أَرْنَبٌ فِي الْقَمَرِ

(١) سَمَرُ الْأَطْفَالِ

جَلَسَ الْأَطْفَالُ يَسْمُرُونَ — فِي الْهَوَاءِ الطَّلْقِ — وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ قَمْرَاءَ، ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُمُ الْتِفَاتَةٌ إِلَى الْقَمَرِ السَّاطِعِ، فَمَاذَا رَأَوْا عَلَى صَفْحَتِهِ؟

figure

رَأَوْا — عَلَى صَفْحَةِ الْقَمَرِ — فَجَوَاتٍ وَخُطُوطًا خَيَّلَتْ إِلَيْهِمْ أَنَّهَا إِنْسَانٌ يَحْمِلُ فِي يَدِهِ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَإِلَى جَانِبِهِ كَلْبٌ.

ذَلِكَ مَا رَآهُ أَطْفَالُنَا، أَوْ — عَلَى الْأَصَحِّ — مَا خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُرْتَسِمًا عَلَى صَفْحَةِ الْقَمَرِ الْفِضِّيَّةِ اللَّامِعَةِ.

أَمَّا أَطْفَالُ الْهِنْدِ، فَلَا يَرَوْنَ عَلَى صَفْحَةِ الْقَمَرِ صُورَةَ كَلْبٍ، بَلْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ صُورَةَ حَيَوَانٍ آخَرَ، هُوَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْأَرْنَبِ، فَإِذَا سَأَلُوا أُمَّهَاتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الْأَرْنَبِ الَّذِي يَرَوْنَ صُورَتَهُ مُرْتَسِمَةً عَلَى صَفْحَةِ الْقَمَرِ، وَكَيْفَ ارْتَقَى إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَهُ مَسْكَنًا لَهُ — قَصَّتْ عَلَيْهِمْ أُمَّهَاتُهُمُ الْقِصَّةَ التَّالِيَةَ، الَّتِي اخْتَرْتُهَا لَكُمْ فِي هَذِهِ الْمَجْمُوعَةِ أَيُّهَا الْأَطْفَالُ الْأَعِزَّاءُ:

(٢) الْأَصْدِقَاءُ الْأَرْبَعَةُ

مُنْذُ آلَافِ السِّنِينَ، كَانَتْ ضُرُوبُ الْحَيَوَانِ قَادِرَةً عَلَى الْكَلَامِ، كَمَا نَتَكَلَّمُ نَحْنُ — بَنِي الْإِنْسَانِ — وَكَانَ وَجْهُ الْقَمَرِ اللَّامِعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ الْغَابِرِ، أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالْوَرَقَةِ الْبَيْضَاءِ الْمَصْقُولَةِ، أَعْنِي أَنَّهُ كَانَ نَقِيًّا لَا شِيَةَ فِيهِ.

وَكَانَ يَعِيشُ — فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ — أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ عَاقِلَةٌ ذَكِيَّةٌ، تَخِذَتْ بُيُوتَهَا فِي إِحْدَى الْغَابَاتِ الْهِنْدِيَّةِ، وَعَاشَتْ مُؤْتَلِفَةً وَادِعَةً.

وَكَانَتْ هَذِهِ الرُّفْقَةُ الْهَانِئَةُ مُؤَلَّفَةً مِنْ أَرْنَبٍ يُكَنَى: «أَبَا نَبْهَانَ»، وَابْنِ آوَى يُكْنَى: «أَبَا أَيُّوبَ» وَكَلْبٍ يُدْعَى: «قُضَاعَةَ»، وَقِرْدٍ اسْمُهُ: «الرُّبَّاحُ».

وَكَانُوا — لِطُولِ أُلْفَتِهِمْ — مُتَحَابِّينَ لَا يُطِيقُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُفَارِقَ أَصْحَابَهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً، وَكَانُوا يَتَفَرَّقُونَ — فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ — لِيَسْعَوْا إِلَى أَرْزَاقِهِمْ، وَيَضْرِبُوا فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ؛ حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا، تَقَابَلُوا فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ، وَجَلَسُوا يَسْمُرُونَ أَطْيَبَ الْأَسْمَارِ، وَيَتَشَاوَرُونَ فِي كُلِّ مَا يَهُمُّونَ بِفِعْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ.

