إبراهيم عبد القادر المازني ناقدًا

١

كان المازني — مع العقاد وشكري — رائدًا للتجديد الأدبي عامة، والشعري بخاصة، في النصف الأول من هذا القرن، ومع ذلك فما أبعد البَوْن بين مِزاج كلٍّ من هؤلاء الثلاثة واتجاهه، فإذا كان العقاد مفكِّرًا عنيدًا يعرف ما يريد ويثبت عنده في الغالب الأعم، وكان شكري منطويًا يستبطن ذاته ولا يملُّ الغوصَ في أعماقها، فإنَّ المازني يُعتبَر بلا ريبٍ فنانَ هذا الثالوث؛ إذ كان أعنفَ الثلاثة انفعالًا وإسرافًا وتقلُّبًا بين عواطفه المهتاجة في صدر حياته وقبل أن يستوي على فلسفة ساخرة في الحياة، حتى ليصحَّ القول بأن حياة المازني تنقسم قسمَيْن لا تبدو عند النظرة السطحية أية علاقة بينهما، وكان المازني نفسه شديد الإحساس بهذا الانقلاب الذي تم في حياته، حتى لنراه يؤكِّده في شعره؛ حيث يقول في إحدى قصائده:

إني أراني قد حلت وانتسجت
مع الصبا سورة من السورِ
وصرت غيري فليس يعرفني
إذا رآني صباي ذو الطررِ
ولو بدا لي لبتُّ أُنكره
كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا
في العيش إلا تشبُّث الذكرِ
مات الفتى المازني ثم أتى
من مازن غيره على الأثرِ

وإذن فقد كان هناك مازني قديم نجده في شعره، وفي معاركه النقدية بنوع خاص، ثم مازني حديث؛ حيث نجده في قصصه ومجموعات مقالاته، وهو المازني الثائر الساخر، وإن لم يكن من الصحيح أن المازني القديم قد مات عن آخره ولم يخلف شيئًا من المازني الحديث؛ فكثيرًا ما يحتل المازني القديم الحديث، ويأخذ الاثنان في العراك والتنابُذ، كما يحدث أن يجلس المازني الحديث وأمامه شبح المازني القديم أو شخصه ثم يتحاور الاثنان، وإن كان الجديد هو الذي يقود الحوار ويسلخ القديم بألسنةٍ حداد. وأكبر الظن أن المعارضة التي نقرؤها بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم المازني في مقدمة تلك القصة (قصة إبراهيم الكاتب)، إنما هي معارضة بين المازني الجديد والمازني القديم أو شبحه الذي لم يَمُت عن آخِره كما قلنا.

على ضوء هذه الحقيقة الكبيرة نستطيع أن نفسِّر، بل إن نبرِّر ما في آراء وأحكام المازني النقدية من تناقُض بل استنكار؛ فالمازني الجديد كثيرًا ما تنكَّر للمازني القديم وأنكره، وودَّ أنْ لم يَكُنْه، ولو جاريناه في هذه الرغبة لَوقفنا من دراستنا له كناقد عند هذا الحد، ولكننا نأبى أن نسلِّم بما أراد؛ فقد كان المازني أرهفَ حسًّا وأوسعَ ثقافةً من أن نهمل ما يريد أن نهمله من نقده؛ أيْ من النقد الذي كتبه المازني القديم قبل أن يحاول نسخة المازني الجديد.

الشعر؛ غاياته ووسائله

يقول العقاد والمازني في خاتمة المقدمة التي كتباها للجزء الأول من الديوان: «وقد مضى التاريخ بسرعة لا تتبدَّل، وقضى أن تحطِّم كلُّ عقيدة أصنامًا عُبِدت قبلها، وربما كان نقد ما ليس صحيحًا أوجب وأيسر من أن نقدِّم تحطيم الأصنام الباقية على تفصيل المبادئ الحديثة، ووقفنا الأجزاء الأولى على هذا الغرض وسنردفها بنماذج من الأدب الراجح من كل لغة، وقواعد تكون كالمِسبار وكالميزان لأقدارها.»

ولكن لسوء الحظ لم يُتِمَّ الكاتبان الأجزاءَ العشرة التي كانت مقدَّرة للديوان، ولم يظهر منه غير الجزأين الأول والثاني، اللذين حاولا فيهما تحطيم شوقي والمنفلوطي، ثم زميلهما عبد الرحمن شكري، ولكننا لحُسْن الحظ نستطيع إلى حدٍّ ما أن نستجلي رأيهما في الأدب والشعر الصحيحَيْن من بعض كتاباتهما الأخرى، ومن بين هذه الكتابات كُتَيِّب نشره المازني في سنة ١٩١٥م باسم «الشعر: غاياته ووسائله»، على ورق جرائد في أربع وأربعين صفحة من القطع الكبيرة، وفيه يبسط نظريةً في الشعر تجمع بين رومانسية المضمون ورمزية التعبير، وهي النظرية التي نادت بها جماعة التجديد كلها في خطوطها العريضة، إذا أردنا أن نلخِّصها في اصطلاحات مذهبية، فهو يؤكد أن الشعر ليس تصويرًا، وأن مجاله هو العواطف، وأن اللغة قاصرة بحيث يصبح لزامًا على الشاعر أن يلجأ إلى الرمز والإيحاء عن طريق الصور الشعرية أو الأنغام الموسيقية. هي نظرية سبق أن فصَّلنا القول فيها عند حديثنا عن زميلَيْه «شكري والعقاد» في هذه السلسلة، وإن يكن له فضلُ محاولةِ بلورةِ هذه النظرية منذ وقت مبكر في بحث مطرد متماسك، ويا حبذا لو أُعِيد طبع هذا الكتاب كوثيقة قيِّمة في تاريخ نقدنا المعاصر.

وعصارةُ هذا الكتاب هي أن الهدف الأول والأسمى في التجديد الذي كانت تدعو إليه تلك المدرسة، هو: الصدق في الإحساس، والصدق في التعبير، حتى ليُعرِّف المازني نفسُه الشعرَ بقوله: «إنه خاطر لا يزال يجيش بالصدر حتى يجد مَخْرَجًا ويصيب مُتنفَّسًا.»

ومعنى ذلك أن الشاعر لا يقول الشعر بعمل إرادي، وفي موضوع يختاره من التاريخ أو من حياة الناس المعاصرين له، وإنما يقوله عندما تجيش الخواطر في صدره، وتتلمس لها مخرجًا فتنطلق من نفسه شعرًا غنائيًّا شخصيًّا، وبذلك تنحصر وظيفة الشعر في التنفيس الشخصي عن قائله. ومن البديهي أن هذه النظرة تضيق عن أن تتَّسِع لألوان أخرى من الشعر الوطني والدرامي والموضوعي الذي يمكن أن يعبِّر عن آمال الآخرين وآلامهم، بل قضايا الشعوب، وتفسير هذا القصور تستطيع أن تجده فيما أوضحناه في مقالاتنا السابقة، من أن دعوة التجديد التي ظهرت في أوائل هذا القرن قد ظلت محصورةً في نِطاق شعرنا التقليدي الذي يُعتبَر شعرًا غنائيًّا، وأن اتجاه هذا التجديد كان نحو الوجدان الفردي في وقتٍ شَعر فيه أولئك الشبَّان بالحاجة الماسَّة إلى التعبير عن ذاتهم والتنفيس عمَّا كربتهم به الحياة.

المازني وحافظ إبراهيم

وإلى السنة نفسها أي سنة ١٩١٥م يرجع كُتَيِّب آخر نشره المازني بعنوان «شعر حافظ»، وقد ضمَّنه مقالات عدة في نقده، نشر بعضها في مجلة «عكاظ»، ويؤكد المعاصرون أن هذا الكُتَيِّب قد أثار حافظًا ثورةً كبيرة دفعته إلى أن يكيد للمازني بأن يستخدم نفوذه عند حشمت باشا ناظر المعارف عندئذٍ لكي يُنكِّل بالمازني، فينقله من المدرسة الثانوية التي كان يعمل بها إلى مدرسة دار العلوم ليعلِّم مبادئ اللغة الإنجليزية للمبتدئين، مما دفع المازني إلى أن يستقيل من وظيفته الحكومية ليعمل في الصحافة بعد ذلك طوال حياته.

