الفصل الأول

هدية رمضان

كان ابتداء قصتنا يوم عيد رمضان المبارك من عام ١٢٦٨ للهجرة، وكان قد انقضى شهر ذلك الصوم المجيد في فصل الشتاء، فاحتفل به أهل الأستانة كثيرًا، وأطلقت المدافع برًّا وبحرًا إجلالًا وتبشيرًا، وزُينت البوارج والدوارع الراسية في البوسفور، ورُفعت الأعلام العثمانية تخفق فوق رءوس المآذن الشاهقة العديدة.

وكان الجو في ذلك اليوم أدكن، والسحائب سوداء، والمطر يتدفق كمن أفواه القرب، ولكن هذا كله لم يحل دون ازدحام الطرق والشوارع، وقد زادها ازدحامًا تكاثر الحمالين الناقلين على رءوسهم الأغنام المذبوحة والخدمة الحاملة أطباق الحلوى المغطاة بالشفوف الحريرية الوردية اللون.

وانقضى ذلك العيد في مبادلة التهاني، وتزاور العائلات بين رجال وسيدات، فكانت النساء تبسطن بعضهن لبعض هدايا أزواجهنَّ في ذلك العيد من الحلي والجواهر والجواري يتحدثن ويتفاخرن بكرم مواليهن وسادتهن، وقد أكثرن جميعهنَّ من أكل الحلوى والتدخين، وشارك الفقير الغني في أفراح ذلك العيد. ذلك من فضل تلك العادة القديمة التي هي أن يذبح كل غني أو وجيهٍ عددًا معينًا من الأغنام أمام عتبة داره ويفرقها على الفقراء تبريكًا وإحسانًا.

•••

وكان في أعلى محلة «الطوبخانة» بيت خشبي حقير تعصف ريح الشتاء في جوانبه، ويشعر الناظر إليه بأن أفراح ذلك العيد لم تطرقه، وكان في الغرفة الكبيرة منه شيخ هرم قد جلس مع امرأة عجوز حول مصطلى للنار يصطليان، وليس فيه إلا الرماد، وكان الصمت سائدًا بين العجوزين، فلما أُطلقت مدافع الغروب، وصعد المؤذنون يدعون المؤمنين إلى الصلاة صاح الشيخ بامرأته قائلًا: أي فاطمة من كان يقول إنا سنصل يومًا إلى هذا الحد من الشقاء والفقر المدقع؟ ها قد دخلنا في اليوم الثاني، ونحن بلا طعام نغتذي به، ولا نار نصطلي حرارتها. لِمَ منعتني هذا الصباح من الذهاب إلى دار رشيد باشا؟ فلو تركتني لمكنتك الساعة من الاقتيات بقليل من اللحم، ولكن آه من النفوس إذا كانت كبارًا، أنسيت أن الشبيبة قد فارقتنا، وأن الدهر قد حطَّ بنا؟ فوالله ليشق عليَّ أن أراك في هذه الحال ضئيلة هزيلة صفراء اللون … فقاطعته امرأته الكلام قائلة: خفِّض عنك يا عثمان، فإن الموت خير لدي من أن أراك تمد يدك للسؤال والاستعطاء … لا وألف لا؛ إن كريمة يوسف باشا لا تأكل خبز التسول، وزوجها لا يطرق أبواب الناس ينتظر كالكلاب قطعة من اللحم. فتنهد الشيخ من قلب مقروح، وقال بصوت منخفض: آه من الجنون. نعم، إن الحب جنون … نعم، هذا الشقاء كله إنما هو ثمرة الحب:

الحب كالكأس قد طابت أوائله
لكنه ربما مجَّت أواخره

ثم صاح آه يا ربي لِمَ عرفتني بها؟ كانت غادة غنية سعيدة هنية تركت كل شيءٍ، وتبعتني وأنا لا أملك من حطام الدنيا إلا قلبًا محبًّا كان لها مهرًا … والآن هي تموت جوعًا، ولا يمكنني أن أغذيها. فصاحت به العجوز: ما هذا القول يا عثمان؟ أتجدف علي اسم الخالق؛ لأنه جمعنا سويًّا …؟ أي ذنب عليك؟ لو لم يحطَّ بنا الدهر لكنا في أحسن حال وأنعم بال، ولكن هذا كله قضاءٌ وقدر … أخذ أولادنا وفلاذ أكبادنا، وأضاع أموالنا، ولا يحق لنا مع هذا إلا حمده على كل حال في السراء وفي الضراء، والمحن إذا تناهت انتهت، والرزايا إذا توالت تولت، ولا بد أن يجعل بعد العسر يسرًا، فدع عنك هذه الأوهام وقم بنا للصلاة، فها مدافع الغروب قد أُطلقت وقد مضى النهار، فلم يذكرنا صديق ولا جاءنا أنيسٌ مباركًا. هذه سنة الله في أرضه، والذي نرجو رحمتَه ورضاه …

قالت العجوز هذا ونهضت للحال، فتوضأت بالماء البارد رغمًا عن البرد القارس، والتفت بمنديلها، وبسطت سجادتها، وشرعت تصلي بحرارة وخشوع، واقتفى زوجها أثرها وصلى بعدها. فلما فرغا عادا إلى حول مصطلى النار يصطليان، وأخذت العجوز تحرك الرماد لعلها تجد فيه جذوة نار، فلم تجد إلا رمادًا برماد، وجاء الليل بظلامه الدامس، ولم يكن عندهما نورٌ فبقيا تحت جنح الظلام، وأخذت الشفقة الشيخ على امرأته فنزع فروته وألقاها على منكبيها وقاية لها من البرد، وساد الصمت مرةً ثانية، وغاص كلٌّ في أفكاره يتأمل شقاء حاله …

وكانت تلك الليلة عاصفة والرعود قاصفة فتلمع سيوف البرق على صفحات الأفق فتنيرهم من آن إلى آخر. وكانت الموسيقى العسكرية تعزف بألحانها الشجية في الثكنة القريبة منهما فتثير أشجانهما، وتزيد في قلبيهما الحسرات، وبينما هما على تلك الحالة وإذ طُرق الباب بعنف شديد، فذعرت العجوز وقالت: أسمعت طرق الباب؟ قم مسرعًا يا عثمان وانظر من الطارق، فقام الشيخ يتحسس في الظلام حتى اهتدى إلى زلاج الباب ففتحه فلم يجد أحدًا، والتفت في الطريق ذات اليمين وذات الشمال، فلم يلق فيه عابرًا أو زائرًا، وكانت امرأته قد تبعته فسألته: ما هذا؟

– لا أعلم، فإني لم أجد أحدًا.

ثم حدق بعينيه فوجد شيئًا كبيرًا ملقى أمام الباب، وأبرقت السماء حينئذٍ فرأى طبقًا كبيرًا مغطى بشفٍّ وردي، فصاح: هذه «هدية رمضان»، وخال له ولامرأته في الوهلة الأولى أن الحمال قد غلط عن الطريق وأضاع العنوان؛ لأنها كانت هدية رجل كبير، وهما لا يعرفان أحدًا من كبار القوم، أو أن لصًّا قد اختطف تلك الهدية وخاف أن يكتشف فألقاها أمام بابهما، ولما رفع عثمان الشف وجد ورقة مطوية فقال: لا بد من معرفة المهدي والمُهدَى إليه، ثم التفت إلى امرأته، وقال: ألا يوجد عندك شمع؟

– بلى فيما أظن.

– أسرعي بعود.

فأسرعت وعادت فأشعلت واحدًا، وفض الشيخ الورقة وقرأها فكان فيها ما نصه: «رمضان مبارك على فاطمة هانم الفاضلة. يصلك كل عيد في رمضان مثل هذه الهدية إذا اعتنيت بالشيء الثمين الذي أُودعه إلى عنايتك، وأسلمه إلى مروءتك، ولا حاجة إلى التوصية بإفراغ الجهد حرصًا عليه.»