(٣) أَبُو نَبْهَانَ

وَكَانَ «أَبُو نَبْهَانَ» — ذَلِكَ الْأَرْنَبُ الرَّشِيدُ — أَوْفَرَ أَصْحَابِهِ عَقْلًا، وَأَكْرَمَهُمْ نَفْسًا، وَأَخْبَرَهُمْ بِالْحَيَاةِ، وَأَعْظَمَهُمْ مَعْرِفَةً بِفُنُونِ الْقِصَصِ وَالْأَسَاطِيرِ، فَلَا عَجَبَ إِذَا أَنْصَت أَصْحَابُهُ إِلَى أَسْمَارِهِ الْمُعْجِبَةِ، وَأَحَادِيثِهِ الشَّائِقَةِ، وَطُرَفِهِ الْمُسْتَمْلَحَةِ؛ الَّتِي كَانَ يَقُصُّهَا عَلَيْهِم، لِيُحَبِّبَ إِلَيْهِمُ الْفَضِيلَةَ، وَيُغْرِيَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْحِكْمَةِ السَّامِيَةِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَخْذِ بِالشَّرَائِعِ الْقَوِيمَةِ الَّتِي يَدِينُ بِهَا أَفَاضِلُ النَّاسِ.

وَلَمْ يَكُنْ «أَبُوْ نَبْهَانَ» يَكُفُّ عَنْ تَهْذِيبِ أَصْحَابِهِ وَتَثْقِيفِهِمْ بِتِلْكَ الْقِصَصِ وَالْأَحَادِيثِ الطَّرِيفَةِ الَّتِي تُرْشِدُ أَصْحَابَهُ إِلَى أَقْوَمِ طَرِيقٍ، وَأَهْدَى سَبِيلٍ.

(٤) عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ

وَذَا مَسَاءٍ، نَظَرَ «أَبُو نَبْهَانَ» إِلَى صَفْحَةِ الْقَمَرِ السَّاطِعَةِ، وَأَطَالَ تَأَمُّلَهُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:

«إِنَّ الْقَمَرَ — كَمَا أَرَى — فِي اكْتِمَالِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يَوْمَ غَدٍ هُوَ مُنْتَصَفُ الشَّهْرِ، وَهُوَ — كَمَا تَعْلَمُونَ — يَوْمٌ أَغَرُّ كَرِيمٌ، وَيَجْدُرُ بِنَا — أَيُّهَا الَأَصْدِقَاءُ — أَنْ نَنْتَوِيَ الصِّيَامَ غَدًا، مِنْ شُرُوقِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، ثُمَّ نَأْخُذَ عَلَى أَنْفُسِنَا عَهْدًا وَمِيثَاقًا أَلَّا نَحْرِمَ فَقِيرًا أَوْ نَاسِكًا مَا يَطْلُبُ مِنَّا مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ الْكَرِيمِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُعَاهِدِيَّ عَلَى ذَلِكَ؟ وَهَلْ أَنْتُمْ مُقْسِمُونَ عَلَى الْبِرِّ بِهَذَا الْعَهْدِ؟ لَعَلَّنَا نُصْبِحُ مِنَ الْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ الصَّالِحِينَ، وَنَسْمُوَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْأَخْيَارِ مِنْ أَبْنَاءِ آدَمَ الْأَكْرَمِينَ».

فَعَاهَدَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَحَلَفُوا عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ، ثُمَّ افْتَرَقُوا، وَعَادَ كُلٌّ مِنْهُم إِلَى مَأْوَاهُ، وَنَامَ لَيْلَهُ وَادِعًا مَسْرُورًا.

