على طريق المنفى

– العين لا تقاوم المخرز، اسمع مني يا شدياق، الزم بيتك.

قالها المطران يوسف اسطفان لتلميذه الشدياق سركيس، وهو يحاول القعود للاستراحة تحت خروبة في ضهر صغار.١

وقبل أن يجيب الشدياق، قال المطران بتحسر: صغار لفظة سريانية ومعناها السكرة — القفل — فهل معنى ذلك أن بلادنا تسكر بوجهنا؟ العلم عند الله وحده. هذي آخِر نظرة نلقيها على آخِر حدودك يا كسروان.

وبان في وجه المطران وخوريه حزن عميق، ثم التفت المطران إلى الخوري، وقال له: ترجع أنت من كفيفان،٢ فأنا صرت في غنى عن شقائك معي. أنا دائر على باب الله بعد اليوم، أما وجهتي فإلى خارج لبنان. قوموا امشوا.

وما صاروا في فم الوادي حتى التفت المطران إلى تلميذه القديم الشدياق سركيس وقال له: هذا وادي حربا يا شدياق.

فتنحنح الشدياق وقال: ونحن في حرب يا سيدنا، نحن نحارب الظلم والاستبداد، كما علمتنا، حتى نموت.

– لا يا ابني، رجوعك إلى بيتك أحسن لك. إذا كانت عامِّيَّة لحفد ما ثبتت في وجه المير، فكيف تتأمل، وأنتم جماعة قليلة، أن تقاوموا حاكمًا عنده المال والرجال؟ الأفضل أن تقعد في بيتك تنتظر الساعة … ربما أتَتْ.
figure

– إذا أنا قعدت في بيتي، وأنت قعدت في ديرك، فمَن يبقى في الميدان؟ لا بد من المقاومة، لا بد من الموت لمَن يطلب الحياة.

فالتفت المطران إلى تلميذه التفاتة مجنونة، وتعجَّبْ من هذه الصلابة.

استعرض حياته المدرسية، فتذكَّر أنه كان لا يسكت عن استبداد معلميه، فالتفت إلى الخوري معاونه في عين ورقة التفاتة وقال له: نسيت حين هاج الشدياق التلاميذ عليك لاستبدادك، ها هو يفعل ذلك اليوم.

فالتفت الشدياق إلى الخوري واستجمع ذاكرته، فما ذكر شيئًا عن هذا الخوري، فقال في نفسه: فمَن هو يا تُرَى؟

ورأى المطران والخوري يبتسمان لهذه الذكرى، فتضاحك وقال: تقول لي ارجع إلى بيتك، وأنت عازم على مبارحة لبنان! اعمل، يا سيدنا، ما تريد أن أعمله أنا.

فصاح المطران: هيهات!

وأجاب الشدياق: أنت هيهات، وأنا هيهات.

والتفت الأسقف إلى صخر قائم على جانب مدخل الوادي الشمالي وقال: أتعرف ما كُتِب على هذا الصخر؟ هذا اسم قائد يوناني افتتح بلادنا لدولته.

