ذو اللحيتَين

روى الأب براون هذه القصة على أسماع البروفيسور كريك، الاختصاصي الشهير في علم الإجرام، بعد أن تناولا العشاء في أحد النوادي، حيث عُرِّف الاثنان إلى بعضهما بعضًا بأنَّهما يتشاركان الهواية نفسها في كشف غموض جرائم القتل والسرقة، ولكن نظرًا إلى أنَّ رواية الأب براون لهذه القصة قلَّلت من دوره في القضية، سيُعاد سردُها هنا بأسلوبٍ أكثر حيادية. انبثقت القصة من مبارزةٍ نقاشية كان فيها البروفيسور عِلميًّا للغاية بينما كان القَسُّ متشككًا بعض الشيء.

قال البروفيسور بنبرةٍ احتجاجية: «يا سيدي الفاضل، ألَا تؤمن بحقيقة وجود علمٍ اسمه علم الإجرام؟»

فأجاب الأب براون: «لستُ متيقنًا من هذا، هل تؤمن أنت بأنَّ سِيَر القدِّيسين عِلمٌ؟»

فسأله الاختصاصي بنبرةٍ حادة: «ما هذا؟»

فقال القسُّ مبتسمًا: «لا، إنها ليست دراسة عن الجِنِّيات، ولا علاقة لها بحرق الساحرات، بل دراسة عن أمور مقدسة وعن أفعال القديسين وما إلى ذلك. سأوضح لك؛ لقد حاولَت العصور المظلمة أن تُنشئ علمًا عن الصالحين، لكنَّ عصرنا المتحضر والمستنير لا يهتم إلَّا بعلمٍ عن الطالحين. ومع ذلك، أعتقد أنَّ خبرتنا الحياتية العامة أثبتت أنَّ أيَّ رجلٍ يُمكن أن تتصوَّره يحمل داخله قدِّيسًا، وأظنُّ أنَّك ستجد أيضًا أنَّ أي رجلٍ يُمكن أن تتصوَّره يحمل داخله قاتلًا.»

فقال كريك: «حسنًا، نحن نعتقد أنَّ القتلة كُلَّهم تقريبًا يُمكن تصنيفهم. صحيحٌ أنَّ القائمة طويلةٌ ومملة بعض الشيء، لكنِّي أراها شاملة. فبادئ ذي بدء، يمكن تقسيم جميع جرائم القتل إلى جرائم عقلانية وأخرى غير عقلانية، ولنبدأ بالثانية، لأنَّها أقل عددًا بكثير، حيث يوجد دافعٌ مثل هوَسِ القتل، أو حُبِّ سفك الدماء في المُطلق، كما يوجد دافعٌ كالكراهية غير العقلانية، لكنَّها نادرًا ما تدفع صاحبها إلى القتل. ثم ننتقل إلى الدوافع الحقيقية، التي يُعَد بعضُها أقلَّ عقلانية، بمعنى أنَّها مُجرَّد دوافع عاطفية ومتأثِّرة بالماضي. فالجرائم التي تُرتَكَب بدافع الانتقام المحض تُحرِّكها رغبةٌ انتقامية يائسة؛ لذا أحيانًا ما يقتل العاشق غريمًا لا يمكنه أن يحلَّ محلَّه في قلب محبوبته أبدًا، أو يغتال أحدُ المتمردين حاكمًا مُحتلًّا مستبدًّا بعد إتمام الاحتلال، لكنَّ حتى هذه الجرائم غالبًا ما يكون لها تفسيرٌ عقلاني. إنها جرائم تُرتَكَب بدافع الأمل. وهي تندرج تحت الفئة الأكبر من القسم الثاني التي يُمكن أن نُسمِّيَها الجرائم المُتعقِّلة. وهذه الجرائم أيضًا تندرج في الأساس تحت وصفَين؛ إذ يقتل المُجرِم إمَّا ليحصل على ما يمتلكه القتيل، بالسرقة أو الميراث، وإما منع القتيل من الإقدام على تصرُّفٍ معيَّن، كما في حالة قتل شخصٍ مُبتَز أو خصمٍ سياسي، أو حالة وجود عقبة أقل مُباشرةً نوعًا ما، مثل وجود زوجٍ أو زوجة يتعارض بقاؤهما على قيد الحياة مع رغباتٍ أخرى. نعتقد أن هذا التصنيف مدروسٌ بعناية، ويُغطِّي جميع أنواع المجرمين إذا طُبِّق كما ينبغي، لكنِّي أظنُّه مملًّا بعض الشيء مع الأسف، آمل ألَّا أكون قد أصبتك بالملل.»

فقال الأب براون: «لا، على الإطلاق. معذرةً إذا بدوتُ شاردًا قليلًا؛ ففي الواقع كنت أفكر في رجلٍ عرفته من قبل. لقد كان قاتلًا، لكنني لا أستطيع تحديد تصنيفه في متحف القتَلة الذي عرضته؛ إذ لم يكن مهووسًا، ولم يكن يُحب القتل. ولم يكن يكره الرجل الذي قتله، بل بالكاد كان يعرفه، وبالتأكيد لم يكن لديه دافعٌ للانتقام منه. ولم يكن القتيل يملك أيَّ شيء قد يريده القاتل. ولم يكن يتصرَّف أيَّ تصرُّفات أراد القاتل إيقافها، ولم يكن في وضعٍ يسمح له بإيذاء القاتل أو إعاقة رغباته أو التأثير فيه بأيِّ شكلٍ من الأشكال. ولم تكن القضية تتضمَّن امرأة ولا سياسة. لقد قَتَل إنسانًا مثله لم يكن يعرفه تقريبًا لسببٍ شديد الغرابة، بل ربما يكون فريدًا من نوعه في تاريخ البشرية.»

وهكذا سَرَد الأب براون القصة بأسلوبٍ حواريٍّ بدرجةٍ أكبر. بدأت أحداث القصة على الأرجح في مكانٍ راقٍ على مائدة الإفطار لأسرةٍ وجيهة ثرية من سُكَّان الضواحي تُدعى آل بانكس، حيث طغى على نقاشاتهم اليومية العادية عن أخبار صحيفتهم المُفضَّلة، لأول مرَّة، نقاشٌ آخر عن منزل غامضٍ بالقرب من منزلهم. فصحيحٌ أنَّ هؤلاء الأشخاص قد يُتَّهَمون أحيانًا بالثرثرة عن جيرانهم، لكنَّهم في هذه القضية أبرياء براءةً غير معتادة من البَشَر. وصحيحٌ أنَّ الريفيين السُّذَّج يسردون قصصًا، قد تكون صحيحةً أو كاذبة، عن جيرانهم، لكنَّ الثقافة الفضولية لسُكَّان الضواحي المُعاصرة تجعلهم يُصدِّقون أيَّ شيءٍ يُقال في الصحف عن فسق البابا، أو استشهاد ملك جُزر آكلي لحوم البشر، وفي ضوء الإثارة التي تخلقها مثل هذه الموضوعات، هم لا يعرفون أبدًا ما يجري عند أقرب جيرانهم، ولكن في هذه القضية، تزامن مصدران لإثارة اهتمامهم بالفعل في مصادفةٍ مثيرة؛ إذ ذُكِر الحيُّ الذي يعيشون فيه في صحيفتهم المفضلة. وحين رأوا اسم حيِّهم مذكورًا في الصحيفة، بدا ذلك لهم كدليلٍ جديد على وجودهم في الحياة، كأنهم كانوا فاقدي الوعي وغيرَ مرئيين من قبل؛ وأصبحوا الآن حقيقيين مثل ملك جُزُر آكلي لحوم البشر.