وفي خاتمة كتاب «حصاد الهشيم» الصادر في سنة ١٩٢٤م متضمنًا مجموعة كبيرة من مقالات ودراسات المازني الرائعة، نراه يتنكَّر لهذا الكُتَيِّب، ويود أنْ لم يكتبه فيما عدا مقدمته التي نقلها في «حصاد الهشيم»، وقد فسَّر المازني هذا التصرف في الخاتمة المشار إليها بقوله:

ويرى القارئ في كتابي هذا مقالًا كان في الأصل مقدمة لكتابٍ جمعتُ فيه ما نقدتُ به شعر حافظ منذ أكثر من عشر سنين، وللقارئ الحق في أن يستغرب أن أنقل مقدمةَ كتاب مطبوع وأن أدسَّها هنا؛ لهذا السبب لا أرى بأسًا من إيضاحه؛ جمعت فيما مضى نقدي لشعر حافظ وطبعته ونشرته، وبعت منه عددًا ليس بالقليل، ثم أخذ الشُّراة يُبطِئون عليَّ فضِقْتُ ذرعًا بما بقي من نسخه، فحملتها إلى بقَّال رومي اشتراها مني بالأقة! وعزَّيت نفسي عن ذلك بقولي لنفسي إن جبن ابن الرومي وزيتونه أحق بهذا النقد.

ثم يروي كيف أن صديقًا جاءه وهو مريض ينبِّهه إلى أن كان كاتبًا قد سطا على نقده لحافظ، وأنه قد أجاز لهذا السارق أن يسرق الكُتَيِّب كله مُردِفًا قوله:

إني لَأستحي يا صديقي أن أنبِّه إلى سطو صاحبنا المتلصِّص على نقدي مخافةَ أن يتنَّبه الناس إلى ما أرجو مخلصًا أن يكونوا قد نسوه، من أني أنا كاتب ذلك الهراء القديم! ومن أجل هذا أهب لصَّنا ما عدا عليه وبزَّني إياه، وما أسهل أن يهب المرء غير شيء! فضحك صاحبي وانصرف! وخطر لي بعد أن وهبتُ النقدَ لسارقه أن أستنقذ المقدمة.

فهل صحيح أن هذا كله هراء كما زعم المازني، أم هي عواطفه الجائشة المتقلبة التي خيَّلت إليه ذلك؟ أم أن المازني الجديد قد أراد هنا أيضًا أن يتنكَّر للمازني القديم؟

وبالرجوع إلى مقدمة هذا الكُتَيِّب الذي يقع في ستين صفحة من القطع الكبير، نجد أن المازني يبرِّر نقده العنيف لحافظ تبريرًا معقولًا، فيقول: «كتبنا هذا النقد منذ عام ونشرناه تباعًا في «عكاظ»، ولم يكن الباعث عليه كما حسب بعضُهم ضغينةً نحملها للرجل أو عداوةً بيننا وبينه، وكيف يكون شيء من ذلك ولا علمَ لنا به ولا صداقة، ولا نحن نرتزق من الكتابة والشعر أو نزاحمه على الشهرة؛ لأن ما بيننا من تبايُن المذهب واختلاف المنزع لا يَدَع مجالًا لذلك، ولكنني لسوء الحظ أجد مَن يُمثِّلون المذهب الجديد الذي يدعو إلى الإقلاع عن التقليد والتنكُّب عن احتذاء الأولين فيما طال عليه القِدَم، ولم يَعُد يصلح لنا أو نصلح له، أقول لسوء الحظ بأنه لو كان الناس كلهم يرون رأينا في ضرورة ذلك، وفي وجوب الرجوع عن خطر التقليد، لربحنا من الوقت ما نخسره اليومَ في الدعوة إلى مذهبنا ومحاولة رد جمهور الناس عن عادةٍ إذا مضوا عليها أفقدتهم فضيلةَ الصدق ومزية النظر، وهما عمادُ الأدب وقوامُ الشعر والكتابة.»

ولكن المازني كان لديه أكثر من سبب لكي يتنكَّر لهذا الكُتَيِّب، وأولها أن يستهل بموازنة بين شكري وحافظ يومَ كانت العلاقة لا تزال طيبة بينه وبين شكري، ولكن هذه العلاقة لم تلبث أن فسدت فسادًا عنيفًا جعل المازني يطهِّر جماعةَ التجديد من شكري الذي يُسمِّيه كما سنرى «صنم الألاعيب» في الجزأين اللذين ظهرا من الديوان، ويبلغ في هجومه على شكري حدَّ اتهامه بالجنون وهذيان الحواس، فضلًا عن هبوط الملَكة الشعرية، وبذلك ناقد نفسه بنفسه، وها هو مطلع تلك الموازنة وبيان أساسها العام كما صاغه المازني في أولى مقالاته في هذا الكُتَيِّب:

لا نجد أبلغ في إظهار فضل شكري والدلالة عليه، وبيان ما للمذهب الجديد على القديم من المزية والحسن، ومن الموازنة بين شاعر مطبوع مثل شكري وآخَر ممَّن ينظمون بالصنعة مثل حافظ بك إبراهيم، فإن الله لم يخلق اثنين هما أشد تناقضًا في المذهب وتباينًا في المنزع من هذين، والضد كما قيل يُظهِر حُسنَه الضد، حافظ رجلٌ نشأ أو ما نشأ ما بين السيف والمدفع، من أجل ذلك ترى في شعره شيئًا من خشونة الجندي وانتظام حركاته واجتهاده، وضَعْف خياله وعجزه عن الابتكار والاختراع والتفنُّن، ولعل هذا السبب أيضًا في أن حافظًا لا يقول الشعر إلا فيما يسأل القول فيه من الأغراض، بَيْدَ أنه على ما به من ضِيق في المضطرب، وتخلُّف في الخيال، كان أفصحَ لسانٍ تنطق به الصحف، وأقدرَ الناس على نَظْم معانيها وتنضيد أخبرها وتنسيق فِقَرها، لو أن هذا مما يُحمَد عليه الشاعر أو أن في هذا فخرًا لأحد، شاعرًا كان أو غير شاعر. وأما شكري فشاعر لا يصعد طرْفُه إلى أرفع من آمال النفس البشرية، ولا يصوِّبه إلا إلى أعمق من قلبها، ذلك دأبه ووكده، وهو لا يبالغ كحافظ في تحبير شعره وتدبيجه، بل حسبه من الوشي والتطريز أن يُسمِعك صوت تدفُّق الدماء من جرح الفؤاد، وأن يُفضِي إليك بنجوى القلوب والضمائر، وأن يُرِيك عيون الندى على خدود الزهر، وافترار ضوء القمر عن مكفهر القبور، ووميض الابتسامات في ظلام الصدور، وأن ينشقك نسيم الرياض وأنفاس السحر، وأن يُشعِرك هزةَ الحنين ودفعة اليأس والأمل، وأن يغوص بك في لُجَج الفكر.

ثم يمضي المازني في هذه الموازنة خلال ثلاث مقالات يورد فيها أبياتًا لشكري، وأخرى لحافظ، في معانٍ وأغراض متقاربة، مُفضِّلًا شكري على حافظ، حتى إذا فرغ من هذه الموازنة التي تسقط فيها مواضع ضَعْف حافظ وتبريز شكري مما دفع بعض القرَّاء فيما يظهر إلى اتهامه بأنه يغفل دائمًا جيدَ حافظ ليستشهد برديئه، أخذ يتهم حافظًا بأن جيده مسروق من القدماء، وبالفعل كتب عدة مقالات فيما سمَّاه «سرقات حافظ»، وهي سرقات مُدَّعاة، تعسَّفَ المازني في معظمها تعسُّفًا ظاهرًا، ونكتفي في التدليل على ذلك بأول سرقة زعم المازني أنه قد ضبطها، وهي قول حافظ:

جنيتُ عليكِ يا نفسي وقبلي
عليكِ جنى أبي فدَعِي عتابي

إذا يدَّعي بأنه مأخوذ من قول المعري:

هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيتُ على أحد

رغم الاختلاف الواضح بين معنى البيتين؛ إذ يجادل حافظ نفسه، بينما يقرِّر المعري حقيقةً يشكو منها ويتبرم بها، وقد أصبح معنى المعري مجرد جزء من مجادَلة حافظ لنفسه.

