الفصل السادس

ركن الدين

خرج ركن الدين من بين يدَي شجرة الدر مخلِّفًا أثرًا عميقًا في قلبها. رأت منه في ذلك الموقف ما لم تره من قبل، وعظم أمره في نظرها، وقد زادها تهيبًا منه تكتُّمُه ما يجول بخاطره، فما هدد ولا توعد ولا نقم، ولكنها كانت تقرأ ذلك كله على أساريره وفي عينيه.

أما هو فسار توًّا إلى غرفته في القلعة، ولم ينبه أحدًا إلى مجيئه، وأجَّل مقابلة الأمير عز الدين إلى الغد. دخل غرفته وأقفل بابها وأخذ في نزع ثيابه وهو غارق في التفكير فيما سمعه في ذلك اليوم من الأمور الغريبة، وهو لا يزال في مقتبل العمر قليل الاختبار. وتلك أول مرة انتبه فيها إلى مطامع الرجال الكبار على أثرِ ما سمعه عن قلب السلطنة بمصر، وما هي عليه الخلافة في بغداد، ولم يَفُتْه غرض سحبان من تقبيح الخلافة العباسية وتحسين الخلافة الفاطمية، ولا غاب عنه قصد شجرة الدر من المبالغة في سيئات المستعصم والتحريض عليه، وأدرك ما في نفسها من النقمة على عز الدين، وأنها إذا أرادت فوز ركن الدين فإنما تريده انتقامًا من الذين أساءوا إليها. مر كل ذلك في خاطره وهو يبدل ثيابه، ثم قعد على فراشه وهو لا يزال في التفكير، فرسخ في ذهنه أن شجرة الدر وسحبان إنما حرضاه على طلب السيادة لا حبًّا فيه، بل انتقامًا لنفسيهما. ولم يكره ذلك ولا رآه غريبًا ولا عده خداعًا؛ لأنه كان عاقلًا حكيمًا ينظر إلى الأمور من حيث حقيقتها، فلم يكن يرجو سحبانُ مساعدةً ليس له من ورائها مصلحة، لعلمه أن الناس لا يأتون عملًا بلا قصد، ولا يُقْدمون على أمر إن لم يتوسموا من ورائه نفعًا لهم. ومن زعم أنه يفعل الخير مجانًا لكي ينفع الآخرين فقد أخطأ وكذب. فإذا علمنا هذه الحقيقة سَهُل علينا أن نعامل أصدقاءنا معاملة حقة، فلا تتوقع منهم فوق المستطاع، ولا نستقبح منهم أن ينظروا إلى مصلحتهم فيما يخدمون به مصلحتنا.

كان ركن الدين على بينة من هذه الحقائق، وأدرك غرض صاحبيه من ذلك التحريض، فقَبِله شاكرًا، وعزم على الانتفاع به، لكنه فضل كتمان مقاصده إلى حين الحاجة. فلما قعد على فراشة وهو وحيد في تلك الغرفة، طفق يحدث نفسه قائلًا: «أخذوا شوكار مني. أخذها الخليفة إليه في بغداد ليسمع غناءها، وهي نعمة قَلَّ من ينالها من الجواري الحسان. أرادت شجرة الدر أن تهيج غضبي على المستعصم لأنه فعل ذلك، وهل يلام لأنه طلبها وقد رفع قدرها وزادها نعمًا؟ لا يحق لي أن أنقم عليه أو أَعُدَّ عمله إساءة لي؛ لأنه لم يتعمد أخذ شوكار وهو يعلم أنها خطيبتي أو امرأتي. وقد يقال إن هذا الخليفة ضعيف أو محب للَّهو، يجب قتله أو خلعه لأجل ذلك، وهذا معقول، ولكن من يضمن أن خلقه لا يكون أكثر ضعفًا منه؟ ومن يخاطر بنفسه في خلعه أو قتله وهو لا يرجو أن ينال حظًا لنفسه من السيادة؟ وقد أضحكني ما رأى ذلك الشيعي من إحياء الدولة الفاطمية أو غيرها من العلويين بمصر. وما الفائدة لنا من إحيائها؟ متَى صارت مصر خلافة لا يبقى مجال لطلاب السلطنة؛ أي لا يبقى حاجة إلى السلاطين. أما إذا بقيت الخلافة العباسية في بغداد تثبت السلاطين في مصر، فإن سلطان مصر يشبه أن يكون مستقلًّا، غير أن ذلك لا يمنع مجاراة الرجل ومصانعته لعل في سعيه نفعًا يأتي عن غير قصد منه. وإذا لم ننجح فلا خسارة من مسايرته.»

ولما بلغ إلى ذكر سلطنة مصر نهض من الفراش وقد هاجت مطامعه، وتمشَّى في الغرفة لحظة وهو مطرق، ثم قال: «سلطنة مصر؟ أنها أفضل من خلافة بغداد. هل أطمع فيها أنا؟ نعم، ولكن لو قلت ذلك للناس لاستجهلوني. وقد أكون مبالغًا في مطامعي، ولكن يجب أن أسعى منذ الآن. احذر يا ركن الدين أن تجعل أحدًا يشعر بذلك.»

وسمع وقع حوافر جوادٍ مارٍّ أمام غرفته، فانتبه لنفسه وتذكر سفر شوكار فقال: «هل أتغافل عن شوكار لا أطلبها؟ إني أحبها، وإن كان ذلك الحب جاءني في أول الأمر تكلفًا، لكنه تمكن من قلبي، ويكفي أنها تحبني وتتوقع مني إنقاذها. هذا إذا ظلت هي على ودادي بعد دخولها قصر الخليفة.»

•••

كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فاعتزم أن يقضى بقية يومه مستريحًا، على أن يبكر في الصباح ليقابل عز الدين ثم السلطان الجديد لتهنئته بما ناله، وانتظار ما يفعله. فتناول العشاء واستراح قليلًا فلم يشعر بحاجة إلى الرقاد لعظم ما جاش في صدره واستولى عليه الأرق.

فلما أسدل الليل نقابه، تزمَّل بعباءته وخرج يتمشى في فناء القلعة نحو الجبل، والجو صاحٍ والقمر قد تكبد السماء، وظهرت الطبيعة بأبهى ما يكون من الجلال والهيبة، ويحلو للمفكر في مثل تلك الليلة أن يقف على جبل أو في وادٍ أو حديقة يناجى نفسه بهدوء وسكينة، كأنه يعهد في سرِّه إلى القمر أو يخاطب الطبيعة ويباحثها.

وقد علمت ما كان فيه ركن الدين من الهواجس على أثر ما تزاحم في أفكاره من الأماني والمطامع، فسار وهو ملتفٌّ بالعباءة فلم يعترضه الحرس، وتسلق الجبل في ضوء القمر حتَّى بلغ إلى سطحه، فوقف والتفَتَ إلى القاهرة وما بها من الحدائق، ووراءها النيل، ينعكس ضوء القمر على مائه، ووراء ذلك الأهرام وقممها تناطح السحاب، وحولها بساتين النخيل والجميز لا يظهر منها إلا أشباحها كالظلال، فقعد على صخرة وراءها بناء خرب أصله مسجد أو قلعة، ولبث هادئًا ساكنًا كأنه يتأمل مناظر الطبيعة، وأفكاره تنتقل به من موضوع إلى موضوع، ونصب عينيه شوكار وأين هي؟ ويعترض تفكيره فيها مطامعه في السلطنة، وهل ينالها؟ وضوء القمر يكبر أشباح الفكر فتتعاظم الأوهام حتَّى تظهر كالحقيقة.

