الفصل التاسع

معايير لفلسفةٍ جمالية في الموسيقى

القسم الأول: الفيلسوف والموسيقى

دأب الفلاسفة ما عدا قلةً نادرة منهم، على القول إن قيمة الموسيقى إنما تكون في تأثيرها. ومضَوا في تفكيرهم قائلين إنه إذا كانت قيمة الموسيقى تنحصر في التأثير الذي تُحدثه في السامع، فإن الوظيفة الصحيحة للموسيقى ليست نقل أصوات وإيقاعاتٍ جميلة تقتصر على بعث السرور في الحواس، وإنما هي إحداث استجاباتٍ معينة في السامع تجعل منه شخصًا «طيبًا أو فاضلًا». وهكذا يرى الفلاسفة أن الموسيقى لو كانت تقتصر على تقديم مُتَع عابرة، ولا تحضُّنا على أداء الأفعال «الفاضلة»، وعلى أن نصبح أشخاصًا «أفضل»، لما كانت تزيد عن مجرد لذةٍ جوفاء، ولكانت بالتالي مضيعة لجهد الإنسان على نحو كان يستطيع الانتفاع به في أغراضٍ أفضل. وينتهي الفلاسفة من ذلك إلى أن الموسيقى ينبغي أن تؤدي إلى «السلوك القويم»، وإلا لكانت مخدرًا يؤدي بنا إلى الهروب من الواقع، والتحليق في أجواء عالم الخيال المحض.

أما الموسيقيون الخلَّاقون، فكانوا عادةً يتجاهلون الآراء الأخلاقية للفلاسفة بشأن الموسيقى؛ فقد كان المؤلف الموسيقي يلتزم طوال حياته عقيدةً فنية لا تجعل قيمة الموسيقى منحصرةً في جعل الإنسان «فاضلًا»، أو في بعث حالة من «الكمال»، وإنما تجعلها كامنة في الأنغام المحسوسة والإيقاعات المتحركة التي تُمتع الحواس وتُثير الانفعالات؛ فقد ظل الموسيقي ينادي على الدوام بأن الوظيفة الحقة للموسيقى هي الإهابة بالعاطفة، على حين أن الفيلسوف ظل على الدوام يزدري الموسيقى؛ لأنها لا تُهيب بالعقل قبل أي شيءٍ آخر. وهكذا يتفق الفيلسوف والموسيقي معًا على أن الموسيقى تُهيب بالعواطف قبل كل شيء، غير أن اهتمام الموسيقي ينصَب على إثارة الانفعالات لأغراض المتعة فحسب، أما الفيلسوف فيؤكد أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى ينبغي أن يكون من نوع يمكن توجيهه لغايةٍ خيِّرة، هي تكوين الشخصية الأخلاقية؛ فالموسيقار يهتم بخلق تجربةٍ جمالية، أما الفيلسوف فيهتم بالنتيجة الأخلاقية.

ولقد كان المؤلف الموسيقي يصبو دائمًا إلى أن ينقل بموسيقاه إلى الأذهان الأخرى إحساسًا بالأصوات النغمية والانطباعات الموجودة في العالم المحيط به. وما أشبَهه بشخصية «جان كريستوف» عند رومان رولان، تلك الشخصية التي ترجمَت كل تجربة إلى لغة الموسيقى؛ فمؤلف الموسيقى لا يخلقها لكي نُخاطب بها العقل أساسًا، ولا يكتبها لكي يُهيب بالحاسة الخلقية، ولا يؤلف موسيقاه لكي يُرشد ويعظ، وإنما يخلق موسيقاه لكي يوقظ الانفعالات.

ولقد قال «بن جونسون» ذات مرة: «إن للفن عدوًّا اسمه الجهل.» هذه الملاحظة الحكيمة كانت وما تزال تنطبق على الموسيقى أكثر مما تنطبق على أي ضربٍ آخر من ضروب النشاط الخلَّاق للإنسان في ميدان الفن الجميل؛ ذلك لأن المتعة الحسية التي تبعثُها فينا الأنغام الموسيقية، والتأثير الفسيولوجي الذي تُحدثه فينا الإيقاعات الموسيقية، قد دفعا الفيلسوف ورجل اللاهوت والسياسة إلى أن ينظروا إلى الموسيقى بعين الارتياب والشك، وإلى خالقي الموسيقى بخشية وازدراء؛ فقد ظلوا طوال العصور يحسدونهم على قدرتهم التعبيرية، ويحملون عليهم جهلًا وخوفًا مما قد تفعله أو لا تفعله قدرات الموسيقى للذهن والجسم.

وكثيرًا ما كان يحدُث لموسيقيين كانوا في شبابهم يناصرون الأفكار الجديدة في عصرهم، أن تشبَّثوا بهذه الأفكار الأصلية إلى حد أنهم أصبحوا عاجزين عن تقبُّل الأفكار الأحدث منها عهدًا، وصاروا في سنواتهم المتأخرة رجعيين متزمتين. هذا عامل لا يمكن تجاهله، بل إن تاريخ الموسيقى إنما هو دليل عليه. أما الفلاسفة فقد اضطلعوا إلا قلةً نادرة منهم، بما أطلَق عليه هوايتهد اسم إضافة شروح وتنويعات على النغمة الأصلية التي أطلق أفلاطون، كما يشهد بذلك تاريخ الفلسفة. ولا شك أن هذا الحكم يصدُق بوجهٍ خاص على آرائهم الجمالية، ولا سيما ما يتعلق منها بالموسيقى، أكثر مما يصدُق على أي فرع آخر من فروع البحث الفلسفي؛ فالفلاسفة لم يعبَئوا بأن يكونوا مبدعين، حتى في شبابهم، في وضع نظريةٍ جمالية في الموسيقى، وإنما اكتفَوا بالانصراف طوال حياتهم إلى الدفاع عما قاله أفلاطون عن الموسيقى.

والواقع أن الدور الذي قام به الفيلسوف طوال تاريخ الموسيقى وتطوُّرها بوصفها فنًّا، هذا الدور يستحق من الذم أكثر مما يستحق من المدح، فمن جهةٍ نجد أن ميلَه إلى التشريح المنطقي الدقيق قد عاق التقدُّم الموسيقي، ومن جهةٍ أخرى فإن تشككه الدائم في القيم الموسيقية قد أثَّر في المبادئ الجمالية للموسيقيين أنفسهم. ومما يؤسف له أن الفيلسوف قد جلب على الموسيقي طوال العصور من الضرر ما يفوق ما حقَّقه لها من النفع، غير أنه لا يحمل هذا الوزر وحده، وإنما يشاركه فيه اللاهوتيون والسياسيون. وهكذا عمل أنصار العقل الخالص والإيمان والعمل السياسي في معظم الأحيان، على إبقاء الموسيقى في مركز التابع الذليل لمذهبٍ عقلي أو عقيدة أو دولة. صحيح أن الموسيقي الخلَّاق كان في حضاراتٍ معيَّنة أكثر تحررًا منه في حضاراتٍ أخرى، غير أن نيتشه قد أدرك بوضوح — بكل ما في أسلوبه من مرارة — أن الموسيقي ظل على الدوام عبدًا للأخلاق والدين. وما أقلَّ الموسيقيين الذين يمكن القول إن هذا الحكم لا يصدُق عليهم، سواء في العصور الماضية والعصر الحاضر ذاته!