وأمَّا الذي يستحق النظر والإفادة منه في هذا الكُتَيِّب، فهو المقالات الأخيرة التي تناوَلَ فيها المازني بعض أبيات وقصائد حافظ بالنقد التطبيقي والتفصيلي؛ مثل: نقده لقصيدة حافظ في زلزال مسينا؛ حيث يلتقط عدة أخطاء في الذوق الإنساني الشعري لحافظ، بل في اللغة ذاتها، مثل قول حافظ:

فإذا الأرض والبحار سواء
في خلاق كلاهما غادران

الذي يعلق عليه المازني بقوله إنه قد أخطأ في قوله غادران خطأ لا يُغتفَر؛ وذلك بأنه لا يصح أن تقول محمد وعلي كلاهما مُصِيبان أو غادران، بل الصواب أن تقول مصيب أو غادر، ثم يستشهد على ذلك بعدة أبيات من الشعر القديم، مثل قول ابن الرومي في الهجاء:

إنَّ أبا حفص وعثنونه
كلاهما أصبح لي ناصبًا

في رأينا أن الكثير من ملاحظات المازني الجزئية في هذه المقالات الأخيرة من الكُتَيِّب يستحق الاعتماد، كما أنه مما يشهد للمازني بالفطنة وسلامة الذوق وسعة المعرفة بالشعر، جيده ورديئه، وبذلك نخلص إلى أن هذا النقد لا يمكن اعتباره كله هراء كما زعم المازني، وإن يكن العنف والتحامل والإسراف واضحةً في الكثير من أجزائه.

المازني وشكري

رأينا المازني — في كُتَيِّبه السابق عن شعر حافظ — يعتبر شكري شاعرًا مطبوعًا يمثِّل مذهبهم الجديد أصدقَ تمثيل، ولكن العلاقة لم تلبث — كما قلنا — أن فسدت بين الرجلين بعد أن عاب شكري على المازني انتحالَه لبعض الأشعار الإنجليزية، وبخاصة من مجموعة «الذخيرة الذهبية»، الواسعة الانتشار، ويرى في ذلك إساءةً لدعوة التجديد كلها؛ مما أحفظ عليه المازني، فهاجَمَه هجومًا عنيفًا في الجزء الأول من الديوان، تحت عنوان «صنم الألاعيب»، وأخذ يشكِّك في سلامة عقله، مستدلًّا بعدد من أبيات شكري التي وردت فيها كلمة الجنون، مع أنه من الثابت علميًّا أن المجنون لا يحس بجنونه، وعلى العكس من ذلك يؤكِّد دائمًا أنه أعقل العقلاء. والظاهر أن الرأي العام قد أنكر عندئذٍ على المازني هذا الهجومَ العنيف على زميله في المذهب، بل على تناقُضه في الانتقال العنيف من الإشادة بشكري كما رأينا، إلى شنِّ هجوم عنيف ظالم عليه؛ حتى رأينا المازني يحاول تبريرَ موقفه في الجزء الثاني من الديوان، وإن يكن قد عاد فيه إلى مهاجَمة «صنم الألاعيب» من جديد، فيقول:

كتبنا كلمةً أولى عن شكري أرضت اثنين: أهل المذهب العتيق البالي الذين كانوا يأبَوْن إلا أن يعدُّوا شكري من دعاة الجديد، وإلا أن يحسبوه علينا ويأخذونا بشعره، ولكن هؤلاء سخطوا من حيث رضوا، ولم يرقهم أن نميط الأذى عن المذهب الجديد، وننفي عنه وخامة شكري، وليس يعنينا أمرهم ولا نحن نبالي سخطهم من رضاهم، فإنهم في رأينا جثث محنطة.

ثم يقول:

مسكين هذا الصنم، لا يعرف لبكمه ماذا يقول، ويتطوَّع المشفقون عليه للدفاع عنه، فيجيء دفاعهم أقتلَ له من نقدنا، وينقمون منَّا أنَّا جعلناه صنم ألاعيب، وهم يسخرون منه ويتضاحكون به، وماذا يُجدي ذَوْدهم عنه؟! لقد كنا وكان شكري نخلص له ونمحضه الرأي والسداد، ونشجعه ونغتبط بما نراه من تململه من قيود العهد القديم، ونعتدُّ ذلك منه رغبة صادقة في التحرُّر، ويجري مع الأمل فيه، فهل كان علينا أن نظل العمرَ طامعين في غير مَطْمع؟ ثم أهملناه على شيء من اليأس منه، ثم تخشَّنَّا له وعنَّفنا عليه في الزجر، فلم يُغْنِ لا الإغضاء ولا اللين ولا العنف، وظل طادرًا راكبًا رأسه حتى أحفاه! ولقد كنا في كل ما كتبناه عنه في أول عهده بقرض الشعر لا نغفل إلى جانب التشجيع أن ننبِّهه إلى عيوبه، فقلنا عنه لما صدر الجزء الثاني من ديوانه: إنه يطأ مفاخر الصنعة بقدمَيْه، وإنه لا يتعهد كلامه بتهذيب أو تنقيح، ولا يبالي أي ثوب ألْبَسَ معانيه، وعلَّلنا يومئذٍ جموحَه هذا بأنه نتيجة طبيعية لتمادي الشعراء في المنهج القديم، ولحاجتهم في احتذاء المثال العتيق؛ أيْ إنه نتيجةُ ردِّ فعلٍ؛ فهو تطوُّحٌ وتطليق للعقل يقابلهما من الجهة الأخرى غطيطُ المقلِّدين في كهف الماضي، وكان ذلك سنة ١٩١٣م، فهل يرى أحدٌ أن رأى اليومَ لا يتفق مع الرأي الأمس إنْ صح أن هناك رأيَيْن؟ كلا، لقد أدَّينا الواجب له قديمًا، ولكننا اليومَ نؤدي حقَّ الأدب وحده.

ومن الواضح أن المازني يغالط في هذا الدفاع الملتوي عن تناقُضه، ويكفي أن نلاحظ أنه يعتبر عدمَ الاحتفال بالألفاظ والصياغة اللغوية عيبًا في الديوان، بينما كان يراها فضلًا في كُتَيِّبه عن شعر حافظ؛ حيث يقول: «إن شكري لا يبالغ كحافظ في تحبير شعره وتدبيجه، بل حسْبُه من الوشي والتطريز أن يُسمِعك صوتَ تدفُّق الدماء من جراح الفؤاد.»

