الفصل الأول

الكاهن والبخيل

في جُزءٍ من العاصمة الكبيرة، يُشار إليه في خريطة لندن الموجودة عند المدير العام لهيئة البريد بالمنطقة الشمالية الغربية، ثمة مجموعةٌ أو عَددٌ متشابكٌ من الشوارع الضيقة، والميادين، والساحات، والأزقَّة، تَكْتظُّ منازلُها المُتقوِّضةُ القذِرةُ بالرجال والنساء والأطفال، الذين (باستثناء عُمال المرافئ ونسَّاجي مقاطعة سبيتالفيلدز) ربما يُعانون «لتلبية مُتطلَّبات حياتهم الأساسية» أكثرَ من أي مجموعةٍ مُناظرةٍ لهم من رعايا الملكة. إن الحَيَّ من النوع الذي ربما يأمُل أُوموليجان ابنُ مدينة بالي موليجان (أحدُ معارف السيد ثاكاري) أن يجد فيه غُرفةً يستأجرها تكون مناسبةً لموارده المالية، إذا لم تكن مناسبةً لذَوْقه أيضًا، لكنَّ أيَّ رجلٍ من الطبقة الاجتماعية العُليا يسكن قريبًا من ذلك المكان ربما يُلتَمس له عُذرٌ معقولٌ كذلك عندما لا يُلِحُّ في استضافة أصدقائه هناك، ويُفضِّل أن يعطي عنوانَه للناس على «النادي». ربما يكون بعضُ قُرائي قد سَمِعوا عن المنطقة التي أُشير إليها — والقليل منهم قد يعرفُها — تحت اسم سومرز تاون.

في غرفةٍ داخلَ واحدٍ من أفضل المنازل الكائنةِ في واحدٍ من أفضل الشوارع في هذا الحَيِّ، وهي غُرفةٌ وُصفَت في شهاداتٍ متضاربةٍ من نواحٍ أخرى بأنها «عُليَّة بائسة»، ومنذ سنواتٍ قليلةٍ مضت، كان رجلٌ عجوزٌ وحيدٌ لا أصدقاء له يُحتضَر ببطء؛ وحيث إنني في الحقيقة، لا أكتُب قصصًا خيالية، وإنما أُدوِّن تاريخًا في قالبٍ أدبي، فربما يكون من الجيد أن أتَحرَّى الدقَّة وأن أعتَني بالتفاصيل بعض الشيء، وأقول إن هذه القصة تبدأ في الثامن والعشرين من شهر فبراير، سنة ١٨٤٧. كان ذلك في صباح يوم الأحد. كان العجوز يُدعى كاريه؛ ماتورين كاريه. كان في السابعة والسبعين من عمره، وكان يبدو عجوزًا تمامًا كسِنِّه المُوضَّح في سِجلِّ المعمودية الذي دُوِّن فيه. كان كاريه من مواليد فرنسا، لكنَّه عاش سنواتٍ عديدةً في لندن. جاء إلى لندن من جزيرة جيرسي، وكان قد وصل إلى تلك النقطة المُتنازَع عليها قادمًا من جنوب فرنسا.

إنَّ مَن عَرفُوه جيدًا من الناس، مع استثناءٍ واحد، قد رَثَوا لحاله أشدَّ الرِّثاء؛ فقد انتَزعَ سنُّهُ، وعلاماتُ الفقرِ الخارجيةُ البادية عليه، الكثيرَ من المُجامَلات اللبِقة من الأيرلنديين المُعوِزين المتعصِّبين للدين الذين كانوا يتردَّدون على المعبد الروماني الكاثوليكي المجاور لمنزله، وفي الوقت نفسه حَجَبه ذلك جيدًا جدًّا عن أن يَنتبِه له الأعضاءُ الأغنى في تلك الطائفة، لدرجة أنَّ من الواضح أنه لا المُحامي الذي سيبرُزُ في هذه القصة، ولا القسُّ الذي أقسَم فيما بعدُ أنه ظل على مدار ثلاث سنواتٍ قبل وفاة كاريه المرشدَ الروحيَّ له، كانا في تلك اللحظة تحديدًا على درايةٍ بوجود مثل ذلك الشخص. يظن البعضُ أنه لم يذهب قَط إلى حُجرة الاعتراف، ويُقال إن ذَهابه إلى الكنيسة كان بغرض الحصول على الإعانات المادية أكثَر من كونه للحصول على الإرشاد الروحي أو المُواساة النفسية.

أحاط بالرجُل غُموضٌ لم يهتمَّ أحدٌ بالنفاذ إلى غَوْره؛ فقد سُمِعتْ بعضُ الشائعات عن زِيجةٍ كان هو أحد طرفيها؛ ووجود زوجةٍ مُخلصة، وطفل، لكنَّ هذه الشائعاتِ تلاشت بالسرعة نفسها تقريبًا التي راجت بها. لم يكن مَورِد رزقه الأساسي معروفًا. اعتَقَد البعض أنه كان يَجْني القليل من الشلنات بين الحين والآخر من تدريس لغته الأم ولغاتٍ أخرى. لقد كان، في الحقيقة، في بداية حياته يَتَكسَّب من هذا العمل في كثيرٍ من الأحيان، وظلَّ يجني القليل من المال من التدريس إلى أن أُنهِك تمامًا على يدَي المَرضِ الذي جعله على مَقرِبةٍ من شبَح الموت المُروِّع.

ربما يُهمُّ القارئَ كذلك أن يعلَم أن ماتورين كاريه كان لاجئًا سياسيًّا، وأن سبب نفيه هو ارتباطه بما آل إليه مَصيرُ الملك شارل العاشر من السقوط وزوالِ عرشه؛ فقد ظل لسنواتٍ كثيرةٍ يتقاضى معاشًا من اعتمادٍ ماليٍّ خُصِّصَ لإعالة اللاجئين المُنتَمين لهذا الحزب. لقد بلغَ هذا المعاشُ في وقتٍ من الأوقات أربعين جنيهًا في السنة، لكنه تقلَّص إلى خمسة عشر جنيهًا.

عندما كان تحفُّظُه المعتادُ يتخلَّى عنه، كان يحكي قصصًا عن روبسبير وعهد الإرهاب، وليس ثَمَّةَ مبررٌ لاتهامه بالكذب عندما أصَرَّ على أنه لو كان رَضِي بالعمل تحت إمرة الطاغية العديم الرحمة، لربما كان أدَّى دورًا مهمًّا في الأحداث المثيرة المُروِّعة للثورة الفرنسية، بدلًا من إرغامه على أن يجد الأمان في منفًى بائس.

لكن الشائعات المثيرة حول وجود زوجةٍ وطفل كانت محض تخيُّلات. إنه لأمرٌ مشكوكٌ فيه إن كانت طبيعته المُنفِّرة تلك قد ألانَتْها مشاعرُ الحب الرقيقةُ يومًا. لقد كان أعزب، وظلَّ وقتًا طويلًا وبصورةٍ مطردةٍ يُظهر بُغضًا شديدًا لمجتمع النساء. يُقال إنه كان يُؤدِّي جميع الأعمال المنزلية بنفسه ما دام ذلك ممكنًا، وإن سريره في سومرز تاون لم تُسوِّه أو تُنظِّمْه قَط، بقَدْر ما يُعلم، أيُّ جِنِّيةٍ أو حيزبون في صورةٍ بشرية. كان يأكل أبسَطَ وأرخَصَ طعامٍ معروضٍ للمشترين في الأسواق التي لا تحوي شيئًا من أسباب الرفاهية. إذا تَخيَّل القارئُ أبأسَ حالةٍ قد يتحمَّلُها عجوزٌ وحيدٌ، فسيكون عنده تصوُّرٌ حقيقيٌّ لنوعية الحياة التي كان يحياها ماتورين كاريه.

لقد وصَفتُ الرجل العجوز بأنه يُحتضَر. لقد كان مُدرِكًا للأمر، لكنه كان يتوق، كحال جميع البشر تقريبًا — ولا يُستثنى من ذلك أكثرهم بؤسًا وكآبة — إلى أن يُطيل ما تبقَّى من أيام حياته إلى أقصى مدًى لها. إن أعمال البِر المسيحية، في نهاية الأمر، ليست نادرةً جدًّا كما يُقال عنها في الغالب؛ فالرعاية الطبية، في جميع الأحوال، في مُتناوَل أكثرِ الناس فقرًا وأبعدِهم عن الأنظار، واستشارةُ الطبيب ودواؤه، مبذولان دون أجرٍ لكل من يختار أن يطلبهما بهذه الشروط. لم يكن ماتورين كاريه مُسنًّا متكبرًا. لقد طلَب معونة طبيب، يعمل لحساب الكنيسة التي يتردَّد عليها، وقد أُمر ذلك السيدُ المحترمُ بزيارة المنفَى. وقد مرَّ عليه ليزوره في وقتٍ مبكرٍ جدًّا من صباح يوم الأحد، الموافق الثامن والعشرين من شهر مارس، سنة ١٨٤٧.

كان المريض البائس مُمدَّدًا على شيءٍ كالصندوق، بدلًا من هيكل السرير. عندما جاء الجرَّاحُ، بعد قُدَّاسٍ مبكرٍ، ليزوره ويصف الدواءَ اللازمَ لحالته، كان مالكُ المنزل، الذي أوصل الابنَ البارَّ لِأسكوليبيوس إلى العُليَّة، حاضرًا في مقابلةٍ جرت بينهما، وانتَبه إلى مُحادثتهِما.

كان واضحًا للعينِ الثاقبةِ غيرِ المُتخصِّصة، مثلما كان واضحًا لأمهرِ العيونِ في تشخيص الأمراض، أنه لم يَتَبقَّ في حياة ماتورين كاريه الكثير، ولا يستطيع أيُّ مالكِ منزلٍ ألَّا يَكترثَ تمامًا لمصيرِ مُستأجِرٍ لديه يُحتضَر؛ لذا نستطيع أن نلتمسَ له العذر لوجوده طرفًا ثالثًا في هذا الموقف. مما يجدُر بالملاحظة، رغم هذا، أن المريضَ اليائس الذي يُكابِد الألم لم يكن راغبًا على الإطلاق في المشاركة في تلك المواساة الروحية، التي قيل لي إن المذهب الكاثوليكيَّ قد يُغدِقها في مثل هذا الوقت بسخاءٍ أكبرَ مقارنةً بالمذهب البروتستانتي.

لم تكن هذه أوَّل زيارة للطبيبِ لكاريه، وقد أوصى رَجلُ الطب من قبلُ باستدعاء أحد الكهَّان، لكنَّ نصيحته كانت أبغضَ من محتوياتِ زجاجاته وعُلبِ حبوب الدواء التي معه. في صباح يوم الأحد الذي أتحدَّث عنه، كَرَّر الجرَّاحُ اقتراحَه البغيض. كانت النزلةُ الشُّعَبية قد عَمِلَت عملها تقريبًا في جهازٍ تنفسيٍّ واهن. كان من الممكن، أن تُلقى الأدوية للكلاب، أو في مجرى الصرف العام، كما تُلقى لنصيرِ أُسْرة بوربون الزائلة المُحتضَرِ في حلقه الصافر المُصاب بعُسر التنفُّس. لم تكن وسيلة الراحة الحقيقية الوحيدة للمريض المتألِّم تُحفظ في القُدور الخزفية التي يستخدمها الصيادلة، ولا في دُرج أحد الجرَّاحِين. لم يكن عند كاريه مواردُ ماليةٌ ظاهرةٌ لشراء الغذاء المناسب لرجلٍ على حافة الموت، ولم يكن ثَمَّةَ مالٌ تحت تصرُّف الطبيب ليُنفِقه على إحضار وسيلة الراحة تلك.

قال الطبيب بالفرنسية، بعدما جَسَّ نبض مريضه؛ إذ كان فرنسيًّا: «حَسنٌ، حَسنٌ. أَصغِ إليَّ جيدًا من فضلك، أعتقدُ أن حالتكَ قد صارت أسوأ قليلًا مما كانت عليه أوَّل أمس، هل أطلُب من الأب أندروز أن يأتي لزيارتك؟»

هَزَّ العجوزُ رأسه بمشقةٍ، وغَمغَم بكلمةِ مُمانَعة.

«سأُرسِل لك ترياقًا آخر.» هكذا أجاب الجرَّاحُ، الذي أدرك من الصدمة التي سبَّبَتْها نصيحتُه السابقةُ أن اقتراب الموت لم يُثِر المشاعر الدينية الكامنة في المريض.

بعد لحظاتٍ قليلةٍ قال الطبيب مُلتفِتًا بعينَيه جهةَ مالك المنزل: «أعتقِد أنه يجدُر بصديقنا أن يأذنَ لي باستدعاء الأب توماس.» وكأنما أراد أن ينال مزيدًا من التأثير من هذه الجهة، وعلى أملِ أنَّ اعتراضًا شخصيًّا من المريض على الكاهن الذي ذُكر اسمُه أولًا، هو ما أدَّى على الأرجح إلى رفضِ خِدماتِه الكهنوتية.

أبدى مالكُ المنزل موافقَته على هذا الرأي، لكن المُستأجِر صَرخَ بغتةً وبتشنُّجٍ قائلًا: «لا!» وارتمى على الفراش.

