الفصل الحادي عشر

عرس صلاح الدين

وكانت الأعياد والولائم تتوالى احتفالًا بالإمبراطورة أوجيني، وصلاح الدين مضطرًّا لحضورها مقيدًا بخدمة الإمبراطورة؛ الوجه منه باسم والقلب كسير.

وفي ١٣ أكتوبر غادرت الإمبراطورة الأستانة شاخصة بالعز والإقبال إلى مصر لحضور افتتاح برزخ السويس؛ حيث كان إسماعيل باشا خديوي مصر معدًّا لها ما أدهش العالم بأسره، فطلب صلاح الدين رخصة شهر، فنالها وحاز في أي عمل يقضيه، ورام أولًا الانتقام من صديقه حسن بك الذي خان عهده، ونكث وده، وأعاد مليكة فؤاده إلى حماتها، لكنه رأى هذا عمل رعونة وجهل يجلب عليه وعلى والده الشيخ وآله أجمعين الويل والخراب؛ ومن ثم حرمانه الدائم من خطيبته، فرأى أن انتظاره خيرٌ وأبقى قائلًا ربَّ صدفة خير من ميعاد، ولم يعرف أن شرًّا أشد هولًا كان حائمًا فوق رأس حبيبته.

وكانت عائشة هانم قد هرعت، فبشرت نعمت هانم بما توقع لها، وبحديثها مع السلطانة مهرى، ووعدها باقترانها بابنها، أما صلاح الدين فلم يصدق شيئًا من ذلك الفعل، قال: هذا كذب وخداع من الشركسية، فأي خيرٍ ترجوه من إغاظة شقيقها حسن بك؟!

ثم إن عائشة أنفذت في ٦ أكتوبر رسولًا مخصوصًا إلى نعمت هانم تخبرها بأن السلطانة عليَّة قد وهبتها إلى السلطانة مهرى إجابة لطلبها، وأنها ستنتقل إلى سراي جراغان. فقال صلاح الدين: ومن يعلم ما طبخته لنا هذه الشركسية، وإذا كانت لا تريد التعجيل بإزواجها من حسن بك. فقالت له والدته معترضةً، ولكنها لم تصرح لها بألا ترضى بسواك بعلًا، فلا يجب يا بني إساءة الظن إلى هذا الحد واليأس من رحمة الله، ألا يكفي عائشة أنها تخلصت من نير تلك المرأة القاسية الغليظة القلب، وأصبحت سعيدة آمنة عند مولاةٍ لها تحبها، وقد كانت صديقتها؛ فيجب ألا تكفر بالنعمة فإن الكفر يدعو إلى زوالها، فاقتنع صلاح الدين بكلام والدته، وسُر كثيرًا لما عرف أن السلطان قد أنفذ حسن بك إلى كريت بمهمة يقضيها، ويضطر بها إلى الإقامة في تلك الجزيرة ستة أشهر، وطار فرحًا لما وصل إلى والدته في ١٠ أكتوبر الكتاب الآتي:

هانم أفندي المحترمة

أنا الآن بمعية السلطانة مهرى تعاملني كصديقة لا كجارية، وقد سافر حسن بك إلى كريت متغيبًا بمهمة إلى مدة، وقد وعدتني جلالتها بالاقتران من ابنك المحبوب بعد برهة يسيرة، ريثما تتغلب على جميع الموانع؛ إذ لا يزال يظهر عوائق كما لا يخفاك، وقد أرتني جلالتها أن أدعوكِ للمجيء إلى جراغان لمشاهدتك وتقبيل يدك.

عائشة

ولنترك الآن صلاح الدين يبني قصور آماله، ولنعد إلى حديثٍ جرى بين خصيين: الأول: خاص بالسلطان عبد العزيز، والثاني: بالسلطانة علية، وكانا يتنزهان صباح يوم في ظل أشجار البستان، فقال الخصي علي سائلًا زميله: وهكذا قد حجزت كتاب السلطانة مهرى إلى شقيقتها، وتظن أنك قد أحسنت سياسةً.

– لا شك عندي بذلك؛ إذ لو كان يجب إطاعة هوى كل جارية تصير سلطانة أو غيرتها لتعذرت علينا المعيشة في هذا المكان.

– أما سمو السلطانة علية فقد سُرَّت كثيرًا من هدية جلالة السلطانة مهرى، وأدركت السبب، وهو أن تتنازل لها عن جاريتها عائشة.

– نعم، ولكن يدهشني في هذه المسألة طلب السلطانة مهرى أخذ عائشة إلى جراغان مع معرفتها بإعجاب السلطان بها.