وعلى أية حال، فإن المازني لم يقصد في الجزء الثاني من الديوان إلى نقد شعر شكري بالحق أو بالباطل، بل قصر همَّه كما في الجزء الأول على إيهام شكري وإيهام القراء بأن شاعرنا العظيم مجنونٌ بهوس الحواس، ولم يقتصر في هذا المقال الثاني على الاعتماد في تأييد دَعْواه على شعر شكري، بل استند أيضًا على الكُتَيِّب الرائع الذي كتبه شكري، على لسان صديق مجهول بعنوان «اعترافات مجنون»، فراح يزعم أن هذا الصديق ما هو إلا شكري نفسه، بل حاول أن يزيد هذا الادِّعاء تأكيدًا بالاستناد إلى مسرحية صغيرة كان شكري قد كتبها أيضًا بعنوان «الحلَّاق المجنون»، ومن البيِّن أن كل هذا لا يُعتبَر من النقد الأدبي في شيء، بل هو تجريح شخصي أصاب المازني والعقاد شاكلة الحق عندما اعترفا في السنوات الأخيرة بأنهما قد ظلما شكري، واعترفا بقيادته لهما في دعوة التجديد، وفي وصلهما بالشعر الغربي عامةً والإنجليزي بخاصة. بذلك نستطيع أن نؤكد أن حملة المازني العنيفة على حافظ كانت أقرب إلى النقد الأدبي، أراد المازني أم لم يُرِد من حملته على عبد الرحمن شكري، وإن كنا لم نستطع إغفالَ ما في حملة المازني على حافظ أيضًا من شطط يستطيع كل قارئ أن يحس به في مثل قوله في ص١٤ من كُتَيِّبه عن «شعر حافظ»: «لو كان للأدب حكومة تنتصف له من المسيء وتكافئ المحسن، لَكان أقلُّ جزاءِ حافظ على ما ارتكب من الشعر، أن يبتاع ما اشتراه الناس من كتبه ثم يحرقها بيده؛ لأن شعرَه جنايةٌ على الأدب، وأنت فقط تعلم أن من الشعر ما يكون آثِمًا، ومنه ما هو بريء صالح، أمَّا الآثِم فذلك الذي يُفسِد الذوقَ ويُعوِّد الناس الكذبَ ويضلِّل النفوس، وشعرُ حافظ من هذا النوع.»

المازني والمنفلوطي

وفي الجزء الثاني من الديوان تكفَّل المازني بتحطيم الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي، فتحدَّث عن أدب الضَّعف والنعومة والأنوثة حديثًا عامًّا لا يخلو من جدل عقيم، ثم انتقل إلى نقد تطبيقي ﻟ «العبرات» وبخاصة لقصة «اليتيم»، التي ألَّفها المنفلوطي ونشرها في هذا الكتاب، وانتهى أخيرًا إلى الحديث عن أسلوب المنفلوطي، وهو خير أجزاء هذا النقد؛ لأن المازني قد لجأ فيه إلى نقد تطبيقي دقيق، كما استند إلى بعض الأصول الأدبية واللغوية الثابتة؛ ولذلك نراه الجزءَ الذي يستحق النظر، على حين أن ما عداه لا يخرج عن فكرة واحدة هي إسراف المنفلوطي في العاطفية إسرافًا يمكن تفسيره — كما رأى المازني — بالافتعال والنعومة والتطري؛ مما يخرج بأدبه إلى السلبية واحتمال التأثير في الشبان تأثيرًا يُضعِف من صلابتهم في الحياة وإيجابيتهم في مواجَهتها، ولكنه على أية حال أدب مثالي سليم نراه أفضل بكثير من أدب الميوعة الجنسية بل الوقاحة التي نشهدها اليوم في بعض أدبنا القصصي.

وأما نقد المازني لأسلوب المنفلوطي فقد استند — كما قلنا — إلى عدد من الأصول النقدية السليمة.

فهو مثلًا يأخذ على المنفلوطي إسرافَه في استعمال المفعول المطلق، ويقول إنه قد أحصى له ٥٧٢ مفعولًا مطلقًا في «العبرات»، وثلاثين مفعولًا مطلقًا في قصة «اليتيم» وحدها، مع أنها تقع في ١٩ صفحة من «العبرات» مطبوعة ببنط كبير، وقد أورد لها المازني أمثلةً عدة زعم أنه من الممكن الاستغناء فيها عن هذه المفعولات المطلقة دون أن يضطرب التعبير، مثل قول المنفلوطي: «وقلت لا بد أن يكون وراء هذا المنظر الضارع الشاحب نفسٌ قريحة معذبة، تذوب بين أضلاعه ذوبًا.» وقد علَّق المازني على المفاعيل المطلقة السبعة والعشرين التي أوردها بقوله: «وهذه أمثلة للمفعول المطلق في كتابة المنفلوطي كلُّها لا ضرورة إليها ولا داعي إلا من الرغبة في تأكيد الغلو الذي يتطلَّبه مَن يحمل نفسه على التلفيق والتصنُّع، وما يجري هذا المجرى من الأغراض الأخرى.»

وإن كنا لا نوافق المازني على ما أطلقه من أن كل هذه المفعولات المطلقة لا ضرورة لها ويمكن الاستغناء عنها، فمن بين هذه الأمثلة مثلًا قول المنفلوطي: «فيتهافت لها جسمه تهافُت الخباء المقوض.» إذ من الواضح أن المفعول المطلق هنا ضرورة لخلق صورة موحية، وهكذا الأمر في عدد من الأمثلة الأخرى التي يستطيع أي قارئ أن يفصل فيها بين المازني والمنفلوطي.

وكذلك الأمر فيما سمَّاه المازني بالإسراف في النعوت، فالمازني عند تطبيق هذا المبدأ يلوح لنا أنه هو الآخَر قد أسرف، وإن كنا نلاحظ أنه قد ربط هذا النقد بمبدأين لغويين سليمين؛ أولهما: تأكيده للحقيقة اللغوية الثابتة التي تؤكد أنْ لا ترادُف في اللغة، وأنَّ ما يُسمَّى مرادفًا لا بد أن ينطوي على مفارَقات ظلال تمييزه عن مرادفه. والمبدأ الثاني يعبِّر عنه المازني تعبيرًا سليمًا بقوله: «كلُّ لفظة يمكن الاستغناء عنها قاتلةٌ للكاتب؛ فإن العلم أغنى في باب الأدب من أن يحتمل هذا الحشو ويصبر عليه، وليس شيء أحق بأن يثير عقل العاقل من عدم اكتراث الكاتب بوقته ومجهوده.»

والمازني في نقده لأسلوب المنفلوطي لا يكتفي بنقد طرائق التعبير، بل يمد معنى الأسلوب إلى مفهومنا الجديد الواسع الذي يرى أن أسلوب الكاتب هو الكاتب نفسه، من حيث إن فنَّه ونظرته إلى الحياة يتركَّزان فيه، وعلى هذا الأساس نراه يسمِّي المنفلوطي حانوتيًّا بسبب إسرافه في ذرف العبارات، كما نراه يأخذ عليه تكلُّفَ التفصيل في المحسوسات المفهومة وغير المفهومة، مثل قوله في وصف اليتيم مثلًا: إنه قد رأى عليه «قميصًا فضفاضًا من الجلد يموج فيه بدنه موجًا.» وكان هذا اليتيم يسكن في غرفة مقابلة لمنزل المنفلوطي ويفصل بينهما شارع، ومع ذلك نرى المنفلوطي يزعم أنه قد رأى اليتيم منكفئًا على مائدة المطالَعة، ثم رآه يرفع رأسه فيرى الدموع تنهل من عينيه، بل يرى الدموع قد محت الكتابة من صفحة كراسته، وأمثال ذلك مما عدَّده المازني في نقده لأسلوب المنفلوطي، مما يقطع بالافتعال وبُعْد الأسلوب القصصي عن الواقعية الصادقة، بل عن المعقولية السليمة.

خاتمة المرحلة

هذا هو نقد المازني القديم؛ أي نقده في المرحلة الأولى من حياته، وقبل أن يموت المازني ويأتي على أثره فتًى آخَر من مازن، هو المازني الجديد الساخر، الذي تخلَّص من عاطفيته العنيفة واندفاعاته المسرفة التي زجَّت به في متاهات نقدية تنكَّر هو نفسه بعد ذلك لمعظمها، أو على الأصح تنكَّر لها المازني الجديد، الذي سوف نرى في المقال الآتي ما استقر عليه رأيه نهائيًّا في الأدب والنقد والدراسات الأدبية.