– وأين هي دولته اليوم؟

– راحت …

فصاح الشدياق، كأنه يرى ساعة النصر العتيدة٣ أمام عينيه: مثلما راحت دولة اليونان والرومان والدول الأخرى، كذلك يروح حكم الشهابيين، وتمحى الإقطاعية إذا قاومنا وصبرنا. أما قلت في وعظتك اليوم: مَن يصبر إلى المنتهى يخلص؟ فأنا صابر، وأظل صابرًا حتى تعود أنتَ كما أنتَ، تقضي بالعدل بملء حريتك، لا يقول لك مير أو شيخ أحكم على هذا، وبرِّئ هذاك. هذا ما أنا ثائر لأجله، وما دام يحلم برأسك ورأسي، ورأس غيري من المقاومين، فالأفضل أن نموت ولا نستسلم له ليتشفى بقتلنا. وإذا سمعت مني يا سيدنا بقيت في بلادنا متخفيًا. هنا علينا أن نقاوم، هنا يجب أن نصلح. ما لك وموارنة أضاليا؟٤ سواء عندنا أضلوا أم اهتدوا!
وما بلغوا نهاية «وادي حربا» وأطلوا على «الكراسي»٥ حتى قال المطران للشدياق: تأمَّلْ كيف تدور الأيام، فبنو حماده حكَّام هذه البقعة غلبهم المير يوسف وانتزع الحكم من أيديهم، وأعطى الرهبان أملاكهم بعدما شنقهم. ودير كفيفان الذي تقصده الآن وعقاراته كلها كانت لهم. وزيتون وطاعين كفاع، ووطا كفيفان هو منهم، أبقاه المير يوسف له فصار اليوم مِلْك المير بشير. تأمَّلْ كيف كان بنو حماده يحكمون هذه الأرض وكيف صاروا اليوم.

– وما زلت تعرف دورات الزمان، فلأي سبب تأمرني بالخضوع والتسليم؟

وقف الشدياق عند هذا الحد حين رأى بضعة أشخاص مقبلين نحوهم. عرفهم أنهم من رجال المير؛ لأنه التقاهم منذ أيام في ترتج،٦ حيث كانوا يحبون الأموال الأميرية. وبدأ المطران يتحدث عن «خلاص النفس» حين غمزه الشدياق، وظلَّ ماضيًا في كلامه حتى بلغا المفرق، فاتجه ورفيقاه شرقًا، وظلت شرذمة٧ الخيالة مجدَّة في وجهتها قبلة، وبعد مسير نصف ساعة كان المطران والخوري والشدياق في دير كفيفان القائم شرقي القرية.

وفي ذلك الدير المنفرد، في رقعة حمراء التربة، قليلة الشجر، صرفوا نهارهم آمنين، وما أمسوا حتى رقدوا. أتعبهم السير والسهر ليلة العيد. والمطران كان يشهده من بعيد، ويسمع بعض ما يقال.

والشدياق كان يغني ويحاول إثارة الخواطر وإهاجة الشعب على الحكومة، كما مرَّ.

واستيقظ المطران مع الفجر وأيقظ الشدياق وخوريه، ثم استدعى رئيس الدير وقصَّ عليه خبره، وسأله أن يَعُدَّ له ثوبًا من ثياب شركاء الدير، وترك للدير صليبه وخاتمه وثيابه، ثم أخبر الرئيس أنه وهب «كأس التقديس»٨ إلى كاهن من بني صقر في بجة،٩ وأنه لا يحق لأحد أن يطالب به أو يسترده؛ لأنه ملكه الخاص ولا علاقة لوقف عين ورقة به.

وبعد ربع ساعة استحال المطران شحاذًا، وودَّع الشدياق سركيس طالبًا منه الإخلاد إلى السكينة، وانتظار مشيئة الله الكائنة لا محالة، ولا تكون إلا خيرًا.

فأخذ الخوري يبكي لفراق سيده. أما الشدياق فوقف ومد يده اليمنى نحو كنيسة الدير وقال: وحقك يا مار قبريانوس كفيفان، يشهد عليَّ ربي وجميع القديسين أني لا أكف شري عن المير وجماعته حتى تعود، يا سيدنا، إلى ما كنت عليه. فإن رضي عليك المير وأجاب مطالب الشعب الذي قُدْته سيادتك، رضيت أنا ولزمت بيتي، وإن بقيتَ هكذا مشرَّدًا فلا يردني إلا الموت.

وكان موقف الانصراف مؤثرًا جدًّا. ذهب المطران شمالًا ورجع الخوري والشدياق على أعقابهما، وفي الطريق كان الخوري يوسف حائرًا بأمره لا يدري أن يذهب، فقال له الشدياق: ما افتكرت أن تعمل؟

فأجاب الخوري: كنت مع سيدنا خاليًا من الهم، والآن أنا متحيِّر.