– إذا كنت كتومًا للأسرار بُحت لك بأمرٍ هامٍّ، وهو أنه يجب عليك مراقبة السلطانة مهرى، فقد سمعتها تتحدث همسًا مع مولاتي السلطانة علية، وكنت مختفيًا وراء ستار الباب، فسمعت مهرى تقول: وهل أنتِ واثقة من أن هذا السم يشوه الوجه بدون أن يفتك بالحياة؟ فأجابتها: أنا واثقة من الأول، ولكن لا أكفل الحياة، فقالت لها حينئذ السلطانة مهرى: لا بأس هذا يكفيني، وإذا بعائشة دخلت فانقطع الحديث. فقال الخصي: أشكرك جدًّا لهذا الخبر، ولكني لا أصدق أن السلطانة مهرى تريد الموت لصديقتها.

– ولكن قد أصبحت الآن خصيمتها.

– أنت تسيء الظن كثيرًا بالنساء.

– لأني قضيت حياتي معهن.

– عيشة رغيدة.

– وقد رأيت أعمالهن وحيلهن بعيني.

– ولكن يتراءى لي أنك كنت تكره عائشة قديمًا، والآن تريد مني حمايتها من غدر السلطانة.

– أنا لست بكارهٍ ولا بمحبٍّ لها، بل ككلب الصياد عليه متابعة طريدته، فلما كانت مولاتي مطاردة لها أفرغت جهدي حتى وجدتها.

– أصبت، هكذا يجب أن يكون الخادم الأمين، وافترق الخصيان عند هذا الكلام.

•••

وجاءت نعمت هانم إلى جراغان، فقابلتها عائشة مترحبة، ولكن وجهها كان قد تورم، فشوه جمالها، فضمتها نعمت هانم إلى صدرها وعانقتها طويلًا، ثم جاءت السلطانة مهرى متلطفة، وقالت لها: يجب أن تستعدي لعرس صلاح الدين، فقد زالت كل الموانع …

ولكن لم يمضِ الأسبوع الأول حتى عيل صبر صلاح الدين، وأخذ يلح على والدته بالزواج والعود إلى السراي لاستصحاب حبيبته. فسارت ووجدتها لسوء حظها بأسوأ حال لما تقاسي من ألم عينيها، وقد تنفخت وملئ وجهها ورمًا، وكانت عائشة حزينة حتى الموت من جراء ما أصاب وجهها من التشويه، ولم ترغب في مشاهدة حبيبها على تلك الحالة، ولكن طمأنتها نعمت هانم كثيرًا، وأقنعتها بأن تلك بثور الصبا فلا تلبث حتى تزول تمامًا. فقالت عائشة: ولكن لا أريد أن يشاهدني صلاح الدين على هذه الحالة خشية أن يصيبه ما أصاب السلطان. فقالت نعمت هانم: وما أصابه؟ قالت: تنازل جلالته فدعاني لخدمته ذات يوم، فلما شاهدني أدار وجهه عني اشمئزازًا، ولا تسألي عما أصابني من الغم والخجل؛ وضحكت السلطانة مهرى من ذلك، ولكن لو كان صلاح الدين عوضًا عن السلطان لمتُّ في الحال حزنًا وغمًّا. فأخذت نعمت هانم تطيب خاطرها، وتخفف عنها استياءها، وقالت: إننا ننتظر إبلالك وشفاءك حتى يعود جمالك، وهو عائدٌ قريبًا إن شاء الله.

ومنذ أظهر السلطان اشمئزازه من عائشة أخذت مهرى تضاعف اعتناءها بها، وسعت بتعيين صلاح الدين متصرفًا، فسمي على سالونيك وأعطى ألف جنيه مهرًا لامرأته.

ولم ينتشر هذا الخبر بين أصحاب صلاح الدين ومعارفه حتى جاءوا يهنئونه من كل صوب على تلك الحظوة؛ لأن التزوج من إحدى سراري السراي يعد التفاتًا عاليًا كما لا يخفى، ولكن المرض كان يزداد على عائشة، وهي تزداد رفضًا للزواج. أما صلاح الدين فقد ذابت الروح منه اشتياقًا، ونفدت جعبة صبره من الانتظار، وظن أن تمنُّع عائشة هو غنج ودلال على حد قول الشاعر: «عرف الحبيب مقامه فتدللا.» فأنفذ والدته تطلب عائشة لاصطحابها معها إلى حرمها تتمرض فيها ريثما تنال الشفاء التام، فسارت إلى السراي، وتمكنت من إقناع عائشة بأن مناخ مدينة سالونيك يعجل شفاءها، فرضيت وقد اشترطت ألا يشاهدها صلاح الدين إلا بعد شفائها.

وأذنت السلطانة مهرى بذلك فشكرتها عائشة كثيرًا، ودعت لها طويلًا قائلة: جازاك الله عني جزاء عملك معي … وأفضالك علي … فارتعشت مهرى من هذا الدعاء … وخافت سوء العاقبة وإجابة الطلب.