كان واضحًا جدًّا أن السيد كاريه لم يرغَب في الاستفادة من المُواساة النفسية التي يُقدِّمها الدِّينُ الذي يَعتنِقه. عساي لا أستطيع القول إنَّ من المؤكد أنه لم يكن يؤمن بفعالية الدين الذي يَعتنِقه! أليس من المعقول افتراضُ أن يكون الرجل المُحتضَر قد ظلَّ لفترةٍ من الزمان، وحتى هذه اللحظة، غيرَ مُؤمنٍ بالأديان كلها، وأنه بالرغم من عدم غَفلتِه عن يد الموت التي أمسَتْ فوقه، فإن اقترابها لم يخترق الظلامَ الذي ولَّدَته في نفسِهِ الأنانيةُ غيرُ المؤمنةِ، وفقدانُ التعاطفِ المُتبادَل بينه وبين رفاقه، طَوالَ حياته المُنعزِلة؟ دون توسُّعٍ في الافتراض، فإن من الممكن يقينًا أن يُدوَّن بوصفه حقيقةً، أن ماتورين كاريه لم يكن، في صباح يوم الأحد ذاك، مُؤهَّلًا لأنْ يُعَدَّ «كاثوليكيًّا صالحًا». هكذا اعتقد الطبيب، ورغم أنه لم يرغب، بناءً على ذلك، في التراجُع عن الوجود إلى جوار سرير العجوز، ولم يَنزِع عندئذٍ إلى الاستياء من الكُفر الفظِّ بعقيدته، بالتوقُّف عن إمداد الرجل بالدواء، فقد رأى أن ليس ثَمَّةَ جَدْوى في هذا الموقف من المُضِي في تنفيذ نصيحته، التي اتَّسمَت بكل مظاهر الطيبة التي لا شكَّ فيها، والنزاهة، ومُلاءمة الوقت، بأنْ يستدعي له أيًّا من الكاهنَين اللذَين ذكرهما.

بعد دقائقَ قليلةٍ، وبعدما تعافى المريضُ قليلًا من الصدمة التي سبَّبَتْها هذه المحادثة، انسحَب الطبيب.

بينما كان يَهبِط على درجات السُّلَّم، لاحظَ مالكَ المنزل ينزل خلفه مباشرةً. لقد غادر ذلك الشخصُ العُليَّةَ مع الضيف الجرَّاحِ المُحسِنِ ليُجامله مجاملةً بسيطةً بأن يفتح له باب الشارع ويُغلِقه خلفه، وفي أثناء ذلك تبادلا بعض الكلمات.

قال الجرَّاح: «مسكينٌ هذا الرجل، إن ما أستطيع أن أفعله من أجله إما قليلٌ أو منعدم، إنه في حاجةٍ لنبيذ البورت المُحلَّى وجذور نبات المرنطة الاستوائي، وأشياء من هذا القبيل، لكن من المستحيل أن يتَمكَّن من الحصول عليها. إنها حالة مثيرة للشفقة والحزن.»

أذهلَتْ هذه الجُمَل المُتجزِّئةُ مالكَ المنزل، لكنَّ السبب وراء تأثيرها هذا لا يزال مُمتنعًا عن التعليل. كل ما نعرفه هو أنَّ تحفُّظَ المُستمِع قد زايلَه، وأنه تخلَّى في الحال عن سرٍّ حقيقيٍّ أو مُدَّعًى، كان قد ادَّخره مدةً طويلةً بوصفه سرًّا ذا قيمة.

ردَّ مالكُ المنزل في شيءٍ من التهوُّر: «يا للهول يا سيدي! إن لديه الكثير من المال، فَلْتطلُب ما تراه مُحتاجًا إليه؛ فبإمكانه أن يشتري أي شيء.»

إن شخصًا مُدقِّقًا، أو بارعًا في اكتشاف الأفكار الدفينة والمشاعر شبه المخبوءة، ربما كان سيتَمكَّن من ملاحظة تغيُّرٍ طفيفٍ يعلو وجه طبيب المؤسسة الخيرية الكاثوليكي غير المُتحمِّس ذاك. لم يُلاحِظ مالكُ المنزل شيئًا من هذا. هَزَّ الجرَّاح رأسه المُثقفَ، وكأنما شك في دقة المعلومة، ومضى في طريقه، وأغلق مالكُ المنزل الباب.

يبدو أنه كان لكلماتِ مالك المنزل تأثيرٌ غريبٌ أو شاذٌّ نوعًا ما على عقل الطبيب.

في حين بدا الحصول على وسائل الرفاهية الصغيرة تلك مُستحيلًا، وصفَ الطبيبُ النبيذ وجذور نبات المرنطة؛ لكنه عندما أُخبر أنها كانت في مُتناوَل يد المريض، عدَّها عبقريُّ الطبِّ هذا — تخمينًا ممَّا بدا من تَصرُّفه — غيرَ ضرورية. لقد أثارت ثروةُ الرجل المُحتضَر المزعومة اهتمامًا جديدًا وغير عاديٍّ بسعادته الدينية.

عندما رأى الطبيبُ مريضَه في البداية، نصَحَه بالتأكيد باستدعاء أحد القساوسة، لكنه، كما أسلفتُ، لم يُلحَّ في نصيحته؛ لكن الآن، وقد أصبح لديه مُبررٌ ليَفترِض أن الرجل المُحتضَر لديه الكثير من المال، أضحى إنقاذُ روحه أمرًا ضروريًّا، إذا أمكن، ولو على خلاف إرادته؛ لذا لم يَعُدِ الجرَّاح على الفور إلى بيته، وإنما توجَّه في الحال إلى الكنيسة القريبة منه، وأخذ يتَشاوَر مع الأب أندروز.

اسمَحوا لي الآن أن أقول كلمةً أو كلمتَين عن ذلك القس المتحمِّس. لن أحاول تصوير ملامحه بالقلم والحبر. إن صورة كاهنٍ كاثوليكي لَتُشبه كثيرًا صورة غيره من الكهنة الكاثوليكيين، لدرجة أنني لو فعلتُ لَأرهقتُ القارئ من دون داعٍ. إن النظام، أو المنظومة التي تَسحَق أو تقضي على التفرُّد العقلي للخبراء من عناصرها، تُشوِّه بطريقةٍ ما تلك الفروقَ البارزةَ التي تُميِّزُ بها العنايةُ الإلهيةُ كلَّ وجهٍ بشَريٍّ في طفولته. هل سَبق للقارئ قبل ذلك قطُّ أن رأى كاهنَين كاثوليكيَّين يسيران في الشارع، جنبًا إلى جنب؟ إذا كان قد سبَق له هذا، فإنه ما لم يكن بينهما تفاوتٌ كبيرٌ في العمر، أو ما لم تَفُقْ قامةُ أحدهما قامةَ أخيه بستِّ بوصاتٍ، فلن يستطيع سوى أحد المعارفِ المُقرَّبين للغاية أن يكتشف فرقًا واضحًا في ملامحهما. إن وجهَي أيِّ كاهنَين كاثوليكيَّين لهما العَدد نفسه من سنوات العمر، عند التجاوُر معًا، لَيُسفِران عن تشابهٍ بينهما تقريبًا كذاك التشابه الوثيق بين حبَّتَيْ بازلَّاء استُخرِجَتا من قرنٍ واحد؛ لذا سيكفي القولُ إن الأب أندروز كان رجلًا مهيب المِشية، يمشي على الأرض مِشيةَ مَن يُدرك أن له سُلطةً هائلةً على أقرانه. كان في الخمسين من عمره تقريبًا، لكنَّه كان يُواجه هموم الحياة وصرامة الكفارات التي كان يُلزِم بها نفسه، ببنيةٍ جسديةٍ قوية، وربما لهذا السبب كان الناس يظُنون أنه شابٌّ أصغر من سنه الحقيقي. ولو كان الاستدلال بمظهره الخارجي على أي شيءٍ من صفات شخصيته أمرًا موثوقًا ومأمونًا، لَكان هذا الشيءُ هو أن الأب أندروز له إرادةٌ ماضيةٌ مُستقلَّة، تُسيطِر على حذَره الفطري، إن لم تكن تُخضِعه.

لقد كان مشهورًا بكَونِه كاهنًا متحمِّسًا، لكنه لم يكن من طائفة اليسوعيين. كان في الواقع حريصًا أشد الحرص على أن يعرف الناسُ أن رأيه في ممارسات وأتباع القديس إغناطيوس لويولا لم يكن إيجابيًّا.

ومع ذلك سأكُون قد ظلَمتُه إذا لم نَعترِف بما تُوضِّحه هذه القصة؛ وهو أنه كان يَعُد ازدهار وارتقاء مصالحِ كنيسته الهدفَ الأساسيَّ، أو ربما الوحيد، لوجوده في الحياة.

هذا هو الشخص الذي قصده الطبيبُ من دون إبطاء. لم يكن الكثير من الوقت قد مَرَّ على انتهاءِ مَراسمِ قُدَّاسٍ مُبكِّر كان قد أقامه حين دخل صديقُه الكنيسة.

«صباح الخير أيها الطبيب.» كانت هذه التحية الوحيدة التي ألقاها القس.

ردَّ الجرَّاح بنبرةٍ أكثر نشاطًا: «صباح الخير.» نظَر كلٌّ من الرجلَين الفاضِلَين إلى صاحبه نظرةً عَجلى مُتعمدةً، وتصافحا في فتور. كان ثَمَّةَ فترةُ صمتٍ قصيرة في بداية المحادثة. ربما كان القَس يعتقد أن من حق أتباعه أن يقولوا ما يُريدون قوله دون أن ينتظروا سماع السؤال الشكلي عما يريدونه. كان الطبيب يُدركُ قيمة الاقتراح الذي سيقترحه؛ لذا لم يتَعجَّل في الإفصاح عنه.

قطَع الكاهنُ الصمتَ بسؤاله: «ما الأخبار أيها الطبيب؟ هل يحتاج أيٌّ من مرضاك الأثرياء، الواقفين على شفا الأبدية، إلى الطقوس الدينية لكنيستنا المُقدَّسة؟»

أجابه الجرَّاح: «لا أيها الأبُ المُوقَّر، لكنَّ ثَمَّةَ رجلًا مُسنًّا عاجزًا، يعيش في أحد الشوارع المجاورة، ومعروفًا عنه فقرُه الشديد لدرجة أنه كان يتَناوَل طعامَه من هِباتنا الدينية، يُحتضَر، وقد اكتشَفتُ أنه في الحقيقة مُحتالٌ وبخيل، وأنه يدَّخِر ثروة. لقد ألححتُ عليه كي يتصالح مع الربِّ ومع كنيستنا المُقدَّسة. أعتقد أنه يجدُر بك أن تزوره يا سيدي.»

أدركَ الكاهنُ السريعُ البديهة في الحال مدى إلحاح الأمر، ووعَد بأن يُعيرَه اهتمامه على الفور؛ عندئذٍ صافَح الكاهنُ الطبيبَ بحماسةٍ نوعًا ما، وانطلَق الأخيرُ يواصل زياراته. هَروَل الأب أندروز إلى بيته، وتناول إفطارًا مُشبِعًا، وبعدما درس الدورَ الذي كان على وشك الاضطلاع به دراسةً وافيةً، ذهَب لزيارة البخيل المُحتضَر.

كان ماتورين كاريه جالسًا أو مُتكِئًا، شبه مُنتصبٍ، على فراشه القشِّي البائس، عندما دخل الأب أندروز الغرفة من دون أن تُوجَّه له دعوة، بعد مدةٍ قصيرةٍ لا تتعدَّى ساعةً أو ساعتَين من مغادرة الطبيب لها. لا أحد سوى الكاهن يستطيع أن يتحدَّث بما جرى أثناء هذه المقابلة المقدَّسة. لن أستقيَ من مُخيِّلتي وصفًا للطريقة التي تغلَّبَت بها إرادةُ الكاهنِ القويةُ على أنانية المَنفيِّ العنيدة، ولن أزعُم أنني سأقُصُّ كيف أُرشِدَ المُذنبُ ذو الرأس الأشيب إلى التوبة. كل ما تحقَّقتُ من ثبوته هو أن ماتورين كاريه فتح قلبه لعِلْم مُرشِده الروحي. لقد اعتَرف كيف أنه كان يَجني أموالًا بين الحين والآخر، وكيف أنه، بالإفراط في حِرْمان نفسه، وبالكذب، والتظاهُر بالفقر، والتقتير، قد ادَّخَرها، واستَثمَرها مع فوائدِها التي ظلَّت تتراكم، حتَّى بلغ إجمالي المبلغ حوالي ١٠٠٠٠ جنيهٍ إسترليني، وقد بَقِي هذا المبلغُ فيما بعدُ في حسابه تحت الرعاية الموثوقة للولاية، ثُمَّ بعد ذلك، إما عملًا بنصيحةٍ من الأب أندروز، أو انقيادًا لمشاعر الندَم المُنبعِثة منه هو، لن أُبدي رأيًا، سعَى ماتورين كاريه إلى التصالُح مع الربِّ بمَنحِ أقربائه الفقراء في فرنسا جزءًا صغيرًا من ثَروتِه المُتراكمة، ومَنح الجزء الأكبر منها لإحدى المؤسسات الخيرية الكاثوليكية. ابتهَج الكاهنُ المُتحمِّس عندما أدرك أنه بالفعل قد حَصَل على مبلغٍ ماليٍّ مقبولٍ جدًّا يصل إلى ٧٠٠٠ جنيهٍ إسترليني لنشْر دينه المقدَّس، وذلك بواسطة عمليةٍ أراحت ضميرَ المُوصِي. لكنَّ ماتورين كاريه تَوسَّل إلى قداسة الأب أن يُغدِق عليه من المُواساة التي يُقدِّمها الدين، وذلك في مقابل هذه المواريث التي أوصَى بها.