ولقد لَقيَت الموسيقى في كتابات الفلاسفة من التجاهل وسوء الفهم أكثر مما لَقِيَته كل الفنون الأخرى. ومع ذلك فهناك مدارسُ فلسفية متعددة كان لها تأثيرها في الفكر الموسيقي، كما أن القيم الموسيقية الجديدة بدَورها استبَقَت بعض الاتجاهات الفلسفية؛ فقد نظر الفلاسفة إلى الموسيقى على أنها مدخلٌ إلى فهم طبيعة الكون، وإعدادٌ رياضي لدراسة الفلسفة. ووصف الأفلاطونيون الموسيقى بأنها محاكاةٌ لعالم الواقع، بينما نظر إليها الأرسططاليون على أنها علوٌّ مثالي بهذا الواقع. أما اللاهوتيون فكانوا يَرَون في الموسيقى وسيلةً لتقريب الإنسان من الله بفضل تجمليها للنص المقدس. كذلك اشترك اللاهوتيون والفلاسفة معًا في النظر إلى الموسيقى على أنها وسيلة لإصلاح الأخلاق أو إفسادها، وكان الفلاسفة يَرَون أنها قد تكون مجرَّد متعة حسية، أو قوةً روحية هائلة، وعلاجًا لجسم الإنسان ونفسه.

ولقد رأينا أن أقدم معرفة لنا بالموسيقى في الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين. ورأينا أيضًا كتابات أفلاطون، على وجهٍ أخص، هي التي تتضمن مُركَّبًا يجمع بين النظريات الموسيقية للشرق والغرب؛ ففي هذه الكتابات تُشرح القيم الأخلاقية والنفسية للموسيقى من خلال الميتافيزيقا، فيُنظر إلى العنصر الإيقاعي في الموسيقى على أنه مطابقٌ للإيقاع الكوني، ويُقال إن الإيقاع المتخبط ونشاز الأصوات المتنافرة يؤدي إلى الشقاق بين البشرية وبين النظام المثالي للأشياء. وهكذا بدأ أفلاطون يشيِّد مذهبه الجمالي في الموسيقى بإضفاء طابع أخلاقي على الأساليب أو المقامات اليونانية. وكان ينظر إلى الموسيقى على أنها أرفعُ من الفنون الأخرى، على أساس أن الإيقاع والتوافُق يؤثِّران في النفس الباطنة والحياة الانفعالية للإنسان على نحو يفوق العمارة والتصوير والنحت. وعلى ذلك فمن الواجب الانتفاع من الموسيقى في تقويم السلوك، وتشكيل الشخصية، وإعداد العقل للدراسة الرفيعة، وهي دراسة الفلسفة. أما البدع اللحنية، أو الفصل بين الشعر والنغم، فهي في مذهب أفلاطون مظاهرُ للاضطراب تهدِّد القيم التقليدية، وتعرِّض الأوضاع السائدة للخطر.

وقد احتفظ أرسطو بالنظريات الأفلاطونية في الموسيقى، كما ردَّدها أفلوطين مبديًا إعجابه العميق بها. كذلك بدأ أوغسطين كتابه في الموسيقى بطريقةٍ أفلاطونية خالصة، وذلك بالكلام عن الموسيقى من حيث هي مبحث يمهِّد للدراسة الفلسفية، كما أن الطابع الأفلاطوني كان واضحًا في التعاليم الموسيقية لبويتيوس — شأنها شأن تعاليم أوغسطين — وذلك على الأقل فيما كتبه في المرحلة الأولى من حياته الأدبية. وقد احتفظ ديكارت أيضًا بالفكرة الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى رياضيةٌ في أساسها، وينبغي أن تستخدم مبحثًا يمهِّد لدراسة الفلسفة. وقد تحدث ديكارت مثل أفلاطون وأرسطو عن المشاعر الموسيقية، وعزا إلى الإيقاعات قيمًا أخلاقية؛ إذ إن لها تأثيرًا مباشرًا في النفس البشرية؛ لذلك أعرب عن إيثاره للإيقاعات التي لا تهيجُ الانفعالات أو تُثيرها إلى حدٍّ مُفرِط. وأكد ضرورة استخدام النِّسَب البسيطة للمسافات النغمية، وردَّد شكوى سبق أن أعرب عنها أفلاطون؛ إذ ندَّد بعدم تآلف النظم النغمية التي كان الموسيقيون في أيامه يستخدمونها في أساليب الكتاب الكنترابنطية. كذلك وصف لبينتس الموسيقى بأنها مظهر للإيقاع الكوني تنحصر ماهيته ذاتها في كونه عددًا ونسبة، ورأى أنه مهما كان من سحر الموسيقى لنا «فإن جمالها لا يكون إلا في انسجام الأعداد»؛ فالموسيقى عدٌّ لا شعوري، أو هي علاقةٌ شعورية بين الأعداد التي تُنظم في مسافاتٍ ونماذجَ نغمية تبعث السرور في النفس. وكان روسو يعتقد أنه لما كان الفن محاكاة للطبيعة، فالنتيجة المنطقية لذلك هي أن الموسيقى صورةٌ مطابقة للإيقاع الذي يسود الكون بأَسْره. وعلى ذلك ففي وسع الإنسان لو دأب على الاستماع إلى الإيقاعات الموسيقية السليمة، أن يتعلم كيف يعيش وفقًا للقانون الطبيعي ويتحد بالطبيعة.