وبينما هو ساكت مطرق إذ سمع حفيفًا يشبه انسياب الثعبان على التراب فلم يُخِفْه ذلك، لكنه تنبه إلى انفراده واستغراقه في هواجسه، فهمَّ بالنهوض وإذا هو يسمع قهقهة على مقربة منه، فالتفت فلم يَرَ أحدًا، فأوشك أن يتوهم ذلك الصوت من أصوات الجان — وكانت هذه الخرافات رائجة في تلك الأيام — لكنه ما لبث أن سمع وقع أقدام وراء تلك الخربة من الجهة الأخرى، فسكت لا خوفًا ولا تلصصًا، لكنه لم يكن يريد أن يَشعر أحد بخروجه في تلك الليلة من القلعة.

وأصاخ بسمعه فاستنتج من مجمل ما سمعه أن هناك أناسًا يتسامرون، فساقه حب الاستطلاع إلى التسمع، وإن يكن ذلك مخالفًا لما فُطِر عليه من البسالة والأنفة، لكن حب الاطلاع على المخبآت من جملة طبائع الإنسان، وهو لم يسعَ إلى التجسس وإنما سيق إليه مصادفة.

وقد زاده رغبة في التسمع أنه سمع صوتًا يشبه صوت سحبان، وهو حديث العهد بسماعه في ذلك اليوم. سمع ذلك الرجل يقول لمخاطبه: «إن سلافة هذه قد أدهشتني بدهائها ومكرها.»

فأجابه الآخر: «أظنك تعني قيِّمة قصر الملك الصالح، هل هي من دُهاة النساء»؟

فقال سحبان: «مهما قلتَ فيها لا يمكن أن تحيط بوصفها، أما أنا فقد خبرتها بنفسي. أرأيت هذا الانقلاب الذي جرى أمس والتبديل الذي حصل في السلاطين؟ أرأيت خلع شجرة الدر وتنصيب الملك الأشرف؟ إنها هي وحدها السبب في ذلك كله.»

فقال الآخر: «هذه مبالغة منك يا سيدي، كيف يتأتى لها ذلك وهي هنا والخليفة في بغداد؟ لعلك توهمت هذا فيها لمَّا رأيت عز الدين أيبك يتردد عليها حتَّى أفسدت ما بينه وبين شجرة الدر، ولكن هذا …»

فقطع سحبان كلامه قائلًا: «أنا أقول لك عن ثقة، إن سلافة وهي في القاهرة قلبت الحكومة وبدلت السلاطين.» فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «يظهر أن نفوذها هناك عظيم جدًّا وأن كلامها مسموع في قصور الخلافة.»

فقاطعه الآخر قائلًا: «صدقتَ لأنها هي في الأصل من جواري ذلك الخليفة وقد أهديت للملك الصالح، ولكن قد يكون في قولك مبالغة.»

قال سحبان: «إني أقول لك شيئًا خبرته بنفسي.» وخَفَتَ صوته وقال: «أنا أخذت كتابها بيدي إلى بغداد، فلم يكن إلا مسافة الطريق حتَّى جاء الجواب بخلع شجرة الدر.»

فضحك الرجل وقال: «ما الذي أدخلك في هذه المهمة؟ وما هو شأنك مع هؤلاء الأتراك يا سحبان؟»

قال: «لا يهمك أن تعرف تفصيل ذلك، ولكني وجدت هذه المهمة قد تساعدنا في مشروعنا، وكنت أحسب خلع شجرة الدر على هذه الصورة يفضي إلى ثورة تهيئ لنا الأسباب المعلومة.»

•••

فلما سمع ركن الدين هذا الحديث رأى فيه فائدة له، فاغتفر لنفسه تنصته، ومكث لسماع بقيته، فسمع رجلًا آخر يقول: «لقد أسأتَ يا سيدي بأداء هذه المهمة، فأنك أخرجت الدولة من يد امرأة ضعيفة إلى يد رجل شديد، فلا يلبث أن يخلع ذلك السلطانَ الغلامَ ويقبض هو على الدولة بيدٍ من حديد، والحقيقة — على ما أرى — أنك قمت بهذه الخدمة طمعًا في رضا سلافة. إنها في الحقيقة بارعة الجمال.»

قال سحبان: «صدقت، إنها لجميلة، وربما خطر لي أن أنال رضاها، لكن المهمة في أصلها خدمة للغرض المعلوم.»

فقال الآخر: «وهل نلتَ ما كنت تؤمله من رضاها؟»

قال: «لا أدري، إن هذه المرأة سر من الأسرار، أو هي لغز معمًّى لا يمكن حله، يلوح لي أنها بلا قلب، أو هي ذات خلق خاص، أعترف لكم أني كدت أنال رضاها، ورأيت من تقربها وتلطفها ما أكَّد لي حبها، ثم ما لبثت أن رأيتها وقد تغيرت بعد رجوعي من بغداد؛ إذ اختصت الأمير عز الدين بحبها، وقد ملكت قلبه ولبه حتَّى شعرتْ شجرة الدر بذلك وغضبت عليه، لكن هذه أصبحت بعد خروج المُلك من يدها لا تستطيع غير العتاب والشكوى.»

فتصدى رجل للسؤال قائلًا: «كل ما تقوله صحيح، وأزيد عليه أن السبب في اهتمام المرأة بخلع شجرة الدر وتنصيب غيرها ليس إلا غيرة منها؛ لأن شجرة الدر صارت ملكة، وهي تحسب نفسها أحق منها بذلك؛ لأنها كردية من قبيلة الملك الصالح، ففعلت ما فعلته انتقامًا، وليس فيه شيء من الدهاء لأنها نقلت الدولة إلى يد أخرى. وإذا صدقنا أنها فعلت ذلك بدهائها، فما الذي عاد عليها من هذا العمل؟ ثم إني لم أفهم كيف توصل الخليفة في بغداد إلى خبر شوكار المغنية حتَّى يطلبها؟»

فقال سحبان: «هي التي أوعزت إليه بأن يطلبها نكاية في شجرة الدر لأنها مغنيتها.»

فلما سمع ركن لدين اسم شوكار خفق قلبه وزاد ميلًا إلى السماع، وحمد الله على تلك المصادفة التي أسمعته هذا الحديث وهو في أشد الحاجة إلى معرفته لأنه كان غائبًا عن مصر في أثناء تلك الحوادث، فأنصت فسمع رجلًا يقول: «وهذا لا شيء فيه من الدهاء؛ لأن شجرة الدر يمكنها الاستعاضة عن شوكار بعشرات مثلها، ولكن السر الحقيقي في نجاح هذه المرأة أن لها صداقة متينة مع قيِّمة قصر المستعصم، ولها عليها حقوق مختلفة، فكتبت إليها بما رأته، وتلك صاحبة النفوذ هناك فأنفذته. دعنا منها إنها امرأة متلونة منافقة والسلام.»