ذُكِر في الصحيفة أنَّ مجرمًا مشهورًا سابقًا، يُعرَف باسم مايكل مونشاين (الذي يعني ضوء القمر)، والذي يستخدم العديد من الأسماء الأخرى التي يُعتقَد أنَّها ليست أسماءه الحقيقية، قد أُفرِج عنه مؤخرًا بعد أن قبع فترةً طويلة في السجن بسبب سرقاته العديدة، ولم تذكر الصحيفة مكان وجوده، ولكن اعتُقِد أنَّه استقر في الضاحية التي نتحدث عنها، والتي سنطلق عليها تسهيلًا اسم «تشسهام». وقد أرفقت الصحيفة مع الخبر سِجِلًّا حافلًا ببعضٍ من جرائمه وحِيَل هروبه الجريئة والشهيرة؛ لأنَّ من سمات هذا النوع من الصُّحُف، المُخصَّص لمثل هذا الجمهور، أنَّه يفترض أنَّ قارئه ضعيف الذاكرة. فبينما سيتذكر القارئ الريفي الخارجين عن القانون أمثال روبن هود أو روب روي طوال قرون، سيصعب على الموظف الكتابي تذكر اسم المجرم الذي خاض نقاشًا عنه في الترام وقطار الأنفاق قبل عامَين. ومع ذلك، أظهر مايكل مونشاين بالفعل بعضًا من الاحتيال البطولي الذي تميَّز به روب روي أو روبن هود. وكان يستحق أن يُصبح أسطورة وليس مجرد خَبَرٍ في الصحف. لقد كان لِصًّا شديد البراعة إلى حَدٍّ لم يدفعه إلى قتل أيِّ أحد، لكنَّ قوته الهائلة والسهولة اللتَين كان يتغلَّب بهما على أفراد الشُّرطة كأنَّهم قوارير بولينج، ويُباغت بهما ضحاياه ويُوثِقهم ويُكمِّم أفواههم، أضفَتَا طابعًا من الخوف أو الغموض على حقيقةِ أنَّه لم يقتلهم قَط؛ إذ شعر الناس بأنَّه كان سيُصبح أكثر اتساقًا مع طِباع البشر لو قتل ضحاياه.

كان السيد سايمون بانكس، ربُّ الأسرة، أفضل اطِّلاعًا وذا نَمط حياةٍ قديم أكثر من بقية أفرادها. وكان رجلًا قويًّا ذا لحيةٍ رمادية قصيرة وجبينٍ مُكتسٍ بالتجاعيد. وكانت لديه نزعةٌ إلى الحكايات والذكريات؛ إذ كان يتذكر بوضوحٍ تلك الأيامَ التي كان فيها سُكَّان لندن يبقَون مستيقظين في مضاجعهم يتسمَّعون الخطوات تحسُّبًا لأن يُباغِتَهم مايك مونشاين كما كانوا يفعلون مع جاك الوثَّاب ذي الكعب الزنبركي. بينما كانت زوجته سيدةً نحيفة مُتجهمة الوجه وذات أناقةٍ صارخة، وحيث إنَّ عائلتها كانت تمتلك أموالًا أكثر بكثير مِن عائلة زوجها، مع أنَّ مستواهم التعليمي كان أقل، كما أنَّها تحتفظ بقِلادةٍ نفيسة مُطَعَّمة بالزمرُّد في الطابق العلوي، فقد منحها ذلك الحق في شَغْل مقامٍ بارز في نقاشٍ عن اللصوص. أمَّا ابنته، أوبال، فكانت نحيفةً ومتجهمة الوجه أيضًا، ويفترض أنها وسيطة روحية بشكل ما، وهي تفعل ذلك خفية حيث لا تلقى تشجيعًا من عائلتها. وتُنصَح الأرواح ذات النزعة الحالمة المتَّقدة ألَّا تتجسَّد في هيئة أفرادٍ في أسرةٍ كبيرة. بينما كان هناك شقيقها جون وهو شاب قوي البِنية، وصاخب الجعجعة في التعبير عن لامبالاته بقواها الروحية، ولم يكن ثَم ما يُميِّزه بخلاف ذلك سوى اهتمامه بالسيارات؛ إذ كان منخرطًا باستمرار في بيع السيارات وشرائها، وبطريقةٍ ما، يَصعُبُ حتى على المُنظِّرين الاقتصاديين فهمها، كان دائمًا ما ينجح في شراء سيارةٍ أفضل بكثيرٍ ببيع سيارةٍ أخرى تضرَّرت أو ساءت سُمعتها بسبب عيبٍ ما. أمَّا شقيقه فيليب، ذاك الشاب ذو الشعر المُجعَّد الداكن، فكان يتميز باهتمامه بالملابس، الذي يعد جزءًا مهمًّا من عمله كسمسار في تداول الأوراق المالية، ولكن ليس كلَّ عمله، كما يقول سماسرة الأوراق المالية في الغالب. وأخيرًا، تضمَّن هذا المشهد العائلي حضور صديقه دانيال ديفاين، الذي كان عابس الوجه وأنيق المَلبس أيضًا، لكنَّ لحيته كانت مُشذَّبة بنمطٍ غريبٍ بعض الشيء، ممَّا جعلها مُخيفةً قليلًا للكثيرين.

كان ديفاين هو الذي عَرَض موضوع الخبر الوارد في الصحيفة؛ إذ دَسَّه بلباقةٍ وسط الحديث لينجح في تشتيت شجارٍ عائلي صغير كاد أن يبدأ، لأنَّ أوبال ذات القوى الروحية كانت قد بدأت تقول إنَّها رأت وجوهًا شاحبة تطفو خارج نافذتها في ليلةٍ صافية، فيما كان جون بانكس يصيح مُسفِّهًا من حديثها عن ارتقائها إلى حالةٍ روحية أعلى، بصخبٍ أشد من صخبه المعتاد في مثل هذه المواقف.

لكنَّ الإشارة التي أوردَتها الصحيفة إلى جارهم الجديد، الذي ربما كان مثيرًا للقلق، سرعان ما أسكتَت جدال أوبال وشقيقها.

إذ صاحت السيدة بانكس قائلة: «كم هذا مرعب. لا بد أنَّه وافدٌ جديد تمامًا، ولكن من هو يا تُرى؟»

فقال زوجها: «لا أعرف أيًّا من الوافدين الجدد، باستثناء السير ليوبولد بولمان في قصر بيتشوود هاوس.»

فقالت السيدة: «عزيزي، ما أبعدَ كلامك عن المنطق، السير ليوبولد!» ثم سكتت بُرهةً قبل أن تُضيف: «هل يشكُّ أيُّ أحدٍ في سكرتيره؟ ذلك الرجل ذو السوالف، دائمًا ما كنتُ أقول ذلك، منذ أن شَغَل المكان الذي كان يجب أن يَشغَله فيليب …»

فقال فيليب بفتورٍ، مُدلِيًا بدلوه الوحيد في هذا النقاش: «هذا مستحيل. لستُ مقتنعًا بذلك.»

فيما قال ديفاين: «الوافد الجديد الوحيد الذي أعرفه هو ذلك الرجل المدعو كارفر، الذي يُقيم في مزرعة سميث. إنَّه يعيش حياة هادئة جدًّا، لكن التحدث معه ممتع للغاية. أظنُّ أنَّ جون يقوم ببعض الأعمال معه.»

فاعترف جون المهووس بالسيارات فقط، قائلًا: «إنَّه يعرف القليل عن السيارات، لكنَّه سيعرف المزيد حين يركب سيَّارتي الجديدة.»

فابتسم ديفاين ابتسامةً خفيفة؛ لأنَّ جون كان يُهدِّد الجميع باستضافتهم في سيارته الجديدة، ثم أضاف:

«وانطباعي عنه أيضًا أنَّه هكذا قليلًا. إنَّه يعرف الكثير عن السيارات والسفر، وطُرُق الترحال الحافلة في مختلف أنحاء العالم، لكنَّه يلزم المنزل مُكتفيًا بقضاء وقته متسكعًا عند خلايا نحل سميث القديمة. ويقول إنَّه غير مهتم إلَّا بتربية النحل، وإنَّ هذا هو سبب إقامته مع سميث. تبدو هذه هوايةً أهدأَ من أن تُناسب رجلًا مثله. ومع ذلك، لا شك في أنَّ سيارة جون ستُثير اهتمامه قليلًا.»

وبينما كان ديفاين يسير مبتعدًا عن المنزل في هذا المساء، كانت قسمات وجهه العابس تُشير إلى استغراقه في التفكير. وربما كانت أفكاره جديرةً بالذكر، حتى في هذا الوقت، ولكن يكفي القول إنَّها أسفرَت عن اتخاذه قرارًا بزيارة السيد كارفر في منزل السيد سميث فورًا. وفي طريقه إلى هناك، التقى بارنارد، السكرتير في بيتشوود هاوس، الذي كان واضحًا بجسده النحيل وسوالفه الكبيرة، التي اعتبرتها السيدة بانكس غير مقبولة من وجهة نظرها. وصحيحٌ أنَّ المعرفة السابقة بينهما كانت ضعيفة، وأنَّ محادثتهما كانت قصيرة وعابرة، ولكن يبدو أنَّ ديفاين وجد فيها ما يُؤجِّج تفكيره.

