أُسِرَ أَرْبَعَةٌ مِنْ جُنُودِ الْعَدُوِّ، وَاسْتُجْوِبُوا. أَحَدُهُمْ كَانَ مُصَابًا فِي قَدَمِهِ، وَأَخَذَ يَكِيلُ الصَّرَخَاتِ واللَّعَنَاتِ لهنري وَأَصْدِقَائِهِ. الثَّانِي كَانَ صَغِيرًا وَتَكَلَّمَ بِهُدُوءٍ مَعَ أَصْدِقَاءِ هنري عَنْ أَحْدَاثِ الْمَعْرَكَةِ، بَيْنَمَا جَلَسَ الثَّالِثُ حَزِينًا لَا يَفْعَلُ شَيْئًا سِوَى تَوْجِيهِ عِبَارَاتٍ غَاضِبَةٍ لِلرِّجَالِ. أَمَّا السَّجِينُ الرَّابِعُ فَكَانَ صَامِتًا طِيلَةَ الْوَقْتِ، وَكَانَ يُشِيحُ بِنَظَرِهِ عَنِ الْآخَرِينَ. بَدَا أَنَّهُ يَشْعُرُ بِاْلِخْزِي الشَّدِيدِ.

بَعْدَ أَنِ احْتَفَلَ الْجُنُودُ طَوِيلًا، جَلَسُوا خَلْفَ السِّيَاجِ فِي الْجَانِبِ الْمُقَابِلِ لِلْجَانِبِ الَّذِي كَانَ يَتَّخِذُهُ جُنُودُ الْعَدُوِّ مِنْ قَبْلُ.

كَانَتْ هُنَاكَ بَعْضُ الْأَعْشَابِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي اسْتَرْخَى فَوْقَهَا هنري، وَتَقَدَّمَ نَحْوَهُ ويلسون مُفْعَمًا بِالْبَهْجَةِ وَالْفَخْرِ وَفِي يَدِهِ رَايَةُ الْعَدُوِّ. اسْتَلْقَى ويلسون بِجِوَارِه، وَهَنَّأَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