كذلك اتفق «كانْت» مع أفلاطون في رأيه القائل إننا نستطيع بالموسيقى «أن نصل إلى الجسم من خلال النفس، ونستخدم النفس في مداواة عِلَل الجسم». وقد أظهر في آرائه الجمالية ازدراءً للموسيقى الخالية من الكلمات؛ فليس لموسيقى الآلات الخالصة في نظره قيمةٌ كبيرة؛ إذ إنها جامحةٌ خيالية لا تعبِّر عن تصوُّرٍ محدَّد. ويرى كانْت في فلسفته الجمالية أن الشعر أكثر الفنون إهابة بالعقل؛ إذ إن الكلمات هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن المفاهيم والأفكار. وقد توسَّع هيجل في هذا الرأي، فقال: إن وظيفة الشعر تصبح عندئذٍ فرضَ الكلمات على الأصوات، والأفكار على المشاعر، والمفاهيم على التأثرات النفسية، بحيث إن ما هو غامضٌ غير محدَّد المعالم في الموسيقى يصبح في لغة الشعر أكثر تحدُّدًا ووضوحًا. غير أن شوبنهور ونيتشه قد اعترضا على هذا التفكير الديالكتيكي، مؤكِّدين أن للَّحنِ الحقَّ في أن يُوجد بذاته مستقلًّا عن الكلمة المنطوقة. وقد اتفق نيتشه مع شوبنهور في مسألةٍ أخرى هي أن الموسيقى تتيح لنا مهربًا، ولحظةً قصيرة من السعادة والاطمئنان، ولكن على حين أن الموسيقى كانت عند شوبنهور تساعد على الانتقال من الإرادة إلى التبصُّر والتطلع، ومن الرغبة إلى التأمل، فإنها في تفكير نيتشه الجمالي تتيح لنا أن نعلو على عالمنا المضطرب المختلط، وندخل عالمًا من صنعنا نحن، نعبِّر فيه عن رغباتنا وآمالنا. أما تولستوي فقد خالف فكرة اتخاذ الفن مهربًا، ووضع مذهبًا جماليًّا اقترب كل القرب من الأخلاقية المسيحية.

أما في القرن الحالي فلم يكتُب أيَّ شيء عن الموسيقى إلا قلةٌ من الفلاسفة، ولم يكن ما كتبوه إلا مجرد اعتراف عفْوي بوجود الموسيقى، أما مكانتها في المجتمع ودَورها فيه، فهما أمران لم يُظهِر هؤلاء الفلاسفة اهتمامًا كبيرًا بهما، بل إنهم لم يبحثوا في الموسيقى من حيث هي صورةٌ موحية من صور الاتصال بين إنسانٍ وآخر. ليس معنى ذلك أنهم ينفضون أيديهم عن موضوع الموسيقى، وإنما هو يعني أن الفلاسفة الحاليين يرتابون في المشاعر أكثر مما يعملون على حماية العقل؛ ففلاسفة القرن العشرين يحسُدون رجل العلم أكثر مما يحسُدون الفنان. وهم يُبدون تقديرًا للنظرية الجمالية؛ لأنهم لا يصلون إلى نتائجَ مرضيةٍ عندما يطبِّقون المناهج الوضعية عند تقدير عمل المؤلف الموسيقي.

ومن الفلاسفة الذين كتبوا عن الموسيقى في القرن العشرين، الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون Henri Bergson (١٨٥٩–١٩٤١م) الذي أدرج الموسيقى ضمن أفراد الأسرة الفنية التي تعطي الإنسان رؤية للواقع أقرب إلى الطابع المباشر؛ فالموسيقى في مذهب برجسون الجمالي ليس لها من هدفٍ سوى أن تطرح جانبًا تلك الرموز النغمية، وتلك التعميمات الاصطلاحية المتعارف عليها في المجتمع؛ أي بالاختصار، كل ما يُخفي عنا وجه الواقع، لكي تضعنا في مواجهة ذلك الواقع ذاته مباشرة،١ وفي كتاب «الزمان والإرادة الحرة Time and Free Will» يقول برجسون فِقرةً خفية المعنى: «إذا كانت الأصوات الموسيقية تؤثِّر فينا على نحو أقوى من تأثير أصوات الطبيعة؛ فذلك لأن الطبيعة تقتصر على التعبير عن المشاعر، بينما الموسيقى تُوحي بها إلينا.»٢٣ وقد ربط مفكِّر إنجليزي معاصر لبرجسون، هو جلبرت تشسترتون Gilbert K. Chesterton (١٨٧٤–١٩٣٦م) بين فن الموسيقى وبين مراحل الصراع التاريخي، وتطوُّر الإنسان والمجتمع؛ فهو لم يشارك برجسون فكرته الصوفية القائلة إن الموسيقى تزيد الإنسان قربًا من الواقع الحقيقي، وإنما رأى في الموسيقى تعبيرًا ذاتيًّا عن المشاعر والأحوال الانفعالية.٤ أما المفكر الألماني أوزفالد شبنجلر فكان يرى في الموسيقى وجهًا من أوجه الحضارة الغربية التي رأى أنها تسير في عصرنا الراهن إلى تدهورٍ مقدَّر لها، بعد أن بلغَت من الكِبَر عتيًّا؛ فقد كتب يقول: «لقد انتهت فنون الغرب إلى غير رجعة، وأما ذلك الذي يمارس اليوم على أنه فن فليس إلا عجزًا وخداعًا؛ فالموسيقى زائفة، مليئة بالضجَّة المصطنَعة لآلاتٍ ضخمة متكدِّسة.» وقد تنبأ متشائمًا بأن من المُحال أن تظهر بعد اليوم موسيقى عظيمة في العالم الغربي؛ وذلك لأننا «نلعب اليوم لعبةً مملة مع قوالبَ ميِّتة لكي نُوهم أنفسنا بأن الفن ما زال حيًّا.»
ولقد كان الفيلسوف الأمريكي ديفد رايت برال David Wright Prall (١٨٨٦–١٩٤٠م) خليقًا بأن يوافق (مع شبنجلر) على أنه «لو لم تكن للمؤلِّف الموسيقي انفعالاتٌ يعبِّر عنها ولا مشاعرُ حيوية يُضفي عليها بالصوت صبغةً خارجية لكان أقصى ما يستطيع عمله هو أن يكرِّر نماذجَ مألوفة أو عميقة …»٥ ولكنه ما كان ليتفق مع شبنجلر على أن موسيقى العالم الغربي في القرن العشرين هي فنٌّ سائر في طريقة التدهور الذي لا خلاص منه؛ فقد رأى «برال» أن موسيقى القرن الحالي فنٌّ قادر على السمو بالمُتَع الحسية للإنسان، وتعميق حياته العقلية؛ إذ إن الموسيقى، من بين سائر الفنون، هي كما كتب برال «ربما كانت فيما يتعلق بالقدرة التعبيرية الانفعالية، أعمقها وأغناها، وأوسعها نطاقًا وأعظمها قوة، فضلًا عن كونها أكثر مرونة …»٦ ومن بقية الفلاسفة الأمريكيين، يشكو سانتيانا Santayana (١٨٦٣–١٩٥٢م) بسخرية من أن «الموسيقى عقيمة في أساسها، شأنها شأن الحياة ذاتها …» ويقول: «إن ما يستمتع به معظم الناس ليس الموسيقى، وإنما هو حُلم يقظةٍ خاملٌ تخفِّف منه سَوْراتٌ عصبية.»٧ أما جون ديوي (١٨٥٩–١٩٥٢م) فقد كان خلَق عالمًا عقليًّا بلا حقائقَ ثابتة أو معتقداتٍ راسخة عن الجمال والخير، ورأى أن أفضل نظرة إلى المُثل العليا الموسيقية هو أنها كلها فروضٌ تظل التجربة الفردية تختبرها على الدوام.