فضحك سحبان وقال: «صدقت، إنها منافقة لأنها خدعتني، وأظنها ستخدع سواي، ولكن لا شك أنها صاحبة نفوذ عظيم في قصر الخليفة. ما لنا ولها، هيا بنا.»

فقال آخر: «لا تطاوعني قدماي على الابتعاد عن ضوء القمر الجميل، ولكن قد آن وقت الرقاد فلا حول ولا …»

وسمع ركن الدين وقع خطواتهم وهم خارجون من تلك الخربة، فانزوى ريثما ابتعدوا، وعاد التفكير فيما سمعه عن سلافة عن سر الانقلاب الذي جرى، فانجلت له أمور كثيرة يؤمل الانتفاع بها.

عاد إلى غرفته يطلب الرقاد وقد أنهكه التفكير في هذه الأمور، فتوسد الفراش على أن ينهض في الصباح لمقابلة الملك الأشرف وعز الدين مدبر المملكة. فلما أصبح، لبس ثيابه وذهب إلى الإيوان فلقي عز الدين، فأخبره أنه وصل أمس لكن التعب منعه من القيام بهذا الواجب، فقدمه عز الدين إلى الملك الأشرف، فقص عليهما نتيجة مهمته في دمياط وقد انتهت بإخراج الإفرنج من هناك بشروط موافقة.

فأثنى عز الدين على همته وبسالته ووعده بالمكافأة، فشكر له تلطفه، ولم يَرَ فيه ما كان يعلمه من غيرته منه، أو لعله أحس بذلك بسبب ما خامره من المطامع وما سمعه من الأقوال، وعلى كل حال فإنه بالغ في الكتمان ولبث يتوقع سنوح الفرص.

•••

ثم عاد إلى التفكير في شوكار وهو لا يدري هل يبحث عنها أو ينتظر ريثما يتأكد بقاءها على حبه؛ لأنه كان كثير الشك في ذلك لما ستلاقيه في قصر الخليفة من النعم. ولم يكن من ذوي العواطف القوية الذين يضحون بمصالحهم المادية في سبيل الحب، ولكنه كان قوي العقل كبير المطامع، ويغلب في أمثاله أن ينظروا إلى كل شيء من الناحية التي تنيلهم مطامعهم؛ ولذلك لم يصدق أن شوكار ستبقى على وده بعد ذلك الانتقال، على أنه كان يشعر بميل شديد إليها وعطف عظيم عليها، وكان يعزيه أنها هناك في نعيم لا خوف عليها من الإهانة، ولا يمس شرفها بما لا يبعث على غيرته؛ لأنها جارية مغنية فقط. قضى برهة وهو يفكر فيما يعمل: أيسافر إلى بغداد للبحث عنها، أم يبعث أحدًا في طلبها؟ وشغل أيضًا بمهام منصبه، لكنه لم يستطع الصبر على الفراق، وهو لا يعلم ما يكون من حال شوكار هناك.

فأصبح ذات يوم وقلبه قلق على شوكار، وقد رآها في نومه على غير ما يريد، وهو غير قادر على السفر إليها، فخطر له أن يكلف سحبان بذلك، وأن يطمئنه ويظهر له المسايرة في رأيه. فبعث إليه فجاءه وهو مستبشر طمعًا فيما يرجوه، فلما لقيه قال ركن الدين: «صدقتَ يا سحبان، إن هؤلاء القوم لا يصلحون للخلافة وهم في هذا الفساد.»

قال: «ألم أقل ذلك يا سيدي؟»

قال: «نعم، وأنا أعرفه، وقد خبرته بالأمس مما فعلوه معي. لا أعلم إذا كنتَ قد سمعتَ بأخذهم شوكار.»

قال: «كيف لا؟ سمعت، نعم سمعت، وهذا لا يفعله الخلفاء العلويون و…»

فقطع ركن الدين كلامه قائلًا: «ولكن هل تعلم مَن هي شوكار؟»

قال: «نعم أنها جارية شجرة الدر ومغنيتها.»

قال: «وهي فوق ذلك خطيبتي.»

فأظهر الدهشة وقال: «خطيبتك؟ وأخذها منك؟ يا لله من هؤلاء القوم الظالمين؟»

قال: «لم يأخذوها وهم عالمون بذلك، ما لنا ولهم، وإنما يهمني الآن أن أعرف حال شوكار هناك، وأنا لا أقدر على السفر، وأنت تسافر دائمًا في تجارتك، فهل تقضي هذه المهمة لصاحبك ركن الدين؟»

فاستأنس سحبان بذلك التلطف وقال: «أقضيها على الرأس والعين، وأسافر في الغد لأجلها، قبحهم الله، إنهم مضيعون هذا المُلْكَ عن قريب.»

فقال ركن الدين: «أشكر الله سعيك يا سحبان، والأيام بيننا.»

فقال: «إنَّ خدمتك يا مولاي واجبة عليَّ، إني مسافر غدًا ولا أسألك عما تطلبه، فإني أعرف كل شيء، كن في راحة.» قال ذلك وخرج بعد أن ودع.

وعاد ركن الدين إلى شئونه وقد اطمأن باله نوعًا، وصبَّر نفسه ريثما تنقضي المدة اللازمة لذهاب سحبان إلى بغداد ورجوعه منها، وهي أكثر من شهر. لكن لم يمضِ أسبوعان على سفر سحبان حتَّى جاءه رسول بكتاب من بغداد، وصل في المساء، فلم يصبر على تبليغ رسالته إلى الصباح. وكان ركن الدين في تلك الليلة عند شجرة الدر، وقد أكثر من ترداده إليها ليسليها على ما أصابها من الوحشة بعد وقوع الفتور بينها وبين عز الدين، ولم يدرِ أن ترداده يزيد تلك الوحشة.

كان تلك الليلة عند شجرة الدر وجاء الحاجب وقال: «إن بالباب رسولًا يحمل كتابًا إلى الأمير ركن الدين ولا يريد أن يسلمه إلا بيده.»

فقال ركن الدين: «ليدخل.» ولم يطاوعه قلبه على الصبر، فوثب كالسهم حتَّى لقي الرسول وصاح فيه: «ما وراءك؟»

فقال: «وهل الذي يكلمني الأمير ركن الدين بيبرس؟» قال: «نعم، من أنت؟ ومن أين أتيت؟»

قال: «أنا رسول إلى الأمير من فتاة تريد أن يصل كتابها إليه سرًّا.» فخفق قلبه وقال: «هاته.» فمد الرجل يده إلى جيبه وأخرج الكتاب ودفعه إليه، فتناول ركن الدين الكتاب ودخل إلى القاعة وأخذ يقرؤه، وشجرة الدر تنظر إليه وتراقب حركاته وما يبدو في وجهه من التغير. ولم يفرغ من قراءته حتَّى بلغ الغضب منه مبلغًا عظيمًا، وشجرة الدر قلبها يخفق وعيناها شاخصتان إليه. فلما فرغ من تلاوة الكتاب صاحت فيه: «ماذا قرأت؟ ماذا جرى؟»

فرمى الكتاب إليها، فتناولته وقرأته فإذا فيه:

من المسكينة شوكار إلى سيدها وحبيبها ركن الدين. اختطفوني من بين ذراعَي شجرة الدر وأنت غائب، ولم تجد مولاتي حياة لاستبقائي حتَّى حضورك، فبرحت القاهرة وقلبي فيها، ولم أزل منذ برحتها وأنا أندب حياتي، لا أجد لي سلوى برغم ما كان يبذله صاحب الركب من أسباب الراحة لي، وهم يستغربون البكاء من جارية طلبها أمير المؤمنين لتكون في مجلسه، على أني ما لبثت أن وجدت بكائي كان في محله؛ لأني حين أشرفت على بغداد تغيرت حالي؛ إذ أسلموني إلى قوم جاءوا من قصر الخليفة وكنت أحسبهم جاءوا ليستقبلوني، وعزمت على أن أطلب إليهم أن يعيدوني إلى مصر، أو أوسِّط أحدًا للخليفة ليأمر بإرجاعي بعد أن أقص عليه خبري. لكنني لم أكد أقع في أيديهم حتَّى عاملوني معاملة الأسيرة، وساقوني إلى حيث لا أدري. هذا وقد كان في الركب الذي حملني من مصر الخصي عابد البصري حامل هذا الكتاب إليك، وكنت قد استأنست به وأحسست بعطفه عليَّ، فاغتنمت فرصة كتبت فيها هذا الكتاب على عجل ورجوته أن يوصله إليك، فأكرمه ما استطعت، وأستودعك الله، ولا أظننا نلتقي في هذه الدنيا، وقد ختمت هذا الكتاب بدموعي.

وكانت شجرة الدر تقرأ وركن الدين يخاطب حامل الكتاب.

وسأله: «ماذا تعرف من التفاصيل؟»

فقال: «لا أدري يا سيدي سوى أني كنت في خدمة الركب الذي أتى بكتاب الخليفة، ولما عاد ومعه هذه الجارية رأيت فيها لطفًا، وكنت أنا المكلَّف بخدمتها. والمفهوم بيننا أنها محمولة إلى أمير المؤمنين لتكون مغنية في قصره، وكنا نبذل جهدنا في خدمتها وراحتها، فلما وصلنا إلى ضواحي بغداد جاءنا وفد من الجند قالوا إنهم قادمون من قصر الخليفة، وطلبوا إلينا أن نسلمهم شوكار، فلم يسعنا إلى الطاعة، لكننا لحظنا أنهم ذاهبون بها إلى غير قصر الخليفة، فأشفقت عليها وأخذت في تعزيتها، وسألتها عما تريد أن أصنعه فقالت: «لا أريد شيئًا سوى أن توصل هذا الكتاب إلى الأمير ركن الدين، وتسلمه إليه بيده»، وقد فعلت.»

فقال: «وأين هي الآن؟ وماذا تظن أنهم يفعلون بها؟ وما غرضهم من أخذها على هذه الصورة وهي لا تعرفهم ولا علاقة لها بهم؟»

قال: «لا أدري يا سيدي، وأنا أيضًا مستغرب هذه المعاملة.»

فأطرق ركن الدين، وأخذ يفكر فيما عسى أن يكون سبب ذلك، فلم يوفق إلى رأي، فقال: «والآن يا عابد إذا دفعت إليك كتابًا هل توصله إليها، وأين تجدها؟»

قال: «أبحث عنها جهدي، ولا أنفكُّ حتَّى أجدها وأكون طوع إرادتها فيما تريده وأفديها بروحي، إنها يا مولاي تُفدَى بالروح للطفها وأدبها.»

فأثنى ركن الدين على مروءته وقال: «تعال في صباح الغد فأدفع إليك بالكتاب. تجدني في غرفتي بالقلعة، هل تعرفها؟» فأجاب بإحناء الرأس أن «نعم» وانصرف.

•••

وقف ركن الدين مطرقًا وقد أخذته الدهشة، ثم انتبه لشجرة الدر فتحول نحوها، فرآها قد فرغت من تلاوة الكتاب وتغير وجهها وظهرت أمارات الغضب في عينيها، فلما التفَتَ بيبرس إليها بادرته قائلة: «تلك هي أعمال الخلفاء الذين لم يعجبهم أن تتولى السلطنةَ امرأةٌ! هذا المستعصم أمير المؤمنين. ووالله لو أن امرأة سليطة تولت هذا الملك لدبرته أحسن من تدبيره، شغل نفسه بالغناء واللهو، ثم يأخذ نساءنا من بين أيدينا ونحن صابرون!»

فأدرك ركن الدين أنها تستثير غيرته على شوكار للانتقام من المستعصم فقال: «ولكن ما أصاب شوكار ليس من المستعصم.»

قالت: «ممن إذن؟ ألم يكن هو الذي بعث في طلبها إليه؟ وهَبْ أن الذين اختطفوها الآن لم يفعلوا ذلك بأمر الخليفة، ألا يدل وقوع ذلك على ضعف الرجل وقلة هيبته حتَّى يجرؤ الناس على اختطاف مغنية آتية إليه في موكب حافل؟ على أنني أضع أكثر الحق عليَّ.»

فقطع كلامها قائلًا: «الحق كله على عز الدين، هذه هي الحقيقة، ولو شاء هو لاحتال في استبقاء شوكار.»

فقالت: «صدقتَ، وهذا هو رأيي. لا أدري ما غير هذا الأمير؟ إن مطامع الدنيا تغير الناس. طمع عز الدين في السلطنة فضحى كل شيء في سبيلها؛ ضحى أصدقاءه وخلانه و…» وغصت بِرِيقها وسكتت.

لم يكن ركن الدين يجهل ما في خاطر شجرة الدر على حبيبها من الغيرة والنقمة، فأراد أن يخالفها لاكتشاف ما يكنه ضميرها فقال: «لا أظنه فعل ما فعله طمعًا في الملك؛ لأنه كان في نفس هذا المنصب وأنت سلطانة. بل كان معك أقرب إلى السيادة والنفوذ منه الآن، ويظهر أنه لم يَرَ بدًّا من إطاعة أمر الخليفة فيما يتعلق بشوكار.»

فضحكت ضحكة اغتصابية وقد امتقع لونها من شدة التألم والغضب وقالت: «لعله أطاع بذلك غير أمر الخليفة.» وبلعت ريقها وتشاغلت بمنديلها تمسح به فمها وجبينها.

فلحظ ركن الدين أنها تعني سلافة، فقال: «وهل تلومينه لأنه يبحث عن مصلحته؟ ليس في الدنيا أحد لا …»

فقطعت كلامه قائلة: «كلا، لا ألومه لذلك، ولكني ألوم غيره لأنه لا ينظر إلى مصلحته أيضًا. إن هذا الأمير ضحى بشوكار وركن الدين وشجرة الدر في سبيل مطامعه، ولم يبالِ، ونحن ما زلنا نحافظ على عهده ونلتمس وده.» وتزحزحت من مجلسها وفي ملامح وجهها أنها لم تتم حديثها بعد.

فأراد ركن الدين أن يستزيدها بيانًا، فقال: «أنا ناقم على هذا الأمير كما تعلمين، لكنني لا أراه يستحق هذا الغضب منك؛ لأن ما جرى لك ولشوكار لم يكن هو فاعله، ولم يَنَل من فعله شيئًا جديدًا لم يكن له وأنت سلطانة.»