(٥) عَهْدُ قُضَاعَةَ

وَلَمَّا أَصْبَحُوا، نَهَضَ «قُضَاعَةُ» مِنْ نَوْمِهِ بَاكِرًا، وَقَالَ — فِي نَفْسِهِ —: «إِنَّنِي — إِذَا بَرَرْتُ بِقَسَمِي — وَصُمْتُ نَهَارِي كُلَّهُ؛ فَلَنْ يَجِيءَ الْمَسَاءُ حَتَّى أُشْرِفَ عَلَى الْهَلَاكِ جُوعًا. وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ أُعِدَّ طَعَامًا فَاخِرًا مُنْذُ الْآنَ؛ لِآكُلَهُ مَتَى أَمْسَيْتُ».

ثُمَّ خَرَجَ قُضَاعَةُ صَوْبَ النَّهْرِ، وَلَمْ يَكَدْ يَسِيرُ خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً، حَتَّى رَأَى أَمَامَهُ فُرْصَةً سَانِحَةً لِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ.

وَكَانَ أَحَدُ الصَّيَّادِينَ قَدِ اصْطَادَ سَبْعَ سَمَكَاتٍ كَبِيرَةً حَمْرَاءَ — قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قُضَاعَةُ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ — ثُمَّ سَلَكَهَا الصَّيَّادُ فِي خَيْطٍ دَقِيقٍ، وَدَفَنَهَا فِي الرَّمْلِ، وَعَادَ أَدْرَاجَهُ — صَوْبَ النَّهْرِ — لِيَصْطَادَ غَيْرَهَا، حَتَّى إِذَا تَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ، عَادَ إِلَى سَمَكَاتِهِ السَّبْعِ، فَأَخَذَهَا وَضَمَّهَا إِلَى صَيْدِهِ الْجَدِيدِ. فَلَمَّا جَاءَ قُضَاعَةُ، فَاحَتْ رَاِئحَةُ السَّمَكِ الْمَدْفُونِ فِي الرَّمْلِ. فَقَالَ «قُضَاعَةُ» فِي نَفْسِهِ — ضَاحِكًا —: «هَا! هَا! لَقَدْ تَهَيَّأَ لِي طَعَامِي، وَظَفِرْتُ بِمَا أَبْغِي مِنَ الزَّادِ، دُونَ أَنْ أُكَابِدَ فِي صَيْدِهِ أَيَّ عَنَاءٍ وَلَكِنَّنِي جَدِيرٌ أَلَّا أَقْتَرِفَ إِثْمًا فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ الْكَرِيمِ، وَلَنْ يَصِحَّ لِي صِيَامٌ إِذَا أَبَحْتُ لِنَفْسِي سَرِقَةَ هَذَا السَّمَكِ اللَّذِيذِ، فَمَاذَا أَصْنَعُ؟»

وَأَطَالَ «قُضَاعَةُ» تَأَمُّلَهُ، وَأَعْمَلَ ذَكَاءَهُ حَتَّى اهْتَدَى إِلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيلَةِ، يُبَرِّرُ بِهِ سَرِقَةَ السَّمَكِ، وَيَخْدَعُ نَفْسَهُ فِي اقْتِرَافِ هَذَا الْجُرْمِ الشَّنِيعِ، فَمَاذَا فَعَلَ؟ لَقَدْ لَجَأَ إِلَى حِيلَةٍ مُضْحِكَةٍ سَخِيفَةٍ، فَنَادَى بِصَوْتٍ خَافِتٍ حَتَّى لَا يَسْمَعَ نِدَاءَهُ أَحَدٌ: «أَلَيْسَ لِهَذِهِ السَّمَكَاتِ مِنْ صَاحِبٍ؟»

فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، لِأَنَّ صَوْتَهُ الْخَافِتَ لَمْ يَكَدْ يَبْلُغُ أُذُنَيْهِ، فَكَيْفَ يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ؟.