وسُر صلاح الدين من وجود حبيبته تحت سقف بيته، وإنما ساءه تحجبها الشديد عنه طول مدة إقامتها، فدخل ذات يوم على والدته غاضبًا، وألقى طربوشه على الديوان، وقال: أأنت مؤكدة يا أماه من أن عائشة تحبني بعد الآن؟

– ما هذا السؤال يا صلاح الدين، وهل أنت في ريبة من ذلك؟

– نعم فقد بدأت أشك بحبها؛ إذ ما معنى ذلك التأجيل، فإن العرس كان منتهى آمالها، وقد حالت دونه الموانع الكثيرة، فماذا تريد من هذا الانتظار الآن سوى رجوع حسن بك حتى نعود إلى ما كنا عليه، ناهيك عن أني لا يسعني بعد احتمال هذه المعيشة، أأراها تحت سقف بيتي، وأسمع كل يوم صوتها، ولا أقدر أن أمتع نظري بمحياها؟ لقد عيل صبري! فبلغيها أنه لا يبعد إذا كلمتني مرة من وراء الباب كعادتها أن أحطمه، وأدخل عليها ناسيًا حقوق الضيافة وقداسة الشرائع والعوائد.

– ولكن قد تغيرت المسكينة كثيرًا.

– وماذا يهمني؟ ذلك نفاطٌ يزول قريبًا كما أكد لي جميع الأطباء، وهل يجوز تأجيل هذا العرس من أجل غنج فتاة معجبة بجمالها؟ فإني أحبها وتحبني، وكفى تأجيل، فأكدي لها ذلك، وأقنعيها أن هذا الامتناع من قلبها يخفف حبي لها، وأني لست بغرٍّ لأعلق كبير أهمية على مثل تلك المسائل التافهة.

ونقلت نعمت هانم حديث ابنها إلى عائشة، فخافت من وعيد حبيبها وهجرها، فرضيت بما طلب، وبمباشرة احتفال العرس، وطار قلب صلاح الدين فرحًا، ونسي السياسة والأحزاب والإصلاح، وغفر ما كان للسلطان من الذنوب والمعائب، ولا غرابة فعين الرضى عن كل عيب كليلةٌ.

وضربوا موعدًا للاحتفال بمراسم العرس ١٥ ديسمبر، فاكتظ البيت بالمهنئين والمهنئات، وكان حميد باشا الذي رافق ابنه إلى سالونيك يستقبل في السلاملك وفود المهنئين، ونعمت هانم تستقبل النساء اللائي كن يساعدنها على تزيين عائشة المسكينة فألبستها ثوبًا حريريًّا ناصع البياض مطرزًا بالقصب، وأسبلن قناعًا طويلًا على وجهها، وأديرت المرطبات والحلويات، وتمت جميع الطقوس والعوائد الجارية في تلك البلاد. ولما كانت العادة كما لا يخفى أن يدخل العريس ويقود عروسه إلى الغرفة المعدة لهما، دُعي صلاح من السلاملك للدخول إلى الحرم، فقام وقلبه مفعم فرحًا، ولما قدم إليها يده قال لها همسًا: الحمد لله أنت لي منذ الآن؟ فقالت له عائشة بصوت مرتجف: وهل تبقى على حبك؟ فأجابها: إلى آخر نسمة من حياتي. فقالت: إذن وقد أمر الله تعالى بذلك فاكشف قناعي. فمد صلاح الدين يده بلهفة، ورفع القناع وهم بتقبيلها، فلما شاهد وجه حبيبته على تلك الحالة من التشويه نفر منها وصاح مذعورًا وقد غطى وجهه بكلتا يديه أهكذا أُعطيت لي؟ فكاد الغم يخنق عائشة فتقدمت إلى حبيبها، وقالت له: ألا تريد أن تقبل عائشة المسكينة؟ فرفع صلاح الدين وجهه يريد تقبيلها، ولكن لما شاهد البثور والندوب في وجهها لم يقدر أن يملك نفسه من التردد والاشمئزاز، وخاف أن يسوءها، فأراد إصلاح خطأه، ولكن هيهات، فإن عائشة لما رأت ذلك النفور من حبيبها ركضت إلى النافذة، وألقت بنفسها إلى البحر قائلة: لا أكون لك عروسًا بلا حب، وهب صلاح الدين يريد مسكها ومنعها، فلم يتمكن إلا من مشاهدة جثة حبيبته تخبط في اليم.

فصاح صيحة تراكضت لها النساء، فوجدنه يحاول إلقاء نفسه في البحر، فأمسكنه وتعلقن به، وهو يحاول التملص من أيديهن جاحظ العينين ضائع الهدى، والنساء يصرخن ويستغثن، وإذ بيدٍ من حديد قبضت على صلاح الدين وصوت يقول له: هذه ساعة الرجولة فإن عائشة كانت مائتة لا محالة، إن غبار الماس سم الأستانة هو سبب هلاكها، فيجب أن تعيش لتأخذ بثأرها، وهذا رجاء والدتك إليك ودعاء عائشة أيضًا. كان ذلك الصوت صوت والدته، فانتبه صلاح الدين لهذا الكلام كمن أفيق من سبات عميق، وقال: حقًّا نطقتِ … وصدقًا قلتِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