قالت: «قد أحرجتني يا ركن الدين، فأستأذنك في كشف ما في قلبي. قد يتبادر إلى ذهنك أني كرهت عز الدين لأنه أحب تلك الجارية الكردية — سلافة — وهي التي ساعدته على ما فعل، وكنت أحسبها فعلت ذلك حبًّا فيه، ولكنني عرفت الآن أنه لم يكن يحبها، ولكنه خدعها كما خدعني، فلما نال مرامه منها تخلى عنها. هل علمت بما عول عليه وأوشك أن يفعله بمشورتها ومساعدتها؟» قال: «كلا.» قالت: «قد عزم عزمًا أكيدًا على أن يستقل بالسلطنة.»

قال: «أليس هو مستقلًّا بها الآن؟ أليس الملك الأشرف صورة لا معنى لها؟» قالت: «صحيح، ولكنه سيخلعه ويطلب من الأمراء أن يبايعوه سلطانًا بدله.»

فهز رأسه هز الإنكار وقال: «هذا لا يكون، وكيف يتأتى له ذلك والناس يحتجون؟ إنهم لا يخضعون لملك ليس من آل أيوب.»

فقالت وهي تضحك ضحك الاستهزاء: «إنك ما زلت قليل الاختبار يا ركن الدين، لكنك لا تلبث أن تعلم أن هؤلاء القوم لا رأي لهم ولا صوت، ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس. والظاهر أن عز الدين تمكن من إغراء المقربين له وأنت غائب وقبلوا مبايعته، وبلغني أنهم اختاروا له أحد ألقاب الخلفاء الفاطميين بمصر، وهو «المعز»، فهل بعد ذلك شك؟ ولعله لو طال مكثك في دمياط لأمضى هذا الأمر في غيابك، أو أظنه أمضاه من ذلك الحين. ألا تشعر أنه تغير معك عما كان عليه من قبل؟»

فثارت الغيرة في نفس ركن الدين، وأوشك أن يبوح بما في خاطره، لكنه تجلد وتماسك. وقد فُتح أمامه بعد هذا الحديث باب جديد؛ فهو لم يكن بالأمس يتصور أنه يمكن لغير الأيوبيين أن يستقلوا بالسيادة، فإذا هو يرى عز الدين استطاع ذلك ووافقه عليه الأمراء. فازداد رغبة في السلطة، لكنه ما زال حريصًا على كتمان ذلك المطمع خوف الفشل عملًا بالحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.» لكنه غلب عليه ظنه بعد أن سمع من حديث القوم عن سلافة في تلك الليلة أن عز الدين لم يفعل ذلك إلا بنفوذها، فأراد أن يستطلع رأي شجرة الدر في ذلك فقال: «ألا تظنين أن لسلافة دخلًا في هذا الأمر؟»

قالت: «لا ريب عندي أنها ساعدته في ذلك؛ نظرًا لنسبها الكردي وعلائقها الودية مع بعض الأمراء أصحاب النفوذ من آل أيوب وغيرهم. ولعلها ارتكبت أمورًا دنيئة في هذا السبيل ظنًّا منها أنها اختطفت عز الدين من شجرة الدر. ولكن خاب ظنها؛ لأن هذا الرجل ليس لأحد منا، وسوف ترى.» قالت ذلك وابتسمت وعيناها تلمعان.

ولحظ ركن الدين في عينيها معنًى لم يكن فيهما من قبل؛ رأى الغيرة والنقمة والغيظ تتزاحم فيهما، فقال: «لمن هو إذن يا مولاتي؟»

قالت: «أتريد أن أبوح لك بكل ما أعرفه عن هذا الخائن مرة واحدة؟ سألتني لمن هو، فأجيبك أنه يزعم أنه لامرأة ثالثة.» قال: «من هي؟» قالت: «امرأة لا تعرفها، ليست في مصر.»

فاستغرب قولها وقال: «أظنك تمزحين؟» قالت: «كلا، إني أقول الصدق، إن عز الدين يزعم أنه ساعٍ في خطبة بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.»

قال وقد بدا الاستغراب في عينيه: «إن صاحب الموصل له مقام رفيع عند الخليفة، وهل تظنينه يفوز بها؟»

وكان التأثر والغضب قد ملكا عليها أمرها، فقالت وهي تشير بيدها إشارة الإنكار: «لا، لا. لن يفوز بها، إنه ليس لإحدى هؤلاء النسوة، بل هو نصيب الرابعة.» وأشارت بيدها إشارة رجل بيده خنجر يطعن به آخر إلى جانبه؛ ففهم ركن الدين أنها تنوى قتله، وتأكد ذلك مما بدا في عينيها من الاحمرار، فضحك وأظهر الاستخفاف بهذا الرأي، ونهض يريد الانصراف وهو يقول: «لا أظن الأمر يبلغ بك إلى هذا الحد. قد انتصف الليل وآن لي الانصراف، أستودعك الله.»

فصاحت به: «ويلك يا ركن الدين، تذهب على هذه الصورة وتتركني على هذه الحالة؟ ماذا جرى لك؟» قال: «ماذا أصنع يا مولاتي؟» قالت: «قد رأيتُ من أمرك عجبًا. تَكلَّمْنا في أبواب كثيرة، وصرحت لك بأمور كثيرة كنت أكتمها عن كل إنسان، وأنت جامد كالصخر الأصم لا تقول شيئًا. إذا كنت تفعل ذلك عن دهاءٍ فنِعم الفعل، وإلا فإنك صلب بارد. وفي كل حال كنتُ أتوقع منك أن تقول كلمة عن شوكار المسكينة التي ذهبت ضحية حبك، وهي تقاسي العذاب، وقد تَفطَّر قلبي من كتابها. ولو كنتُ خطيبَها لركبتُ الساعة إلى بغداد ولم أرجع إلا وأنا منتقمة لها من ذلك الخليفة الظالم الذي لا يهمه إلا التمتع بملذاته.» قالت ذلك وهي تتفرس في عينيه.

فكان لكلامها وقع السهام في قلبه وأوشكت أن تخرجه إلى التصريح بما ضميره، لكنه تراجع وتمالك وتشاغل بالضحك وقال: «لله أنت من خطيب غيور شجاع! أما أنا فأظن عندي مثل ذلك، ولكنني سأنظر فيه وأعمل ما يسرُّك وإن لم أقل شيئًا.» قال ذلك وبرقت عيناه، وبان الحزم والجد في جبينه، فتقدمت إليه ووضعت يدها على كتفه، وقالت: «هذا عهدي فيك، وقد فهمت من هذه العبارة كل شيء. واعلم أني فاعلة ما يتمم عملك هنا؛ اقتل المستعصم وأنا أقتل عز الدين، وأنت السلطان صاحب الأمر والنهي.»

فتجاهل ما سمعه وقال: «أتأذنين لي في الانصراف الآن؟»

فأشارت إليه مودعة، فخرج وهو ينتفض من الغضب، وقد تضاربت الأفكار في خاطره، ولم يعجبه تصريح شجرة الدر بقتل المستعصم لاعتقاده أن مثل هذا الأمر الخطير لا ينجح إلا إذا ظل مكتومًا في خاطر صاحبه.