– ماذا يحيِّرك؟ كما كنتَ أنت في خدمة المطران، نكون نحن في خدمتك وتكون معنا. لا بد لنا من سماع القداس يوم الأحد والعيد، لا بد لنا من الاعتراف والمناولة. إذا كنا ثائرين على المير فنحن ما زلنا عبيد الله، وإذا قتلنا خصومنا فنيَّتُنا سليمة وغايتنا طيِّبة. غايتنا نصرة الشعب المظلوم. نحن يا محترم — وأنت طبعًا تعرف اللاهوت١٠ أكثر مني، في موقف الدفاع عن النفس — اشتهينا العضَّة من الرغيف١١ في أيام سعادته. نحن نزرع وهو يحصد. نحن نجمع وهو يأخذ ما نجمع بزرية وشاشية وفردة وشونة!١٢ يدعونا إلى القتال فنلبِّي، ومتى انتصر يحاربنا إذا لم نُعطِه ما يطلب. يشد عليه الباشا الزيار١٣ فينهب بيوتنا ليرضيه، ويدفع ثمن الخلعة المطروحة بالمزاد. فأحسن عمل تعمله، يا محترم، هو أن تكون معنا، يصيبك ما يصيبنا. ما أنت خير منا ولا أحسن. إذا سمعنا القداس كل أحد وعيد يوفقنا الله ونقهر أعداءنا …

والتفت إليه الشدياق سركيس ليرى فعل كلامه فيه، فرآه يبتسم.

– ما لك تبتسم؟ أعجبك هذا الرأي؟ إذا كنتم أنتم الخوارنة لا تؤيدون ثورتنا فمَن يؤيدها؟ أتظن أن الثوَّار لا يحتاجون إلى الوعظ وسماع كلام الله؟ إن لكلام الله قوة عظيمة؟ فهو يُنخِّي١٤ الرجال ويقويها.

فلو قلت مثلًا للعصابة: إن يد الله مع الجماعة، كما قال سيدنا أمس، ولو قلت لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فإنهم يتشددون ويعرفون أنهم يعملون إرادة الله. فإذا رأوا خيَّالة المير يبلصون الشعب هاجموهم ببسالة وقتلوهم، وما خافوا أن تهلك نفوسهم ويُعذَّبوا في جهنم.

والتفت إلى الخوري فرآه يضحك، فتعجَّب كيف لا يعرف هذا الخوري إلا الضحك.

ولما دخلوا قرية «تولا» قطع الشدياق حديثه، وأخذ يتحدث عن أسعار البقر والمعزى والحمير ليوهم السامعين أنهما يرغبان في شراء هذه الحيوانات. وقبل أن يصلوا إلى ساحة الكنيسة أقبلت عجوز مسلِّمةً على الخوري فقبَّلت يده بكل احترام، فالتفت إليه الشدياق فرآه يبتسم. وسألت العجوز الخوري أن يسمع اعتراف زوجها المريض؛ لأن خوري الضيعة غائب، والمريض في حالة خطرة، فامتنع الخوري وقال لها: نحن مستعجلون يا بنتي.

فقال له الشدياق: هذا لا يجوز يا محترم.

فضحك الخوري، فقال الشدياق في نفسه: هذا الخوري لا يعرف غير الضحك. قصته عجيبة والله!

وكانت المرأة تتضرع إليه وتلح فقال لها: يا أختي أنا خوري جديد، ما فوَّض إليَّ البطرك بعدُ أن أسمع الاعتراف.

فحملق الشدياق سركيس قائلًا: يا بونا!١٥ الضرورة تحل من الناموس.١٦ مريض ينازع تقدر أن تسمع اعترافه وتحله من جميع خطاياه. يظهر أنك لا تحب عمل الخير، أو أنك لم تدرس اللاهوت على معلم ماهر. هكذا علَّمنا المطران يوسف الذي ودَّعناه منذ ساعة.

فبهت الخوري، فأخذه الشدياق بطرف جبته وقاده إلى البيت، وهو يقول له: ادخل. لا تترك الرجل يهلك، وفي مكنتك أن تخلص نفسه.