ورفع الشيخ المنديل الحريري عن الطبق، وإذا به يرى فيه طفلًا صغيرًا ابن أمسه على صدره كيس مملوءٌ ذهبًا، فعرت الدهشة العجوزين، وأخذا يتساءلان ما يكون من وراء هذا السر، ولكن الجوع كان آخذًا من الطفل فطفق يبكي، فقالت العجوز: وا حيرتاه! كيف أغذيه هذا المساء؟ ثم فكرت قليلًا وصاحت: إن جارتنا قد ولدت منذ عهدٍ قريب فسأذهب إليها وأرجوها المعونة، والتفتت إلى زوجها فقالت له: أما أنت فاذهب إلى السوق قبل أن يقفل، واشتر لنا ما نحتاج إليه من الطعام والنور والتدفئة.

وهكذا في أقل من ساعة من الزمن تبدلت حالة ذلك البيت وسكانه إلى حال أخرى، واتصل الخبر سريعًا بمسامع الجيران، فتقاطروا يهنئونهم بتلك الهدية، ويتلطفون عنايةً بذلك الطفل الرضيع، وجلس الشيخ في السلاملك (قاعة الاستقبال) مع جيرانه، وكلٌّ يدعي صداقته، وهو يفكر في تقلبات الدهر، ويقول:

والليالي من الزمان حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبه

وإذا بامرأته أطلت من دائرة الحرم، وقالت له: قد نسيت الحلوى يا عثمان، فاذهب وابتع لنا شيئًا وافرًا منها إكرامًا لضيوفنا، فخرج عثمان للحال ملبيًا الطلب، وفيما هو عائد إلى البيت إذا به يسمع وقع حوافر خيل، ثم أبرقت السماء فرأى خصيًّا من خصيان السراي السلطانية ممتطيًا جوادًا عربيًّا كريمًا، ومعه عبدٌ أسود من سيَّاس القصر، فمرَّا من أمام عثمان، وتفقدا ما هو حامل بيده، وأخذا يبحثان ويتلفتان كمن أضاع في التراب خاتمه، ثم صاح الخصي بالخادم قائلًا: قد أضعت أثره «يا أحمد»، ويستحيل أن يكون قد جاء إلى هذا الزقاق، ثم أعمل المهماز في شاكلة الجواد، وخرج من الزقاق والعبد يعدو وراءه كالكلب. فعرف الشيخ للحال أن البحث جارٍ عن الطفل، وأدرك خطورة الأمر؛ لأن البحث كان من السراي، فلما وصل البيت طلب من الجلاس الصمت، وأسدل السجوف خشية أن يستلفت أنظار المارة، وكان كلما سمع حركة أو همسًا ظن أنهم جاءوا يطالبونه بالطفل، ويذيقونه ألوان العذاب جزاء ذنب لم يرتكبه، وندم على إطلاع جيرانه على سره، وعرف فساد رأيه وأن أقل وشاية كافية لهلاكه، فأسرع في وضع الخوان ودعا ضيوفه إلى الطعام، ثم قدم القهوة والتبغ، وجلس يفكر في هذا الحادث، وهو يحاول عبثًا إزالة علامة ارتباكه، وقد لحظ أحد الجلاس عليه ذلك فقال له: ما لك مفكِّرًا كأن ليس العيد عيدك؟

– قد مضت علي مدة لم أذق بها طعم التبغ فأتلذذ به الآن، فضلًا عن أن أيام الشبيبة قد مضت.

ثم تربص ريثما فرغت امرأته من إقراء ضيوفها فصرفهم جميعًا، ولم يُبقِ منهم إلا التي أرضعت الطفل، فساومتها امرأته أجرتها عن سنة واتخذتها للحال ظئرًا له، ولكن تلك الهدية في تلك الحالة قد أدهشتهم إلى حد أن أذهلتهم عن معرفة الطفل إذا كان ذكرًا أو أنثى، فقالت العجوز: سأعطيها اسم ابنتي عائشة، ما قولك يا عثمان؟

– بالحق نطقتِ عسى تكون سلوى مصابنا.

والآن أرجو القارئ الكريم أن يعود بي إلى ذكر حادثة جرت قبل ستة أشهر من هذا العهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