تمهَّلَ الكاهنُ قليلًا. كان لا يزال ثَمَّةَ إجراءٌ دنيويٌّ شكليٌّ صغير — ربما كان اختبارًا لصِدقِ نيةِ التائب — يَلزَم الخضوعُ له قبل مَنحِ هذه النعمة. على قصاصة ورقٍ كتَب الأب المُقدس بضعَ كلماتٍ بقلم الرصاص، ثم قرأها على التائب المُحتضَر، الذي عبَّرَ، بما يُشبِه الشهيق، عن مُوافقَته على هذا التخصيص لثروته، وبعدما انتهى الأبُ أندروز من كلِّ ما أمكَنه فعلُه هذا الصباحَ من أجل ازدهار دينه، منحَ البخيلَ اليائسَ الغفرانَ لحياةٍ طويلةٍ قضاها في الجشع والخداع. ظلَّ الأبُ أندروز في الغرفة بضع دقائقَ أُخرى، إلى أن سقطَ التائبُ المُتعَب — الذي أنهَكَته المحاكمة التي خضَع لها — فاقدًا الوعيَ تقريبًا على سريره، وبأرقِّ نبرةٍ يُمكِن لكاهنٍ أن يتكلم بها، همَسَ الأبُ أندروز مودِّعًا، وحَثَّ المسكين كاريه أن يُكرِّس أَفكارَه كلها للرب، ثم غادر المنزل. كان الموقفُ مُرهِقًا لكلا الرجُلَين، لكنَّ النهاية أراحت كِلَيهما.

أرجو ألَّا يتذَمَّر أحدٌ من طلَب الأب أندروز المساعدةَ من أحد المحامين في يوم الأحد؛ فقد أقرَّت السلطةُ العُليا مشروعيةَ عمل الخير في يوم الأحد. وقد كان السيد كاريه على مشارف الموت. كانت قيمةُ الوقت غاليةً جدًّا. لقد تناقَص ما تبقَّى من حياة البخيل حتى صار أيامًا، أو ربما ساعات، ولكن كان الموت لا يزال قادرًا على حرمان الكنيسة من وصية أحد التائبين؛ لذا أَرسَل الكاهنُ رسولًا موثوقًا إلى واحدٍ من رعايا كنيسته أضحَى من الضروري الآن الحصولُ على مساعدَته. وبما أن هذا السيد قد ذهب لتقديم كشف حسابه الأخير في محكمةٍ للقيد لا يُسمَح فيها بالدُّفوع الخاصة، ويُجازَى فيها على جميع الفضائل والشرور، فلا بأس علينا إذا اعتقَدنا أنه قد أُنصِف، أو سوف يُنصَف، بموضوعية، لكنَّ هذا لا يُعفينا، بوصفنا رُواةً تاريخيين صادقين، من إنصافه إنصافًا عاجلًا في هذا السرد. لقد أعلَن أحدُ المُتشائمِين أن ذكرى الطيِّبين تموت معهم، وأن الشرَّ فقط هو ما يبقى بعد زوال الجنس البشري الضعيف. إن هذا قذفٌ أو افتراء. نحن نَعتقِد أن الشاعر الذي يقول: «إن أفعال المُنصفِين من الورى تنشُر الأريجَ وتُزهِر من تحتِ الثرى.» أقرب إلى الحقيقة. على أيِّ حالٍ سوف أَتعامَل بإنصافٍ مع هذا المحامي. سوف يُوضَع اسمُه عند الطباعة. كان يُدعَى كوك؛ جون أثناسيوس كوك، المُبَجَّل، المُحامِي في المحاكم العُليا. لقد ظل هذا السيد على مدى عشرين سنةً عضوًا فيما يُسمَّى «نقابة محامي العدالة»، مع أن بعض الناس (وبخاصةٍ أحد الروائيين اللامعين) قد ارتاب في دقة اللقب. لقد كان «صائغَ عدل» شهيرًا، وهي عبارةٌ عند ترجمتها إلى لغة العامة، تعني، في هذه الحالة، البارع في تحرير الوصايا وسندات الرهن الائتمانية لصالح الأوقاف الدينية الكاثوليكية. من غريبِ ما استدعى إعجابَ الشعبِ البريطاني المُستنيرِ في هذا العُمرِ المُفعَمِ بالحيوية والمغامرة، والمتمثلِ في حياة السيد كوك، أنه، وبواسطة إزميلٍ كاثوليكيٍّ، قد شقَّ طريقَه نحو الشهرة، إن لم يكن قد شقَّه نحو الثروة. لقد كان في السابق كاتبًا عند أحد المحامين، وكان بروتستانتيَّ المذهب، لكنه رَقَّى نفسه أو رُقِّي — على يد مَن، لا ندري، ما لم يكن على يده هو شخصيًّا ويد الكنيسة الكاثوليكية — إلى منزلةٍ أعلى في العمل القانوني، وإلى المذهب البابوي الأسمى. ظل السيد جون أثناسيوس كوك كذلك، وعلى مدى ثماني سنواتٍ قبل تاريخ هذه القصة، واحدًا من رعايا كنيسة الأب أندروز، وهكذا وبفضل امتداد الصلة الوثيقة طويلًا، ونتيجةً لاشتهاره بالبراعة في مثل هذه الأمور، نال المحامي شَرَفَ ثقة ذلك السيد المُوقَّر في هذه القضية.

لبَّى المحامي دعوة الكاهن بابتهاج.

شَهِد عصر يوم الأحد ذاك اجتماعَهما. عُرضت على المحامي المهمة المطلوبة منه. لكن السيد كوك أوضَح أن الصفقة كلها كانت «مخالفةً للقواعد قليلًا»، وتوسَّل إلى الكاهن أن يتبع العُرف الذي يقضي باستدعاء أحد مُحامِي المدينة ليُعلِّمه، فقط من قبيل الامتثال لما تقتضيه آدابُ المهنة، التي كانت تنظر إلى الأمور الشبيهة بهذا الأمر بعين النقد والريبة. استنكر الأبُ أندروز وساوِسَ المحامي، وراح يُذكِّره بالتزاماته المادية تجاه الكنيسة التي اعتنَق مذهبَها. وتساءل الكاهنُ في تهكُّمٍ إن كانت هذه هي المرة الأولى التي صنع فيها مُحامي المحاكم العليا، بنفسه، ودون تدخُّل أحد مُحامِي المدينة، معروفًا صغيرًا من هذا النوع لتائبٍ مُحتضَر.

أفصَح السيد كوك عن وساوسه. لقد شَعَر أن القوة التي صَنعَته تستطيع أن تُحطِّمه؛ فقد كان يَدين بكل ما يملكه للكنيسة التي كان خادمَها المتواضع، ومهما كانت المخاطَرة التي ستَتعرَّض لها منزلتُه المهنية، فلا بُدَّ له من طاعة أوامر كاهنه.

سحَب الأبُ أندروز من جيبه المذكِّرة التي حرَّرها في حجرة السيد كاريه، والتي وافق عليها ذلك المسكين البائس بدافعٍ من الرعب، أو ربما وهو بين الخوف والرجاء.

بعدما وعَد السيد كوك بتحرير وصيةٍ وفقًا لهذه التعليمات، وبعدما نسَخها بإتقانٍ بخط يده شخصيًّا، من أجل تضييق دائرة السر، سُمِح له بالانصراف من حضرة قداسة الأب. غير أن عليَّ ألَّا أغفُل عن القول إنه قد اتُّخذَت الاستعدادات من أجل اللقاء في مساء اليوم التالي بجانب سرير ماتورين كاريه. لقد اختير المساء؛ لأن تفكيرَ النَّهارِ المُفعَمَ بالندم، وتأثيرَه المُرهِقَ على عقلٍ دنيوي، كما قال الأب أندروز، ربما يُسهلان المهمة الوَرِعة المتمثلة في إكمال إجراءات الوصية. اقترح السيد كوك الصباح، لكنَّ الكاهن أجاب بأنه في وقتٍ كهذا قد ينتصر جشعُ الموصِي وأفكارُه المارقةُ على كل تأثيرٍ روحي. وهكذا عُين مساءُ اليوم التالي لتنفيذ وصيةٍ وافق المحامي على جلبها معه في جيبه.

أيها القارئ، لنتبع هذا المحامي الأريبَ إلى مكتبه؛ ربما يُسمَح لنا برؤية الحِرفيِّ القانونيِّ الماهر وهو في عمله. سوف يكون منظرًا غير مألوف. ربما تكون قد شاهدتَ بعض عمليات التصنيع، لكن إذا كنتَ شخصًا متأمِّلًا، فلا شيء يكاد يكون فذًّا إلى هذا الحد، ولا مُشوِّقًا، ربما (رغم أنه بالتأكيد ليس جميلًا)، بقَدْر الآلية التي عن طريقها كانت ولا تزال قَرابةُ شخصٍ ما — غالبًا ما يكونون أرامل، وأيتامًا، وآباءً طاعنين في السن — تُنْهَب، حتى في هذا البلد المُستنير، على يد مُحامِين عديمي الضمير، هم أدواتٌ في أيدي قساوسةٍ خبثاء. فهل ستلاحظ بعنايةٍ، عزيزي القارئ، المراحل المتنوعة التي سيمرُّ بها تصنيعُ وصيةِ كاريه؟

استيقظ المحامي مع انبلاجِ الصبح، بعد ليلةٍ من النوم المنقوص. لم يكن ضميرُه الذي اكتسَبه في أوائل سنوات رجولته قد تقَولَب في الشكل الدقيق، ولا أخذ الطابع المُحدَّد الذي ربما تمنَّاه له أساتذتُه الجُدد. لكنه برغم هذا لم يتردَّد طويلًا؛ فقبلَ بضع ساعاتٍ من وصول الصبيِّ النعسان، الزَّريِّ الهيئة، ذي الملامح الشريرة، المدعو كاتبًا، ولدهشةِ امرأة عجوز ضعيفة البصر، تُدعى الغسالة، كان المفترض أن تكون مشغولةً بتنظيف الغرفة القذِرة، دخل الغرفةَ السيدُ كوك! بعدما صَرَف تلك الحيزبون، استَغرَق في حُلْم يقظة؛ ومن ثَمَّ راح يُناجي نفسه قائلًا:

«عشرة آلاف جنيه! لا؛ سبعة آلافٍ وثلاثة آلاف! جيد؛ هذه صفقة رابحة!»

وهكذا ربما كانت، في الواقع، صفقةً رابحة في نظر الكاهن، كما ستُبيِّن هذه القصة.

أخذ المحامي يُحدِّق من دون انتباهٍ إلى أرفُف كتبه، ثم حوَّل نظرتَه من هناك إلى السقف المدهون باللون الأسود. لم يُوبخه أيٌّ مِن أولئك الأفاضلِ المذخورةِ أفكارُهم في تلك المقابر البديعة، ولا نفذ إليه اللومُ عبر السقف من سماءٍ قريبة. كانت الخرافةُ تلقي بتأثيرها على الموكِّلين.

واصل المحامي قائلًا: «إذن لقد رتَّبَتِ الأمرَ عنايةٌ إلهيةٌ خاصة. لم تكن قِسمتي ولا قسمة الأب أندروز. لقد قُسِّمت الأموال بالفعل إلى الجزأين اللذَين نريدهما.» وخدَع هذا الرجلُ الحصيفُ نفسه تقريبًا وأوهمها بأنه لم يمارس أي تحايلٍ في هذا الأمر.

«سبعة آلاف كاملة؛ هذه لكنيستنا المقدسة. ثلاثة آلاف من السندات الموحدة؛ هذا المبلغ لأقاربه. فلْأرَ. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة؛ سبعمائة وخمسون جنيهًا لكل واحد. رائع! مُنفذو الوصية الموثوقون سوف يديرون الوديعة، ويحفظون السر. من حُسن الحظ أن المال لم يُستثمر كله في مجموعةٍ واحدةٍ من السندات. ربما كانت ستُثير قسمتُنا نحن التساؤلاتِ وتُسبب المشاكل.» على هذا النحو مضت مناجاةُ المحامي نفسَه.

نهض من مكانه، وراح يَذرَع أرضيةَ ورشته جيئةً وذهابًا؛ ثم توقف، وجلس، وأمسك قلمًا في يده.