إذ قال فجأة: «أصغِ إليَّ، معذرةً على سؤالي، ولكن هل صحيحٌ أنَّ السيدة بولمان تحتفظ ببعض الحُلي النفيسة في قصر هاوس؟ إنني لستُ لصًّا، لكنني سمعت للتو بوجود لصٍّ يتسكع في أنحاء الحيِّ بحثًا عن غنيمةٍ جديدة.»

فأجاب السكرتير: «سأطلب منها أن تضعها نُصب عينَيها. وبصراحةٍ، لقد تجرَّأتُ على تحذيرها بنفسي بالفعل من احتمالية سرقتها. وآمُل أن تأخذ بنصيحتي.»

وفي أثناء حديثهما، صَدر صوت آلة تنبيه صاخبة خلفهما مباشرةً، وتوقف جون بانكس بسيارته جوارهما مُتقدًا خلف مِقوَدها. وحين عَرَف وِجهة ديفاين، ادَّعى أنَّه ذاهبٌ إليها أيضًا، مع أنَّ نبرته كانت توحي باستمتاعه المُطلَق بأن يعرض على الناس اصطحابهم في سيارته ليس إلَّا. وانقضى معظم وقت رحلتهما بالسيارة في المديح المستمر لها، قبل أن يتطرَّق جون إلى الحديث عن قدرتها على التكيُّف مع الطقس.

إذ قال: «سقفُها يُغلَق بإحكامٍ كالصندوق، ويُفتح بسهولةٍ كالفم.»

غير أنَّ فَمَ ديفاين لم يَبدُ سهل الفَتح آنذاك، وظلَّ جون يُناجي نفسه حتى وصلا إلى مزرعة سميث. وبعدما عبَرا البوابة الخارجية، وجد ديفاين الرجل الذي كان يبحث عنه دون أن يضطَر إلى دخول المنزل؛ إذ كان الرجل يتجول في الحديقة واضعًا يدَيه في جيبَيْه ومعتمرًا قُبَّعة كبيرة من القش، وكان لديه وجهٌ طويل وذقن كبير. وكانت حافة القُبَّعة العريضة تقطع جبينه بظلٍّ أشبه قليلًا بقناع. ومن ورائه، كان يوجد صفٌّ من خلايا النحل الساطعة تحت ضوء الشمس، وكان يسير بجوارها رجلٌ مُسِن، من المفترض أنَّه السيد سميث، مع رفيقٍ قصير مألوف المظهر يرتدي ثوب قسٍّ أسود.

وفجأةً، قال جون المُندفع قبل أن يتمكن ديفاين حتى من إلقاء أيِّ تحية مُهذَّبة: «أصغِ إليَّ، لقد أحضرتها معي لأصحبك في جولةٍ سريعة بها. وسترى بنفسك ما إذا كانت أسرع من «ثاندربولت» أم لا.»

فابتسم كارفر ابتسامةً ربما كان من المفترض أن تكون لطيفةً، لكنَّها بدَت مُتجهِّمة بعض الشيء. وقال: «يُؤسفني القول إنني مشغولٌ جدًّا ولن أستطيع خوض هذه التجرِبة الممتعة مساء اليوم.»

فقال ديفاين بغموضٍ مماثل: «كيف حال النحلة الصغيرة المشغولة؟ لا بُدَّ أنَّ نَحلَك مشغولٌ جدًّا لأنَّه يُبقيك منهمكًا في متابعته طوال الليل. كنت أتساءل عمَّا إذا …»

فطلب منه كارفر بنبرةٍ مُتحدِّية هادئة وواثقة إكمالَ كلامه، قائلًا: «حسنًا، قُل سؤالك.»

فقال ديفاين: «حسنًا، يقولون إننا ينبغي أن نحصد القش في ضوء الشمس. لعلك تستخرجُ العسل في ضوء القمر.»

وحينئذٍ، لمع وميضٌ خاطف من ظلِّ القبعة ذات الحواف العريضة، إذ تحرَّكت عينا كارفر ولمعتا فجأة.

ثم قال: «ربما يوجد قَدرٌ كبير من ضوء القمر في عملية استخراج العسل، لكنِّي أُحذِّرُك من أنَّ نحلي لا يصنع العسل فحسب، بل يلدغ أيضًا.»

وهنا ألحَّ جون الذي كان فاغرًا عينَيه، قائلًا: «هل ستركب السيارة؟» لكنَّ كارفر، وإن كان قد تخلَّص من النبرة اللحظية ذات الدلالة الخبيثة التي كان يردُّ بها على ديفاين، ظلَّ متمسكًا برفضه المُهذَّب.

وقال: «لا أستطيع الذهاب؛ فلديَّ الكثير من الأعمال الكتابية التي يجب أن أنجزها، ولكن سيكون لُطفًا منك أن تصطحب بعضًا من أصدقائي في جولةٍ بالسيارة، إن كُنتَ تريدُ صُحبةً. هذا صديقي، السيد سميث، وهذا الأب براون.»

فصاح بانكس: «نعم بالطبع. ليأتيا معي.»

فقال الأب براون: «شكرًا جزيلًا، لكنني مضطرٌّ إلى الرفض مع الأسف؛ لأنني يجب أن أذهب إلى منح البركة في غضون بضع دقائق.»

فقال كارفر بنبرةٍ توحي بأنَّ صبره بدأ ينفد: «إذًا، فليكُن السيد سميث رفيقك. إنني متيقنٌ من أنَّه يتوق إلى ركوب سيارة.»

غير أنَّ سميث، الذي اكتسى وجهه بابتسامةٍ عريضة، لم يكن يبدو عليه أنَّه يشتاق إلى أيِّ شيء؛ إذ كان رجلًا مُسنًّا نشيطًا ضئيل الحجم يعتمر شعرًا مُستعارًا، والذي كان يبدو وكأنه مُجرَّد قُبَّعة؛ لأنَّ لونه الأصفر لم يكن متماشيًا مع بشرته الشاحبة. فهزَّ رأسه وأجاب بعنادٍ وُدِّي:

«أتذكرُ أنني سافرت عبر هذا الطريق قبل عشر سنوات في واحدةٍ من تلك المركبات ذات العجلات الأربع. لقد جئتُ بها آنذاك من منزل أختي الواقع في ضيعة هولمجيت، ومنذ ذلك الحين، لم أستقلَّ أيَّ سيارةٍ على هذا الطريق. لقد كانت رحلةً صعبة.»

فقال جون بانكس ساخرًا: «قبل عشر سنوات! لو قطعتَ هذا الطريق قبل ألفَي عام، لكنتَ ركبتَ عربةً تَجرُّها الثيران. هل تظنُّ أنَّ السيارات لم تتغير طوال هذه السنوات العشر، بل الطُّرُق أيضًا؟ أؤكِّد لك أنَّك لن تَشعر في حافلتي الصغيرة بأنَّ العجلات تدور على الأرض، بل ستظنُّ أنَّك تطير في السماء.»

ألحَّ كارفر في إقناع صديقه قائلًا: «إنني متيقنٌ من أنَّ سميث يريد أن يطير. فهذا حلم حياته. هيَّا يا سميث، اذهب إلى هولمجيت، وزُر أختك. فأنت تعرف أنَّك يجب أن تذهب وتزورها. اذهب إليها، وبِت عندها الليلة إذا أردت.»

فقال سميث المُسِن: «حسنًا، عادةً ما أذهب إليها سيرًا على الأقدام لذا أُضطَر إلى المبيت عندها، وأنا لا أرى داعيًا لأُتعِبَ الرجل اليوم تحديدًا.»

فصاح كارفر: «ولكن تخيَّل مدى الابتهاج الذي ستشعر به أختك حين تراك قادمًا إليها في سيارة! يجب أن تذهب. لا تكن أنانيًّا جدًّا هكذا.»

فصدَّق بانكس على كلامه ببهجةٍ ورغبةٍ في تقديم المساعدة: «إنَّه مُحِق. لا تكن أنانيًّا. لن تؤذيك السيارة. لا أظنُّك خائفًا من ركوبها، أليس كذلك؟»

فقال السيد سميث بينما كانت عيناه ترمشان وتوحيان بانهماكه في التفكير: «حسنًا، لا أريد أن أكون أنانيًّا، ولا أظنُّ أنني خائفٌ. سأُرافقك في سيارتك إذا كانت هذه وجهةَ نظرك.»