وَهَكَذَا اقْتَنَعَ «قُضَاعَةُ» فِي نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ السَّخِيفَةِ الَّتِي لَا تُقْنِعُ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ حَمَلَ السَّمَكَاتِ — مُبْتَهِجًا — إِلَى مَأْوَاهُ، لِيَأْكُلَهَا فِي الْمَسَاءِ، وَرَقَدَ لِيَنَامَ نَهَارَهُ نَوْمًا عَمِيقًا حَتَّى تَنْقَضِيَ سَاعَاتُ الصِّيَامِ — وَهُوَ نَائِمٌ — فَلَا يُعَانِي أَلَمَ الْجُوعِ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لَهُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَوِ النُّسَّاكِ — فِي طَرِيقِهِ — فَيُضْطَرَّ إِلَى التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا سَرَقَهُ مِنَ السَّمَكِ.

(٦) عَهْدُ أَبِي أَيُّوبَ وَعَهْدُ الرُّبَّاحِ

وَمَرَّتْ أَشْبَاهُ هَذِهِ الْفِكْرَةِ الْخَاطِئَةِ بِخَاطِرَيْ «أَبِي أَيُّوبَ» وَ«الرُّبَّاحِ» كِلَيْهِمَا، حِينَ اسْتَيْقَظَا فِي الصَّبَاحِ، وَذَكَرَا ذَلِكَ الْعَهْدِ الَّذِي أَقْسَمَا عَلَى احْتِرَامِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ.

فَأَمَّا «أَبُو أَيُّوبَ» فَقَدْ بَحَثَ عَنْ طَعَامِهِ سَاعَةً — أَوْ تَزِيدُ — حَتَّى اهْتَدَى إِلَى عَظَاءَةٍ مَطْبُوخَةٍ، وَإِلَى جَانِبِهَا جَرَّةٌ مَمْلُوءَةٌ لَبَنًا خَاثِرًا، فِي كُوخِ فَلَّاحٍ. فَسَرَقَهُمَا وَعَادَ بِهِمَا إِلَى مَأْوَاهُ فَرِحًا مَسْرُورًا، ثُمَّ نَامَ مِلْءَ جَفْنَيْهِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُهُ «قُضَاعَةُ».

figure

وَأَمَّا «الرُّبَّاحُ» فَلَمْ يُتْعِبْ نَفْسَهُ فِي الْبَحْثِ عَنْ طَعَامِهِ قَطُّ، وَاكْتَفَى بِالذَّهَابِ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ أَشْجَارِ «الْمَنْجُو» فَتَسَلَّقَهَا، ثُمَّ قَصَفَ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا، وَعَادَ بِهِ إِلَى مَأْوَاهُ، وَاسْتَسْلَمَ لِلرُّقَادِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبَاهُ، وَأَرَاحَ بَالَهُ مِنْ لِقَاءِ الْفُقَرَاءِ وَالنُّسَّاكِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ.

(٧) عَهْدُ أَبِي نَبْهَانَ

أَمَّا «أَبُو نَبْهَانَ»: ذَلِكَ الْأَرْنَبُ الْوَفِيُّ الْأَمِينُ، فَقَدِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ مُبَكِّرًا — كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُهُ — وَلَكِنَّهُ فَعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلُوا، وَحَافَظَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ الَّذِي أَخَذَ نَفْسَهُ بِهِ.

خَرَجَ «أَبُو نَبْهَانَ» مِنْ مَأْوَاهُ إِلَى الْحُقُولِ، وَظَلَّ يَجُولُ فِيهَا لِيَشَمَّ رَائِحَةَ الْحَشَائِشِ النَّدِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ لِنَفْسِهِ — بِصَوْتٍ عَالٍ —: «لَنْ أَتْعَبَ فِي إِعْدَادِ شَيْءٍ لِفَطُورِي فِي هَذَا الْمَسَاءِ، فَإِنَّ — فِي بَعْضِ هَذِهِ الْحَشَائِشِ اللَّذِيذَةِ — كِفَايَتِي مِنَ الطَّعَامِ الشَّهِيِّ، وَهِيَ — بِحَمْدِ اللهِ — كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْحُقُولِ الْوَاسِعَةِ الرَّحِيبَةِ.