وصاح بصوتٍ شبه مسموع ولكن لم يكن ثَمَّةَ أحد يسمعه: «لا! إن لمنفِّذي الوصيةِ الأولويةَ الأولى، وأنا عادةً ما أبدأ وصاياي باختيارهم.» وسرَتِ ابتسامةٌ عابسةٌ في ملامحه الصارمة. لقد تذكَّر تعليقًا قاله الراحلُ السيد جوزيف ميلر، المشهور بظُرفه، يقول فيه: «اترك ممتلكاتك لمن تشاء، على أن تجعلني مُنفِّذًا للوصية.»

في هذه اللحظة بدأ يكتب بخطٍّ واضح، مثل أي كاتب. كان أول منفذي الوصية أسقف المقاطعة الكاثوليكي، والذي كان يَنعم حينئذٍ بلقبٍ أسقفيٍّ إنجليزيٍّ وليس من أيِّ إقليمٍ أجنبي.

«هل ينبغي أن يكون هناك أكثر من مُنفِّذٍ للوصية؟ فليكن.»

«مَن عساي أُعيِّنه مُنفذًا ثانيًا للوصية؟ أُعيِّن نفسي؛ ولِمَ لا؟ ربما لن يبدو هذا مناسبًا.»

تذكر المحامي أنه لم يرَ المُوصِي. واعتقدَ أن الرجل العجوز ربما يعترض على أن يكون مُنفِّذ الوصية مُحاميًا، ولم يكن السيد كوك ليخاطر بإخفاق الخطة بالاصطدام بمثل هذا الضرر. فتُرِك فراغٌ للاسم الثاني، وبُيِّتتِ النيةُ لملئه باسم كوك وعنوانِ شقته، في حال وافَقَ المُوصِي.

أُعِدت بقية الوثيقة من غير إبطاء. لم يكن من المناسب التوصية بالسبعة الآلاف للكنيسة الكاثوليكية بطريقةٍ مباشرةٍ وواضحة؛ كان هذا سيجعل الوصيةَ لاغيةً قانونًا. لقد أعلنت هذا حِكمةُ الهيئة التشريعية، في مرسومٍ برلمانيٍّ، منذ زمنٍ بعيد. لم يكن من المناسب إعطاءُ الكاهن حقَّ الاستفادة واضحًا فيها. ربما يعترض المُوصي المُحتضَر على هذا؛ علاوةً على ذلك، كان هذا مخالفًا لسياسة كنيسة روما. لا بدَّ أن يُترك المالُ في رعاية أحد الأمناء من أجل تحقيق هدفٍ تقي، وذلك لضمان وصول الفائدة أو حق الانتفاع للأبد إلى مُرشَّحي كنيسة ذا رومان كوليدج، التي تتولَّى هذه المهمة.

لا بدَّ من تحديد إحدى المؤسسات الخيرية الإنجليزية لتقوم مقام المُوصَى له المُستفيد من الميراث. أي مؤسسة عساها تكون هذه؟ كان هناك مدرسةٌ للبنات مُلحقةٌ بكنيسة الأب أندروز؛ ستكون هذه مناسبة تمامًا. كان ثَمَّةَ شيءٌ لطيفٌ بالفعل في الفكرة. كانت فكرة استنقاذ سبعة آلاف جنيهٍ إسترليني من أحد البخلاء، وتخصيصها لتعليم الفتيات، فكرةً رائعة.

وهكذا كتب المحامي: «أن يُوضع مبلغ سبعة آلاف جنيه في حفظ وعناية منفذي الوصية ليُخصِّصوا حصص الأرباح والدخل السنوي إلى الأبد لصيانة ودعم المدرسة المشار إليها.» غير أن تلك المدرسة ربما لا يكون لها وجود دائم. لقد اتخذ الحِرفيُّ الحاذِقُ الحيطةَ لهذا الاحتمال بكل سهولة. فمن خلال ما يُسميه المحامون «استعهاد»، أو فقرة شرطية، بأنه في حال لم تَعُد تلك المدرسة موجودةً، يجب أن يُستبقى المال وأن يُخصص لمؤسسةٍ خيريةٍ أُخرى شبيهةٍ بها؛ تمكَّن من التخلُّص في الحال من خطر فشل الحصول على الوديعة.

كان ثَمَّةَ شرطٌ آخر ضروري؛ إن الناس البارعين الذين كانوا يستخرجون أموالًا بهذه الطريقةِ من حوزة بخيلٍ مُحتضَر كانوا يحرصون على حماية استثمارها، وإبقاء العائدات في أيديهم. لقد أدخل السيد كوك فقرةً شرطيةً تنصُّ على أنه في حال تُوفِّي أحد الأوصياء على المال، أو ذهب للإقامة خارج البلاد، أو ضعف أو أصبح غير قادرٍ على التصرف، يجوز للوصي الآخَر تعيينُ زميل. هل من الضروري توضيح الآلية التي سيعمل بها ذلك؟ إن الشخص الذي سيُعيَّن للحفاظ على مقبولية المظهر الخارجي للأمور من العامة في عينَي المُوصِي، وعيني أي شخصٍ فضوليٍّ قد يذهب يومًا إلى جمعية دكتورز كومونز المَعنية بمحامي لندن، ويدفع شلنًا ليفحص أداء السيد كوك البارع — مجرد شخص تابع للكنيسة الكاثوليكية — سوف، أو ربما، يُدْعى للتخلِّي عن مسئوليته؛ وفي هذه الحالة قد يُرشح كاهنٌ آخر. بهذه الطريقة سيُضمن وصول المال بطريقةٍ فعالةٍ إلى الكنيسة. ربما يُنفَّذ هذا كما تمنَّى أحدُ المجامع في روما، أو كما تمنَّى موظفوه هناك. لن يعلم أحد؛ لم يكن ثَمَّةَ شيءٌ حتى يتطلَّب تحقيقًا.

كاهنٌ مُحتال، ومحامٍ ماهر؛ خليطٌ يكاد يكون قادرًا على فعل أي شيء! إنكما تعتقدان أن مُدخرات البخيل، أو ما يربو على ثُلثَيْها على الأقل، قد استُلِبَت من أقرباء ماتورين كاريه؛ أولئك الغارقين في الفقر، الذين — وهم يبعدون عنه مسافةً كبيرةً، في جنوب فرنسا — ليس لديهم سوى فكرةٍ مُبهمةٍ غير واضحةٍ أن المَنفيَّ العجوزَ على قيد الحياة، وتعتقدان أنه قد جمع ثروةً خرافية. أنتما، أيها الكاهن والمحامي، الشخصان الوحيدان في إنجلترا اللذان يعلمان أسماء أقارب ماتورين كاريه. ربما يُوجَد مُتسعٌ من الوقت أمام أختٍ أو أخٍ ليُقدِّما تحية حبٍّ أخيرةً لهذا الوحيد البائس. سيكون ذلك لرجلٍ مثل هذا، على الأرجح، أكثر تعزيةً من طقوس دينكما. سيكون، على أي حال، عزاءً لأي رجلٍ مُحتضَر. لكنكما مع ذلك، لا تجعلان في خطتكما أو تدبيركما نصيبًا لإطلاع عائلة كاريه في فرنسا على أي شيءٍ بخصوص أخيهم المُحتضَر. أنت، أيها الأب أندروز، تزعم أنه لا يُضمر لهم أيَّ محبة. إنك تقول إنه أراد أن يَهبَ مُدخراته كلها لكنيستك، وإنك قد دافعتَ عن حقوق الأسرة وصلة الدم، وإنك حثثتَ التائب على توزيع حوالي ٣٠٠٠ جنيه بين أولئك الفقراء. سيكون بعض الناس حقيرين بما يكفي ليشكِّكوا في حقيقة ما تزعُمه. سوف أسوق تصريحك في هذه القصة، وأدع القارئ يحكم على مصداقيته وقيمته. إنه لَأمر مؤسِف، مع ذلك، أنَّ دفاعك عن حقوق الأسرة قد توقَّف عند الحدِّ الذي وصل إليه. ربما كان عندك دافعٌ ما أسمى، لكنني أعلم أنك أردتَ أن تحافظ على الشكل الخارجي للأمر. لو أنك فقط قد دبَّرت، عن طريق ممارسة تأثيرك الديني، لتعكس الترتيب — بإعطاء ٧٠٠٠ جنيه للأقارب و٣٠٠٠ جنيه للكنيسة — لَكان الأمر بدا أفضلَ من دون شك. لكن عليَّ ألَّا أُغفِل توضيحَ كل ما فعله خادمُ الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا، أو عبدُها المُشتغِل بالمُحاماة، بالتعاون مع كاهنه، لأقارب ماتورين كاريه. فقد كان لماتورين كاريه أخَوان وأخت على قيد الحياة، أو يُفترَض أنهم كانوا على قيد الحياة، وقتَ كتابة هذه الوصية؛ فقد تُوفِّيت له أختٌ بعدما تزوَّجَت وأنجبتْ أطفالًا. أُعطِي كلٌّ من الشقيقين اللذين على قيد الحياة ٧٥٠ جنيهًا من المبلغ المتاح، بينما قُسِّمت حصةُ الأخت المُتوفَّاة بين أبنائها الثلاثة.

بعدما أتم المحامي مُهمته إلى حدٍّ معين، نهض عن كرسيه مرةً أخرى، وخرج ليستمتع بتمشيةٍ صباحيةٍ في المنطقة المُعتمة المجاورة لمصنعه. لقد أنجز عمله بمهارة، وربما استمتع بإدراكه هذه الحقيقة البسيطة. من الأشياء المُرضِية التي كان من الممكن أن يشعُر بها أولياءُ نعمته، لو كان بإمكانهم أن يُقدِّروها كما ينبغي، أن الكتابة كانت واضحة، ومفهومةً، وجلية. لم يُؤتمن أي شخصٍ آخَر على السر؛ لم يُستعَنْ بناسخٍ مهرطقٍ لأداء المهمة. إن الفائدة من ذلك ستكون واضحةً للقارئ.

بعد ظُهر ذلك اليوم انفرد المحامي بالكاهن مرةً أخرى للمُشاوَرة في غرفة الأخير، وابتسم الأب المُقدَّس بلطفٍ عندما طالَع الوثيقة، وأنعم على صديقه المُخلص بنظرة استحسان.

قال الكاهن: «أحسنتَ صنعًا يا بني. لقد أدَّيتَ واجبك تجاه كنيستنا المقدَّسة على نحوٍ ممتاز.»

انزلقت ابتسامةٌ باهتةٌ على ملامح المحامي القاسية. لقد سرَّه الإطراء. بعد ذلك عادت ملامحه إلى صرامتها المُعتادة. لقد أزعجته الهواجس حول صواب اشتراكه في هذا العمل. ماذا لو أخفقتِ الخطة، برغم كل حِيَلهم واحتياطاتهم؟ ماذا لو سمع بها أعضاء مجلس إدارة جمعية لينكولن إنْ للمحامين؟ ماذا لو حقَّقوا في القضية أو أصبحَت عاجلًا أو آجلًا موضوعَ تحقيقٍ قضائي؟ من البداية لم يستطع البتة أن يتخلَّص تمامًا من الخوف من اكتشاف أمرهم.

لاحَظ الكاهنُ هذه الكآبةَ بشعورٍ من الازدراء نحو مُحاميه، رجُلِ كلِّ المهام القانونية، ولم يقُل شيئًا بشأنها.

قال السيد كوك، بشيءٍ من الفظاظة: «سوف نحتاج إلى شاهدَين لن يستفيدا شيئًا من الوصية.»

كان الجواب الساخر الحاضر: «بالطبع سنحتاج لهما. إن لديَّ من العلم بالمحاماة ما يكفي لأُدرك ذلك، وقد جهَّزتُ اثنين مُناسِبين للأمر؛ شخصَيْن لن يرَيا أكثرَ مما أريدهما أن يرَياه. سوف يَشْهدان على توقيع الرجُل العجوز، لكنهما لن يرَيا أيَّ شيءٍ آخَر، أتعهَّد لك بذلك.»

لقد اتَّخذ أصدقاءُ الكنيسة وخُدَّامها كلَّ التدابير الآن.

بعد ذلك بقليل، زار السيدان الرجلَ المُحتضَر. لم يكن ماتورين كاريه في الحالة الذهنية التي توقَّعاها؛ لم تجعله تأثيراتُ النهار صاغرًا كئيبًا كما توقَّعا، بل وجداه مُجادِلًا وعنيدًا. كان يُشكِّك فيما إن كان المُتبقي من حياته قليلًا للغاية كما أخبره الطبيب. قال إنه لا يودُّ أن يترك وصية؛ لأن هذا يُوحي بالتخلِّي عن كل أملٍ في التعافي، وأَغرَق في التذرُّع بمعاذير كثيرة أخرى مُبتذلة كي لا يُكمِل التوريث.

أثناء هذه المحادَثة أتت امرأتان لزيارة البيت الذي يسكنه كاريه. كانت إحداهما مُدبِّرةَ منزل الكاهن، وكانت الأخرى مُعلمة، وهي سيدةٌ تَدين له بالكثير من الأفضال.