وإنه لَيحلو لي أن أميِّز بين الرجلين بقلم المازني نفسه في صفحةٍ أعتبرها من أجمل وأعمق ما كتب؛ حيث يقابل بين طورَيْ حياته في مقدمة قصته «إبراهيم الكاتب»، فيقول: «لستُ أحتاج أن أقول إني لست بإبراهيم الذي تصفه الرواية، وأن هذا المخلوق ما كان قطُّ ولا فتح عينَيْه على الحياة إلا في روايتي، ثم إني لست أرضى أن أكونه فما تعجبني سيرته ولا مزاجه ولا التفاتات ذهنه، وقد ندمت على خُلُقه بعد أن سويته، فلو كان دميةً لَحطَّمتها وطحنتها، ولو كان صديقًا لَجفوته ونبوت به، ذلك أنه يتناول الحياة باحتفال وأنا أتلقَّاها بغير احتفال، هو يعبث بالدنيا وأنا أفتر لها عن أعذب ابتساماتي، وأحس السرور بها يقطر من أطراف أصابعي كالعرق، وهو مُغرَم بالتفلسف، وأنا أعُدُّ الواحدَ من هذا الطراز مرزوءًا يستحق المرثية، وهو وعر متكبِّر وأنا سَمْح متواضع، وهو عنيد وأنا رَيِّض سَلِس، وهو نَفُور وأنا عَطُوف، وفي نفسه مرارة وأنا مُغتبِط بالحياة راضٍ عنها قانع بها، وهو كأنما يريد أن يخلق الدنيا والناس على هواه؛ ولذلك تراه قليل التسامُح ضيِّق الصدور، وأنا لا أرى في الإمكان أبدع مما كان، ولست مثله أُومِن بالتثليث في الحب أو الكره، ولم أمرض قطُّ بالبينيمونيا … إلخ، فليس بيننا كما ترى من تشابه سوى أن كلينا قصير قميء، وأنا أزيد عليه أني أُصِبتُ بالعرج، فليته كان هو المصاب وأنا الناجي المعافى.»

٢

قسَّم إبراهيم المازني حياته قسمين، بل أخبرنا في إحدى قصائده أن المازني القديم قد مات وجاء على أثره فتًى جديد من بني مازن، ومن الممكن أن نُحدِّد على وجه التقريب تاريخ الانتقال من المازني القديم إلى المازني الجديد بحوالي ١٩٢٣م أو سنة ١٩٢٤م.

وقد سبق أن تحدَّثنا في المقال السابق عن المازني ناقدًا في مرحلته الأولى، وناقشنا آراءه النقدية في نظرية الشعر عامة، وفي نقده لحافظ إبراهيم، ثم نقده للمنفلوطي وعبد الرحمن شكري في كتاب «الديوان» بجزأيه، ونعرض اليومَ لآرائه النقدية في مرحلته الثانية التي تخلَّص فيها من انفعالاته العنيفة وغضباته المضرية، وأصبح المازني الهادئ الساخر الناثر المبدع.

والفترة الثانية من حياة المازني تُعتبَر فترةَ دراساتٍ جمالية وأدبية أكثر منها فترة معارك نقدية أو نقد توجيهي بالمعنى الدقيق لهذه الألفاظ؛ فقد راجعنا معظم ما كتبه من مقالات نقدية في تلك الفترة، فوجدناها أبعد ما تكون عن روح الشدة التي تميَّزَ بها نقده في المرحلة الأولى، بل أبعد ما تكون عن روح الجد؛ فالدكتور طه حسين مثلًا ينشر كتابًا عن الشعر الجاهلي يشكِّك في نسبة أكثر هذا الشعر إلى مَن نُسِب إليهم من شعراء، ويحاول المازني أن ينقد هذا الكتاب فيلجأ إلى أسلوبه الساخر ليدَّعي أنه يشكُّ هو الآخَر في وجود الدكتور طه حسين نفسه، عندما يستعرض حياته منذ أنْ كان يحفظ القرآن في إحدى قُرَى الصعيد إلى أن أصبح طالبًا أزهريًّا، ثم طالبًا في السوربون بباريس، فأستاذًا بالجامعة؛ يستخدم كلَّ هذه المراحل ليدلِّل على أنه من غير المعقول أن يكون الصعيدي طه حسين هو نفسه الذي أصبح أحد فتية الحي اللاتيني بباريس!

ويُطلَب من المازني فيما يبدو أن يكتب عن كتابي «الصحائف» و«ظلمات وأشعة» للآنسة مي، فيكتب مقالًا عن «الواجب»، يستهله بأنه قد تلقَّى الكتابَيْن المذكورَيْن في ساعةِ ضيقٍ نفسيٍّ فأخذ يفكر في الواجب، وبالفعل يكتب المقال كله عن آراء الفلاسفة في الواجب ومشقة أدائه، مُغفِلًا أيَّ حديث عن كتابَيْ مي، ولعله قد هرب من ذلك حتى إذا ما انتهى من المقال اختتمه بأسطر قليلة عاد فيها إلى الكتابَين ليجامل فيها الكاتبة مجاملةً خفيفة متكلفة، تتَّفق مع ما عُرِف عنه من نفور من هذه الآنسة وصالونها الأدبي، فيقول: «كذلك كنتُ أُحدِّث نفسي قبل أن أفضَّ الغلاف عن الكتابين، وقد مضت على ذلك أسابيع كنت أقدر أن تكون كلها معاناةً للإحساس بمرارة الإذعان بعامل أو باعث من غير النفس، ولكني ما كدت أتصفحهما فأقرأ من هذا فصلًا ومن ذلك صفحة، حتى شعرت بأن الواجب قد استحال رغبةً وزايلني انقباضي من الأدب.»

وأكبر الظن أن أحد الأصدقاء المشتركين المعجَبين ﺑ «مي» مثل الأستاذ العقاد أو غيره، وهو الذي كان قد طلب من المازني أن يكتب عن الكتابين على نحوِ ما نحس من الأسطر السابقة، فأحسَّ المازني بأنه إزاء واجب؛ فأخذ يبحث في فلسفة الواجب التي استغرقت المقال كله، ثم عاد فتذكَّر الكتابين وجامَل فيهما هذه المجاملة اللطيفة المتكلفة، وبذلك تخلَّص من حرج الموقف بلباقة وإنْ ظلت لباقة مكشوفة.

وبالمثل نراه يكتب مقالًا عن كتاب «الفصول» لصديقه الأستاذ العقاد، فيختار للحديث قضية عامة يجعلها العنوان الأول الكبير لمقاله، وهو: «الأدب ينهض في عصور المشادة، لا عصور اللين والأمن»، على حين يضع عنونًا ثانيًا بخط صغير هو «كتاب الفصول»، الذي يكتب في التعريف به بضعة أسطر لينتقل بعد ذلك إلى القضية العامة التي اختارها، وينفق في الحديث عنها كلَّ المقال، على أن يعود في النهاية ليكتب أسطرًا قليلة لا غناء فيها عن أهمية كتاب صديقه، فيقول:

ولقد كانوا يعيبون على المذهب الجديد أنه يهدم ولا يبني، كأنما يمكن أن يبني المرء قبل أن يزيل الأنقاض ويصلح الأرض ويهيئها للبناء، فاليومَ ما عساهم أن يقولوا؟ هذا كتاب كله بناء وتشييد، فهل يفرح الجامدون كفرحنا به؟ لا نظنهم يستطيعون ذلك! وما كنا لنطالبهم بما يفوت ذرعهم ويخرج على طوقهم، إذن فَلْيغصوا به إذا شاءوا.

وأما عن أهمية هذا الكتاب وما تضمَّنه من نظرات وأبحاث ورأي المازني المُفصَّل في كل ذلك، فلا شيء على الإطلاق. وكذلك الأمر في المقال الذي نشره عن الجزء الثالث من ديوان العقاد أيضًا، فإنه لم يبذل أية محاولة لنقد هذا الديوان وإظهار ما فيه من مواضع القوة أو الضعف، وكل ما فعله هو أن اتخذ لمقاله عنوانًا ثانيًا هو «ترجمة شيطان من نار إلى حجر»، وأنفق المقال كله في تلخيص القصيدة الطويلة التي تحمل هذا العنوان في ديوان العقاد المذكور وعرضها، مكتفيًا بأن يصفها عدة صفات عامة لا موضوعيةَ فيها، مثل قوله: إنها فريدة في لغة العرب، أو «إن في ظهورها لدليلًا على انتهاء دور التمهيد الذي اضطرَّنا إليه ركودُ اللغة قرونًا عدة، وأننا الآن في دور البناء الفني، وإذا كانت اللغة قد اتَّسعت للشعر القصصي على هذا النسق، فهي لن تضيق عن غيره من فنون الشعر بحمد الله، ثم بفضل العقاد.»