وَلَكِنْ شَدَّ مَا يَحْزُنُنِي أَنْ أَعْجِزَ عَنِ التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالنُّسَّاكِ. وَمَا أَدْرِي: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ وَبِأَيِّ عُذْرٍ أَعْتَذِرُ إِذَا سَأَلَنِي سَائِلٌ أَوْ طَلَبَ مِنِّي نَاسِكٌ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ، لِيَتَبَلَّغَا بِهِ، وَلَسْتُ أَمْلِكُ — مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا — شَيْئًا، وَلَنْ تَنْفَعَهُ هَذِهِ الْحَشَائِشُ إِذَا تَصَدَّقْتُ بِهَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَمْلِكُهُ سِوَاهَا، فَمَاذَا أَفْعَلُ لِأَبَرَّ بِعَهْدِي، وَأَفِيَ بِمِيثَاقِي؟ لَمْ يَبْقَ لِي إِلَّا رَجَاءٌ وَاحِدٌ يُمَكِنُنِي مِنَ الْوَفَاءِ بِقَسَمِي، وَهُوَ أَنْ أَهَبَهُ نَفْسِي، فَقَدْ طَالَمَا سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّ لَحْمَنَا — مَعْشَرَ الْأَرَانِبِ — مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ عِنْدَهُمْ، وَمَا أَيْسَرَ أَنْ أُضَحِّيَ بِنَفْسِي فِي سَبِيلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى عَهْدِي وَمِيثَاقِي».

•••

وَهَكَذَا فَرِحَ «أَبُو نَبْهَانَ» بِهَذَا الْحَلِّ الْجَرِيءِ الَّذِي وُفِّقَ إِلَيْهِ، ثُمَّ سَارَ — فِي طَرِيقِهِ — وَادِعًا مَسْرُورًا، مُسْتَرِيحَ الْقَلْبِ، مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ.

(٨) الْمَلَكُ (سَكَّا)

وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ «أَبِي نَبْهَانَ» — حِينَئِذٍ — مَلَكٌ كَرِيمٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، تُسَمِّيهِ الْأُسْطُورَةُ: «سَكَّا»، وَتُحَدِّثُنَا الْأُسْطُورَةُ أَنَّه قَدْ سَمِعَ كَلِمَاتِ «أَبِي نَبْهَانَ» الَّتِي فَاهَ بِهَا.

وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلَكُ جَالِسًا — فِي أَثْنَاءِ السَّحَابِ — مُسَامِتًا لِقِمَّةِ جَبَلٍ قَرِيبٍ مِنْ حَقْلِ «أَبِي نَبْهَانَ».

فَقَالَ «سَكَّا» فِي نَفْسِهِ — مُتَعَجِّبًا —: «أَتُرَى هَذَا الْأَرْنَبَ صَادِقًا فِي هَذَا الْكَلَامِ؟ لَئِنْ صَدَقَ فِي ذَلِكَ، لَيَكُونَنَّ أَعْجَبَ أَرْنَبٍ رَأَيْتُهُ فِي حَيَاتِي، فَإِنَّنِي أَسْتَكْثِرُ هَذَا النُّبْلَ وَالْكَرَمَ وَالتَّضْحِيَةَ عَلَى أَرْنَبٍ مِثْلِ أَبِي نَبْهَانَ، وَمَا أَجْدَرَنِي أَنْ أَخْتَبِرَهُ لِأَتَعَرَّفَ مَدَى صِدْقِهِ وَإِيثَارِهِ».