من الممكن تخيُّل دورهما. إن زيارتهما تُفسِّر الردَّ شبه المُلغز الذي أجاب به الكاهنُ على المحامي. كان الأب المُقدَّس يعلم، كما قال، أن التوريث الخيري سيكون لاغيًا إذا لم يرَ شخصان مُتجردان من أي منفعة شخصية المُوصِيَ وهو يُوقِّع عليه، وإذا لم تُذيَّل الوثيقة بتوقيعهما كذلك. كان الأب أندروز، بِبُعد نظرٍ لطيفٍ منه، قد طلب من هاتين السيدتين أن تتبعاه — جاعِلتَين بينهما وبينه مسافةً تُوحي بالاحترام — إلى سرير المُوصِي المُحتضَر. كان من الممكن الاعتمادُ على مالك البيت وابنته، أو بعض المُستأجرين من الجيران، لأداء تلك المهمة التافهة من الشهادة على وصية الرجل المُحتضَر، لكن من حصافة الكاهن أنه قرَّر ألا ينال ذلك الشرف أحدٌ سوى شخصَين مُخلِصَين ممَّن يتناولون القربان المُقدَّس. ولا شك أنه ما من أحدٍ كان سيسرُّه أن يؤدي هذا الدور المُتواضع في الأحداث أكثر من هاتين السيدتين.

لكن لم يُقدَّر للأمور أن تسير كذلك؛ فقد اعترى كاريه عنادٌ عُضالٌ.

سمع الكاهن طرْقَ صديقتَيه المُتوقَّع على باب الشارع. إن تَخيُّل الهيئة التي بدا عليها في تلك اللحظة أسهل بكثيرٍ من وصفها. لقد أصابتْ نظرتُه صديقَه المُثقفَ بما يُشبه الهلع، لكن ممَّا يدعو للدهشة أنَّ شجاعة البخيل الواهن لم تَخُنْه تحت تأثير النظرات الماكرة المُستترة التي رمَقَه بها كاهن الاعتراف.

بدأ مالكُ البيت — الذي لم يكن ينتمي إلى «الدين الصحيح»، كما قد يكون القارئ تصوَّر — يرتاب في حدوث شيءٍ غير متوافقٍ تمامًا مع ما يعرفه عن صحيح الأعمال الروحانية. فتح باب الشارع، ومنع السيِّدتَين من التقدُّم أكثر من ذلك. لم يسمح لهما بصعود الدَّرَج قبل أن يُعلِم مُستأجرَه باسمَيْهما. وقد منحته الرسالةُ فرصةً كان يُريدها، ليرى ما الذي كان يجري في مسكن الموت. ووقع ما عزَّز أسوأ شكوكه.

أعلن الرسول اسمَي الضيفتَين الجميلتَين، وصاح الكاهن النافد الصبر قائلًا: «قل لهما أن تعودا لبيتيهما، لا أريدهما اليوم. سوف ألحق بهما قريبًا.»

وفعل مثلما وعد. كان الكاهن مُرتبكًا، شاعرًا بالمذلَّة، خائب الأمل، وكان يتميَّز من غَيْظٍ جَهِد كي يُخفِيَه، ربما كان نابعًا من الكبرياء، أو ربما كان سببه المكر، وكان يرجو أن يُعجِّل المرَضُ بتمكينه مرةً أخرى من توقيع ماتورين كاريه؛ لذا لم يُطِل المناقَشةَ أو المقابَلة أكثر من عشر دقائق بعد رجوع السيدتَين.

لقد أثَّر عليه جوُّ الغرفة المُغلقة أكثر مما أثَّر على البخيل الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة. تاق الرجل الروحاني إلى نسمةٍ من الهواء النقي. رأى المحامي — الذي ظلَّ صامتًا طوال الجزء الأخير من المقابلة — أو خُيِّل إليه، أنه رأى رغبةَ الكاهن من خلال لون وجهه الذي أخذ يتغيَّر.

كان «صائغ العدل»، مثل كثيرين غيره من الناس، يستغرق في التفكير أكثر ما يستغرق أثناء فترات الصمت. وعلى الرغم من صمتِه، فقد كان الآن مُستغرقًا تمامًا في التفكير. كان كذلك رجلًا يُعتمَد عليه في الطوارئ. لقد مارَس صائغُ الوصية من الذكاءِ القانونيِّ داخلَ صدره الهادئ، وهو في عُليَّة ماتورين كاريه، وفي غضون خمس دقائق، أكثر مما مارسه وهو في غرفته؛ حيث كان متاحًا له أن يُناجي نفسه لساعاتٍ كثيرة. كل الاعتراضات المُحتمَلة على الوصية تركَّزَت أمامه في فكرةٍ واحدةٍ مختصرة. كل الأخطار عليه وعلى أصدقائه مرَّت بخاطره (إذا جاز التشبيه) مثل منظرٍ بانوراميٍّ مُثيرٍ تمرُّ أجزاؤه تباعًا. كان، هو الآخَر، سعيدًا بهروبه من الحضرة المنفرة لضحيته الهَرِمة، ومن هواء الغرفة النتن.

لقد شحذت العقباتُ عقله. لقد ابتكر سلسلةً جديدةً من الإجراءات. ينبغي أن تحصل الكنيسةُ على ميراثها الذي تنتظره، إذا لم يكن بالإمكان إيقاف الموت عن الزَّحف.

كان المحامي يُضمِر هذا العزمَ في قلبه، وبدأ لسانُه الفصيح على أثر ذلك يتحرك.

علق السيد كوك قائلًا: «حسنٌ، حسنٌ، سيدي الطيب، إذا كنتَ غير راغبٍ في فعلها، فلن نُكرِهك.»

أشار الأب المُقدَّس إشارة، وارتجف العجوز.

استجمع ماتورين كاريه شجاعته كلها من جديد، وبكلماتٍ مُتقطعةٍ ولكن ثابتة صاح قائلًا:

«صدِّقاني أنا لن أموت؛ لن أُوصي بشيء. إنكما ستقتُلاني. اتركاني.»

ردَّ المحامي قائلًا: «اهدأ يا صديقي، سوف نتركك لتُفكر في الأمر يومًا أو يومين. اهدأ، لا تنفعل.»

وبينما هو يتكلَّم ساعد البخيلَ على الاستلقاء، وبرقةٍ بالغةٍ عدَّل وضع الوسادة، ليستريح عليها رأسٌ شديد القلق.

وقال من جديد: «اهدأ.» وحوَّل عينَيه عن الأريكة الخشنة. أدرك صاحبُه الإشارةَ بسهولة.

«سوف نزورك مرةً أخرى بعد يومٍ أو يومين، يوم الخميس مثلًا، ونرى كيف حالك. أرجوك لا تنفعل.» كانت هذه آخِر كلماتٍ قيلت في هذا اللقاء.

ثم غادر الكاهنُ والمحامي المنزل، دون أن يُودِّعا صاحب المنزل. ذهبا إلى مسكن الكاهن، وهناك راحا يُناقشان ما ينبغي فعله في الخطوات القادمة والتي تليها لضمان الحصول على السبعة آلاف جنيه. سوف تظهر فورًا الخطة التي اتفقا عليها وسعَيا إلى تنفيذها.

انقضى يومان تخلَّلا الفترة بين الحدَثين، لكنهما لا يؤخذان في الاعتبار في هذه القصة. لا أحدَ من الضالعين في القضية، باستثناء السيد كوك، المحامي المُثابر المُتعدِّد البراعات، أَولاهما أيَّ اهتمام. لم يذهب الطبيب مُطلقًا خلال يومي الثلاثاء والأربعاء لزيارة العجوز المسكين ماتورين كاريه ليرى إن كان محتاجًا لحبوب دواء، أو مساحيق، أو ترياق، أو غسول، أو ليرى إن كان البخيل قد حصل على النبيذ وجذور نبات المرنطة الاستوائي اللذين كان يَعُدُّهما في يوم السبت أكثر نفعًا من الدواء.

لم يذهب الأب أندروز — الذي ما إن أُخبر يومَ السبت أن ثَمَّةَ بخيلًا راقدًا على فراش الموت، حتى أسرع إلى جوار سرير كاريه — مُطلقًا لزيارة ذلك العجوز البائس يوم الثلاثاء أو الأربعاء. إن المسكين ماتورين قد تركه الطبيب والكاهن والمحامي وحيدًا في عُليته مدة يومَين؛ لكن السيد الأخير لم يكن عاطلًا عن العمل طوال هذه المدة. لقد كان، في الحقيقة، منشغلًا بعض الشيء.

في صباح يوم الثلاثاء ذهب إلى بنك أوف إنجلاند، وطلب عمل صَك، أو نموذج صكٍّ — يُسمَّى توكيلًا عامًّا — سوف يُمكِّن الرجُلَ المُحتضرَ، في حال مالَ إلى ذلك، من نقل السبعة آلاف جنيه لمُرشَّحي كنيسته، دون أن يبرَح سريره. طلب مسئولو البنك، كما علم السيد المحامي سلفًا، يومَين ليُعِدوا هذا التوكيل في نقل الملكية. وذهب بنفسه يوم الخميس وحصل على المُستند الذي كان يُريده. لقد عمل كذلك باجتهادٍ على إتمام وثيقتَين كانت خطةُ العمل الجديدة تتطلَّب أن يُجهزهما قبل أن يزور كاريه من جديد.

في يوم الخميس، بعد أن غادر المحامي المؤسسة العظيمة الواقعة في شارع ثريد نيدل، توجَّه بأقصى سرعةٍ لديه إلى منزل الكاهن في سومرز تاون.

صاح الأب أندروز بفظاظة، عند دخول تابعه: «حسنٌ، سعدتُ لرؤيتك. إنه لا يزال على قيد الحياة. لقد وضعتُ المنزل تحت المراقبة، مع أني لم أذهب لرؤيته منذ يوم الإثنين.»

«أرجو أن يسير كلُّ شيءٍ على ما يُرام. أتوقَّع أن تقول إنني قد أدَّيتُ دوري لإنجاز المهمة التي كرَّسْنا أنفسنا من أجلها، من أجل مجد وتقدُّم كنيستنا المقدسة.»

كان الأب المُقدَّس نزِقًا. الحقيقة أنه بدأ يخشى من عدم الفوز بالجائزة، ومن احتمالية انكشاف العمل القذِر.

أجاب الكاهن: «لقد أمضيتَ الكثير جدًّا من الوقت في تلك المهمة. لو افترضنا أن العجوز كان قد مات أثناء قيامك بدَورك، ما كان ليصبح حينها لدى كنيستنا المقدسة الكثير لتشكُرك عليه.»

أوضح المحامي في تهيُّبٍ أن الذنب لم يكن ذنبه، بل ذنب مسئولي البنك؛ ومضى يوضِّح له كيف أنه أحسن استثمار الوقت الذي استغرقه.

أخرج المحامي من جيبه وثيقة، كان قد أعدَّ مسودتها بنفسه، ثم كُتبت بخطٍّ جميلٍ على رَقٍّ بيدِ قرطاسيٍّ متخصصٍ في أعمال المحامين. التمعت عينا المحامي عندما نظر إلى هذا الجزء من عمله. لقد كانت «سند هبة». كانت وثيقةً خادعة، بموجبها كان كاريه «سيتخلَّى عن أمواله»، أو بواسطة التوكيل الرسمي سينقل السبعة آلاف جنيه في الحال من ملكيته إلى ملكية أوصيائه. لم يكن هذا السند يحمل ميزة هينة على الوصية؛ إذ كان سيوفر مبلغ سبعمائة جنيه، أو ما يقرب من ذلك، كانت الحكومة ستحصل عليه بموجب قانون ضريبة التركات في حالة الوصية؛ وإن كانت هذه الميزة ربما هي الميزة الأقل قيمةً في نظر المحامي. لقد واسَته فكرةُ أن وثيقةً مثل هذه، عندما لا تُمرر إلا ملكيةً خاصة، فإنها لا تتطلَّب تسجيلًا أو إدراجًا.

لمَّا كانت عائلة ماتورين كاريه بالكامل تسكن بعيدًا جدًّا، ولما كانوا، بسبب جهلهم المُطبِق، بعيدين تمامًا عن احتمالية أن يتمكَّنوا من حل غموض هذه المؤامَرة الخبيثة، فقد ضمن مُدبِّرُوها، فيما يبدو حقيقةً، إفلاتًا فعليًّا من العقاب عن طريق مكيدتهم الخاصة. كل ما تبقى فعلُه هو تنفيذ سند الهبة هذا. ساعتها يمكن للواهب أن يموت حالَما يأذن الرب. لو أن أيًّا من أقرباء البخيل زار هذا البلد، أو طلب من أحد أصدقائه البحث في سجلات جمعية دكتورز كومونز، فلن يكتشفوا أيَّ وصيةٍ تحتوي على أدنى إشارةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة لمبلغ السبعة آلاف جنيه هذا. ألم يكن هذا أفضل من وثيقةٍ مُتاحةٍ للتفتيش والبحث وراءها من قِبل أيِّ شخص يدفعه فضولُه إلى إنفاق شلنٍ للحصول على هذا الامتياز؛ ورقة تظهر فيها الودائعُ التي بموجبها حُوِّلَتْ ملكيةُ السبعة آلاف جنيه تحويلًا ظاهريًّا، من شأنها أن تنكشف؟ كل هذه الأشياء شرحها السيد كوك للأب أندروز، الذي كافأ المحامي ساعتها بنظرته الخبيثة الدالة على الرضا.