ولكي نقدِّر الدور الذي قام به الفلاسفة في التأثير على مجرى التاريخ الموسيقي على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، يكفينا أن نذكُر أن ما بدا مجرد نظريةٍ جمالية في كتابات أفلاطون قد أصبح واقعًا فنيًّا في العهود الأولى للمسيحية؛ فقد ميَّز آباء الكنيسة بين الألحان الدينية والألحان الدنيوية، وبين الأنغام المسيحية والأنغام الوثنية، وكانوا يرون أن المسيحي الأمي يمكن أن يُعلِّم الكتاب المقدس بالموسيقى، حتى لو اقتضى ذلك إقامة رابطةٍ فنية بين وثنيةٍ مُغْوية وبين فِقرة من فِقرات الكتاب المقدس. وقد عمل آباء الكنيسة على كبت الاتجاهات الموسيقية الجديدة وقمعها، خشية أن تؤدي المؤثِّرات الرومانية أو العبرانية إلى إفساد البساطة الروحية للحياة والعقيدة المسيحية، ورددَّ قادة حركة الإصلاح الديني هذه الاتجاهات الموسيقية لحماية عقيدتهم، بدلًا من أن يستغلوا نقاط الضعف الجمالية في آراء الكنيسة الأم (الكاثوليكية).

هناك فيلسوفٌ آخر كان له تأثيرٌ عميق في تاريخ الموسيقى، هو بويتيوس. ولقد كان ما حاول القيام به بالفعل هو التوفيق بين الاتجاه الأخلاقي عند أفلاطون وبين تفسيره الخاص للاتجاه العلمي عند أرسطو. وإذا كان موته المبكر لم يُتِح له إتمام عمله، فقد تولى هذه المهمة موسيقيو العصور الوسطى الذين خلَقوا أسطورة «بويتيية» عادت إلى الفكرة الفيثاغورية القائلة إنه إذا كانت مهمة الموسيقى هي محاكاة انسجام الأفلاك، فمن الواجب أن تتصف المؤلَّفات الموسيقية بنفس الدقة التي تتسم بها تلك القوانين التي تسير بمقتضاها حركة الأجرام السماوية. وهكذا أصبحت الأخلاقية في الموسيقى متوقفة على العلم، أدى العلم الموسيقي بمُضي الوقت إلى وضع قوالبَ ثابتةٍ متحجرة.

ولقد كان روسو يزدري المؤلفين الموسيقيين الذين يكتبون موسيقى بلا كلمات، أو يستخدمون بوليفونيةً معقدة، فحاول أن يقوِّم هذَين المَظهرَين من مظاهر النقص بالدعوة على إلغاء الدراما الموسيقية الفرنسية، والاستعاضة عنها بمسرحيةٍ شعريةٍ غنائية على طريقة الإيطاليين، وهي دعوةٌ يأسف لها كل من تسنَّى لهم أن يفكِّروا في التطور التاريخي الذي أعقبه.

وكان تولستوي يتصور أن فن المستقبل سيكون مُنصبًّا على المشاعر الكفيلة بتقريب البشرية نحو وحدةٍ مشتركة مبنية على التفاهم والعمل الإيجابي. وكان يأمل ألا يكون معيار الامتياز في موسيقى المستقبل هو «اقتصارها على مشاعرَ محدودةٍ لا يصل إليها إلا البعض، بل على العكس من ذلك عمومية هذه المشاعر وشمولها». وحسبُنا أن نُقارِن بين هذه الآراء وبين النقد الموسيقي السوفييتي الحديث لنُدرِك مدى التأثير الذي كان لتولستوي دون قصد على الفلسفة الموسيقية للاتحاد السوفييتي.

ولقد كان أرسطوكسينوس، تلميذ أرسطو، هو أول فيلسوف يضع مذهبًا جماليًّا في الموسيقى مبنيًّا على قيم إنسانية؛ فقد حاول أن يتجنَّب المسائل الأخلاقية والتفسيرات الرياضية الخالصة للموسيقى، التي تمسَّك بها أفلاطون وأرسطو معًا. وكان يعتقد أن الحس والعقل، والقدرة على الاستماع وعلى التمييز، كفيلةُ بأن تُتيح للمرء أن يحكُم بنفسه إن كانت القطعة الموسيقية جميلةً أم لا، وقد رفض أن يقبل الرأي القائل إن أية ميتافيزيقا مذهبية رُسمَت خطوطها مُقدَّمًا، أو أي مذهبٍ أخلاقي تقليدي، أو أي إرجاعٍ للمقامات الموسيقية إلى الرياضيات، على طريقة الفيثاغوريين، نقول إنه رفض الرأي القائل إن أيًّا من هذه الأسس يصلح معيارًا لتقدير الموسيقى.

وعلى الرغم من ذلك فقد ظل معظم الفلاسفة التالين لأرسطوكسينوس يعرِّفون الموسيقى في مذاهبهم المختلفة من خلال قيمةٍ ميتافيزيقية أو أخلاقية أو كلتَيهما معًا، أو بوصفها مبحثًا رياضيًّا خالصًا، ولكن الفلاسفة انتهَوا بمُضي الوقت إلى التخلي عن التشبيه الخيالي لعنصر الإيقاع في الموسيقى بانسجام الأفلاك. كذلك أخذوا ينصرفون عن الرأي القائل إن الموسيقى مجرد تركيبٍ عددي منظَّم بطريقةٍ رياضية من شأنها أن تُحدث سلسلةً فريدة من الأنغام؛ فلم يعُد الفلاسفة يُحاولون تفسير المجموعات النغمية السارة أو المتوافقة على أنها علاقاتٌ عددية سليمة، وتنافُر الأنغام على أنه علاقاتٌ غير سليمة، وإنما أصبحوا يدركون بوضوح أن التوافق والتنافر هما طرفان متقابلان في الأصوات الموسيقية يتَّسِمان بأن لهما قيمةً جمالية نسبية تمامًا. ومع ذلك فإن الأخلاق، وهي العنصر الثالث في ذلك الثالوث القديم المؤلَّف من الميتافيزيقا والرياضة والأخلاق، ما زالت باقيةً معنا بكل وضوح.