ودخل الكاهن والشدياق على المريض، فمات لافظًا روحه مع «الحلة».١٧

وبينما كان الشدياق والخوري سائرين في طريقهما كان الجرس يقرع حزنًا، معلنًا وفاة مؤمن مات على رجاء القيامة، وإيمان بطرس إيمانه.

ودخلا في مضيق بين جبلين، فكان الخوري ينظر إلى الطريق متعجبًا من وعورتها، فقال له الشدياق: هذه طريق سهلة، قدَّامنا أبشع منها. شد حيلك١٨ يا محترم.

فضحك الخوري، فتعجب الشدياق لضحك بلا سبب. ولما ابتدأت طريق «القطين» وانسكبا فيه انسكابًا، قال الشدياق: هذه هي طريق الحق والحياة التي سمعنا الكلام عنها في إنجيل الأحد الماضي. إن طريق الدفاع عن الحرية وعرة وصعبة، ولا بد من قطعها لشعب يريد أن يعيش ويقاوم الحكام الظالمين، فاعتمد على مساعدتنا وابق معنا. أما رأيت كيف أنك عملت اليوم أعظم عمل وربحت أكبر أجر؟

فالتفت إليه متعجبًا جاهلًا أنه أتى عملًا. فقال له الشدياق: ما لك تشير بيديك متجاهلًا؟ نسيت أنك خلصت نفسًا كانت هلكت لولاك؟

فضحك الخوري ضحكة فاقت جميع الضحكات السابقة، فكاد الشدياق يجنُّ من هذا الضحك، وأراد أن يستفهم عن أسبابه، ولكنه سكت.

وسارا في طريقهما فكان الخوري يكوكي١٩ فيها خائفًا، تارة تصطك ركبتاه، وحينًا يكبو،٢٠ وكثيرًا ما يفقد توازنه فيسنده الشدياق، وما صدَّق أنهما وصلا النهر، فزفر زفرة حرَّى وارتمى على «بلاطة الشالوق»٢١ حيث استراحا نحو نصف ساعة.

وسأل الخوري رفيقه: إلى أين بعد هذا؟

فأخذه الشدياق من كتفيه وحوَّل نظره إلى مغارة لم يرَ الخوري مثلها في حياته، وقال له: إلى هنا الدير، دير القطين.

فقال الخوري: هذا دير؟ إنها مغارة تتسع لحيوانات نوح كلها! أي شغل لي في هذا الدير؟

فأجاب الشدياق: نلتجئ إليه، ونحاصر فيه ساعة الشدَّة فلا يقوى علينا أحد. وفي هذه المغارة كل ما يحتاج إليه الخوري، حتى المذبح. فهو على اسم «السيدة» عليها السلام. هناك تقدس لنا كل أحد وعيد.

فضحك الخوري ضحكة كبيرة، فتعجب الشدياق، ولكنه صبر عليه منتظرًا دخول المغارة، ثم نهضا وصعدا في تلك العقبة التي لا تُقطَع إلا بصعوبة عظيمة، ولما بلغا مدخلها قال الشدياق للخوري، وكلاهما يلهث ككلب صيد تعب من المطاردة: هذا هو الباب الضيق، الذي تحدَّث عنه المسيح في إنجيله الطاهر، ووصَّانا بدخوله، وإذا كنا نحن العلمانيين نحاول دخوله، فكيف الكهنة مثلك!

فقال الخوري: آه! … وضحك.