•••

مشى ركن الدين وقد انتصف الليل وأخذ منه التأثر مأخذًا عظيمًا حتَّى أصبح لا يرى طريقه من فرط ما تجاذبه من الهواجس، وأسرع في خطاه رغبة في الاختلاء بغرفته لمناجاة نفسه، لكنه لم يكد يصل إلى باب منزله في القلعة حتَّى تصدى له أحد الحراس وحيَّاه، فردَّ التحية ومشى، فتقدم إليه الحارس قائلًا: «إن خادمًا في انتظار مولاي هنا منذ ساعتين.» وأشار إلى رجل واقف بجانبه.

والتفت نحوه وقال: «من الرجل؟» وظنه لأول وهلة رسول شوكار جاء يأخذ جوابه إليها، فإذا هو سواه.

فتقدم الرجل ودفع إلى ركن الدين كتابًا مختومًا، فتناوله وأمر خادمه أن يسرع إلى غرفته ويضيء فيها المصباح، ففعل.

فدخل ركن الدين وحده وفض الكتاب أمام المصباح، وقد أدهشه ما فاح من رائحة الطيب، فتَرَجَّحَ لديه أنه من امرأة، فأخذ يقرأ فإذا هو من سلافة جارية الملك الصالح، فاستغرب ذلك وقرأ فيه: «سلافة جارية الملك الصالح وقيِّمَة قصوره ترغب في مقابلة الأمير ركن الدين بيبرس ساعة وصول كتابها هذا إليه، وحامل الكتاب يرشده إلى المكان.»

فوقع في حيرة، وتولَّته الدهشة، وأخذ يسأل نفسه ماذا عسى أن يكون غرضها من تلك المقابلة وليس بينها وبينه سوى معرفة بسيطة. وتَذكَّرَ ما سمعه عنها من سحبان، وما جرى من ذكرها بين يدي شجرة الدر، وعلاقتها بعز الدين أيبك، فأصبح شديد الميل إلى تعرف هذه المرأة، ولعل التعرف بها ينفعه في مشروعه.

ورآها تطلب إليه مقابلتها ساعة وصول كتابها، فقال في نفسه: «ما عسى أن يكون سبب هذه السرعة؟» وبرغم ما كان فيه من التعب والقلق عزم على إجابة الدعوى حالًا، فنادى الرسول إليه فدخل فقال له: «هل المكان بعيد من هنا؟» قال: «كلا يا سيدي إنه قريب جدًّا.» قال: «وهل أنت هنا من زمن طويل؟» قال: «منذ نحو ساعتين.» قال: «ولماذا انتظرت كل هذه المدة؟» قال: «لأن مولاتي صاحبة الكتاب أمرتني ألا أعود إلا بالجواب.»

فازداد ركن الدين دهشة واستغرابًا وصمم على الذهاب، فلبس ثيابه وخرج، والرسول يمشي بين يديه، وقد أخذ القلق منه مأخذًا عظيمًا، ومر بباب القلعة فعرفه الحراس ولم يعترضوا سيره.

خرج إلى القاهرة والطريق مظلم إلا من بعض المصابيح بأبواب المنازل، وما زال ماشيًا والرسول معه حتَّى وصل إلى باب كبير وقف الرسول عنده واستوقف الأمير ريثما طرق الباب، ففتحت طاقة فيه وأطل منها عبد خصي يسأل عن الطارق، فأومأ إليه الرسول فوسع له ولرفيقه، فدخل ركن الدين إلى حديقة مظلمة، لولا شموع مضيئة لكان الظلام حالكًا. على أن ذلك النور الضعيف زاد المكان وحشة؛ لأنه جعل ظلام الأشجار تظهر متكاثفة متلبدة. فلما رأى نفسه في ذلك المكان ندم على مجيئه، وتَوَهَّم أشياء كثيرة، بعضها يوجب القلق، ولكنه تَجلَّد ومشى بقدم ثابتة لا يبالي ما قد يتهدده، وهو لم يتعود الخوف، لكنه خاف الفضيحة لعلمه بما بين صاحبة هذا المنزل وعز الدين من العلائق.

وكان الرسول قد تقدمه لينبئ بوصوله، فما كاد ركن الدين يتوسط الحديقة حتَّى عاد الرسول وأشار إليه أن يتبعه، فتحول به إلى قاعة منفردة قد أضيئت فيها الشموع على منائر في وسطها، وفرشت أرضها بالبسط والوسائد، وأدهشه ما شاهده بين الأثاث من الآنية التي كان يراها في قصور الملك الصالح قبل هدمها وتخريبها، وتأكد أن عز الدين جاء سلافة بهذا الرياش، لأنه هو الذي خرب تلك القصور واستأثر بأنقاضها ورياشها.

استقبلته سلافة بباب القاعة وقد لبست أثمن ما عندها من الحلي والثياب، ولم تتنقب إلا قليلًا، وكان قد تنسم رائحة الطيب قبل أن يراها، فلما تلاقت عيناها زاد ندمه لمجيئه؛ لأنه تَوهَّم شَرَكًا يخاف الوقوع فيه.

أما هي فاستقبلته بالسلام والترحيب قائلة: «قد أزعجناك أيها الأمير.»

قال: «العفو يا سيدتي، إني مسرور من هذه الفرصة، فعسى أن أستطيع أداء خدمة أو قضاء طلب.»

فمدت يدها للسلام عليه فمد يده وصافحها فوجد أناملها باردة كالثلج وفيها رعشة أثرت فيه، لكنه تشغل بالثناء على ترحابها، ثم مشت به وهي قابضة على يده حتَّى وصلت إلى مقعد في صدر القاعة، فأشارت إليه أن يجلس، فجلس وقد اقشعر بدنه من لمسها، فأفلتت يده وجلست بين يديه على وسادة، وهي تنظر إليه وترحب به، وهو ينتظر أن تفاتحه بما دعته من أجله، فلم تَزِدْ على الترحيب والمؤانسة. فلما أبطأت عليه قال: «جئت طوعًا لأمرك، فهل من خدمة أقضيها لك؟»

قالت: «بل أنا في خدمتك يا ركن الدين، ولعلك لم تكن عالمًا بوجودي قبل هذه الليلة ولم أخطر ببالك. وأما أنت فلم تبرح من فكري لحظة، وأنا أتتبع خطواتك منذ أعوام.» قالت ذلك واحمرت وجنتاها وبرقت عيناها، وكانت جميلة فزادها ذلك جمالًا.

أما ركن الدين فلم تعجبه هذه الفاتحة لأنه في شاغل عن المغازلة، وكان يسمع بجمال هذه المرأة ويعرف عنها بعض الشيء في حياة الملك الصالح، ولم يكن أمرها يهمه، ولا سيما في تلك الليلة وهو في ذلك الاضطراب. فلما سمع قولها أطرق وقال: «العفو يا مولاتي، كنت أسمع بمنزلتك الرفيعة عند مولانا الملك الصالح، ولكن الأحوال لم تأذن بالتعارف.»

قالت وهي تتظاهر بالخجل والحياء: «هذا صحيح بالنظر إليك وحدك، أما أنا فقد عرفتك جيدًا، وطالما راقبت دخلوك قصر الروضة وخروجك منه، وكثيرًا ما كنت أسهر الليل بطوله أنتظر مرورك في الحديقة لأراك من وراء الستائر.»