ففي المجال الديني، ما زالت الكنيسة تفرِّق بين الموسيقى الجيدة والرديئة بمعنًى أخلاقي. وفي المجال الاجتماعي يحدِّد السوفييت القيمة الموسيقية للمصنف على أساس تمشِّيها أو عدم تمشِّيها مع الأيديولوجية السياسية السليمة. والمفروض نظريًّا على الأقل أن طبيعة النظام الديمقراطي الذي تحكُم به دولة كالولايات المتحدة يؤدي إلى استبعاد الطرف الثالث ذاته في هذا الثالوث؛ أعني الأخلاق، بوصفها معيارًا سليمًا للحكم الجماعي؛ ففي وسع المؤلِّف الموسيقي في أمريكا أن يكون فرديَّ النزعة تمامًا، كما أشار السوفييت، وأن يعيش في عزلةٍ اجتماعية، ويخلق موسيقى شخصية تمامًا، لا يكون لها معنًى إلا للصفوة القليلة؛ أي إن في وسعه أن يكون غيرَ ديمقراطي على الإطلاق في دولةٍ ديمقراطية، وهي مفارقةٌ غريبة. أما إذا كان يعمل في خدمة كنيسةٍ متسلطة، أو كان منتميًا إلى دولةٍ شمولية، فإنه مُضطَر فلسفيًّا إلى أن يخلُق من أجل تحقيق أعظم قدْر من الخير لأكبر عدد من الناس، على النحو الذي يُتصوَّر به ذلك الخير في أذهان قادة الكنيسة أو الدولة.

القسم الثاني: معنى الموسيقى وطبيعتها

أصبح مفهوم المعنى الموسيقي مزدوج الدلالة في التفكير الجمالي الحديث؛ فمن جهة نجد أن الموسيقى التي تؤلَّف في العالم الغربي تُقوَّم ويُحكم عليها من خلال قيمٍ شكلية. ومن جهةٍ أخرى فإن الموسيقى التي تؤلَّف في مناطق العالم التابعة للسيطرة السوفييتية تُقوَّم ويُحكم عليها من خلال سلامة اتجاهها الأيديولوجي. ففي الحالة الأولى لا يهدف العمل الموسيقي ضرورةً إلى وضوح المعنى، وإنما يقتصر على نقل حالةٍ نفسية معينة. وفي الحالة الثانية يستهدف العمل الموسيقي الوضوح والبساطة، ولا تكون للشكل فعاليتُه، إلا إذا كان يزيد من تأثير العرض «الواقعي» للمضمون. وعلى ذلك فإن الموسيقى في العالم الغربي محدودة في معناها، ذاتية في تقويمها، نظرًا إلى أهمية المعالجة الشكلية التي يقوم بها المؤلف الموسيقي لأفكاره الموسيقية أو للمضمون. أما في بلاد المعسكر الشرقي، فلا بد للموسيقى حتى يكون اتجاهها الأيديولوجي سليمًا، من أن تكون واضحة المعنى، حتى تكون مفهومةً للجميع.

ولقد أطلق الشاعر «لونجفيلو Longfellow» على الموسيقى اسم اللغة العالمية للبشر، ولكن ما الذي هو عالمي في الموسيقى؟ إن القطعة الموسيقية التي تعتادها جماعةٌ معيَّنة من الوجهة الثقافية تُحدِث، بمعنًى عام، تأثيراتٍ معيَّنة في تلك الجماعة لا يمكن أن تُحدِثها في جماعةٍ أخرى؛ فالنبض الإيقاعي، والنظام النغمي، هما نماذج وأصواتٌ موسيقية تتكيَّف معها جماعةٌ من الناس، ولا تتكيف معها جماعةٌ أخرى. ولا يمكن أن تعني القطعة الموسيقية الواحدة شيئًا واحدًا لجماعتَين مختلفتَين، ناهيك بشعبَين مختلفَين. صحيحٌ أننا نستطيع أن نستمتع بموسيقى الشرقَين الأدنى والأقصى بالإضافة إلى موسيقانا، ونستمد منها لذةً جمالية، ولكن هذا لا يحدُث إلا إذا كانت هناك بعضُ أوجُه الشبه بينها وبين موسيقانا؛ إذ يكاد يكون من المستحيل على الموسيقى التي هي غريبة عنا عقليًّا وثقافيًّا أن تُثير فينا أية استجابةٍ انفعالية؛ فلا بد أن تكون للموسيقى بضعة أنغامٍ أو أساليبَ مشتركة قريبة الشبه بما لدينا منها، وإلا لما استطاعت أن تجتذب شيئًا من تجاربنا الباطنة، أو تطالب بشيء من فهمنا المباشر. وكما قال فولتير، فإن الأسلوب أو النظام النغمي الجديد، حتى في داخل الحضارة الغربية ذاتها، يحتاج إلى انقضاء قرابة جيلٍ كامل قبل أن يصبح مقبولًا، ومع ذلك فهذا أمرٌ لا تنفرد به الموسيقى وحدها بين سائر الفنون.
ولقد كتب وولت ويتمان Walt Whitman يقول: «إن كل موسيقى هي ما يستيقظ فيك عندما تذكِّرك الآلات الموسيقية.» وهنا لا تكون الموسيقى لغةً عالمية، ولا تكون ميتافيزيقا، ولا فنًّا ينشأ من قوالبَ أولية، وإنما نحن الذين نُضفي على الموسيقى وجودها؛ فالموسيقى تظل مجرد إيقاع وصوت، ما لم نُكسب نحن هاتَين الظاهرتَين ثراءً نفسيًّا. ولا يمكن أن يكون للقالب وللإيقاع وللنماذج المقامية أي معنًى بالنسبة إليَّ سوى ما أفهمه فيها؛ فليس في وسعي أن أستخلص من أداء لقطعةٍ معيَّنة سوى ما أضيفه عليها عن طريق فهمي لها وانفعالي بها. وقد أتأثر انفعاليًّا حتى لو لم أكن أستطيع فهم الرموز الموسيقية، غير أن المتعة الجمالية لا تتجاوز في هذه الحالة نطاق المستوى الانفعالي. وقد لا يكون لديَّ من الثقافة الموسيقية ما يتيح لي، حتى أن أعرف إن كانت الموسيقى تؤدَّى بطريقةٍ سليمة أم لا. فضلًا عن ذلك، فليس هناك معيارٌ تجريبي أستطيع أن أعرف به إن كنتُ قد توصلتُ إلى الحالة النفسية الأصلية التي كان المؤلف الموسيقي يهدف إلى بعثها فيَّ عندما أستمع إلى موسيقاه. غير أن الأمر المؤكد هو أنني كلما ازددتُ معرفةً بالموسيقى، ازددتُ تقديرًا لمزاياها، وفهمًا ناقدًا لطريقةٍ أدائها، وازداد عمق تأثري بالأداء المثير؛ فالمعرفة الموسيقية لا تُقلل من التقدير الجمالي، وفهم القطعة الموسيقية لا ينقص من عمق التجربة الانفعالية التي يمكن أن تتيحها لنا تلك الموسيقى؛ فحين يعرف المرء أن القطعة الموسيقية تؤدَّى بروح المؤلف، وأن الأجزاء الصعبة تُعزف ببراعةٍ كاملة، وأن شيئًا من التفاصيل الدقيقة لا يضيع في العزف، حين يعزف ذلك، فلن تؤدي معرفته إلا إلى زيادة استمتاعه وتعميق انفعاله. ومع ذلك فمن الممكن أن تؤدي المعرفة الموسيقية إلى نتائجَ عكسية؛ ذلك لأن الثقافة الواسعة الأفق ليست ضمانًا لاستمرار حالة السعادة، سواء في أمور الموسيقى أم في شئون الحياة بوجهٍ عام.