فانطلق الاثنان وسط تلويحٍ توديعيٍّ من الثلاثة الآخرين جعلهم يبدون كأنَّهم حشدٌ مبتهج. غير أنَّ ديفاين والأب براون كانا يُلوِّحان من باب المجاملة المُهذَّبة ليس إلَّا، وشعر كلاهما بأنَّ إيماءات مُضيِّفهما التي كانت مُهيمنةً على ذلك التلويح هي التي أضفت على المشهد هذا الطابعَ الوداعي. وقد أثارت هذه التفصيلة إحساسًا غريبًا فيهما بقوة شخصيته الطاغية.

وفي اللحظة التي خرجت فيها السيارة من مرمى بصرهم، التفتَ نحوهما كارفر التفاتةً توحي بنوعٍ من الاعتذار الفظ، وقال: «حسنًا! كيف أخدمكما؟»

قالها كارفر بلهجة حماسية فضولية مُنافية تمامًا لحُسن الضيافة؛ وذلك لأنَّ الحماس المُبالغ فيه يُشبه طَرد الضيوف.

وحينئذٍ قال ديفاين: «لا بُدَّ أن أذهب. يجب ألَّا نقاطع النحلة المشغولة. يؤسفني القول إنني لا أعرف سوى القليل عن النحل، وأحيانًا لا أستطيع أن أُفرِّق بين النحلة والدبور.»

فقال السيد كارفر الغامض: «إنني أُربِّي الدبابير أيضًا.» وحين أصبح ضيفاه على بعد بضعة أمتار من الشارع في طريقهما نحو الخروج، قال ديفاين بنبرةٍ مُتحفِّزة لرفيقه: «إنَّه موقفٌ غريب بعض الشيء، ألا تعتقد ذلك؟»

فأجاب الأب براون: «بلى. وما رأيك في ذلك؟»

فنظر ديفاين إلى الرجل القصير الذي يرتدي ثوبًا أسود، ويبدو أنَّ شيئًا ما في عينَيه الرماديتَين الواسعتَين كان يُؤجِّج تحفُّزه.

وقال: «أظنُّ أن كارفر حريص بشدة على أن يكون وحده في المنزل هذه الليلة. لا أعرف هل ساورَتك أيُّ شكوكٍ كهذه؟»

فأجاب الكاهن: «ربما ساورتني بعض الشكوك، لكنِّي لستُ متيقنًا من أنَّها مماثلةٌ لشكوكك.»

وفي ذلك المساء، حين كانت آخر بقايا الغسق في الحدائق المحيطة بقصر آل بانكس تُعتِم، كانت أوبال بانكس تتنقل بين بعض الغرف المُظلِمة الفارغة بانهماكٍ يفوق انهماكها المعتاد، ولو كان أيُّ شخصٍ نظر إليها عن كثب آنذاك، لَلاحَظ أنَّ شحوب وجهها كان أشدَّ من المعتاد. وبالرغم من فخامة المنزل البرجوازية، كان جوُّه العام يحمل طابعًا كئيبًا فريدًا من نوعه بعض الشيء؛ إذ كان يُصيب المرءَ عند رؤيته بنوعٍ من ذلك الحُزن الفوري المقترن بالأشياء القديمة، لا العريقة؛ فقد كان مليئًا بطُرُزٍ باهتة، وليست طُرُزًا تحمل عَبَق التاريخ، وبنظامٍ وزخارف على درجةٍ كافية من الحداثة ليُدرك المرء أنَّهما بلا روح. وفي أماكن متفرقةٍ منه، كان يحتوي على زجاجٍ ملوَّن ينتمي إلى أوائل العصر الفيكتوري أضفى صبغةً طفيفةً على لون الشفق، فيما جعلت الأسقفُ العالية الغرفَ الطويلة تبدو ضيقة، وفي نهاية الغرفة الطويلة التي كانت أوبال تسير فيها، كانت ثَم واحدةٌ من تلك النوافذ المستديرة التي كانت مألوفة في مباني تلك الفترة. وبينما اقتربت أوبال من منتصف الغرفة، توقفت ثم ترنَّحت قليلًا فجأةً، كأنَّ يدًا خفية لطمتها على وجهها.

وبعد ذلك بلحظةٍ واحدة، سمعت صوت ضجيج أو قرعٍ على الباب الأمامي بدا خافتًا لتضاؤل حدَّته بفعل الأبواب المغلقة بينه وبين باب الغرفة. وكانت تعرف أنَّ بقية أفراد الأسرة كانوا في الطوابق العُليا من المنزل، لكنَّها لم تستطع تحليل الدافع الذي جعلها تذهب إلى الباب الأمامي بنفسها. وعلى عتبة الباب، كان يقف شخصٌ بدينٌ قصيرٌ متجهمُ الوجه أسودُ الثياب، عَرَفت أنَّه القسُّ الكاثوليكي الروماني براون. ولم تكن تعرفه سوى معرفةٍ سطحية، لكنَّها كانت تُكنُّ له مَعزَّةً. وصحيحٌ أنَّه لم يكن يؤيِّد آراءها بشأن القوى الروحية، بل العكس تمامًا؛ لكنَّه كان يُحاول أن يُثنيها عن تلك الآراء دون التسفيه منها. فلم يكن يُعرض عن آرائها بقدر ما كان يتعاطف معها بالفعل دون أن يؤيدها. كانت كل هذه الأفكار تدور في ذهنها بشيءٍ من الفوضى بينما وجدت نفسها تقول، دون أن تُحيِّيه، أو تنتظر حتى سماع سبب قدومه:

«أنا سعيدةٌ جدًّا بمجيئك. لقد رأيتُ شَبَحًا.»

فقال: «لا داعي إلى القلق حيال ذلك؛ فهذا يحدث كثيرًا. معظم الأشباح ليست أشباحًا حَقًّا، وحتى القلة التي ربما تكون أشباحًا بالفعل لن تؤذيكِ. هل كان نوعًا مُعيَّنًا من الأشباح؟»

فاعترفت بنبرةٍ تحمل شعورًا غامضًا بالارتياح: «لا، لم يكن شبحًا في حد ذاته بقدر ما كان شعورًا عامًّا باضمحلال مُخيف، أو نوع من التفكك النوراني. لقد كان وجهًا، وجهًا عند النافذة. كان شاحب اللون، وكانت عيناه تحدِّقان، بدا كصورة يهوذا.»

فقال القس: «حسنًا، بعض الناس يبدو هكذا، وأستطيع القولَ إنَّهم يظهرون عند النوافذ أحيانًا. هل يُمكنني أن أدخل وأرى أين حدث ذلك؟»

ولكن حين عادت إلى الغرفة معه، كان أفراد الأسرة الآخرون قد اجتمعوا، وارتأى أولئك الذين لا يشعرون بالقدر نفسه من القوى الروحية أنَّه من الأفضل إضاءة الأنوار. فيما تصنَّع الأب براون مزيدًا من الكياسة التقليدية في حضور السيدة بانكس، واعتذر عن تطفُّله.

إذ قال: «يؤسفني أنَّ الأمر اقتضى تطفُّلي على منزلِك، لكنِّي أظن أنني أستطيع أن أُفسِّر سبب أهميته لكِ. لقد كنتُ في منزل آل بولمان قُبيل لحظات، حين تلقيتُ اتصالًا هاتفيًّا وطُلِب منِّي المجيء إلى هنا لمقابلة رجلٍ آتٍ لكي يقول شيئًا ربما يكون مهمًّا بعض الشيء لكِ. كان ينبغي ألَّا أُقحِم نفسي في هذا التجمُّع العائلي، لكنَّ أحدَهم طلب منِّي المجيء؛ على ما يبدو لأنني شاهدٌ على ما حدث في قصر بيتشوود. بل في الحقيقة، أنا الذي نَبَّهتُ الجميع إلى ما حدث.»

فسألته السيدة: «ماذا حدث؟»

فقال الأب براون بجديةٍ: «لقد وقعت جريمة سرقة في قصر بيتشوود هاوس، والأسوأ، مع الأسف، أنَّ حُلي السيدة بولمان اختفت، وعُثِر في الحديقة على جثة سكرتيرها التعيس، السيد بارنارد، الذي كان من الواضح أنَّ السارق الهارب أرداه قتيلًا بالرصاص.»

فصاحت السيدة قائلةً: «هذا الرجل. أعتقد أنه كان …»

وفي أثناء حديثها، تلاقت عيناها مع نظرات القس المُحدِّقة الحادة، فتلاشت الكلمات فجأةً من على لسانها، دون أن تعرف سبب ذلك أبدًا.