ثُمَّ صَبَرَ «سَكَّا» عَلَى «أَبِي نَبْهَانَ» حَتَّى اقْتَرَبَ الْمَسَاءُ، فَهَبَطَ الْمَلَكُ مِنْ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ شَكْلَ نَاسِكٍ طَاعِنٍ فِي السِّنِّ، ثُمَّ جَلَسَ فِي طَرِيقِ «أَبِي نَبْهَانَ» وَلَمْ يَكَدْ يَلْقَاهُ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى بَيْتِهِ، حَتَّى ابْتَدَرَهُ الْمَلِكُ قَائِلًا: «عِمْ مَسَاءً يَا أَبَا نَبْهَانَ! أَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَهْدِيَنِي إِلَى زَادٍ أَطْعَمُهُ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ الصَّغِيرُ — فَقَدْ صُمْتُ نَهَارِي كُلَّهُ، وَاشْتَدَّ بِيَ الْجُوعُ حَتَّى أَعْجَزَنِي عَنِ الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، وَقَدْ بَحَثْتُ — جَاهِدًا — عَنْ طَعَامٍ آكُلُهُ، بَيَاضَ نَهَارِي، فَلَمْ أَظْفَرْ بِطَائِلٍ».

(٩) وَفَاءُ أَبِي نَبْهَانَ

فَذَكَرَ «أَبُو نَبْهَانَ» عَهْدَهُ الَّذِي أَخَذَ نَفْسَهُ بِهِ، وَقَالَ لِلْمَلَكِ — مَسْرُورًا —: «سَعِدَ مَسَاؤُكَ — يَا سَيِّدِي النَّاسِكَ الْكَرِيمَ — وَبَعْدُ؛ فَخَبِّرْنِي: أَلَسْتُمْ — مَعْشَرَ النَّاسِ — تَسْتَطْيِبُونَ لَحْمَ الْأَرَانِبِ بَنَاتِ جِنْسِي؟»

فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: «لَيْسَ أَحَبَّ إِلَى نُفُوسِنَا مِنْ هَذَا الطَّعَامِ الشَّهِيِّ.»

فَقَالَ «أَبُو نَبْهَانَ»: «فَأَمَّا إِذِ اسْتَطَبْتَ لَحْمِي، وَاشْتَهَتْهُ نَفْسُكَ؛ فَإِنِّي أَضَعُ نَفْسِي رَهْنَ إِشَارَتِكَ؛ لِتَذْبَحَنِي، وَتَسْلَخَ جِلْدِي، ثُمَّ تَأْكُلَ لَحْمِي طَعَامًا سَائِغًا هَنِيئًا، فَهُوَ — فِيمَا أَعْلَمُ وَفِيمَا تَقُولُ — طَعَامٌ فَاخِرٌ لِمِثْلِكَ، وَلَسْتُ أَمْلِكُ مَا أُقَدِّمُهُ إِلَيْكَ غَيْرَ هَذَا.»

فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ «سَكَّا»: وَلَكِنَّنِي رَجُلٌ نَاسِكٌ، لَمْ أَتَعَوَّدْ ذَبْحَ أَيِّ حَيَوَانٍ طُولَ حَيَاتِي، فَكَيْفَ أُخَالِفُ عَادَتِي؟ وَهَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ كَمَا تَعْلَمُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ أُقْدِمَ عَلَى هَذِهِ الْفَعْلَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ الْكَرِيمِ.

فَقَالَ «أَبُو نَبْهَانَ»: «لَا عَلَيْكَ — يَا سَيِّدِي — فَإِنَّ الْأَمْرَ أَيْسَرُ مِمَّا تَظُنُّ؛ فَاجْمَعْ شَيْئًا مِنَ الْحَطَبِ، وَأَوْقِدْ فِيهِ النَّارَ، ثُمَّ لَا تَفْعَلْ شَيْئًا بَعْدَ هَذَا، فَإِنِّي قَاذِفٌ بِنَفْسِي فِي اللَّهَبِ، حَتَّى يَنْضَجَ لَحْمِي وَيَنْشَوِيَ، فَتَأْكُلَهُ سَائِغًا هَنِيئًا. فَمَاذَا أَنْتَ قَائِلٌ؟»