ولما قعدا على حجرين قبالة مذبح السيدة قال له الشدياق: بعد غدٍ أحد «الوردية الكبيرة»٢٢ ستقدس لنا وتزيِّح،٢٣ ونعترف جميعًا ونتناول من يدك الطاهرة …
فاستغرق الخوري في الضحك، ثم شال٢٤ قاووقه٢٥ عن رأسه، ووضعه حده قائلًا: اقعد يا خوري! ثم حسر٢٦ جبته فبان خنجره وغدَّارته٢٧ وطبَنْجَته٢٨ من تحتها، وقال: قمْ يا خير الله. أنا يا شدياق، لستُ خوريًّا. ما سمعت بخير الله اسطفان؟

فالتفت إليه الشدياق مشدوهًا، وأومأ برأسه أن نعم. وبعد هنيهة انحلت عقدة لسانه فقال: أنت خير الله؟ ما عرفتك يا خير الله، تغيَّرت يا رفيقي.

فأجاب خير الله: أنا هو … كنتُ في حراسة عمي؛ وسأبقى معكم لأن المير يطلبني كما يطلبكم، دمي يعجبه مثل دم عمي ودمكم.

وكانت عصابة الشدياق متخفية في تعاريج٢٩ الكهف وثناياه، فعندما رأوا رجلًا يكشف عن سلاحه المخبَّأ، ظنوه جاسوسًا فهجموا هامِّين٣٠ به، فصاح بهم الشدياق: وراءكم! هذا منَّا وفينا.
وبينا كانوا يتحدثون ويدبِّرون أمرهم، عاد رجل منهم وكان قد ذهب يتجسس ليعرف ما عمل المير قاسم حين بلغه ما قيل في العيد سبًّا٣١ بأبيه، فخبَّرهم أن الشيخ يعقوب البيطار جاء خلف المطران يوسف ليخبره أن المير رضي عليه، فقالوا له: إنه غادَر دير مار عبدا، متَّجهًا شمالًا، فجدَّ في إثره.
فقال خير الله اسطفان: خاطركم يا شباب، لا بد من اللحاق بعمي. فالشيخ يعقوب يكون الليلة في «بسبينا».٣٢ لا بد لي من الاجتماع به، فرجتْ إن شاء الله.
فضحك الشدياق وقال له: قُلْ لعمك عن لساني، لا يغرَّه عفو المير، هذا غدار، قلبه أقسى من الصوَّان. قُلْ لعمك عن لساني أن يأخذ حذره منه، فقلب المير لا يصفو. يُظهر الطيبة٣٣ لكنه مكَّار. قُلْ لعمك أن يراجع تاريخ حياة المير بشير، وهو أعرف الناس به؛ لأنه كان قاضي الجبل عنده. المير لا دينَ له، ما له مذهب ولا مركع. مذهبه السلطة ودينه الخلعة. قُلْ له أن يتذكَّر كَمْ قتل من الناس. إنَّ رَصَّ٣٤ البصلة أصعب على المير من رص هامة٣٥ إنسان! وبالاختصار أنا خائف على عمك.

فأجاب خير الله: تغيَّر الموقف، لا بد لي من اللحاق بالشيخ وعمي.

فقال الشدياق: سلِّمْ عليه وقُلْ له إني باقٍ على العهد، فإن صفت له الأيام فَلْيذكرنا في ملكوته … وإن تحقَّق ظني وغدر به المير فأنا باقٍ على عهدي، لا أحول ولا أزول، فإما أن أموت وإما أن ينتصر الشعب. أظل على عهدي حتى آخذ بثأر الثمانين الذين قُتِلوا في عامية لحفد. يا بطرس، يا خالد، يا إلياس، قوموا رافقوا خير الله إلى مدخل وادي حربا. يا خير الله، بَسْبينا حد كفيفان٣٦ خُذْ عن شمالك. ولكن تغدَّ قبل الرواح.

فاعتذر خير الله عن الأكل وقال الشدياق: زوِّدوه، ربما جاع في الطريق، يا خير الله تغدَّ على عين شمونا. نبع ماؤه أطيب من العسل.

فقال خير الله: وأين عين شمونا؟

– على كتف وطاجران، على شمالك قبل أن تصل إلى كفيفان.