ثم أضاف براون: «لقد تواصلتُ مع الشرطة ومع جهة أخرى مهتمة بهذه القضية، ويقولون إنَّ الفحص الأوَّلي كشف عن آثار أقدام وبصمات أصابع ومؤشرات أخرى تُشير إلى مجرمٍ معروف.»

وحينئذٍ، قوطِع هذا التجمُّع برهةً بعودة جون بانكس ممَّا بدا جولةً فاشلة بالسيارة. إذ بدا أنَّ سميث المُسِن كان راكبًا مُحبِطًا في نهاية المطاف.

صاح جون قائلًا بامتعاضٍ صاخب: «لقد تراجَع خوفًا في اللحظة الأخيرة رغم كل شيء؛ إذ فرَّ هاربًا بينما كنت أتفحَّص ما ظننته ثُقبًا في إطار السيارة. هذه آخر مرة سأصطحب فيها واحدًا من هؤلاء الريفيين …»

لكنَّ شكواه لم تلقَ اهتمامًا كبيرًا في خِضَمِّ انشغال الجميع بالأب براون والخبر الذي أعلنه.

فيما واصل القس حديثه بالنبرة المتحفِّظة الرزينة نفسها، قائلًا: «سيصل شخصٌ ما في غضون بضع دقائق سيعفيني من هذه المسئولية. وحين أقابلكم به، سأكون قد أدَّيتُ مهمة الشهادة في قضيةٍ مهمة. وبذلك لا يتبقى لي سوى القول إنَّ إحدى الخادمات في بيتشوود هاوس أخبرتني بأنها رأت وجهًا عند إحدى النوافذ …»

فقالت أوبال: «لقد رأيتُ وجهًا عند إحدى نوافذ بيتنا.»

فقال شقيقها جون بفظاظة: «آه، إنَّك دائمًا ما ترين وجوهًا.»

فيما قال الأب براون بنبرةٍ هادئة: «من الأفضل رؤية الحقائق حتى لو كانت وجوهًا، وأعتقد أنَّ الوجه الذي رأيتِه …»

وحينئذٍ دَوَّى قرعٌ آخر على الباب الأمامي في أرجاء المنزل، وبعد دقيقة واحدة، فُتِح باب الغرفة وظهر شخصٌ آخر. فقام ديفاين نصف قومةٍ من كُرسيه حين رآه.

كان رجلًا طويلًا ممشوق القامة ذا وجهٍ طويل شديد الشحوب وذقنٍ كبير. فيما كان جبينه أملس بعض الشيء، وكانت عيناه، اللتان رآهما ديفاين في آخر مرَّةٍ محجوبتَين بقبَّعةٍ عريضةٍ من القش، زرقاوَين لامعتَين.

قال الرجل، الذي يُدعى كارفر، بنبرةٍ واضحة مهذبة: «أرجو ألَّا يتحرَّك أيُّ شخص.» غير أنَّ ذهن ديفاين، الذي كان مشوشًا آنذاك، جعله يشعر بأنَّ تلك النبرة المهذبة تحمل تشابهًا مشئومًا مع نبرةِ لصٍّ يُثبِّت مجموعةً من الأشخاص بمسدسٍ.

ثم قال كارفر: «من فضلك اجلس يا سيد ديفاين، وبعد إذن السيدة بانكس، سأجلس أنا أيضًا. أعرف أنَّ وجودي هنا يتطلب تفسيرًا. وأظنُّ أنَّك تشك في أنني لصٌّ بارزٌ شهير.»

فقال ديفاين بتجهُّمٍ: «هذا صحيح.»

فقال كارفر: «كما قُلتَ سلفًا، ليس من السهل دائمًا التفريق بين الدبور والنحلة.»

ثم سكت بُرهةً، قبل أن يواصل قائلًا: «يمكنني أن أدَّعيَ أنني من الحشرات الأنفع، وإن كانت أكثر إزعاجًا. أنا مُحقِّق، وقد جئت إلى هذا الحيِّ للتحقيق في استئنافٍ مزعومٍ لأنشطة المجرم الذي يطلق على نفسه اسم مايكل مونشاين. لقد كان متخصصًا في سرقة الحُلي، وقد وَقَعَت إحدى هذه السرقات للتو في قصر بيتشوود هاوس، ومن الواضح، بناءً على جميع الفحوصات الاختصاصية، أنَّه هو الذي نفَّذها؛ إذ لا يقتصر الأمر على تطابق بصمات السارق مع بصماته، ولكن ربما تعرفون أنَّه، حين قُبِض عليه آخر مرَّة وفي مرَّاتٍ أخرى أيضًا حسب ما يُعتقَد، كان متنكِّرًا بتمويهٍ بسيط، لكنَّه فعَّال، متمثلٍ في لحيةٍ حمراء ونظَّارةٍ كبيرة ذات إطارٍ مصنوع من العاج.»

وهنا انحنت أوبال بانكس إلى الأمام بشدة.

وصاحت منفعلة: «هذا هو، هذا هو الوجه الذي رأيته، وجهٌ ذو نظَّارةٍ كبيرة ولحية حمراء شعثاء مثل يهوذا. اعتقدتُ أنه شبح.»

فقال كارفر بنبرةٍ جادة: «وهذا هو الشبح نفسه الذي رأته الخادمة في بيتشوود.»

ثم وضع بعض الأوراق والصناديق على الطاولة، وبدأ في فتحها بعناية. وواصل كلامه قائلًا: «كما قُلتُ سلفًا، أُرسِلتُ إلى هنا لأتحرَّى عن الخطط الإجرامية لهذا الرجل المدعو مونشاين؛ لذا اهتممتُ بتربية النحل وذهبت للإقامة مع السيد سميث.»

ثم حلَّ صمتٌ لحظي، قبل أن يقطعه ديفاين ويقول: «لا تقُل إنَّك تقصد أنَّ ذلك المُسِن اللطيف …»

فقال كارفر مبتسمًا: «كُن منطقيًّا يا سيد ديفاين، لقد كنتَ تعتقد أنَّ مزرعة النحل مخبأٌ لي. فلمَ لا تكون مخبأً له؟»

فأومأ ديفاين بعبوس، وعاد المحقق إلى أوراقه. ثم قال: «حين اشتبهتُ في سميث، أردت أن أُبعِده عن المنزل، وأتفقَّدَ مقتنياته؛ لذا اغتنمتُ لطف السيد بانكس حين عَرَض عليه اصطحابه في جولةٍ ممتعة بالسيارة. وبينما كنت أُفتِّش منزله، وجدت بعض الأشياء التي كان من الغريب وجودها بين مقتنيات رجلٍ ريفيٍّ مُسِن ساذج غير مهتم إلَّا بالنحل. وهذه إحداها.»

رفع كارفر في هذه الأثناء من الورقة المطوية التي فتحها لحيةً طويلة ذات لونٍ شبه قرمزي كاللِّحى المستعارة التي تُرتدَى في المسرحيات.

وكان يوجد بجوارها نظارة قديمة ذات إطارٍ من العاج.

ثم أضاف: «لكنِّي وجدتُ كذلك شيئًا آخر ذا صلة مباشرة بهذا المنزل، ويُمثِّل عذرًا قويًّا بلا شك لتطفُّلي على منزلكم الليلة. لقد وجدت مذكرةً تتضمَّن ملاحظاتٍ بأسماء قِطَعٍ مختلفة من الحُلي النفيسة في الحي وقيمتها التقريبية. وقد ذُكِرت قِلادة الزُّمرُّد التي تملكها السيدة بانكس بعد تاج السيدة بولمان مباشرةً في تلك المذكرة.»

وحينئذٍ، صارت السيدة بانكس، التي كانت حتى هذه اللحظة تتعامل مع هذا التطفُّل على منزلها بشيءٍ من الحيرة المتغطرسة، منتبهةً فجأة. وبدا وجهُها فجأةً أكبر بعشر سنوات من سنِّها الحقيقي وأذكى بكثير، ولكن قبل أن تنبس ببِنت شَفة، نهض جون المُندفع بعلو قامته مثل فيلٍ يَنهِمُ بصوتٍ عالٍ.

وصاح قائلًا: «وقد سُرِق التاج بالفعل، والقلادة … سأذهب لتفقُّد القلادة!»