(١٠) فِي اللَّهَبِ

فَعَجِبَ «سَكَّا» حِينَ سَمِعَ مِنَ الْأَرْنَبِ مَا سَمِعَ، وَأَكْبَرَهُ أَيَّمَا إِكْبَارٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا يَقْتَنِعْ بِصِدْقِهِ فِي كُلِّ مَا قَالَ؛ فَاعْتَزَمَ أَنْ يَبْلُوَهُ وَيَخْتَبِرَ مَدَى صِدْقِهِ فِي قَوْلِهِ، لِيَتَبَيَّنَ الْحَقِيقَةَ كَامِلَةً؛ فَخَيَّلَ «سَكَّا» إِلَى الْأَرْنَبِ أَنَّهُ أَضْرَمَ نَارًا مُتَأَجِّجَةً تُوهِمُ رَائِيهَا أَنَّهَا نَارٌ حَقُّ نَارٍ. فَلَمْ يَتَرَدَّدْ «أَبُو نَبْهَانَ» فِي إِنْجَازِ وَعْدِهِ، وَقَذَفَ بِنَفْسِهِ فِي اللَّهَبِ مِنْ فَوْرِهِ. وَلَبِثَ «أَبُو نَبْهَانَ» فِي اللَّهَبِ بِضْعَ دَقَائِقَ دُونَ أَنْ يَحْتَرِقَ، فَصَاحَ بِالنَّاسِكِ مُتَعَجِّبًا — مَدْهُوشًا —:

«مَا بَالُ هَذِهِ النَّارِ الْعَجِيبَةِ لَمْ تُحْرِقْنِي، وَلَمْ تَمَسَّنِي بِأَقَلِّ سُوءٍ؟ وَمَا لِي أَرَاهَا تَشْتَعِلُ — مِنْ حَوْلِي — دُونَ أَنْ تُلْحِقَ بِي أَيَّ أَذًى؟ مَا أَعْجَبَ مَا أَرَى — أَيُّهَا النَّاسِكُ الْكَرِيمُ — فَإِنَّ هَذِهِ النَّارَ الْمُلْتَهِبَةَ الْمُتَأَجِّجَةَ لَمْ تُحْرِقْ مِنْ جِسْمِي شَعْرَةً وَاحِدَةً! يَا لَلْعَجَبِ! حَتَّى شَعَرَاتُ شَارِبَيَّ الطَّوِيلَةُ لَمْ تَمَسَّهَا النَّارُ بِسُوءٍ!»

(١١) إِطْفَاءُ اللَّهَبِ

وَلَمْ يَكَدْ «أَبُو نَبْهَانَ» يُتِمُّ كَلَامَهُ حَتَّى انْطَفَأَتِ النَّارُ، وَنَظَرَ «أَبُو نَبْهَانَ» حَوْلَهُ، فَلَمْ يَرَ نَارًا وَلَا لَهَبًا، وَلَا رَمَادًا؛ بَلْ رَأَى نَفْسَهُ عَلَى الْحَشَائِشِ النَّدِيَّةِ النَّاعِمَةِ، ثُمَّ تَعَاظَمَتْهُ الدَّهْشَةُ وَتَمَلَّكَهُ الْعَجَبُ، حِينَ تَحَوَّلَ النَّاسِكُ الشَّيْخُ إِلَى شَكْلِهِ الْأَوَّلِ، وَعَادَ — كَمَا كَانَ — مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكِ الْكِرَامِ.

وَالْتَفَتَ «سَكَّا» إِلَى «أَبِي نَبْهَانَ» قَائِلًا: «لَسْتُ كَمَا ظَنَنْتَنِي — يَا أَبَا نَبْهَانَ — شَيْخًا نَاسِكًا، بَلْ أَنَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكِ، أُسْمَى: «سَكَّا»، وَقَدْ سَمِعْتُ قَسَمَكَ الَّذِي أَقْسَمْتَهُ، وَعَهْدَكَ الَّذِي أَخَذْتَ نَفْسَكَ بِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَبْلُوَكَ وَأَخْبُرَ نَفْسَكَ، لِأَتَعَرَّفَ مَبْلَغَ قَوْلِكَ مِنَ الصِّدْقَ، فَوَجَدْتُ مِنْ ثَبَاتِكَ وَإِصْرَارِكَ عَلَى عَهْدِكَ، مَا مَلَأَنِي إِعْجَابًا، وَرَأَيْتُ مِنْ إِيثَارِكَ وَتَفْدِيَتِكَ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ لِي عَلَى بَالٍ. وَقَدِ اعْتَزَمْتُ أَنْ أُكَافِئَكَ — عَلَى ذَلِكَ — مُكَافَأَةً عَظِيمَةً لَمْ تَخْطُرْ لَكَ عَلَى قَلْبٍ. تَأَمَّلْ — يَا أَبَا نَبْهَانَ — فَإِنِّي مُحَقِّقٌ لَكَ وَعْدِي، وَمُبْلِغُكَ أُمْنَيَّتَكَ عَلَى الْفَوْرِ».