على أن صاحب النظرة الخالصة إلى الموسيقى خليق بأن يَسْخر من الفكرة القائلة إن الموسيقى لغةٌ عالمية، أو إن الموسيقى هي ما تُوقظه الآلات فينا. وإنما هو أميَل إلى الرأي القائل إن الموسيقى فنٌّ يتميز بخصائصَ كامنة تُوجد مستقلةً عن وعيٍ بها. هذه الخصائص الكامنة في الموسيقى هي التي تجعل منها، في رأيه، عملًا فنيًّا بالنسبة إلى كل الأزمنة والأمكنة. وهو يذهب أيضًا إلى أن التعوُّد الثقافي على الموسيقى ليس شرطًا ضروريًّا لفهم موسيقى الحضارات الأخرى، وإنما الشروط الوحيدة الضرورية لتذوُّق الموسيقى في حضارتنا أو أية حضارةٍ أخرى هي التجاوب مع الإيقاع والحساسية للنغم. وهو يرى أيضًا أن تذوُّق الموسيقى والاستمتاع بها ليس نشاطًا ديمقراطيًّا عامًّا، وإنما يتفق مع شونبرج وسترافنسكي على أن الموسيقى الجادة ليست للجماهير، بل للقلة السعيدة الحظ التي تَوافر لها من الثقافة والحساسية ما يسمح لها باستخلاص تجربةٍ جماليةٍ من هذه الموسيقى.

ولكن ما هي الموسيقى؟ ربما أمكننا أن نزداد اقترابًا من تعريف ما تكوِّنه الموسيقى إذا أمكننا أن نحدِّد ما لا تكونه الموسيقى؛ فهي أولًا ليست محاكاةً لانسجام الأفلاك؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يعتقدون أن كل الأجسام المتحركة تُحدِث أصواتًا، وأن هذا لا يصدُق على الأجرام السماوية أيضًا. وقال المعلمون القدامى إن هذه أصوات لا تُدرِكها الأذن البشرية لأسبابٍ متعددة، ولكنَّ الفيثاغوريين واليهود زعموا أن قادتهم الروحيين كانوا وحدهم قادرين على سماع هذه الموسيقى السماوية. على أن التقدُّم العلمي في القرن العشرين قد أتاح لنا أن نكوِّن فكرةً تقريبية عن أصوات هذا الانسجام المزعوم بين الأفلاك، الذي تُحدِثه النجوم في حركتها، ولكنه بدلًا من أن يكون انسجامًا سماويًّا، يبدو للأذن الحديثة أقرب كثيرًا إلى الأصوات المُنكَرة.

كذلك تقدَّم الفيثاغوريون برأيٍ آخر أقرَّه أفلاطون، ويقول إن المسافات بين الكواكب وأفلاك النجوم الثوابت تُناظر رياضيًّا المسافات بين أصوات الأوكتاف، ولكن لا يوجد أي دليلٍ تجريبي يؤيد الفكرة القائلة إن المقامات اليونانية أو نظامنا الخاص من السلالم الموسيقية مبني على أساس أن تكون العلاقة بين صوت وآخر مناظرةً للعلاقة بين كوكب وآخر. وإذن فستظل نظرية انسجام الأفلاك ونظرية التناسب أسطورةً قديمة تَعجِز عن أن تُنبئنا بما تكونه الموسيقى، وإن كانت تُحاول أن ترشدنا إلى الصدر الذي تنبعث منه وإلى سبب تركيبها الراهن.

وثانيًّا: ليست الموسيقى تعبيرًا عن الأخلاقية أو اللاأخلاقية؛ فلا يمكن أن تكون الموسيقى خيرًا أو شرًّا بالمعنى الأخلاقي، أكثر مما يُمكِنها أن تكون مرحة أو حزينة في ذاتها. قد يكون من شأن الموسيقى أن تبعث حالةً من المرح أو الحزن عاناها المؤلف الموسيقي. وقد تكون الطريقة التي صيغَت بها هذه الحالة، وأُنتجَت موسيقيًّا طريقةً جيدة أو رديئة، ولكن الجيد والرديء يقالان هنا بمعنى الحُكم الجمالي، لا بمعنى الخير والشر الأخلاقيَّين. ولقد زعم أرسطو أن الشبيه يُولد شبيهه، وكان — مثل أفلاطون من قبله — مقتنعًا بأن هناك موسيقى خيِّرة وشرِّيرة بالمعنى الأخلاقي؛ فالموسيقى الخيِّرة تهذِّب النفس البشرية مثلما تُفسِدها الموسيقى الشريرة، ونحن لا ننكر أن هناك أنواعًا معينة من الموسيقى لها تأثيراتٌ مختلفة في سامعيها، وفي هذا الصدد يستحيل تفنيد أرسطو، ولكن لا يمكن التماس أي عذر لأرسطو، أو أفلاطون، عندما نسبا خصائصَ أخلاقية إلى المقامات اليونانية ذاتها بناءً على طبيعة تركيبها وتطبيقها. وكذلك لا يُوجد مبرِّر من وجهة نظرنا، لرأي أرسطو القائل إن الشخص الشرير، بالمعنى الأخلاقي، لا يخلُق إلا موسيقي شريرة. ولقد كان من الطبيعي ألا يرى أرسطو وأفلاطون أي تناقصٍ في موقفهما؛ إذ إنهما لم يميزا على أي نحوٍ ما هو أخلاقي وما هو جمالي.