علَّق الأب أندروز متسائلًا، لأنه، كما قال من قبل، يعلم القليل عن القانون: «إذن فلن نحتاج إلى أي وصية؟»

قال المحامي: «أوه، نعم؛ لدينا مبلغ الثلاثة آلاف جنيه المُخصَّص لعائلة كاريه. سيكون من المُستحسَن الحصول على وصيةٍ لأسبابٍ عدة.»

سأل الأب المقدس: «ومَن المذكورون في سند الهبة كأوصياء؟»

«الأشخاص أنفسُهم الذين كانوا مُنفِّذي الوصية في الوصية السابقة؛ لكنني أضفتُ فقرةً شرطيةً بموجبها، سيكون كلُّ وصيٍّ آخَر يَخلُفني بعد وفاتي، أو إذا توقَّفتُ عن القيام بدور الوصي، «إما أسقفًا أو كاهنًا من الكنيسة الكاثوليكية المقدسة».»

صاح الكاهنُ فجأةً: «جيد!»

قال المحامي: «أرجو أن تكون الوصية قد أعجبتك أيضًا!»

«نعم أعجبتني.» هكذا ردَّ الكاهن، الذي — لدهشته من السهولة التي يمكن بها، بموجب قانون الوقف الحالي، أن تُنتزع كلُّ صنوف الملكية، باستثناء أرض الحيازة المُطلقة، من أصحابها — بدأ يتحرَّق شوقًا إلى ما تبقَّى من أملاك البخيل. وأضاف: «لكنني أكاد أرى الآن أننا قد أخطأنا حين لم نأخذ الملكية كلها. إنني واثق أنه ما من جزءٍ من مدخرات العجوز سيُصان إلا ما خُصِّص لأغراضٍ دينية.» ثم، من جديد، عندما تذكَّر الكاهنُ الرفضَ القاطع الذي أبداه الرجلُ العجوز لتوقيع الوصية السابقة، انتابه فزعٌ من احتمالية أن يُبدي الرجل هذه الليلة العنادَ نفسه؛ لذا ارتأى الأب المقدس أنه ربما كان من الحكمة أيضًا الالتزام بالقسمة الأصلية، والسماحُ لأقارب البخيل بأخذ صدقةٍ من ثروته.

نظر الكاهنُ بثباتٍ في وجه مُحاميه، وسأله: كيف ستُوزع الثلاثة آلاف جنيه؟

قال المحامي: «حسنٌ، بالطريقة التي أُعدَّت تمامًا؛ لقد قُسِّم المبلغ إلى أربعة أجزاء، قيمة كل جزءٍ منها ٧٥٠ جنيهًا.» وأضاف، وهو يناوله الورقة: «إنها مسألةٌ مختصرةٌ ويسيرةٌ للغاية. لقد جعل اقتطاع السبعة آلاف جنيه الوصيةَ مُبسطة كثيرًا؛ لكنها متكاملة تمامًا. لا شيء في ظاهرها يُمكن أن يُوحي للعقل المتفحص بأننا اقتطعنا جزءًا ضخمًا من الملكية قبيل وفاة مالكها مباشرةً.»

انبهر الكاهنُ بالترتيب البارع الذي أعدَّه محاميه.

أخبرني بعضُ المحامين أنه ما كان سيصبح هناك حاجةٌ لتحرير أي وصية لو أن الغرض منها كان مجرد ضمان انتقال الثلاثة آلاف جنيه باتجاه التوريث. في المسار الطبيعي للقانون، وبموجب وثيقة إدارة للتركة، كان المبلغ سيُوزع كما تنص الوصيةُ تمامًا. كان الغرض الحقيقي للوصية، والوحيد في الواقع، أن تُسلَّمَ إدارة الثلاثة آلاف جنيه لأوصياء مُوالين، سيقومون بدورهم، من خلال جعلهم على اتصالٍ بالمُوصَى لهم، بمنع التحقيق في استخدام، أو في الواقع، وجود مبلغ ماليٍّ آخر؛ السبعة آلاف جنيه.

لم يكن الوقت قد حان بعدُ لزيارة الرجل الحرون. لكن كل الاستعدادات قد اتُّخِذَت؛ ولذا رأى الرجلان الفاضلان اللذان أدَّيا أدوارًا أساسية فيما سأتجرأ الآن على تسميته بالمؤامرة، أنهما كانا مؤهَّلَين لقليلٍ من المتعة، وقد حظيا بها. اتخذت بقيةُ المحادثة منعطفًا مُفعمًا بالحياة، كما يحدُث عادةً على أيِّ مائدة عشاء عندما يُقدِّم المُضيفُ طعامًا وشرابًا جيدين كذاك الذي كان في مقدور الأب أندروز أن يُقدمه لأحد الضيوف.

عندما اعتقد الكاهن أن الوقت المناسب لزيارة ماتورين كاريه مرةً أخرى قد حان، كان في بيته في صحبة شخصين آخرَين؛ كان أحدهما سيدة، عُرِّف القارئُ بها من قبل، كانت تعمل مُعلمة، وكانت من قبل هذا — مثلما يمكن أن نذكر هنا أيضًا — تُكمِّل وظيفتها المزعومةَ بأعمالٍ غريبة قليلة من نوع العمل الذي يُوشك الآن على أن يُوصف. كان الآخر سيدًا، وبعبارةٍ أخرى، كان كاتبًا لدى مَصرفيٍّ مستقل، وكان ذلك المصرفيُّ آنذاك يدير عملًا في المنطقة المجاورة لسوق كوفنت جاردن، وكان رجال الدين والأرستقراطيون الكاثوليكيون عملاء مُهمين عنده، وقد عانوا معاناةً شديدةً عندما أفلس مصرفُه قبل سنواتٍ قليلة مضت.

دعا الأبُ أندروز السيدةَ والرجُلَ ليكونا الشاهدَين على هذه المكيدة الشريرة بعد أن بلغت مرحلتها الحاسمة؛ ومن ثَم كانت هذه خطوةً حصيفةً لحجب أعين المهرطقين عن رؤية ما يمكن أن يفعله الكهنة الكاثوليكيون المعاصرون، بالتائبين الذين يملكون مالًا، في الأيام أو الساعات أو الدقائق التي تسبق انطلاق الروح إلى مثواها الأخير. لقد وصف الأب أندروز هذين الشخصين وصفًا دقيقًا. إن أعين هذين الشاهدين لن تقدر على أن ترى، أو لن تشهد بالتأكيد على أي شيءٍ يشين الكنيسةَ التي يرتبطان بها بروابط مادية متينة، فضلًا عن الروابط الدينية.

أخيرًا حان الوقت المناسب. كاهن، ومحامٍ، وشاهدان، كلهم غرباء عن المُوصي، كلهم يعرف الآخر جيدًا، ثلاثةٌ منهم ليس لهم سلطانٌ على أرواحهم، لكنهم معتمدون على الرابع، انطلقوا جميعهم إلى منزل ماتورين كاريه.

لكن كاريه لم يكن تعيسًا للغاية، ولا كان واهنًا ذهنيًّا أو جسديًّا كما كان يرجو بعض الأشخاص، خلال الفترة الفاصلة بين يومَيَّ الثاني والثالث. لقد تعافى جزئيًّا، وكان في تلك الليلة أقوى قليلًا عقليًّا وعضليًّا مما كان عليه منذ أسبوعين على الأقل. يستطيع القارئ، الذي تركتُ له مسألة الفصل في الكثير جدًّا من الأشياء، أن يُحدِّد إن كان من الممكن، بأي درجةٍ، أن يُعزى هذا إلى غياب الطبيب، أو إلى الامتناع عن الدواء، أو إلى تصبُّر الكاهن. ربما من الممكن إلى حدٍّ ما أن تُعزى الروحُ العنيدة إلى تأثير مالك المنزل البروتستانتي ذاك، الذي أفسد بتدخُّله المكيدةَ كلها. لقد كان يرافق النزيل، الذي يستأجر غرفةً في بيته، كثيرًا جدًّا أثناء الفترة التي تخطَّيتُها في سبيل اختصار قصتنا. إن هذا الرجل المُجدِّف قد أجاز أن يُوصَف سلوك الأبِ أندروز بأيِّ شيءٍ سوى الصواب، وألقى بظلال الرِّيبة على شرَف المستشار القانوني الدائم للكنيسة الكاثوليكية؛ السيد كوك. وهكذا حُرِّض ماتورين كاريه على درجةٍ من الوقاحة المارقة، أشدَّ من تلك التي بلغَها يوم الاثنين، وصمَّم على أنه لن يكون له أيُّ شأن بعد الآن بالكاهن، أو بالمحامي، أو بخُططهما. لقد أمر مالكَ المنزل بألَّا يُدخِل هؤلاء الأصدقاء الزائفين عندما يأتون لزيارته في المرة المقبلة.

عند وصول المَوكب إلى محل إقامة كاريه — يتقدَّمه الكاهن، ومن ورائه المحامي والشاهدان — فتح مالكُ المنزل المُضطلِع بحماية الباب.

قال المُضيف للجَمع، وهو شِبه فزعٍ من القوة العددية، إن لم يكن الأخلاقية: «إن السيد كاريه مريضٌ للغاية، ولا يستطيع أن يستقبلكم اليوم.»

كانت دهشة الضيوف من هذا الإعلان المفاجئ عظيمةً بالطبع. لقد اعترفت المعلمة الزائفةُ فيما بعد، بلغةٍ أمْيلَ إلى المواعظية منها إلى التزمُّت، أنها «شعرت بارتباكٍ تام»، واعترف كاتبُ المَصرفيِّ الكاثوليكي هو الآخَر بسذاجةٍ أنه بدأ يتخيَّل وجود «شيءٍ غريب».

أخذ الكاهن والمحامي يختلسان النظرات بعضهما إلى بعضٍ، وإلى مالك المنزل الذي سدَّ الممر، أو الدَّرَج، وحماه من التطفُّل. كان في التمهُّل صيانةٌ للسمعة، وفي التهوُّر مُخاطرةٌ بها. لكن الموت كان وشيكًا، وكانت الساعات المُتبقيةُ من عمر البخيل معدودة، وربما يتسبَّب التردُّد في خسارة ٧٠٠٠ جنيه إسترليني. انتصرت الصفةُ المميزةُ السائدةُ في الأب أندروز على حذره، فاتَّخذ قراره في ثانيتَين أو ثلاث. فقد كانت الجائزة، في اعتقاده، تستحقُّ المخاطرة.

أخذت عينُ الكاهن تقيس صاحب المنزل من رأسه حتى قدمه، من أجل تقدير الاحتمالات وقابلية المقاوَمة، وكوَّنَت رأيًا عنهما. أما عن الأخير، فستُتاح لي الفرصةُ لتوضيح ما دار في رأسه. وللكلام عن الأول، يكفي القولُ إنه لم يرَ ما يدعو إلى خشية وقوع «جلبة» إذا ما نُفِّذ الهجومُ بجسارةٍ واندفاع.

في أقل ممَّا استغرقه هذا الوصفُ من الوقت، ألقى الأب أندروز بنفسه إلى الأمام، صائحًا في الوقت نفسه: «أنا لا أُعامَل بهذه الطريقة.» وبضربةٍ من ذراعه أزاح العائق من طريقه.

أسرع الكاهن بصعود الدرَج، وأدار مقبض باب الغرفة، ووقف أمام البخيل المرتَجِف، الذي ظل برغم ذلك مُعارِضًا لهجومه الروحي.

بعد ذلك وبلُطفٍ دعا مالك المنزل الشاهدَين المُرتبكين والمحامي إلى الردهة؛ حيث، وبمصادفةٍ غير عادية، كان ثَمَّةَ سيدٌ آخر، صديقٌ للمُضيف، وقد أثار وجوده انتباهَ المحامي، إن لم يكن قد أثار مخاوفه.

سوف يكون كرمًا بالغًا من مُخيلة القارئ أن تتبعني إلى الطابق العلوي في إثر الكاهن.

«أرجوك دعني وشأني، أنا لا أستطيع عمل أي شيءٍ اليوم. لا أدري ما أنا مُقبلٌ عليه. ماذا تريد؟» كانت هذه هي الجُمَل التي خرجت، بالإنجليزية، من بين أسنان الرجل العجوز التي كانت تصطكُّ بعضها ببعض.

سأله الكاهن بقسوة: «أتسحَب وعدك؛ هديتك الدينية لكنيستنا المُقدَّسة، أيها البائس الحقير؟»

«لا، لا؛ لكن اترُكني؛ لتأتِ في وقتٍ آخر. لا أستطيع عملها اليوم.»

«ليس اليوم؟ غدًا سيكون جسدك في القبر، وروحك في …»

«لا، لا؛ سأفعل، سأفعل. أين الأوراق؟» ومدَّ المُحتضَرُ التعِسُ يده وكأنه كان يريد أن يُمسك قلمًا، وبنقْل ثروته الدنيوية كلها لأحد الكهنة، تجَنَّبَ إتمامَ الجملة.

أسرع الأب أندروز بالخروج من الغرفة، وصاح من فوق الدرَج مُناديًا المحامي والشاهدَين: «اصعدوا.»