فاستغرب ركن الدين هذه المشاكاة وتجاهلها وقال: «إن ذلك فضل منك يا سيدتي، وأتأسف لأني لم أكن أعلم به.»

فقالت: «ألم تعلمه الآن؟ أرجو الإغضاء عن جسارتي يا ركن الدين ولا تكن قاسيًا.»

فلما سمع هذا التعريض أجفل وأسف لمجيئه وقال: «العفو يا سيدتي، لم أكن أتوقع أن أسمع هذا وأنا أعلم أن مولانا الأمير عز الدين يتردد إلى هذا المكان وهو صاحبه.»

فتنهدت وقالت: «مولاك أو مولاي الأمير، لا يستحق هذه الحظوة، دعه وشأنه، ما لنا وله؟»

فظن ركن الدين أنها تريد أن توقعه في الفخ لتستخدمه في مهمة لها كما فعلت بسحبان، فصمم على الرفض وسرعة التخلص، فقال: «ألهذا دعوتني يا سلافة في هذا الليل؟»

فأجابته وعيناها ذابلتان وقالت: «وهل هذا أمر قليل الأهمية في نظرك يا حبيبي؟»

فنهض وهو يقول: «ليس قليل الأهمية، ولكنني في شاغل عنه الآن يا سيدتي.» وهمَّ بالاستئذان في الانصراف.»

فنهضت ووقفت في طريقه وقالت: «ما الذي يشغلك عني؟ لم يبقَ الآن ما يشغلك يا قاسي القلب، أين القاهرة من بغداد؟»

فأدرك أنها تشير إلى شوكار وأخْذها إلى بغداد، فنفرت نفسه منها وقال: «ما زلتُ في شاغل، أرجو يا سيدتي أن تأذني في انصرافي ناشدتك الله.»

فأمسكت يديه بكلتا يديها وقالت: «تمهل يا ركن الدين، لا تسرع في الرفض وانتبه لنفسك، واعلم أن سلافة وحدها تقدر أن تنيلك مرامك. ما لك وللغناء؟ أنت في حاجة إلى من يضع يده بيدك، وإذا ألقيت الوقود في النار نفخ فيها وأشعلها حتَّى ينضج الطعام.» ونظرت في عينيه وابتسمت، فعلم أنها تشير إلى تفضيل نفسها على شوكار، فقال: «بالله دعيني أنصرف لأني في شاغل ذي بال.»

قالت: «أنا أعلم بشواغلك، أما شوكار فلا سبيل إليها أبدًا و…»

فلما سمع تصريحها فجأة اجتذب يديه من يديها وقد غضب وقال: «ما الذي حملك على ذكر هذه الفتاة الآن، ما لنا ولها؟»

قالت: «كيف لا أذكرها وهي سبب قلقي وعلة شقائي، لكنها الآن بعيدة عنا.»

فقال: «إذا كانت بعيدة الآن فإنها ستكون بعد قليل قريبة بإذن الله.»

قالت: «من قال لك ذلك فقد خدعك. إن شوكار أصبحت في غير هذا العالم يا ركن الدين، وقد نصحتك فانتصِحْ.»

فاقشعر بدنه عند سماع هذا الكلام وحملق فيها وقال: «أطلب إليك أن تكفي عن هذا القول وتدعيني وشأني، دعيني أذهب بسلام.» قال ذلك وقد مال إلى تصديق قولها لكثرة ما عرفه من دهائها وعلاقاتها ببغداد ونفوذها هناك، وبخاصة لأنها لم تستقدمه إليها إلا في الليلة التي جاء فيها ذلك الكتاب من شوكار تشكو فيه الخطر، فقام في ذهنه أن سلافة تعرف حقيقة حال شوكار، فقعد وأشار إلى سلافة أن تقعد وأظهر الجد وقال: «يا سيدتي أرجو أن تصغي لما أقوله لك، وقد علمتُ من كثيرين بما لك من المنزلة العالية والكلمة النافذة في قصور أمير المؤمنين ببغداد، فأرغب إليك أن تساعديني في أمر يهمني هناك.»

فقطعت كلامه وقالت: «إني طوع إرادتك في كل ما تريد، ولا أنكر عليك ما لي من الكلمة النافذة، ولعلك تعلم أن ما حدث من العزل والتنصيب بمصر إنما كان على يدي.»

فلم يخامره شك فيما تقوله، واعتقد أنها تقدر أن تفعل كل ما ادعته وهو طامع في السيادة، لكنه أحس بشيء حال بينه وبين تلك المطامع، وأصبح همه إنقاذ شوكار فقال: «أشكر لك تفضلك، ولا ريب عندي في صدق ما تقولين، ولا أظنني أستغني عن يدك في بعض هذه الأمور، لكنني أطلب الآن أمرًا واحدًا، فهل تقضينه لي؟»

قالت: «أقضيه على الرأس والعين.»

فقال: «أريد أن أسترجع شوكار من بغداد إلى هنا.»

فتغيرت سحنتها وقطَّبَت حاجبيها، ونظرت إليه شزرًا وصاحت: «لله أنت من أمير عاقل! أبعد ما ذكرته لك، تعود فتسألني استرجاع هذه المغنية من بغداد، وقد قلت لك إنها ليست هناك؟»

فقال: «أين هي؟ في مصر؟» قالت: «ولا في مصر إنها غير موجودة في مكان. ألم يأتِك خبرها؟»

فلما سمع سؤالها أجفل وتحقق أنها عالمة بما أصابها، فصاح فيها: «لم يجئني خبر بسوء أصابها كما تقولين.»

قالت: «إنها لن ترجع إليك أبدًا، ولو علمتُ أنها ترجع لأعدتُها على أعقابها بيدي، وهل قذف بها إلى تلك الديار غيري؟»

فاعتدل في مجلسه واستغرب تصريحها وقال: «أنتِ أرسلتها إلى هناك؟ ما الذي كان يضرك لو بقيت هنا؟ إنها لا تزاحمك في نعمة.»

فنهضت وهي تشير بأصبعها إليه وقالت: «إنها تزاحمني عليك يا ركن الدين!» وغصت بِرِيقها وبان الهيام في عينيها.

فظنها تتقرب إليها تزلفًا لغرض تريد أن يقضيه لها فقال: «بالله يا سلافة لا تطيلي تعذيبي. إذا كنت تريدين مني خدمة أقضيها لك قضيتها حبًّا وكرامة، وإنما أطلب منك أن تساعديني في استرجاع شوكار.»

فنظرت في وجهه نظر المتفرس وقالت: «ويلي منك يا رجل ويا لشقائي! أترامى عليك وأصرح لك بما في قلبي، وأنت تصم أذنيك عني، مع علمك أن أكبر أمرائكم يتمنى رضاي؟» ثم أمسكت عن الكلام لأن الدموع أوشكت أن تغلبها وحولت وجهها عنه خجلًا.