فقال كارفر، بينما هُرِع جون من الغرفة: «فكرةٌ جيدة، مع أننا متيقظِّون بالطبع منذ مجيئنا إلى هنا. حسنًا، استغرق منِّي فكُّ طلاسم المذكرة، التي كانت مُشفَّرة، بعض الوقت، وقد أخبرني الأب براون عبر الهاتف بما حدث في بيتشوود هاوس حين كُنتُ على وشك الانتهاء من فك شفرتها. فطلبتُ منه أن يُهرَع إلى هنا أولًا بالخبر، على أن أتبعه، وهكذا …»

وفجأة، قُوطِع حديثه بصرخةٍ عالية. كانت أوبال واقفةً وتشير بجمودٍ إلى النافذة المستديرة.

ثم صاحت: «ها هو ذا مرَّةً أخرى!»

وللحظةٍ، رأى الجميع شيئًا برَّأ أوبال من اتهامات الكذب والاضطراب العصبي التي عادةً ما تُتَّهَم بها. فمن وسط الظلام المائل إلى اللون الأزرق الإردوازي خارج النافذة، بَرَز وجهٌ شاحب، أو ربما بدا شاحبًا بسبب انضغاطه على الزجاج، فيما أضفت عيناه الكبيرتان المتوهجتان، اللتان بدَتا كأنَّهما محاطتان بحلقتَين، عليه مظهر سمكة كبيرةٍ في بحر أزرق داكن تُلصِق أنفها بنافذة سفينة، لكنَّ الخياشيم أو الزعانف كانت حمراء نُحاسية، أو بالأحرى كانت سوالف حمراء شعثاء والجزء العلوي من لحيةٍ حمراء. ثم اختفى الوجه في اللحظة التالية.

وبينما خطا ديفاين خطوةً واحدة نحو النافذة، دوَّى صدى صراخٍ في المنزل، صراخٍ بَدَا كأنَّه يهزُّ أرجاءه. كان صراخًا يُصِمُّ الآذان ويُعجِزها عن تمييز ما تضمَّنه من كلمات، لكنَّه كان كافيًا لإيقاف ديفاين عن مواصلة السير نحو النافذة، وأوحى إليه بما حدث.

إذ صَرَخ جون بانكس، الذي بدا ضخمًا ولاهثًا عند باب الغرفة، قائلًا: «اختفت القلادة!» ثم سرعان ما اختفى مجدَّدًا بقفزةٍ تُشبه قفزة كلب صيدٍ يُلاحق فريسةً.

فصاح المُحقِّق: «كان اللص عند النافذة الآن!» بينما اندفع نحو الباب بالفعل ليتبع جون المتهور، الذي كان قد خرج إلى الحديقة بالفعل.

وهنا صاحت أوبال: «توخَّ الحذر، لديهم مسدسات وأسلحة مؤذية.»

فَدَوَّى صوت جون الجسور من بعيد في الحديقة المظلمة، قائلًا: «وأنا أيضًا.»

كان ديفاين قد لاحظ بالفعل في أثناء ركض جون بجواره أنَّه يُشهِر مسدسًا ليُهدِّد به طريده، وتمنَّى ألَّا يُضطَر إلى استخدامه للدفاع عن نفسه، ولكن بينما كانت تلك الأفكار تراوده، دَوَّى صوت طلقتَين متتاليتَين، كأنَّ إحداهما تردُّ على الأخرى، وأيقظ سلسلةً جامحة من الأصداء في تلك الحديقة الريفية الهادئة ظلَّت تتردَّد ثم طواها السكون.

فسألت أوبال بصوتٍ خافت مرتعش: «هل مات جون؟»

كان الأب براون قد غاص أعمق وسط الظلام المُخيِّم على الحديقة، ووقف مديرًا ظهره نحوهم، وناظرًا إلى الأسفل نحو شيءٍ ما. وكان هو الذي رد عليها، قائلًا:

«لا، بل مات الشخص الآخر.»

ثم انضمَّ كارفر إليه، وبعد لحظةٍ واحدة، حَجَب الاثنان، الطويلُ والقصير، الرؤيةَ التي كان من الممكن أن يُتيحها ضوء القمر المتقطِّع المضطرب. ثم تنحيا إلى جانبٍ واحد، فرأى الآخرون شخصًا ضئيلًا نحيلًا قوي البنية مستلقيًا على الأرض في وضعيةٍ ملتوية قليلًا كأنَّه كان في صراعٍ أخير قبل الموت. كانت اللحية الحمراء المستعارة مرفوعةً إلى أعلى، كأنَّها تنظر بازدراء نحو السماء، فيما سَطَع ضوء القمر على النظارة التنكُّرية الكبيرة التي كان يرتديها المدعو مونشاين.

فتمتم المخبر كارفر قائلًا: «يا لها من نهاية! فبعد كل مغامراته، أرداه سمسار أوراق مالية قتيلًا بالصدفة تقريبًا في حديقةٍ بإحدى الضواحي.»

غير أنَّ سمسار الأوراق المالية نفسه تعامل مع إنجازه بقدرٍ أكبر من الرزانة بالطبع، لكنَّها لم تخلُ من الاضطراب. إذ قال وهو ما زال يلهث من شدة الإجهاد: «اضطُررت إلى ذلك. أنا آسف، لقد أطلق الرصاص نحوي.»

وهنا قال كارفر بجديَّة: «سيُفتَح تحقيقٌ بالتأكيد، لكنِّي لا أرى ما يدعو إلى القلق. لقد سقط المُسدسُ من يده بعد أن أطلق رصاصةً واحدة، وبالتأكيد هو لم يُطلِق النار بعدما أُصيب برصاصتك.»

وفي غضون ذلك، اجتمع الجميع مرَّةً أخرى في الغرفة، فيما كان المحقق يلملم أوراقه استعدادًا لمغادرة المنزل. وكان الأب براون يقف في الجهة المُقابلة له، ناظرًا إلى الأسفل نحو المنضدة، كأنَّه منهمكٌ في تفكير عميق. ثم قال فجأة:

«سيد كارفر، لا شكَّ أنَّك حللت القضية حلًّا مكتمل الأركان ببراعةٍ شديدة. لقد خمَّنتُ مهنتك الحقيقية قبل أن أعرفها، لكنِّي لم أظن قَط أنَّك ستربط كل الخيوط معًا بهذه السرعة: النحل واللحية والنظارة والشفرة والقلادة وكل شيء.»

فقال كارفر: «من المُرضي دائمًا إتمامُ حلِّ القضايا.»

فقال الأب براون وهو ما زال ينظر إلى المنضدة: «نعم. إنني معجبٌ جدًّا بالحلِّ الذي عَرضته.» ثم أضاف بنبرةٍ متواضعة تكاد تكون عصبية: «كُلُّ ما أريد قوله أنني لا أُصدِّق كلمةً واحدة منه.»

فمال ديفاين إلى الأمام باهتمامٍ مفاجئ، ثم قال: «هل تقصد أنَّك لا تُصدِّق أنَّ مونشاين اللص؟»

فأجاب الأب براون: «بل أعرف أنَّه لص، لكنَّه لم يسرق. وأعرف أنَّه لم يأتِ إلى هنا، ولم يذهب إلى القصر الكبير، ليسرق الحُلي، أو يُردَى قتيلًا بالرصاص وهو يهرب بها. فأين الحُلي إذًا؟»

فقال كارفر: «إنَّها حيث عادةً ما تكون في مثل هذه الحالات. إمَّا أخفاها وإمَّا سَلَّمها إلى شريكٍ متواطئ معه. فهذه من الجرائم التي تقتضي مشاركة أكثر من شخص. وبالطبع رجالي يُمشِّطون الحديقة وينشرون التحذيرات في أرجاء الحيِّ.»

فاقترحت السيدة بانكس قائلةً: «ربما سرق شريكه القلادة بينما كان مونشاين ينظر إلى المنزل عبر النافذة.»

فسأل الأب براون بهدوء: «لماذا كان مونشاين ينظر عبر النافذة؟ ما الذي قد يُرغِّبه في النظر عبر النافذة؟»

فصاح جون المبتهج: «حسنًا، ما الذي تظنُّه؟»

فقال الأب براون: «أظنُّ أنَّه لم يرغب قط في النظر عبر النافذة.»

فسأله كارفر: «إذًا، فلماذا فعل ذلك؟ وما فائدة هذا الكلام المُبهَم؟ لقد رأينا كلَّ ما حدث بأمِّ أعيننا.»

فأجاب القَس: «كثيرًا ما رأيت أشياء تحدث أمام عينَي، لكنِّي لم أُصدقها. وأنت أيضًا، سواءٌ في مسرح الجريمة أو كواليسها.»