إن في وسع المتعة الحسية التي نستمدها من الأنغام الموسيقية والتأثير الفسيولوجي الذي تُحدِثه فينا الإيقاعات أن تبعث حالاتٍ نفسيةً متنوعة في نفوسنا، غير أن من المشكوك فيه أن يكون بويتيوس بدوره على حق في قوله إن الذي يطرب لسماع «ألحانٍ غير لائقة، ويُنصِت لها كثيرًا، سوف تضعُف روحه ويفقد النخوة والشهامة في نفسه.» كما أن من المشكوك فيه أن تكون للموسيقى القدرة على أن تجعل الناس أخيارًا أو أشرارًا كما زعم الشاعر «ملتن» في القرن السابع عشر.

فليس لنا أن نُنكِر أن كثيرًا من المؤلِّفين الموسيقيين اللاأخلاقيين قد أبدعوا موسيقى رائعة سمَت بنفوس أولئك الذين استمعوا إليها. وليس لنا أن نُنكِر أن فاجنر كان مخلوقًا بغيضًا، لا يسير إلا على شريعته الخاصة. ولكن من ذا الذي يُنكِر عبقريته الخلَّاقة وروائع موسيقاه؟ إن من واجبنا أن نفصل بين الخالق وبين خلقه، سواء شئنا أو أبينا، ومهما كان من صعوبة هذا الفصل في عالمنا الحالي؛ فالموسيقى جيدة ورديئة بمعنًى جمالي فقط، لا بمعنًى أخلاقي. إنها تعبير عن المشاعر. والشعور ذاته قد يقوم أخلاقيًّا، ولكنه ما إن يعبَّر عنه موسيقيًّا، حتى لا يعود شخصيًّا، وإنما يصبح لا شخصيًّا، ولا يعود خيالًا ذاتيًّا، بل يصبح فنًّا موضوعيًّا. وعلى حين أن السلوك يُحكم عليه أخلاقيًّا، فإن الفن يُحكم عليه جماليًّا فحسب، وللأسس الجمالية للموسيقى علاقةٌ مباشرة بالحياة؛ فهي لا تتعلق بالمحظورات والنواهي التي يفرضها المجتمع على الإنسان، وإنما تتعلق بالتعبير الحر للإنسان عن نفسه. وهي لا تهتم برضاء المجتمع، أو عدم رضائه عن المشاعر الإنسانية، بل تهتم بالتعبير عن هذه المشاعر فحسب.

وثالثًا: لا يمكن أن تكون الموسيقى في ذاتها سياسية أو دينية؛ فما تُسمى بالموسيقى الدينية هي موسيقى كُتبَت للتشجيع على العبادة؛ وبالتالي ينبغي أن تكون ملائمة للغرض الذي خُلقَت من أجله. وتنطوي هذه الموسيقى على خصائصَ تُصِر عليها السلطات الكنسية، كالبساطة والوضوح والقدرة على تجميل النص الديني. وقد ترضى السلطات الدينية أو لا ترضى عما يشعُر الموسيقار بأنه ذو طابع ديني؛ فالموسيقى المخصَّصة للعبادة هي تلك التي تعتقد السلطات الدينية أنها ينبغي أن تكون كذلك. وكما أن رجال الدين يُرشدوننا في الشئون المتعلقة بالإيمان، فإنهم يسمحون أيضًا بالموسيقى المخصَّصة للعبادة، أو لا يسمحون بها. وهم يعتقدون أن هناك موسيقى معيَّنة تساعد على تعميق التجربة الدينية وموسيقى أخرى تصرف الذهن عن خدمة الأغراض الدينية.

ونحن عندما نتحدث عن موسيقى دينية وأخرى دنيوية، إنما نُفضِّل نوعًا من الموسيقى نراه ملائمًا للحاجات الدينية، عن كل الأنواع الأخرى من الموسيقى. وهناك مصادرُ متنوِّعة يمكن أن ترجع إليها الموسيقى الدينية، فربما كانت قد كُتبَت لغرض العبادة خصوصًا، أو قد تكون في الأصل ذات طابع دنيوي، ثم استُخدمَت فيما بعدُ لأغراض العبادة. والواقع أن هناك بعضًا من أقوى القطع الموسيقية تأثيرًا من الوجهة الدينية، بُنيَت على أساس ألحانٍ شعبية لم تكن مرضيًّا عنها لدى رجال الدين؛ اليهود، أو الكاثوليك، أو البروتستانت. وكم حدَث أن أزيلَت وصمة اللاأخلاقية والفساد عن موسيقى قديمة عندما عُدِّلَت، واستُخدمَت لأغراض العبادة الدينية. ولم تعُد الأجيال اللاحقة تعرف هذه الموسيقى إلا في سياقها الديني؛ بحيث اكتسبت هذه الموسيقى، على مَرِّ القرون، معنًى تقليديًّا يرتبط في أذهاننا بالعبادة والأعياد الدينية. على هذا النحو ذاته استمرَّت معظم الأغاني التي كانت تُعَد في القرون الغابرة «لا أخلاقية» و«فاسدة»، وإن كان قد قُدر لها البقاء.

وبالمثل لا يمكن أن تكون الموسيقى في ذاتها سياسية، كما أكد جوتة، أما كلمة شومان القائلة إن خطط الثورة يمكن أن تُكتب بين أسطرٍ سيمفونية دون أن تتنبه إليها الشرطة، فهي كلمةُ مُفرِطة في رومانسيتها، كذلك لم يكن شوبان بأقلَّ رومانسيةً عندما أوضح لقيصر روسيا، الذي غزت جيوشه بولندا، أنه سيجد في «مازوركات Mazurkas» مُواطِنها شوبان ألحانًا موسيقية تحُضُّ الناس على أن يثوروا على الغاصبين. ولقد اعتدنا الآن أن نربط ألحانًا موسيقيةً معيَّنة بالوطنية والعمل السياسي، وقد تكون هذه الموسيقى تقليدية، أو مكتوبة خصوصًا من أجل إلهاب الشعور القومي عند المواطنين. ومن الجائز أن لموسيقى شوبان معنًى كهذا عند البولنديين، كما أن من المؤكَّد أن موسيقى فيردي كان لها هذا المعنى عند الثوريين الإيطاليين. غير أن الموسيقى ليست في ذاتها وطنية، وإنما هي تُولِّد وتبعث شعورًا بالوطنية فحسب؛ فما نربطه بالموسيقى هو الذي يجعلنا نُسمي هذا النوع من الموسيقى سياسيًّا وذلك دينيًّا؛ فالأول قد يكون سريعًا في إيقاعه، ناريًّا في روحه، عالي الأبواق والصنوج، والثاني قد يكون خافتًا هادئًا، أو حزينًا متهجدًا، ولكن الموسيقى لا يمكنها أن تبعث فينا هذا الشعور أو ذاك، إلا لأن هذه الإيقاعات والأنغام لها دلالةٌ حضارية في نظرنا، تُحرِّكنا انفعاليًّا في هذا الاتجاه أو ذاك.