فأشفق عليها وقال: «إني مقدر تنازلك حق قدره، وأشكرك عليه شكرًا جزيلًا، لكنني طلبت منك خدمة أنت قادرة عليها و…

فقطعت كلامه قائلة: «إني رهينة أمرك في كل شيء إلا في هذا. يهون عليَّ أن أجعلك سلطانًا على مصر، وأما استرجاع تلك المرأة فلا يمكن، ألم تفهم بعد؟»

وكان ركن الدين صاحب مطامع، ولم يكن شديد التعلق بشوكار، فكان المتوقع فيما تعرضه عليه سلافة أن ينصاع لها ويستعين بها في تحقيق مطامعه، لكنه بعد ما سمعه منها ضد شوكار أحس بميل جديد إلى هذه، سيَّما أن إرسالها إلى بغداد إنما كان بسببه، كما صرحت له الآن سلافة، فأصبح في حيرة، وأطرق يفكر فيما رآه وسمعه وفيما مرَّ به في ذلك الليل من الغرائب، واستعظم ما سمعه من تصريح سلافة وتحبُّبها له، وحدثته نفسه لحظة أن يسايرها لأنها قد تساعده في نيل مطامعه، لكنه تذكر كتاب شوكار الذي جاءه في ذلك المساء وما فيه من دلائل التعلق به، فأَبَت نفسه أن يساير عدوتها اللدودة.

وبقي مطرقًا يفكر وسلافة تنظر إليه وتراعي حركاته وتكاد تلتهمه ببصرها، ورفع نظره إليها فرأى في عينيها معنًى لا يعبر عنه بالكلام، وأحس بحرج الموقف، ولم يَرَ بدًّا من تأجيل الكلام إلى فرصة أخرى؛ لأنه لفرط ما انتابه من التأثيرات المتضاربة أحس أن عقله قد أصيب بالكلال، فأحب أن يؤجل الحديث ريثما يستريح وينظر بماذا يجيب.

فنهض وقد بانت الحيرة في عينيه، ونظر إلى سلافة وابتسم لها ابتسامة شكر وقال: «أشكر لسيدتي حسن ظنها بي، فإني لا أستحق شيئًا من هذا الالتفات، وأستأذنها في الانصراف.» قال ذلك وانحنى مودِّعًا ومد يده ليصافحها.

فأبعدت يدها عنه، وخبأتها وراء ظهرها، وتراجعت ولم تُجِبْ بفيها، لكنها أجابت بنظرة أفصح من الخطاب أنها عاتبة آسفة لسوء حظها معه، وأن قلبها لا يطاوعها على الفراق. فخطا خطوة أخرى نحوها وقال كالمستعطف: «بالله يا مولاتي ائذني في انصرافي الساعة؛ فقد تعبت وأصبحت في حاجة إلى الرقاد.»

قالت وهي تهز رأسها: «لله ما أسوا حظي! أشكو لك غرامي وأنت تشكو حاجتك إلى النعاس؟!» قالت ذلك وتحولت عنه ومشت خطوة، ثم التفتت نحوه ورمته بنظرة كالسهم أصاب صدره، وإن لم يؤثر فيه كثيرًا وقالت: «سِرْ يحرسك الله، سر إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلي هذا يذهب هدرًا.» ودخلت مخدعها مسرعة.

وانصرف ركن الدين، وقضى معظم الطريق وهو يردد كلامها ويفسر نظراتها ويعلل حركاتها، وقد عَظُم أمرها في عينيه، ولا سيما بعد أن تذكر ما سمعه عن نفوذها في بغداد، وأصبح في خوف على شوكار منها، ولم يبقَ عنده شك أن شوكار إنما أصابها ما أصابها في سبيله؛ فهو السبب في شقائها، وأن وجودها في بغداد أصبح بعد هذه المقابلة أكثر خطرًا. وخيِّل إليه أن سلافة لا تلبث أن تبذل جهدها في إيصال الأذى إليها بسببه، فأحس بالتبعة التي تحملها بمجافاة سلافة؛ لأنه سيبعثها على تعمد الأذى لشوكار، وشعر بقشعريرة وقف لها شعره.

وكان قد دخل باب القلعة ودنا من غرفته، ففتحها له الخادم وأضاء المصباح، فأخذ في خلع ثيابه، ثم وقع نظره على كتاب شوكار، فأعاد قراءته فكان تأثيره في هذه المرة أشد من تأثيره الأول كثيرًا، وغلبه العطف على شوكار، وأيقن أنه لا يرتاح باله إلا إذا نجَّاها من ذلك الضيق، وهو لا يقدر أن يعهد في هذا الأمر إلى أحد، ولا سيما بعد تهديد سلافة، فأخذ يفكر في السفر إلى بغداد.

وبينما هو في ذلك، إذ سمع أذان الفجر فتوسد الفراش التماسًا للراحة، وكان نومه مضطربًا متقطعًا، ولم تبرح صورة شوكار من خاطره لحظة. ولما نام رآها في الحلم حزينة باكية، تعاتبه لأنه شغل عنها بسلافة، فأثر هذا الحلم في خاطره تأثيرًا شديدًا. ولما أفاق من نومه وطَّن عزيمته على الأخذ بناصرها.

وأصبح في اليوم التالي ورسولها ببابه يطلب جوابه على كتابها، فأدخله إليه وسأله عن سفره إلى بغداد وكيف يكون، وكان ركن الدين قد سافر إليها مرة، وعرف أهم طرقها وأحيائها، ثم زوده بكتابه إلى شوكار وبالَغ في إكرامه وملاطفته، فسأله الرسول إذا كان عازمًا على السفر إلى بغداد.

فقال: «سأنظر في ذلك.» وصرفه بعد أن عرف منه المكان الذي يجده فيه إذا سافر إلى هناك.

أما سلافة فلا تسل عن غضبها لِمَا لقيَتْه من تردد ركن الدين؛ لأنها كانت تحبه من كل قلبها، وكانت تحسب مكاشفتها إياه بحبها كافية لتجعله أسير هواها، فإذا هو يتردد ويُظهر ميله إلى شوكار، وهي لا تستطيع أن تتصور وجودها لأنها تزاحمها على حبه، وكانت قد علقت به وهو لا يعلم، وتحينت فرصة لمفاتحته في أمرها، ولكنها رأت شجرة الدر اجتذبته لنفسها، فكان ذلك في جملة ما حملها على مقاومتها، وبلغها أمر خطبته شوكار فجعلت رسالتها إلى بغداد تتضمن التخلص من الاثنتين معًا، فأنزلت شجرة الدر عن العرش، وأبعدت شوكار إلى بغداد. وتقربت إلى عز الدين لتفسد ما بينه وبين شجرة الدر، عدوتها ومناظرتها، وأفلحت في ذلك، ولم يبقَ لإتمام سعادتها إلا أن تسترضي ركن الدين ليكون لها.

وكانت الأخبار تأتيها من بغداد متواصلة، فوصلها في صباح ذلك اليوم خبرُ ما أصاب شوكار في بغداد، فتسلحت به بحيث يقطع ركن الدين كل أمل في بقائها، فيتحول إليها، وعزمت على بذل جهدها في إسعاده وتقديمه، ووطَّنت نفسها على الاكتفاء به، فلما رأت منه ما رأته، غضبت وانقلب حبها إلى حقد، وعزمت على مناوأته أن لم يرجع إلى صوابه ويسترضيها!

فلنترك القوم في مشاغلهم بمصر وننتقل إلى بغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