شرع الشاهدان يصعدان الدرَج في الحال. أما المحامي، الذي كان من الممكن أن يتنازل عن نصف ما ينتظره من الميراث في سبيل ضمان عدم وجود ذلك الغريب، هو وصاحب المنزل الذي يُفسِدُ بتدخُّله الخُطَط، ولكن لعلمه أن هذه الخطوة الوسيطة لإنجاز المهمة غير قابلة للتنفيذ، فقد رأى أن أفضل ما يفعله في الخطوة التالية أن يجعلهما مُراقبَين للصفقة، إن لم يكونا مُشارِكَين فيها.

كان لديه إيمانٌ عميقٌ بالدوافع المُتدنِّية للطبيعة البشرية، مثلما يؤمن بذلك جميع زملاء مهنته تقريبًا. كان من المُمكن فقط، هكذا اعتقد، أنَّ مثل هذا الإشباع لغرورِ هذين الشخصين ربما ينتصر على إخلاصهما أو صمتهما. لم يعلم المحامي على وجه التحديد، ولا حتى بالحدس، حقيقة ما يجري في «الجزء الخلفي من الطابق الثاني» بين الكاهن والرجل السادِر في ذنبه. أما صاحبُ المنزل وصديقُه فقبِلا الدعوة.

عندما رأى الكاهنُ صاحبَ المنزل يدخل الغرفة، أصابه اضطرابٌ شديد، وزاده الارتباكُ فظاظة.

قال الكاهن: «لا أحد يُريدك هنا.»

انزعج المحامي. لقد كان يعلم أن أي سندٍ أو وصيةٍ يُوقِّعها ذلك المخلوق الآدمي الواهن، وهو على شفير هاوية الموت، ومُحاطٌ في ذلك الوقت بالغرباء، سوف تُلغى إذا ما اعترض عليها أقرباء ماتورين من الدرجة الأولى. وأصابه الرعبُ عندما تذكَّر أن تصرُّفه هو سوف يُدان بشدة من قِبَل أقطاب تلك المهنة الشريفة الموقَّرة التي كان يَحطُّ من قدْرِها، وكان يعلم أن الرأي العام سوف يستنزل اللعنات على كل المشاركين في المؤامَرة بحسب ما ارتكبوه من آثام.

قال المحامي: «دَعْه ينتظر، فَلْيبقَ الجميع؛ أرجو أن يظل هنا.» أما الكاهن، الذي هداه حدسُه إلى وجود ما يُبرِّر رغبة المحامي في بقائهما، فلم يُبدِ مزيدَ اعتراضٍ على وجودهما.

بقي مالك المنزل وصاحبه بالفعل، ليقُصَّا فيما بعد كل ما حدث.

ذهب المحامي، ليُحافظ على أبَّهة المظاهر، ولأنه لم يشك للحظةٍ في أن الأب أندروز كان قد مهَّد الطريق، ذهب إلى جوار سرير كاريه وهو يعتزم شرح الوثائق. كان الرجل العجوز، الذي كان ارتباكه أكثر من مجرد ارتباكٍ يسيرٍ بسبب دخول أُناسٍ كثيرين هكذا إلى حجرته، مُرتعبًا من مدى أهمية وجدِّية عمل «صائغ العدل» هذا. إن عقل العامِّيِّ ينظر عادةً إلى وثيقةٍ على ورق الرَّق بما يُشبه الخشية، وما كان فتحُ ورقةٍ تتضمَّن أمرًا بإعدام ماتورين كاريه نفسِه يستطيع أن يُفقده رباطةَ جأشهِ أكثر مما فعل صوتُ الكرمشة الصادر من سنَد الهبة الديني هذا.

أخذَت عينُه الشاردة تجول سريعًا بين المحامي والكاهن، وتتفحَّص قدْر استطاعتها الغرباءَ الآخرين، الذين جاءوا، كما اعتقد، في تلك اللحظة ليسلُبوه مُدخراته البغيضة. وظل مرةً بعد مرةٍ، كلما نظر إلى الكاهن، يرتجف، والعرَقُ يرشح بغزارةٍ من بشرته الشاحبة. وقال: «اتركوا الأوراق إلى يومٍ آخر.»

سرى بين الضيوف اهتياجٌ بسبب هذا التعبير الدال على الاستياء من الأمر، والذي نُطق في حضرة الأب المقدس. ولاحظ المحامي ذلك.

قال السيد كوك: «حسنٌ، سوف نتركها. أستطيع، إذا أحببتَ، أن أحدِّد موعدًا آخر.»

كان المحامي على وشك أن يطوي الأوراق ويغادر، لكن الكاهن أمسك ذراعه وأمره أن ينتظر.

تقدَّم الكاهنُ إلى جوار السرير البالي، وخاطب العجوز المُحتضر. ما من مخلوقٍ يعرف ما الذي قاله؛ لأنه اختار لكلامه لغةً لا أحد من الحاضرين — ولا حتى المحامي — يستطيع أن يفهمها، سوى كاريه. ببطءٍ خاطب الأبُ أندروز البخيلَ المُحتضَر بالفرنسية. كانت كل كلمةٍ تُسرِّع نبْضَ العجوز ماتورين، وتجعل أسنانه تصطك، وتُعيد العَرَق الرطب ليرشح من بشرته من جديد.

لم يستمر الحديثُ الفرنسي، أيًّا كانت ماهيته، طويلًا بعدما صاح البائس المُحتضر قائلًا: «نعم، نعم، سأوقِّعها؛ لا تتركوني.»

بعد ذلك، حرص السيد كوك على توضيح مسألةٍ أو مسألتين، رأى أنه ربما يُذهِب تحرُّجَ الشاهدَين المُهرطقَين. لقد أوضح لكاريه السخرية القانونية المُتمثلة في أن سند الهبة هذا لن يحرِمه من أرباحه من مبلغ السبعة آلاف جنيه خاصته ما دام بقي على قيد الحياة؛ وأوضح له أن السند يضمن له حقَّ انتفاع مدى الحياة، وأنه برغم أن الأوصياء سوف يكون لهم ما يُسمِّيه المحامون «الحق العيني» في ماله، فسيكونون مُلزَمين بإعطائه الربحَ من ذلك المال ما دام أنه على قيد الحياة؛ كما أوضح له أن السند يحتوي كذلك على حقِّ الإبطال، ومن ثَم فإن باستطاعته في أي وقتٍ أثناء حياته، وبموجب سندٍ قانونيٍّ آخر، أن يطلُب من الأوصياء إلغاء هذا السند، وإعادة ماله إليه. غير أن كل هذه المعلومات الحكيمة المُهمة كانت غامضةً على التائب، ولم يفهمها مالك المنزل ولا صاحبه.

الوصية كذلك، شُرِحت بالقدر نفسه من التفصيل. رأى العجوزُ ماتورين صاحبَ المنزل أمامه، ولما تذكَّر أفضالًا عرَضيةً نالها من ذلك الشخص، طلب أن يُعطى كلَّ شيءٍ في المنزل من مالٍ وسلع عند وفاته. لم يعترض الكاهن ولا المحامي على هذا؛ لأنه وضع صاحبَ المنزل تحت تعهُّدٍ بألَّا يكشف الأمر.

لو أُلغيت الوصية، فإن هذا الإرث، الذي يساوي حوالي ١٠٠ جنيه إسترليني، سيضيع عليه مثل الواشي. اقترح الأب أندروز على التائب أنَّ المحامي هو الآخَر ينبغي أن يرث شيئًا. ووافق التعِس العجوز المسكين على هذا. وتحدد لذلك مبلغ خمسين جنيهًا. شرع المحامي يقول، كما هو العُرف، إن هذا لم يكن ضروريًّا، لكن الكاهن أصرَّ، ودُوِّن المبلغ.

وُقِّعَت الوثائق العديدة وشُهِد عليها رسميًّا، وانسحبَ أبطالُ هذه القصة الحديثة الرائعة، في أقرب وقتٍ أمكنهم وهم يتظاهرون بالذَّوق والتهذُّب، ليُهنِّئوا أنفسهم بالنجاح الحاسم لمكيدتهم.

لم يكن توقيع السيد كاريه على هذه الوثائق بالمهمة الهينة؛ لقد أضعفه المرضُ أيما إضعاف، وأنهكه الكلام الذي قاله الأب المقدَّس بالفرنسية أيما إنهاك، لدرجةِ أن مُساعدته صارت ضرورية. فرفعَه الكاهن إلى أعلى وهو في فراشه، ووضع القلم في يده، وأسند ظهره بينما أخذ هو بوهنٍ ينقش على كلِّ واحدٍ من المستندات الثلاثة — سند الهبة، والتوكيل الرسمي، والوصية — اسمَ «ماتورين كاريه».

لكن الصفقة لم تكن عندئذٍ قد اكتملت تمامًا. لنفترض أن ماتورين كاريه مات قبل أن ينتقل مبلغ السبعة آلاف جنيه إسترليني من حيازته إلى حيازة الأوصياء. لو تصادف أن مات وهو يملك ما يُسمِّيه المحامون «الحق العيني» في هذا المبلغ، فسينتقل إلى أقرب واحدٍ من أقربائه. سيكون ثَمَّةَ سباقٌ عنيفٌ بين الموت، ظهير أقرب أقرباء كاريه، والسيد جون أثناسيوس كوك؛ خادم الكنيسة الكاثوليكية الإنجليزية الذي يؤدِّي مختلف المهام القانونية.

على الرغم من كل شيء، لم يكن اختيارُ الأبِ أندروز المساءَ للمشاورات مع ماتورين من حُسن الترتيب، مع أن اختياره قد نبع من تخطيطِ داهية. لقد حال دون عمل أيِّ شيءٍ في اليوم نفسه يُحتمل أن يكون ضروريًّا لإنفاذِ ما اتخذه البخيل من أفعالٍ خيرية. إن يومًا واحدًا، أو ساعة واحدةً أو — كما أثبتت النتائج — حتى بضع دقائق، كان من شأنها أن تحدد إن كانت الكنيسة الكاثوليكية ستأخذ السبعة آلاف جنيه، أم أن المال سينتقل قانونًا إلى أقرباء المتوفَّى.

لقد فعل السيد كوك كل ما بوسعه، «من أجل تنفيذ الأهداف الخيرية للموصِي»، على حدِّ تعبيره. ما من شيءٍ كان يمكن عملُه في بنك أوف إنجلاند يوم الخميس؛ الذي يوافق اليوم الثالث في قصتي. لا شيءَ عمليًّا كان من الممكن إنجازُه قبل يوم السبت؛ يومي الرابع.

في غضون ذلك، أجرى المحامي جميع الاستعدادات الضرورية. لم يكن من الممكن لشيءٍ أن يتفوَّق على يقظة هذا السيد المُثقَّف؛ ففي وقتٍ مُبكرٍ — تحديدًا الساعة العاشرة — من صباح اليوم التالي (يوم الجمعة)، ذهب في زيارةٍ، في عربة أجرةٍ، إلى البنك، برفقة سمسارٍ من سماسرة البورصة لا نزاع في استقامة مُعتقده، وتوسَّل إلى الموظفين ألَّا يُهدروا وقتًا في تنفيذ نقل الملكية. إنَّ موظفي الحكومة والشركة الذين يقومون بهذا العمل للولاية بُلداءُ بعض الشيء، أو مضبوطون على الحركة البطيئة. لكنَّ دفعَ أجرٍ إضافيٍّ يُنشطهم قليلًا. أما المحامي، فلِوَعيه التام بقيمة الوقت في هذه المرحلة، دفع «أموال الاستعجال» وعاد إلى بيته. لم يكن ثَمَّةَ بديل. لم يكن بإمكانه إلا أن ينتظر يومًا آخر، ويرجو أن يظلَّ العجوز خلال الفترة الفاصلة في صحةٍ جيدةٍ بما يكفي لئلا يموت، وبذلك يُلغي الباعثَ على المزيد من الجهد والمكر.

أثناء الفترة نفسها، كان كاريه يهوي سريعًا إلى هلاكه، ولم يُفكر الطبيب ولا الكاهن في مساعدته أو مواساته. لم يهتم أيٌّ من هذين السيدين بأن يُرسل له دواء، ولا بأن يُخفِّف عنه بصلاة. يبدو هذا خطأً فادحًا. إنَّ دواءً مُقوِّيًا، أو مُسكِّنًا، وبعض الطعام الطيب المُغَذِّي كان من الممكن أن يُطيلا حياته، إلى أن يكون المحامي، من دون أيِّ شك، قد أتمَّ عمله. وعجَّلت المحنة التي حدثت في اليوم الثالث من وقوع الأزمة. لقد أصبح عقله الآن أشبه بحُطامٍ تام. فكان أحيانًا يُقرِّر أن يرسل في طلب الكاهن ويطلب منه أن تُسلَّم له المُستندات، أو أن تُلغى أمام عينَيه؛ لكنه كان بعد ذلك مباشَرةً يتوب عن الفكرة، ويستمدُّ إحساسًا هزيلًا بالابتهاج من اعتقادٍ جزئي بأنه قد استرضى الربَّ بالإذعان لحِيَل الكاهن. على هذا النحو اجتاز ماتورين كاريه يوم الجمعة، لكنه كان يزداد اقترابًا ساعةً بعد الأخرى من نهايته. واقترب يوم السبت.