ومن هذه الأمثلة العديدة التي ضربناها لمقالات النقد التوجيهي التي كتبها المازني في المرحلة الثانية من حياته، نستطيع أن نؤكد أنه لم يَقُم في هذه المرحلة بمجهود يُذكَر، وإنما نستطيع أن نسجِّل له هذا المجهود في مجال الدراسات الأدبية والجمالية التي خلَّف فيها عددًا كبيرًا من المقالات الجيدة، أفادت فائدة كبيرة في توسيع ثقافتنا الجمالية والأدبية في حياتنا المعاصرة.

الدراسات الجمالية

وقبل أن نتحدَّث عن الدراسات الجمالية والأدبية للمازني، نحب أن نوضح منهجه العام في الدراسة والتفكير، وهو منهج نستطيع أن نجده في مقالَيْن نشرهما في سنة ١٩٢٣م بجريدة الأخبار (القديمة)، ثم جمعهما في كتابه «حصاد الهشيم» عن مسرحية «تاجر البندقية» التي كان يترجمها إلى العربية عندئذٍ الشاعرُ خليل مطران، وموضع الاستشهاد بهذين المقالين يأتي من حديثه المفصَّل عن قضية الابتكار؛ فهو يؤكد فيهما وبخاصة في المقالة الأولى أن الابتكار ليس معناه الخَلْق من العدم، وإنما معناه حُسْن الاستفادة من كتابات ومجهودات السابقين. ويؤيِّد هذا الرأيَ بأن شكسبير نفسه لم يبتكر موضوع هذه المسرحية وأحداثها وأفكارها الأساسية، وإنما أخذها عن خمسة مصادر قديمة، وكان ابتكاره في حُسْن استفادته من تلك المصادر وانتقاء خير ما في كلٍّ منها ليؤلِّف من كل ذلك ما يُعتبَر تطبيقًا للمنهج نفسه؛ فنقطة البدء عنده دائمًا هي فكرة أو أفكار الْتَقطها من قراءته في المؤلَّفات الأوروبية، وعملُه في الغالب الأعم توليدٌ من تلك الأفكار؛ فبحثه مثلًا عن الوصف الشعري وفن التصوير تقوم فكرته الأساسية — كما أشار هو نفسه في هامش هذا البحث — على النظرية الجمالية التي عرضها الناقد الألماني الشهير «لسنج» في كتابه «لاوكون»، وبحثه عن المجاز في اللغة ونشأته ووظيفته يقوم — كما صرَّح هو نفسه — على رأي الفيلسوف الإنجليزي «لوك» في هذه القضية، ولكن هذا المنهج لم يُفقِد المازني أصالته التي يستمدها من قدرته الفائقة على تمثُّل ما يقرأ والإفادة منه والإضافة إليه وتطبيقه في دراساته الأدبية، وفي معالجته لمشكلات التعبير في أدبنا المعاصر على نحوِ ما سنفصِّله.

نظرية الوصف والتصوير

وبحثه عن الوصف والتصوير مثلًا نراه يستهله بوصف ابن الرومي الشهير لصانع الرقاقة، ثم يستطرد منه ليُفصِّل النظرية العامة التي فصَّلها «لسنج» في كتابه «لاكون»، وقال فيها: إن الشعر الوصفي هو الذي يستطيع أن يُصوِّر الحركة المتتابعة في الزمن، على حين إن التصوير بالريشة لا يستطيع أن يلتقط إلا منظرًا ساكنًا أو شبه ساكن في مكانٍ ما، ويأخذ المازني بعد ذلك في التوليد من هذه الفكرة العامة توليداتٍ يمكن أن نُقره على بعضها، مثل هجومه على الأمير سيونيزم أو الانطباعية في التصوير بالريشة، باعتبار أن التصوير الناجح الجميل هو الذي يصور الأشياء في ذاتها لا وقعها في نفس الفنان ذلك الوقع الذي يرسمه بعض فناني هذا المذهب أحيانًا في صور بشعة مشوهة، على حين أن الشعر الوصفي يستطيع أن يصور تلك الانطباعات أروعَ تصوير مع وصفه للمرئيات، ومن خلال هذا الوصف، ويرجع المازني تخليط أصحاب المذهب وعبثهم إلى أنهم قد خرجوا بالتصوير عن مجاله لينافسوا مجال الشعر، فساء مسلكهم وساء فنهم، ولو أنهم أدركوا حدود وسيلتهم التعبيرية والتزموا تلك الحدود لَمَا ضلوا هذا الضلال البعيد. على حين لا نستطيع إقراره على بعض التوليدات الأخرى، مثل زعمه أن الشعر الوصفي لا يستطيع أن يلتقط أوضاعًا ساكنة في المكان، وهذا رأي انفرد به المازني في فهم «لسنج» فأخطأ فيما نعتقد؛ لأن الشعر الوصفي عامر بتصوير الأشياء الثابتة، ولم يقل أحد بضرورة قصره على وصف المتحركات وملاحقتها عبر انسياب الزمن.

وفي مقال المازني الثاني عن «التصوير والشعر الوصفي» يُخيل إلينا أنه قد أتى حقًّا بجديد عندما تحدَّث عن «الدمامة» وصلاحيتها؛ لأن تكون موضوعًا للتصوير أو الشعر الوصفي؛ إذ نراه يُفرِّق بين الدمامة والإحساس بالدمامة؛ أيْ إثارة ذلك الإحساس، فيقرِّر أن المصور أو الشاعر لا ضيرَ في أن يختار الدمامة موضوعًا لفنِّه على نحو ما نشاهد في روائع قصائد الهجاء، وفي كثير من اللوحات الفنية، ولكن هدفه من هذا التصوير لا يمكن أن يكون إثارة الإحساس بالدمامة، بل يجب أن يكون هدفه دائمًا شيئًا آخَر غير إثارة هذا الإحساس، كأنْ يكون إثارة الإعجاب بالقدرة الفنية على التصوير، أو إثارة الضحك والسخرية من الدمامة التي يجهلها أصحابها ويدَّعون عكسها لغرورهم المضحِك، أو إثارة العطف والشفقة على تلك الدمامة بفضل ما يُسبِغه عليها الشاعر أو المصور من مشاعره الخاصة الحانية.

قضية المجاز

ودراسة المازني القيِّمة في «حصاد الهشيم» للمجاز ونشأته، يستهلُّها بصفحة طويلة للفيلسوف الإنجليزي «لوك»، يؤكد فيها أن المجاز قد نشأ في اللغات على أساس نقل الألفاظ، أي الرموز اللغوية، من مجال المحسوسات إلى مجال المعنويات، ثم يعرض لبعض مَن أيَّدوا «لوك» أو عارضوه في هذا الرأي مرجِّحًا رأي «لوك»، ثم ينتقل إلى نقد آراء علماء البيان العربي القدماء في المجاز ونشأته، وإرجاعها إلى الاتفاق بين الناس على نقل لفظٍ من مجالٍ إلى آخَر يجامع الشبه بين المجالَين، لينتهي في آخِر الأمر إلى التفرقة بين المجاز اللفظي والمجاز الشعري، موضِّحًا أن المجاز اللفظي هو وحده الذي يمكن أن يُفسَّر على أساس التشابه الظاهري بين المنقول منه والمنقول إليه، على حين أن المجاز الشعري قد يقوم على أساسِ تشابُه داخلي، أو تشابُه في الواقع النفسي بين المنقول والمنقول إليه؛ وبذلك مسَّ المازني من بعيدٍ الأساسَ الفلسفي لمذهب الرمزية في التعبير، وهو المذهب الذي يقوم على إمكان تبادُل عوالم المحسوسات المختلفة للألفاظ الخاصة بكل منها على أساس وحدة الأثر النفسي، على نحوِ ما أوضحنا في كتبنا ومقالاتنا النظرية والتطبيقية، ومنها: كتابنا عن «الأدب ومذاهبه»، ولكن بحث المازني كان يُعتبَر بلا ريب جديدًا كلَّ الجِدَّة بالنسبة لعالمنا الأدبي واللغوي عندما كتبه.