فقال ديفاين بنبرةٍ تحمل بعض الاحترام: «أيها الأب براون، هل ستخبرنا بالسبب الذي يجعلك لا تُصدِّق عينَيك؟»

فقال القس: «نعم، سأحاول أن أخبركم.» ثم أضاف بلطف:

«تعرفون ماهيَّتي وماهيَّتنا. فنحن لا نضايقكم كثيرًا. بل نحاول أن نكون أصدقاء مع جميع جيراننا، ولكن ينبغي ألَّا تظنُّوا أننا لا نفعل شيئًا، وألَّا تظنُّوا أننا لا نعرف شيئًا. صحيحٌ أننا نهتم بشئوننا ولا نتدخَّل فيما لا يَعنينا، لكننا نعرف الأناس المحيطين بنا. لقد كنت أعرف هذا الرجل الميت معرفةً قوية في الواقع؛ إذ كُنتُ القَسَّ الذي يسمع اعترافاته بخطاياه ويساعده على التوبة، وصديقه. وبقدر ما يستطيع المرء، كُنتُ أعرف ما يدورُ في عقله حين غادر تلك الحديقة اليوم، وكان عقله كخليةٍ زجاجية مليئة بنحلٍ ذهبي. وحتى إذا قُلتُ إنَّ توبته كانت نَصوحًا، فلن أُوفيها حقَّها؛ إذ كان واحدًا من هؤلاء التائبين العظماء الذين حصدوا حسناتٍ من توبتهم تفوق الحسنات التي يُمكِن أن يحصدها بعض الآخرين من عِفَّتهم. وصحيحٌ أنني كُنتُ القسَّ الذي يساعده على الاعتراف والتحرُّر من عبء خطاياه، ولكن في الواقع، أنا الذي كنت أذهب إليه كي أشعر بالارتياح؛ إذ كان ينفعني وجودي بالقرب من رجلٍ شديد الصلاح مثله. وحين رأيته يرقد ميتًا في الحديقة، بدا لي كأنَّ بعض الكلمات الغريبة التي قيلت قديمًا قد تُلِيَت عليه بصوت عالٍ في أذني. وربما تكون قد تُلِيَت عليه بالفعل؛ لأنَّه لو كُتِبَ لأيِّ امرِئٍ أن يدخل الجنَّة مباشرةً، لربما كان هو هذا الرجل.»

وهُنا قال جون بانكس بنفاد صبر: «دعك من هذا، لقد كان مُجرَّد لصٍّ مُدانٍ في النهاية.»

فقال الأب براون: «نعم، وهذه البُشرى المُطمئنة التي قالها المسيح لم يسمعها أيُّ شخصٍ في الدُّنيا سوى لصٍّ مُدان: «الليلة ستكون معي في الجنة».»

ثم خيَّم صمتٌ بدا فيه أنَّ الجميع لا يجد شيئًا يقوله، إلى أن كسَره ديفاين أخيرًا وقال فجأة:

«إذًا، فكيف تُفسِّر كلَّ ما حدث بحقِّ الله؟»

فهزَّ القسُّ رأسه، ثم قال ببساطة: «لا أستطيع تفسيره إطلاقًا حتى الآن. أرى شيئًا غريبًا أو شيئَين، لكنني لا أفهمهما. وحتى الآن، ليس لديَّ أيُّ شيءٍ لأُثبت به براءة الرجل، باستثناء الرجل نفسه، لكنِّي متيقنٌ تمامًا من أنني مُحِق.»

ثم تنهَّد، ومدَّ يده نحو قبعته الكبيرة السوداء. وبينما كان يخلعها، ظلَّ يُحدِّق إلى المنضدة بتعبيراتٍ مختلفة نوعًا ما، فيما مال رأسه المستدير ذو الشعر المستقيم بزاويةٍ مختلفة. كان يبدو كما لو أنَّ بعض الحيوانات الفضولية قد خرجت من قبعته، كأنَّها قبعة ساحر، لكنَّ الآخرين، الذين كانوا ينظرون إلى المنضدة أيضًا، لم يرَوا عليها سوى وثائقِ المُحقِّق واللحية المستعارة والنظارة القديمتَين المبهرجتَين.

فتمتم الأب براون قائلًا: «فليحفظنا الرب، والرجل الميت مستلقٍ في الخارج مرتدٍ لحيةً ونظارة أيضًا.» ثم التفت فجأةً نحو ديفاين، وقال: «هاك خيطًا لتسير وراءه إذا كنت تريد أن تعرف حقيقة ما حدث. لماذا كانت لديه لحيتان؟»

وبعد ذلك، اندفع بطريقته غير الوقورة خارج الغرفة، لكنَّ الفضول كان يفترس ديفاين آنذاك، فدفعه إلى الخروج وراءه نحو الحديقة الأمامية.

ثم قال الأب براون: «لا أستطيع أن أخبرك الآن، لستُ متيقنًا، وأنا منشغلٌ الآن بالتفكير فيما يجب فعلُه. تعال وزُرني غدًا، وقد أتمكن حينئذٍ من إخبارك بالتفاصيل كلها. ربما تكون قد اتضحت لي بالفعل، و… هل تسمع هذا الصوت؟»

فعلَّق ديفاين قائلًا: «إنَّه صوت تشغيل مُحرِّك سيارة.»

فقال القس: «سيارة السيد جون بانكس. أعتقد أنَّها تسير بسرعة كبيرة.»

فقال ديفاين بابتسامة: «إنَّه أيضًا يعتقد ذلك بالتأكيد.»

فقال الأب براون: «ستنطلق بعيدًا الليلة مثلما تنطلق سريعًا.»

فسأله الآخر: «وماذا تقصد بذلك؟»

فأجابه القس: «أقصد أنَّها لن تعود. لقد خمَّن جون بانكس شيئًا ممَّا أعرفه بناءً على كلامي. وها هو قد ذهب آخذًا معه القلادة المُطعَّمة بالزمرُّد وجميع الحُلي الأخرى.»

وفي اليوم التالي، وجد ديفاين الأب براون يتحرَّك ذهابًا وإيابًا أمام صفٍّ من خلايا النحل بمزيجٍ من الحزن وبعض السكينة.

قال القس: «لقد كنت أخبِرُ النحل بما حدث. أتعرف أنَّ المرء يجب أن يُخبِر النحل بالأحداث المهمة! «تبني هذه الكائنات البنَّاءة الشادية أسطحًا من الذهب» يا لها من سلالة رائعة!» ثم قال فجأة متحدثًا عن مونشاين: «لا شكَّ أنَّه يرغب في أن يحظى النحل برعاية.»

فقال ديفاين: «آمُل أنَّه لا يرغب في أن يُهمَل البَشَر، لا سيما حين يئِنُّون من شدة الفضول. كنتَ مُحقًّا تمامًا حين قُلتَ إنَّ بانكس رحل آخذًا معه الحُلي، لكنِّي لا أعلم كيف عرَفت، أو ما الذي كان يُمكِن معرفته في الأساس.»

فنظر الأب براون بعينَيه الرامشتَين نظرة عَطوفةً إلى خلايا النحل، وقال:

«يُمكن القول إنَّ المرء يتعثَّر بالتفاصيل فيكتشفها مصادفة، وقد كانت تُوجَد تفصيلةٌ مهمة تعثَّرتُ بها في البداية. لقد حيَّرني إطلاقُ النار على بارنارد المسكين في قصر بيتشوود هاوس. فحتى حين كان مايكل في عزِّ إجرامه، كان مُلتزمًا بأن يُنجِز سرقاته دون أن يقتل أيَّ أحدٍ، معتبرًا ذلك مسألة مبدأ، أو حتى مدعاةً إلى الفخر بنفسه؛ لذا بدا من غير العادي أن يَحيد عن مبدئه بعدما صار تقيًّا ويرتكب خطيئةً كان يحتقرها حين كان آثمًا. أمَّا بقية القضية، فظلَّت تُحيِّرني حتى النهاية، ولم أستطع أن أتوصَّل إلى أيٍّ من تفاصيلها، باستثناء أنَّ ما افترضه المُحقِّق لم يكن صحيحًا. ثم ومضت في ذهني شرارةٌ تنبيهية متأخرة حين رأيت اللحية والنظارة، وتذكَّرتُ أنَّ اللص جاء مرتديًا لحيةً ونظَّارة أُخريَين. قد يتبادر إلى ذهنك الآن بالطبع أنَّه ربما كان يملك نسختَين من أدواته التنكُّرية ليس إلَّا، لكنَّها ليست مصادفةً أنَّه لم يستخدم النظارة القديمة ولا اللحية القديمة، مع أنَّ كِلتَيهما بحالةٍ جيدة. وقد يخطُر على بالك أيضًا أنَّه ربما خَرَج بدونهما فاضطُرَّ إلى شراء لحيةٍ ونظَّارة جديدتَين، لكنَّ هذا مستبعد. لم يكن هناك دافعٌ يجعله يذهب مع بانكس في سيارته على الإطلاق؛ لذا فلو كان قد ذهب معه عازمًا السرقة من البداية، لكان بإمكانه أن يأخذ الأدوات التنكرية في جيبه ببساطة. وعلاوة على ذلك، فإن اللحى لا تنبت على الشجيرات؛ لذا كان سيجد صعوبة في الحصول على أدواتٍ كهذه من أيِّ مكانٍ آنذاك.