شهد يوم السبت، السادس من شهر مارس، عام ١٨٤٧، اكتمال الحيلة الكهنوتية.

استيقظ المحامي من نومه القلِق في ساعةٍ مبكرة؛ ولم يكن قد نام إلَّا القليل في تلك الليلة. لم ينل المحامي ما يناله أيُّ كاهنٍ من التمرين الطويل منذ كان شابًّا غيرَ ناضجٍ وحتى تمام سنِّ الرجولة كي يحجب تَعاطُفَه الفطري، ويُعتم على بصيرته أو يُشوِّهها، ويمنع نفسه من رؤية هذا العمل البغيض في مظهره ووضعه الحقيقيَّين. لو لم يكن بالفعل قد تمادى في فعله إلى حدٍّ بعيد، لَتراجع عنه؛ لكنه كان يظن أن هذا قد صار مُستحيلًا الآن. فبِصرف النظر عن العداء الذي كان سيجنيه من أولياء نعمته لو فعل هذا، والفقر الذي سينجم عن ذلك والذي سيتحتَّم عليه أن يواجهه، فقد رأى أنَّ اتخاذ مثل هذا المسلك سوف يضعه في خطرٍ من افتضاح أمره. كان الأمان، أو احتمالية تفادي اكتشاف أمره، موجودَين الآن، من دون ريبٍ، في الاتجاه الذي يُتوقَّع منه أن يسلكه. لم يكن ثَمَّةَ مسارٌ سالكٌ، فعليًّا، غير ذلك الذي كان يسلكه.

بحلول العاشرة من صباح ذلك اليوم كان في مكتب أحد سماسرة البورصة، في أحد الشوارع الضيقة في المدينة. لم يكن ذلك السيد قد وصل بعد، ولم يكن يُتوقَّع أن يصل، من بيته المُبهج الواقع في ضاحية المدينة، قبل ساعةٍ أخرى على الأقل.

ها هو، من جديدٍ، تأخير يدعو إلى الغيظ. كانت الحياة تنحسر سريعًا عن ذلك العجوز البائس في سومرز تاون، وفي خضم نفاد صبره، أطلع المحامي الكاتبَ الجالس على أحد المكاتب على أكثر ممَّا ينبغي له أن يُطلِعه عليه من الأسرار؛ لدرجةِ أنه أوضح له أن «الأهداف الخيرية للمُوصِي» قد تبطُل إذا لم يصل السمسار قريبًا.

أخيرًا جاءت عربةُ سمسار البورصة حاملةً ذلك السيدَ المُهم إلى باب مكتبه. كان السيد كوك واقفًا على العتبة، فرآه وهو قادم. بينما الرجل يُطلُّ من العربة أقحمه المحامي فيها مرةً أخرى، وركبها هو الآخر.

قال المحامي للسائق، الذي كان يعرف الطريق جيدًا جدًّا: «إلى مكتب التحويل المصرفي.»

قُدِّمت للسمسار بعضُ الكلمات لإيضاح الأمر، وقبِلها الرجلُ بوصفها اعتذارًا عن هذا الاستعجال غير اللائق.

في ظرف دقيقتَين أو ثلاثٍ على الأكثر وصلت العربة إلى البنك. لا أستطيع أن أُحدِّد كم استغرق إتمام عملية نقل الملكية؛ لكن في الساعة الواحدة والنصف كان ذلك الإجراء المُهم حقيقةً واقعة.

ارتسم قلق شديد على ملامح المحامي عند خروجه من بنك أوف إنجلاند. تُرى هل كان ماتورين كاريه لا يزال حيًّا؟

سؤالٌ جوهري! هل سبق الموتُ واعترض سبيل الكاهن والمحامي؟ ماذا لو أخفقت المكيدةُ كلها في المرحلة الأخيرة؟ الفضيحةُ والإفلاس له، والعار والأذى للكنيسة. لقد عاقب الضميرُ السيدَ كوك عقابًا مُوجعًا ذلك اليوم.

عندما توقَّف ليُفكر في الأمر لحظةً، مرَّت به عربةُ أجرةٍ فارغة. استوقفها المحامي، وطلب من السائق أن يتَّجه بأسرع ما يُمكنه إلى شارعٍ معينٍ في سومرز تاون. ولمَّا كان الحصان من الخيول الجيدة، فقد جرى على الأرض بسرعةٍ تسُرُّ مسافرًا يسافر بالسكة الحديدية، لكنها سرعة عدَّها السيد كوك برغم ذلك شديدة البطء.

بعد مدةٍ معقولةٍ وصلت العربةُ إلى مسكن البخيل.

ترجَّل المحامي من العربة، وطرَق الباب. فتح له مالكُ المنزل شخصيًّا.

«لقد مات يا سيدي.» كان هذا هو الرد على سؤالٍ لم يُنطق.

«كم مرَّ على موته؟»

«ساعةٌ تقريبًا يا سيدي.»

«هل أنت متأكد؟ لا يمكن أن يكون مرَّ وقتٌ طويلٌ جدًّا هكذا.»

«ربما ليس تمامًا. ربما مرَّ أكثر من هذا، أو أقل منه.»

يا لشدة التشويق! من الذي يمكنه أن يشكَّ في أن المحامي أحسَّ بقليلٍ من الإثارة. يا لسوء حظ الكنيسة؛ إذ لم يعِشِ الرجل العجوز لساعةٍ أخرى مثلًا! لربما تمكَّن الشهود عندئذٍ من رؤيته وهو على قيد الحياة؛ لِنَقُل لنصفِ ساعةٍ تقريبًا أو نحو ذلك «بعد» الانتهاء من نقل ملكية ماله. يا لسوء حظِّ أقارب البخيل المُعوزين الذين في فرنسا أولئك عندما لم يمُت قبل هذا بساعة، بحيث يكون من الواضح أنه كان جثةً عندما تمَّ نقل الملكية! ساعة واحدة أكثر أو أقل، كتلك الساعات التي كان يتألف منها ما تبقى من عمره، لم يكن من الممكن أن تكون ذات أهمية للبخيل المنفي الوحيد.

بُذلت جهودٌ عجيبةٌ فيما بعد لإثبات أن كاريه قد لفظ أنفاسه الأخيرة بالفعل قبل إتمام نقل ملكية المال. كما بُذلت جهودٌ مماثلةٌ لإثبات أنه ظلَّ على قيد الحياة أثناء تلك العملية، التي لم يكن، بالتأكيد، يدري بها. إن أفضل الأدلة في ظني قد أسفر عن إثبات أن النفَس الأخير، في الحقيقة، قد غادر جسدَه الواهنَ، وأن نبضَه توقَّف عن الخفقان، بحسب أقرب تقديرٍ ممكن، قبل عشر دقائق تقريبًا من إتمام نقل الملكية.

•••

انتهى خيطُ قصتي الأساسي، لكن ثَمَّةَ بضعة أحداث تستحق بذل الجهد لإضافتها كتَتِمَّة لهذه القصة الغريبة والحقيقيَّة. لم يرضَ مالكُ المنزل وصديقُه عن الأحداث التي وصفتُها؛ لذلك، وبعد أسبوعٍ أو أسبوعين، كتب الأولُ رسالةً إلى أحد أقارب المُتوفَّى، وقصَّ له القصة قدْر استطاعته. جمَّع أفرادُ الأسرة مواردهم الماليةَ الضئيلة، وفوَّضوا واحدًا من طائفتهم — أحد أبناء أخت ماتورين كاريه، يُدعى فرانسوا ميتاريه، كان قد أصبح معروفًا في السجلات القانونية لهذا البلد — ليزور إنجلترا ويُحقق في الأمر. مسكينٌ هذا الرجل، لم يكن كفؤًا للمهمة. عندما زار ميتاريه المحاميَ، الذي حصل على عنوانه من مالك المنزل، أكَّد له ذلك السيد، على طريقة اليسوعيين، على الحقيقة البحتة التي تقول — بافتراض أن كاريه قد تُوفِّي قبل إتمام نقل الملكية — إنه مات ولا يملك سوى ٣٠٠٠ جنيه. كثيرون من الدُّهاة في لندن أخبروا ميتاريه كذلك أنه حتى لو كان من الممكن إبطالُ سند الهبة، فليس هو مَن يستطيع تحقيقَ ذلك؛ لأنه فقير، وجهاز إدارة محاكم العدالة عندنا لا يمكن أن يُوظَّف لصالح أحدٍ، إذا كان ذلك ممكنًا، إلا على أيدي الأغنياء. رجع الفرنسي الأُميُّ إلى فرنسا. لكن الأسرة ظلَّت رافضةً للتخلِّي عن الأمل في استعادة حقِّها. ظل ميتاريه يُعاود المجيء إلى هنا، بما لا يقل عن ستِّ مرَّات، إلى أن تولَّى القضية أخيرًا محامٍ بارز، وأقام دعوى في محكمة كورت أوف تشانسيري لإبطال السند تأسيسًا على عدة أسباب، لكن كان السببُ الأساسي هو الاحتيال. لقد وُظِّفتُ للتحقيق في القضية، ولم أستغرق وقتًا طويلًا في حيازة ما يكفي من الحقائق لإثبات اعتقادٍ — في عقلي أنا، وعقل مُستخدِميَّ المباشرين — بأن لعبةً قذرةً قد مُورِست على الرجل المُحتضَر أو أقاربه.

غير أن الفضل الأساسي في هذا الاكتشاف يعود إلى واحدٍ من النبلاء المرموقين، كان قد قدَّم خدمةً نبيلةً لهذا البلد، وهو اللورد بروم، الذي يمتلك قصرًا في جنوب فرنسا. لقد تعرفَتْ عليه أسرةُ كاريه. وسمع اللورد بروم قصتهم، وأدرك الاحتيال، وعرف كيف يمكن التغلُّب عليه. لقد أقنع هذا المحامي، الذي استعان بي، بتولِّي القضية، وأنه ما من شكٍّ في أن المال كله كان من الممكن أن يُستردَّ لو أن أفراد أسرة المتوفَّى لم يستسلموا. لكنهم ذاقوا شيئًا، ربما، خلافَ ما توقَّعوا أن يلحق بهم من أيدي جماعة الكهنة وأيدي العامة في فرنسا. كان فرانسوا ميتاريه يعمل ناسجًا على نوْلٍ يدوي في مقاطعة لا ماين، بالقُرب من منطقة بريتاني. كانت لديه عائلةٌ كبيرة، وقد عرَّضه الدور الذي أدَّاه في هذا الأمر لاضطهادٍ مرير؛ ففُصِل اثنان من أبنائه من المدرسة العامة. كان الناس يُشيرون إليه في الشوارع، وكانت زوجته تُسَبُّ على رءوس الأشهاد. كان يُطلق عليه «رجل سيئ»، وصارت الحياةُ لا تُطاق بالمرة لدرجة أنه أُقصي في النهاية من فرنسا، واضطر للبحث عن مأوًى وموردِ رزقٍ في هذا البلد. بهذه الطريقة أُقنِع أفرادُ أسرة البخيل بقبول تسويةٍ بشأن الدعوى. كانت التسوية تتمثَّل في حصول أفراد الأسرة على مبلغٍ من المال أكثر من سابقه؛ ٤٥٠٠ جنيه إسترليني، على أن يُسمح للكاهن وفريقه بالاحتفاظ بالبقية.

فيما يتعلق بالمحامي ربما يكون من الجيد القول إن العدالة المثالية قد أدركَته؛ إن اللَّوم الذي لحِقه من أعضاء جمعية المحامين، والذين اكتشفوا حقيقة انحرافاته من خلال هذه الأحداث، واستنكار السيد بيثل (رئيس مجلس اللوردات والرئيس الأعلى للقضاء) في جلسةٍ علنيةٍ أثناء التحقيق، واللعنات التي حلَّت عليه من العامة؛ كل هذا ألزمه فراش المرض، وعجَّل بموته، إن لم يكن تسبَّب فيه. أما بشأن الكاهن، فربما يكون من الجيد أيضًا توضيح أنه اضطر أن يتحمَّل لمدةٍ من الوقت في سومرز تاون معاملةً شبيهةً تمامًا بالتي كابدَها فرانسوا ميتاريه في مقاطعة لا ماين؛ فكان الناس يُشيرون إليه في الشوارع، ويتكلمون عنه بطريقةٍ لا علاقة لها بالمدح أو الأدب. كان العامة من سكان هذه المنطقة المُجاهرة بمشاعرها ينظرون إليه على أنه «رجل سيئ» تمامًا، وعندما كانوا يقولون له هذا، كما كانوا يفعلون في أحوالٍ كثيرة، كانوا يُضيفون إلى رأيهم أوصافًا لا تصلح للنشر في هذه الصفحات. كانت النتيجة أنْ رأى رؤساؤه الكنسيون أن من المُستحسَن أن يُنقل إلى موقعٍ آخر؛ موقعٍ لا يكون فيه حماسُه للكنيسة قد اكتسب هذه السمعة السيئة. أتى المسكين فرانسوا ميتاريه بزوجته وأولاده جميعًا إلى لندن، وبدأ يعمل إسكافيًّا، وعن طريق العمل الشريف في هذه الأرض الحرة السعيدة أصبح قادرًا على إعالتهم بصورةٍ كريمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