قضية الخيال

وفي كلمته عن الخيال في «حصاد الهشيم» يعتنق المازني مذهب مَن يقول من علماء النفس: إن الخيال السليم هو الخيال الذي يؤلِّف بين العناصر المختلفة ليخلق شيئًا جديدًا، وهذه نظرة لا تقرُّها جميع الأبحاث النفسية وبخاصة الحديث منها؛ إذ نراها تميِّز بين الخيال الخالق والخيال المؤلَّف؛ فهناك خيال يكاد يُخلَق من العدم، لا سيما ذلك الخيال الذي تمتَّعت به الشعوب البدائية التي تخيَّلت الكائنات الوهمية والأساطير الخارقة، ولكننا مع ذلك نلاحظ أن المازني في هذه الكلمة قد حاول جاهدًا أن يقصر الخيال على التأليف، لكي يتخذ من هذه الفكرة أساسًا للتمييز بين الخيال الجيد والخيال الرديء في الشعر العربي؛ فنراه يستسخف بحقٍّ كلَّ خيال يأتي بالمجال الذي تستنكره حقائق الحياة وواقعها المسلَّم به في الجميع، مثل قول أحد القدماء:

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الحِلم أسبلتا معًا

فقد علَّق عليه المازني بما يُظهِر سخفه وكذبه وافتعاله؛ فالإنسان لا يمكن أن يبكي بعين واحدة، والبكاء بالعينين معًا لا يمكن أن يكون أكثر دلالةً على الحزن من البكاء بعين واحدة بفرض إمكانه؛ وكذلك الأمر في كثير من الإحالات الأخرى التي أشار إليها المازني في هذه الكلمة، وباستطاعتنا أن نذكر أن هذا المقياس النقدي قد استخدمه الأستاذ العقاد أيضًا في «الديوان» عند نقده لشعر شوقي، ولعله كان من المقاييس التي اتَّفق عليها الصديقان في ندواتهما الخاصة.

وهكذا يتَّضح من هذه الكلمة أن المازني إذا كان يخطئ أحيانًا في التفكير النظري فإنه يصيب أحيانًا كثيرة في التطبيق، ويستخدم من معارفه النظرية ما يُعينه على هذا التطبيق، حتى لو أهدر جوانب نظرية أخرى قد يعوق ذكرها تطبيقاته النقدية، ومردُّ كل ذلك إلى أن المازني كان فنانًا بطبعه، وكان يحس بذوقه مواضعَ الجمال أو القُبح فيما يعرض له من نقد، ثم يحتال بعد ذلك على ما قرأ أو درس من نظريات ليضعها في خدمة أحاسيسه الذوقية الصادقة وتأييدها بالحُجج العقلية، حتى ليُخيَّل إلينا أن المازني كان فنانًا في حياته وأدبه ونقده، على حين كان صديقه العقاد مفكِّرًا، أكثر قدرةً على معالجة النظريات الفكرية والتوليد فيها.

الدراسات الأدبية

وأما عن الدراسات الأدبية التي قام بها المازني في النصف الثاني من حياته فنلاحظ أنها قد تناولت الشعراء القدماء أنفسهم الذين درسهم العقاد؛ مثل: المتنبي وابن الرومي، وقد سبق أن فسَّرنا هذا الاختيار بأن هذين الشاعرين يُحققان الشرط الأساسي الذي اتخذته جماعة الديوان أساسًا للحكم بعظمة الشاعر، وهذا الشرط هو ظهور شخصيته في شعره، وهذا بالبداهة مقياس ضيِّق، وإلا لصح لنا أن ننكر على أعظم شعراء الإنسانية وهو «هوميروس» صفة العظمة؛ لأن جميع نقاد العالم يجمعون على أن شخصية «هوميروس» لا تطالعنا قط من قريب أو من بعيد خلال ملاحمه الرائعة.

ودراسات المازني للمتنبي وابن الرومي تلوح لنا متأثرة أكبر التأثر بمنهج صديقه الكبير عباس محمود العقاد حتى لنرى المازني يُحيل على دراسات العقاد في مواضع كثيرة، فضلًا عن أن دراسات المازني لهذين الشاعرين قد دار معظمها حول استشفاف شخصية الشاعرين من شعرهما، وهذا هو منهج العقاد الذي سبق أن أوضحناه، وإذا كان المازني قد انفرد بشيء فهو دراسته لفن الوصف عند ابن الرومي على أساس نظرية «لسنج» التي تحدَّثنا عنها فيما سبق، ثم فطنته إلى أن ابن الرومي كان أكثر تأثرًا عن طريق النظر والسمع أكثر منه عن طريق حواسه الأخرى لا سيما اللمس والشم، وقد راح يدلل على هذه الملاحظة الصادقة بأمثلة عدة من شعر ابن الرومي.

ثم نلاحظ على دراسات المازني الأدبية أنها جاءت كثيرة الاستطرادات وبخاصة في مطالعها؛ حيث نراه يستهل دراسته الطويلة عن ابن الرومي بصفحات وصفحات عن إهمال العرب لسيَر شعرائهم، بل الاستطراد إلى الهجوم على العرب عامة وشعرهم بخاصة، وتفضيل الغرب وشعرهم عليهم، فيقول إن أظهر عيوب الأدب العربي في نظره اثنان: فساد في الذوق، وشطط في الذهن عن سواء السبيل. ثم يأخذ في إيضاح هذين العيبين، على أنه يستدرك بعد كل ذلك، فيقول: «لسنا نحاول الزراية على العرب أو الغض من شعرهم، وإنما نريد أن نقول إن العرب ليسوا أشعر الأمم! وإن أحدًا ليقرأ آثار الغرب فيملك قلبه ما يتبين فيها من سمات الصدق والإخلاص ومخايل النبل والشرف، وما يستشفه من دلائل الحياة والإحساس بالجمال وحبهما وعبادتهما في جميع مظاهرهما، وما يتوسَّمه من ذكاء المشاعر ويقظة الفؤاد وصدق النظر وصفاء السريرة وعلو النفس وتناسبها وتجاوبها مع كل ما يكتنفها من مظاهر الطبيعة.» ثم يردف كل ذلك بقوله: «هذه حقيقة لا موضع فيها للشبهة، وما ينكر أن الشعوب الآرية أفطن لمفاتن الطبيعة وجلال النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة إلا كل مكابر ضعيف البصيرة، أو رجل أعمته العصبية الباطلة عن إدراك ذلك، ونقول العصبية الباطلة لأن الحق غاية الوجود وكلنا سواء في التماسه، وأيما رجل فاز منه بنصيب فهذا السعيد الموفق، وإلا فهو معذور ومشكور، وليس يغض من أحد أنه انصرف عن هذه الدنيا غير منجح.» بل يأخذ بمثل ما زعمته الشعوبية قديمًا وبعض المستشرقين حديثًا من أن أغلب فحول الشعر والنثر العربي ممن ينتهي نسبهم إلى غير العرب مثل: بشار بن برد ومروان بن أبي حفصة وأبي نواس وابن الرومي ومهيار وابن المقفع وابن العميد والخوارزمي وبديع الزمان وأبي إسحاق الصابئ وأبي الفرج الأصفهاني وأبي حنيفة النعمان وغيرهم، وما نريد أن نعود فنناقش هذا الرأي المسرف الذي قتله العرب والمنصفون في كل قُطر بحثًا وتفنيدًا، ولكننا أوردنا هذه الآراء لندلِّل بها على مدى تأثُّر المازني بالغربيين وثقافتهم وأدبهم بل تعصبه لهم، وإذا كنتُ لا أحب لنا كعرب أن نتنكر لأمجادنا التليدة أو نبخسها حقها، فإنني من جهة أخرى لا أحب أن نصدف عن الثقافات الأجنبية وعن الإفادة منها والانتفاع بها، ولكن في اتزان ومحافظة على تراثنا وثقة بأنفسنا وبماضينا.

