المرأة المسلمة

جاء الإسلام فبدأ من النهاية التي انتهت إليها آداب الحضارة والسيادة، وهي خلاصة العرف الذي تعارف عليه سادة الحضر في معاملة المرأة العربية.

إلا أنه جعل هذا العرف حقًّا مكتوبًا على الرجال لكل امرأة من كل طبقة، ولم يقصره على عقائل البيوتات كما كان مقصورًا عليهن في آداب الجاهلية بحكم الاصطلاح والعادة، يتبعه من يرضاه ويهمله من يأباه.

ثم زاد على هذا العرف منزلة من الرعاية لم تصل إليها أرفع النساء في أرفع البيوتات قبل الدعوة المحمدية؛ لأنه جعلها مناط التكليف، ووجه إليها الخطاب في كل شيء كما وجهه إلى الرجال، إلا ما هو من خصائص عمل الرجال في العرف المستقيم.

فالمرأة في شريعة الإسلام إنسان مرعيُّ الحقوق والواجبات … وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَال ِعَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.

وكل امرأة أو فتاة — من العلية أو السوقة — لا يصح زواجها حتى يُرجَع إليها فيه، «فلا تنكح الأيم حتى تُستَأمر، ولا البكر حتى تُستَأذن» وعلامة إذنها السكوت، كما جاء في بعض الأحاديث.

ولها أن تملك ما تشاء وأن تبيع وتشتري ما تشاء، وأن تشترك في الإرث وكان حرامًا عليها؛ لأنها لا تحمل الدرع ولا تضرب بالسيف. بل كان من حق الرجل أن يتخذها هي ميراثًا ينتقل إليه كرهًا كما يرث الخيل والإبل والحطام، فأبطل الإسلام ذلك حيث جاء في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا.

وقضى بأن تبايع النساء كما بايع الرجال، فلا تغني عن مبايعتهن مبايعة آبائهن وأزواجهن وأوليائهن، ونص القرآن الكريم على ذلك حيث جاء في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ ۖ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

وأبى الإسلام إلا أن يكفل لها حسن المودة كما كفل لها حسن المعاملة، وأن يوسع لها من حقوق البر والعطف كما وسع لها من حكم الشريعة؛ فأوصى المسلمين أن يستقبلوا ولادتها بالرضى، وزجر الذين يستقبلونها على غيظ وحرد: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.

ومن الآداب القرآنية أن يغالب الرجل كراهتها إذا تغير قلبه من نحوها عسى أن يثوب إلى حبها أو يكون في احتمالها خيرٌ له ولها: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.

وكانت وصايا النبي على منهاج أوامر القرآن في إنصاف المرأة ورعايتها، فكان — عليه السلام — يقول: «خيركم خيركم للنساء …» و«… ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم».

وأسند الوصاة بها في بعض الأحاديث إلى وحي جبريل حيث قال: «ما زال جبريل يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه يحرم طلاقهن.»

والتعليم الذي كان في بيوت السادة فلتة لا يقاس عليها بين الرجال فضلًا عن النساء، جاء الإسلام فجعل «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» واستحبه — عليه السلام — حتى للإماء؛ حيث قال: «أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران.»

•••

هذه هي المنزلة التي تبوأتها المرأة في الشريعة الإسلامية، وهذه هي المعاملة التي أوجبتها آداب الإسلام على المسلمين كافة، وهي أرفع من كل أدب ترقت إليه الجاهلية في الجوانب التي تهذبت فيها معاملة المرأة بين ذوي السيادة والحضارة من أهلها، وأضيفت إليها على عهد الإسلام جوانب شتى لم يكن للمرأة فيها أيسر نصيب من رعاية أو إنصاف.

ومهما يكن من الرأي في موقف العصور الحديثة من المرأة — وهو ما نعرض له في ختام هذا الكتاب — فالذي لا ريب فيه أن الإسلام قد رفعها درجات فوق أرفع منزلة بلغتها بين العرب أو بين الأمم الأخرى، وأن المسلم الذي يعمل بدينه يوليها من البر فوق ما طلبته لنفسها، لو أنها كانت في زمان يطلب فيه النساء لأنفسهن حقًّا من الحقوق.

•••

ولم تكن تلك غاية المرتقى، فإن الفرائض الدينية تطاع ولا تطاع، وهي على هذه موكلة بالتعميم الذي يستوي فيه جميع المسلمين المخاطبين بالتكليف، وإنما طاعة التكليف فضيلة تعلوها فضائل الاختيار والرغبة والاشتياق إلى الإنجاز، كأن الإنجاز هو المثوبة التي تغني عن المثوبة الموعودة، وها هنا تتفاوت المراتب، وتترقى الفضائل من التعميم الشائع إلى الامتياز والرجحان، وتستبق النفوس حتى يكون العمل المفروض أمنية محبوبة يؤلم النفس أن تعاق دونها، ولا تبلغ الغاية منها.