كلَّا؛ بل مستحيل، وكلما فكَّرتُ في الأمر مَليًّا، شعرت بشيءٍ مُضحِك في ارتدائه أدواتٍ تنكُّرية جديدة تمامًا. ثم بدأت الحقيقة تتكشَّف لي بالاستدلال المنطقي، بعدما أدركتها بغريزتي بالفعل. لم يذهب مع بانكس ناويًا ارتداءَ الأدوات التنكُّرية قَط. ولم يرتدِها قَط. بل صنعها شخصٌ آخر في وقت فراغه، ثم ألبَسه إيَّاها.»

فكرَّر ديفاين الجملة الأخيرة متسائلًا: «ألبَسه إيَّاها! وكيف ذلك إذن؟»

فقال الأب براون: «دعنا نسترجع ما حدث، وننظر إليه من خلال نافذةٍ أخرى، النافذة التي رأت الفتاة من خلالها الشبح.»

فقال الآخر بشيء من الاستغراب: «الشبح!»

فقال القسُّ القصير برباطة جأش: «لقد وَصَفَته بالشبح، وربما لم تكن مخطئة تمامًا. صحيح أنَّها ممَّن يمكن أن يُطلَق عليهم الوسطاء الروحيين، لكنَّ خطأها الوحيد أنَّها تظن أنَّ الشعور بالقوى الروحية هو نفسه الشعور بالتجليات الإيمانية. فبعض الحيوانات تشعر بقوًى روحية؛ على أي حال، إنَّها شابة حساسة، وكانت مُحِقةً حين شعرت بأنَّ الوجه الذي ظهر عند النافذة كان مُحاطًا بهالةٍ مروِّعة توحي بأنَّه وجه جثَّة.»

فقال ديفاين: «أتقصدُ أنَّ …»

قال الأب براون: «أقصد أنَّ الرجل الذي نظر عبر النافذة كان ميتًا، والرجل الذي كان يحوم حول أكثر من منزل، ناظرًا عبر أكثر من نافذة كان ميتًا. أمرٌ مُرعِب، أليس كذلك؟ ولكن يُمكن القول إنَّه كان عكس الشبح؛ لأنَّه لم يكن روحًا متحررة من جسدها، بل كان جسدًا متحررًا من روحه.»

ثم نظر رامشًا إلى خلية النحل مرَّة أخرى وأضاف: «لكنني أظنُّ أنَّ أقصر تفسير لما حدث هو النظر إليه من منظور فاعله. وأنت تعرف الفاعل؛ جون بانكس.»

فقال ديفاين: «إنَّه آخر شخصٍ كان من الممكن أن أشكَّ فيه.»

فقال الأب براون: «بل كان أول شخصٍ شككتُ فيه، بقدر ما يحقُّ لي أن أشكَّ في أيِّ شخصٍ من الأساس. يا صديقي، لا توجد فئاتٌ اجتماعية أو مِهَنٌ طيبة وأخرى شرِّيرة. إذ يمكن لأي رجل أن يكون قاتلًا مثل جون المسكين، ويمكن لأيِّ رجل، بل الرجل نفسه حتَّى، أن يكون قديسًا تقيًّا مثل مايكل المسكين، ولكن إذا كان ثَم فئةٌ تميل في بعض الأحيان إلى أن تكون أشدَّ إلحادًا من فئةٍ أخرى، فهي هذه الفئة الوحشية من رجال الأعمال. فهو لا يؤمن بمُثُلٍ اجتماعية، فضلًا عن أيِّ دين، ولا يتحلَّى بتقاليد النبلاء ولا ولاء الطبقة العاملة. ويُمكن القول إنَّ كل تفاخره بإبرام صفقاتٍ جيدة كان تفاخرًا بخداع الناس. فيما كان استخفافه بمحاولات أخته المسكينة لممارسة الوساطة الروحية فعلًا بغيضًا. صحيحٌ أنَّ ما تُمارسه وتؤمن به من قُوًى روحية محضُ تفاهة، لكنَّه كره الروحانية لمجرَّد أنَّها روحانية. على أي حال، لا شكَّ في أنَّه كان الشخص الشرِّير في هذه القضية، وكان اهتمامه الوحيد أن يرتكب فعلًا شرِّيرًا مُبتكَرًا بعض الشيء. لقد كان دافعه إلى القتل جديدًا وفريدًا من نوعه بالفعل؛ إذ أراد استخدام الجثة كأداةٍ مسرحية، أداةٍ أشبه بدُميةٍ بشعة. في البداية، نَسَج في ذهنه خطةً لقتل مايكل في السيارة، لمجرد أخذ جثته إلى المنزل والتظاهُر بأنَّه قتله في الحديقة، لكنَّ جميع اللمسات النهائية المُذهلة التي أضفاها على جريمته لاحقًا انبثقت انبثاقًا طبيعيًّا تمامًا من الحقيقة الأساسية؛ أنَّه كان يملك تحت تصرُّفه ليلًا جثة لصٍّ معروفٍ بارز في سيارةٍ مُغلقة. وبذلك، استطاع أن يترك بصماته وآثار أقدامه في مسرح الجريمة، ويُسنِد وجهه المألوف على النوافذ ثم يُبعِده مرَّة أخرى كيفما شاء. ولعلَّك ستُلاحظ أنَّ وجه مونشاين ظهر عبر النافذة واختفى حين كان بانكس خارج الغرفة متظاهرًا بالبحث عن القلادة ذات الزمرد.

وأخيرًا، كُلُّ ما كان عليه أن يُسقِط الجثة على العشب، ويُطلِق رصاصةً من كل مسدس، وقد فعل ذلك. وربما ما كان ليُفتضَح أمره أبدًا لولا الشكُّ بشأن وجود لحيتين.»

وهنا قال ديفاين بنبرةٍ حكيمة: «ولكن لماذا ظلَّ صديقك مايكل محتفظًا بلحيته القديمة؟ أرى ذلك مريبًا.»

فأجاب الأب براون: «بحُكم معرفتي به، أرى أنَّ ذلك كان أمرًا حتميًّا تمامًا؛ إذ كان سلوكه في الحياة كذلك الشعر المستعار الذي كان يضعه على رأسه. فأدواته التنكُّرية لم تكن تجعله متنكرًا بالفعل. صحيحٌ أنَّه لم يعد يرغب في ممارسة التنكُّر القديم، لكنَّه لم يكن خائفًا منه، وكان يشعُر بأنَّ التخلُّص من اللحية المستعارة المُخادِعة سيكون فعلًا مُخادِعًا؛ لأنَّه كان سيُصبح كالاختباء، وهو لم يكن يختبئ من شيء. لم يكن يختبئ من الله، ولم يكن يختبئ من نفسه، بل كان ظاهرًا للجميع في وضح النهار. وحتى لو كان قد أُعيدَ إلى السجن، لظلَّ سعيدًا جدًّا؛ إذ لم يُبيِّض نفسه ليُواريَ رذائلها، بل تطهَّر حتى صار بالفعل كثوبٍ أبيضَ خالٍ من الدَّنَس. لقد كان فيه شيءٌ غريب يُضاهي غرابة رقصة الموت العجيبة التي جُرَّ إليها بعد وفاته. فحتى حين كان يتنقَّل ذهابًا وإيابًا وسط خلايا النحل هذه مبتسمًا بمظهرٍ شديد التألُّق والإشراق، كان ميتًا. لم يكن خاضعًا لأحكام هذه الدُّنيا.»

وحينئذٍ، خيَّم صمتٌ قصير، ثم هزَّ ديفاين كتفَيه وقال: «كلُّ ذلك يرجع إلى التشابه الشديد بين النحل والدبابير في هذه الدُّنيا، أليس كذلك؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