(١٢) فِي صَفْحَةِ الْقَمَرِ

ثُمَّ رَفَعَ «سَكَّا» يَدَهُ فِي الْهَوَاءِ، وَأَشَارَ بِهَا — صَوْبَ الْجَبَلِ — وَلَقَفَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الْعَصِيرِ، ثُمَّ سَكَبَهُ فِي جِسْمِ «أَبِي نَبْهَانَ» فَسَرَى فِي عُرُوقِهِ مَسْرَى الدَّمِ، ثُمَّ أَمْسَكَ «سَكَّا» بِالْأَرْنَبِ الْوَفِيِّ الصَّادِقِ الْأَمِينِ، وَقَذَفَ بِهِ فِي الْهَوَاءِ — صَوْبَ الْقَمَرِ — فَارْتَفَعَ «أَبُو نَبْهَانَ» مُرْتَقِيًا فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، حَتَّى حَلَّ بِالْقَمَرِ، وَالْتَصَقَ جِلْدُهُ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ بِأَدِيمِهِ، وَانْطَبَعَ جِلْدُهُ عَلَى صَفْحَةِ الْقَمَرِ الْفِضِّيَّةِ اللَّامِعَةِ مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

ثُمَّ اسْتَأْنَفَ «سَكَّا» حَدِيثَهُ قَائِلًا: «سَتَظَلُّ — أَيُّهَا الْأَرْنَبُ الصَّغِيرُ — مُطِلًّا مِنْ عَلْيَائِكَ عَلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَسَتَعِيشُ — إِلَى الْأَبَدِ — لِتُذَكِّرَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَتُقْنِعَهُمْ بِصِدْقِ الْحِكْمَةِ الْقُدُسِيَّةِ الْبَاقِيَةِ»: «إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا».

(١٣) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

فَابْتَهَجَ «أَبُو نَبْهَانَ» بِهَذِهِ الْمُكَافَأَةِ الْجَلِيلَةِ، وَرَفَعَ أُذُنَيْهِ أَمَامَ صَفْحَةِ الْقَمَرِ الْفِضِّيَّةِ اللَّامِعَةِ، وَالْتَفَتَ إِلَى «سَكَّا» لِيَشْكُرَ لَهُ صَنِيعَهُ الَّذِي أَسْدَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ أَمَامَهُ أَحَدًا، فَقَدْ أَسْرَعَ الْمَلَكُ إِلَى مَكَانِهِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّحَابِ، بَعْدَ أَنْ أَجْزَلَ مُكَافَأَةَ «أَبِي نَبْهَانَ»، وَهَيَّأَ لَهُ — فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْعَالِي — كُلَّ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ مِنَ الْحَشَائِشِ النَّدِيَّةِ الرَّطْبَةِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ.

وَلَا زَالَ «أَبُو نَبْهَانَ» — إِلَى يَوْمِنَا هَذَا — يَأْكُلُ مَا شَاءَ مِنَ الْحَشَائِشِ، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى مَأْوَاهُ عَلَى صَفْحَةِ الْقَمَرِ — لَيْلًا — لِيَنَامَ مِلْءَ جَفْنَيْهِ، وَقِدِ امْتَلَأَ بَطْنُهُ طَعَامًا وَمَاءً، وَامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ بَهْجَةً وَانْشِرَاحًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