وتلك عليا مراتب الأنبياء، وهي المرتبة التي سما إليها صاحب الدعوة الإسلامية بما تهيأ له من تمام الأريحية الإنسانية، وملاك الفطرة النبوية.

فالحق أن محمدًا — عليه السلام — لم يفرض على نفسه الشريفة محاسنة المرأة كما تفرض الأوامر السماوية على من يطيعها ولا مسرة له في طاعتها، ولكنه حاسنها فطرة كما حاسن كل مخلوق حي ولا سيما الضعفاء، وجعل البر بها مقياس المفاضلة بين أخلاق الرجال، وعنوان المنافسة في طلب الخير والكمال، فقال غير مرة: «خيركم خيركم للنساء.»

وبلغ من ذلك أنه يأوي إلى البيت «فيكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة»، وأنه استحب خدمة الزوجة في منزلها فقال: «خدمتك زوجتك صدقة» وكان أكيس رجل في معاملة أهل بيته، يشفق أن يرينه غير باسم في وجوههن، ويزورهن جميعًا في الصباح والمساء، وإذا خلا بهن «كان ألين الناس، ضحَّاكًا بسامًا» كما قالت عائشة رضي الله عنها.

ومن المبالغات المألوفة في تناهي الرحمة أن يقال: «إنه أرحم به من أمه وأبيه».

لكنه — عليه السلام — كان حقًّا أرحم بأهله من آبائهن وأمهاتهن حتى الذين اشتهروا بالحدب الشديد على ذوي الرحم كأبي بكر الصديق رضوان الله عليه.

ففي الأحاديث عن عائشة أنها قالت: «كان بيني وبين رسول الله كلام. فقال: من ترضين أن يكون بيني وبينك؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟ قلت: لا، ذلك رجل هيِّن ليِّن يقضي لك. قال: أترضين بأبيك؟ قلت: نعم. فأرسل إلى أبي بكر فجاء، فقال: اقصصي! فقلت: بل اقصص أنت … فقال: هي كذا وكذا … فقلت: اقصد! فرفع أبو بكر يده فلطمني، وقال: تقولين يا بنت أم رومان: اقصد؟ من يقصد إذا لم يقصد رسول الله؟ فجعل الدم يسيل من أنفي، وقال رسول الله : إنا لم نرد هذا … وجعل يغسل الدم بيده من ثيابي، ويقول: رأيت كيف أبعدك الله منه …»

وكان بره بمن مات من أزواجه أكرم من بره بمن يعشن معه ويراهن كل يوم. فلما ماتت زوجته الأولى خديجة — رضي الله عنها — حزن عليها، وسمى العام الذي قبضت فيه «عام الحزن» ووفى لذكراها طوال حياته، حتى لقد كانت عائشة تغار منها وهي في قبرها أشد من غيرتها من زوجاته اللواتي يعشن معها في كنفه، وقالت له يومًا: هل كانت إلا عجوزًا بدَّلك الله خيرًا منها؟ فقال لها مغضبًا: «لا والله! ما أبدلني الله خيرًا منها. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.»

وإن هذا الوفاء لذكرى الزوجة الغابرة لخليق أن يرضي المرأة — حين تنسى غيرتها — أشد من رضاها عن مكاشفتها بالتفضيل في حياتها لجمالها وشبابها ونعيم عشرتها وصفائها.

•••

ونحن لا نعتسف التوفيق والترتيب حين نقول عن ربة هذا الكتاب — عائشة بنت الصديق — إنها لوحظت في آداب العرب والإسلام كأنها الوجهة التي اتجهت إليها هذه الآداب في طريق الارتقاء والتهذيب.

فمن قسمتها في آداب العرب النسائية أنها نشأت في خلاصة تيم الذين اشتهروا بظرف الرجال وتدليل النساء.

من قسمتها في الإسلام أنها ملكت حقوق المرأة المسلمة وتجاوزتها؛ فملكت الحظوة التي يضفيها على نسائه نبيٌّ كريم، يتجاوز الحقوق المفروضة صعدًا في معارج الكمال، وكانت هي بعد هذا صاحبة الحظوة الأولى بين هؤلاء النساء.

إنها لمجدودة من بنات حواء، ولهذا الجد السعيد شأن أي شأن في تاريخها الذي اتصل بتاريخ الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