دائرة النقد

لا شك أن القارئ لهذا المقال والمقالات السابقة قد لاحظ ضيق دائرة النقد ضيقًا شديدًا عند الجيل الذي سبقنا؛ فقد كان مقصورًا على الشعر، بل على نوع واحد منه هو الشعر الغنائي أي شعر القصائد بالرغم من أنه كانت قد ظهرت وازدهرت عندنا فنون أدبية أخرى كبيرة كفن المسرحية الشعرية والنثرية، وفن القصة والأقصوصة وفن المقال الأدبي، وقد رأينا في مقال سابق كيف ترفَّع الأستاذ العقاد عن أن يشغل نفسه بنقد الأدب والفن التمثيلي، ولكننا قرأنا للمازني في «حصاد الهشيم» نقدًا لمسرحية «غادة الكاميليا» التي مثَّلتها وقتئذٍ فرقة الأستاذ يوسف وهبي وقامت فيها بدور البطلة مرجريت (غادة الكاميليا) السيدة روز اليوسف، إلا أن المازني قد صبَّ معظم نقده إن لم يكن كله على مناقشة المشكلة الاجتماعية الأخلاقية التي تتضمنها تلك المسرحية دون أن يعرض بشيء للأصول الفنية، وهل توافرت لهذه المسرحية، التي كانت في الأصل قصة للكاتب الفرنسي دوماس الصغير، وأما عن التمثيل فقد تناوله المازني فأثنى على مقدرة السيدة روز الممتازة، وعلى الأستاذ يوسف وهبي في دور أرمان عشيق الغادة، على حين أخذ على الممثل الكبير عزيز عيد عدم حفظه لدوره واعتماده على الملقن.

الواقع أن النقد المسرحي قد تخصَّص فيه خلال تلك الفترة نقاد آخرون مثل محمد تيمور وأحمد حلمي ومحمد علي حمَّاد وغيرهم وكأن الأدب المسرحي ليس جزءًا من الأدب عامة، وهو انفصال نعتقد أنه كان له أثره في تأخير تطور التأليف المسرحي إلى المستوى الأدبي الذي يتمتع به في آداب العرب، ولكن الظاهر أن نظرة المجتمع كله إلى المسرح قد لعبت دورًا كبيرًا في هذا الانفصال، ومن المؤكد أنه لولا الخصومة التي كانت ناشبة بين العقاد وشوقي ورغبة التحطيم، لما كتب العقاد كتيبه المعروف عن مسرحية «قمبيز» لشوقي، على أننا قد نفهم هذا الانفصال قبل أن يدخل ميدان المسرح كبار شعرائنا وناثرينا من أمثال: شوقي وعزيز أباظة والحكيم ومحمود تيمور، وأما بعد ذلك فلسنا نرى مبررًا لأن يهمل الجيل السابق من نقادنا هذا الفن الأدبي الكبير، كما نحمد لجيلنا المعاصر — وهو جيل لاحق — اهتمامه به، ودرسه لأصوله الفنية العالمية، كما نحمد له أيضًا عنايته بفن القصة والأقصوصة الذي أخذ يطغى في آداب العالم كافة.

ولقد حدث قبل كتابة هذا المقال بأيام أن دعت جريدة المساء إلى ندوة تناقش سؤالًا وضعه القسم الأدبي بالجريدة هو: «هل أدى النقد واجبه نحو الأدب المعاصر؟» وفي هذه الندوة وقف الأستاذ يحيى حقي ليلفت الأنظار إلى قضية هامة، هي: انفصال النقد الأدبي عن الفنون التشكيلية ودعا إلى أن يمد النقاد اهتمامهم إلى تلك الفنون بحكم وحدة الأسس والوظائف بين الفنون كافة.

ولقد دفعتني هذه اللفتة الأصيلة إلى أن أبحث في هذه السلسلة هذه القضية لأتبيَّن هل كان لجيل نقادنا السابق اهتمام بالفنون الأخرى أم لا؟ ولحسن الحظ عثرت على عدة مقالات للمازني في نقد بعض الفنون الأخرى مثل: فن النحت المصري المعاصر، وفن الغناء الموسيقي العربيين، وكل هذه المقالات مجموعة في كتابه «صندوق الدنيا».

أما عن النحت فقد كتب المازني مقالًا طويلًا عن تمثال «نهضة مصر» لفناننا الكبير محمود مختار وهو مقال يجمع بين الجد والفكاهة، وفيه يحمل المازني حملة شديدة على هذا التمثال الخالد، فيزعم أنه لا يفهم فكرته، وهل أبو الهول هو الذي يمثل النهضة في هذا التمثال، وفي هذه الحالة لا يرى المازني أن الوضع الذي اختاره مختار لأبي الهول يوحي بالنهوض؛ لأن ذوات الأربع لا تنهض أقدامها الأمامية بل القدمان الخلفيتان، ووضع أبي الهول في التمثال وضع إقعاد لا نهوض، وأما إذا كانت الفلاحة الواقفة إلى جواره هي التي ترمز للنهوض، فإن المازني لا يرى في وضعها ما يوحي بهذا النهوض … إلخ. ومن المؤكد أن المازني كان يستطيع الفهم لو أراد؛ فالتمثال كله يرمز للنهضة القائمة على ارتكاز مصر الجديدة التي أسفرت وجهها في شخصية الفلاحة، على مصر القديمة التي يرمز لها أبو الهول، وقد اختار له محمود مختار الوضع الرابض الذي يروق البصر، وإلا فكيف يريد أن يختار وضع الناهض على ساقيه الخلفيتين الذي يوحي للناظر بالانكفاء على الوجه؟

ولكننا على أية حال نحمد للمازني اهتمامه بهذا التمثال كما نحمد له اهتمامه بمسرحية «غادة الكاميليا»، وأخيرًا اهتمامه بفنَّيِ الغناء والموسيقى العربيين، وقد أخذ عليهما ما لا نزال نشكو منه أحيانًا حتى اليوم من الحرص على التطريب أكثر من الحرص على التعبير الصادق العميق، ثم أبدى فيما يختص بغناء الشعر لفتة أصيلة، فقال إن كثرة التكرار عند مغنينا لبعض الجمل الشعرية والوقوف عندها أكثر مما يجب وما يحلو، إنما يرجع إلى ما أخذته جماعة الديوان في دعوتها الجديدة على القصيدة العربية من التفكك وانعدام الوحدة العضوية، مؤكدًا أنه لو تخلصت الأغنية الشعرية هي الأخرى من هذين العيبين لاستقام غناؤنا على نسق الغناء الغربي الذي يعتبره المازني غناء إنسانيًّا رفيعًا. وبهذه اللفتة الأصيلة ربط المازني بين فنَي الشعر والغناء العربيين، وهو ربط نرجو أن يحققه ويوسعه جيلنا نحن بحيث تصبح الفنون التعبيرية كافة بل التشكيلية أيضًا وحدة تخضع لكثير من الأصول الثقافية والجمالية المُوحَّدة، وبذلك يكون للمازني فضل توجيهنا نحو هذه القضية الهامة، وإن كنت أحسب أننا سائرون تلقائيًّا نحو هذه الغاية بعد أن اتَّسع مفهوم النقد عند جيلنا الحاضر، فأصبح يقوم على مذاهب فكرية وجمالية واسعة تتصارع وتتنافس، كما أصبح لا يقف عند شعر القصائد، بل يمتد إلى كافة فنون الأدب الشعرية والنثرية والمستحدثة على السواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