ومشى خير الله بخفارة٣٧ رجال الشدياق حتى دخل وادي حربا، أما الشدياق فاجتمع إلى أبي ناصيف وقال له: الليلة نهاجم «حاقل»٣٨ ننهب ما ننهب ونقتل ما نقتل. أهل حاقل هم الذين خانوا رجال عامية لحفد، وأظهروا الإخلاص والطاعة للمير حينما نزل بعسكره على العين.
وما أقبل المساء حتى كان الشدياق ورجاله يسيرون في النهر صعودًا. وفي أول السهرة بلغوا «الخاربة»٣٩ ومنها ارتقوا إلى السُبَيل،٤٠ ثم هبطوا حاقل، وكانت وقعة بينهم وبين فصيلة من عسكر المير جعلت مركزها حاقل لثقتها بأهاليها.

وانجلت المعركة عن مقتل رجل من العصابة، قطع رأسه قائد العسكر وبعث به إلى المير قاسم على أنه رأس الشدياق سركيس، وقاسم أرسله إلى والده اكتسابًا لرضاه، وشفاءً لنفسه المتعطشة إلى دم خصومه، ولكن أحد رجال المير بشير نفى أن يكون ذلك الرأس رأس الشدياق؛ لأنه يعرفه حق المعرفة.

أما «أبو ناصيف» فشاع عنه أنه هو الذي قُتِل في شرِّ حاقل، فاحتفل ذووه بمأتمه احتفالًا صارخًا، وبلغ المير قاسم موته فصدَّقه واستراحت الضيعة وزوجته الفتاة من ضغط العسكر، وطالت أعمار البقر والمعزى والغنم والدجاج …

١  ضهر صغار: اسم مكان.
٢  كفيفان: اسم بلدة في قضاء البترون.
٣  العتيدة: المُقْبِلَة المنتظَرة.
٤  أضاليا: إيطاليا.
٥  وادي حربا والكراسي: أسماء أمكنة.
٦  ترتج: اسم بلدة من بلاد جبيل.
٧  الشرذمة: الجماعة القليلة.
٨  كأس التقديس: الكأس الذي يستعمله الكاهن في القداس.
٩  بجة: قرية من بلاد جبيل قُرْب قرية المؤلف.
١٠  اللاهوت: علم موضوعه الله.
١١  العضة من الرغيف: دلالة على الفقر الشديد.
١٢  بزرية وشاشية وفردة وشونة: أسماء ضرائب ذلك العهد.
١٣  الزيار: التضييق.
١٤  ينخي: يدب المروءة والشهامة، يحمس.
١٥  أبونا: لقب للكاهن الماروني.
١٦  الناموس: الشريعة.
١٧  الحلة: سر من أسرار الكنيسة تخول الكاهن إعطاء مغفرة الخطايا للمؤمنين.
١٨  الحيل: القوة، البأس.
١٩  كوكى: اهتز في مشيته وأسرع.
٢٠  كبا: انخفض بجسمه إلى الأسفل.
٢١  بلاطة الشالوق: اسم مكان.
٢٢  أحد الوردية: أول أحد من شهر تشرين الأول، وهو مخصَّص لعبادة العذراء.
٢٣  الزياح: طقس ديني.
٢٤  شال: نزع.
٢٥  قاووق: غطاء الرأس للكاهن.
٢٦  حسر: كشف.
٢٧  غدارة: مسدس بدائي كان يُحشَى بالبارود والبندق حشوًا.
٢٨  طبنجة: نوع من السلاح على شكل البارودة ولكن دونها.
٢٩  تعاريج: التواءات.
٣٠  هَمَّ به: أوقع به ضررًا.
٣١  سب: شتم.
٣٢  بسبينا: اسم بلدة.
٣٣  الطيبة: صفاء النية.
٣٤  رص: ألصق بعضه ببعض.
٣٥  هامة: رأس كل شيء، وتطلق أيضًا على جثة الإنسان.
٣٦  كفيفان: قرية.
٣٧  خفارة: حراسة.
٣٨  حاقل: اسم قرية.
٣٩  الخاربة: اسم قرية.
٤٠  السبيل: اسم قرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