ورابعًا: ليست الموسيقى رياضةً فحسب. إنها في أساسها ذات تركيبٍ رياضي، ولكنها أكثر من الرياضة وحدها؛ فقد يُرجِع الباحث النظري التجمُّعات النغمية التي يستخدمها الموسيقي بحَدْسه إلى الرياضة، غير أن هذا الباحث النظري لا يُحاوِل تفسير السبب الذي اختار من أجله الموسيقي هذه التجمُّعات بعينها، وحتى لو حاول ذلك فلن يستطيع. أما الموسيقي فيَعْلم عن وعي أن مجموعاتٍ معيَّنة للأنغام أصلح من غيرها للتعبير عن مشاعرَ معينة، ولكنه لا يستدل بطريقةٍ عقلية على أن هناك علاقاتٍ رياضية معيَّنة، ضمن المجموعات النغمية التي يستخدمها، تعطيه التأثير المطلوب. وهو إما أن يستخدم أنماطًا نغميةً تقليدية، ويذهب في ذلك إلى حد التطرف، كما فعل موسيقيو عصر النهضة وعصر الباروك في تلك النماذج الموسيقية التي استخدموها للتعبير عن المشاعر بطريقةٍ ثابتةٍ موحدة، وإما أن يخلُق تجمعاتٍ نغميةً جديدة يخصِّصها لهذا الغرض، ويقول بها ما يريد أو ما يتعين عليه أن يقوله. ولو كانت الموسيقى رياضة، ورياضة فحسب، لأصبحَت علمًا دقيقًا كالرياضة ذاتها، يعبِّر فيه الموسيقار عن الأحوال النفسية بطريقةٍ ثابتةٍ موحَّدة، بدلًا من أن تظل فنًّا يعبِّر عن الانفعالات بطريقةٍ فريدة. مع ذلك فإن الموسيقيين في الماضي والحاضر، ممن كان لديهم شيءٌ جديد يقولونه بطريقةٍ غير تقليدية، قد اتُّهِموا كلهم تقريبًا بأنهم يردُّون الموسيقى إلى مجرَّد رياضيات.

وخامسًا: ليست الموسيقى محاكاةً لنظامٍ كامن من الأصوات الموسيقية في الطبيعة؛ فلقد كان واضعو نظامنا الموسيقي القدامى يعتقدون بوجود نظامٍ أوَّلي من الأصوات كهذا في الطبيعة، ويجوز أنهم تصوَّروا أنهم مجرَّد مقلِّدين لهذه الأصوات الطبيعية في الموسيقى. والواقع أن موسيقانا مبنية على علم للصوت بدأ بالأبحاث التجريبية للفيثاغوريين، وزاده أرسطوكسينوس تقدُّمًا، وطوَّره بعد قرونٍ زار لينوز ورامو وباخ كل هؤلاء كانوا يعتقدون، بدرجاتٍ متفاوتة، بأن موسيقاهم تُحاكي نظامًا طبيعيًّا للأصوات، موجودًا من قبلُ، وحاولوا أن يفسِّروا أساليبهم ومذاهبهم وفقًا للقانون الطبيعي، ولكن الطبيعة في واقع الأمر لا تنطوي على نظامٍ من الأصوات كهذا. وكما قال هانسليك، فليس في الطبيعة «سابعاتٌ مسيطرة dominant sevenths» أو ثالثاتٌ صغيرة (minor thirds). ومع ذلك فكثيرًا ما يحدُث أن تُوصَّف الموسيقى الجديدة التي لم تألفها آذاننا، والتي تُزعِجنا أكثر من غيرها، بأنها غيرُ طبيعية، كأن الموسيقار يكفُر بنظامٍ نغمي مقدَّس في الطبيعة.

فما هي الموسيقى إذن، إن لم تكن ميتافيزيقا ولا رياضة ولا أخلاقًا ولا سياسة ولا دينًا، ماذا تكون الموسيقى عندئذٍ؟ إنها كل ذلك وأكثر منه. إنها ما قال الشاعر ويتمان إن الآلات تُوقِظه فيك. إنها تجربة الحياة اليومية، ولكنها تعلو على التجربة. إنها صدًى نَغْمي لأحلامنا وآمالنا، ولصراعنا وألمنا. إنها فنٌّ ساحر بإيقاعاته، قادر على التغلغل في الأعماق الباطنية للبدن وللنفس والتحكم فيها، كما أدرك الفلاسفة القدماء بوضوح. إنها أنماطٌ من الأنغام منظَّمة في قوالبَ حسب أوزانٍ محدَّدة، نربط بها كل ألوان المشاعر الإنسانية. والحق أن ما نُضيفه نحن أنفسنا على الأنغام والإيقاعات، وما تُوقظه هذه الأنغام والإيقاعات فينا، هو بعينه الذي جعل شاعرًا آخر يقول: «إن النغم … فيك أنت.»

الموسيقى شعورٌ متجسد في رموزٍ إيقاعية ونغمية، ولكن من واجبنا ألا نتصور أبدًا أن هذه الرموز هي الموسيقى ذاتها، وإلا كنا نخلط بين الرمز وما يدُل عليه؛ فالموسيقى هي ما يُنتِجه العازف بالأنغام والإيقاعات على آلته. وهي في أساسها لحنٌ وإيقاعٌ يُثير انفعالاتنا ويُوقظ خيالنا. وقبل هذا كله فالموسيقى هي ما نُضيفه نحن أنفسنا على هذه الألحان والإيقاعات من تجربتنا الخاصة، ومن آمالنا وأمانينا. والموسيقى بالنسبة إلى حضارتنا الغربية ظاهرةٌ ثقافية ينقل بها الإنسان انفعالاته إلى الآخرين بطريقةٍ تُثير من الانفعالات أكثر مما يثيره أي ضربٍ آخر من الفنون. وهي لا تستطيع أن تضحك أو تبكي، وليست حزينة ولا سعيدة، بل إن بعض الأنغام والإيقاعات تُثير مشاعرَ قريبةً من حالة المرح أو الحزن؛ فلا يمكن أن تكون الموسيقى ما تكونه بالنسبة إليَّ، أعني مرحةً أو حزينة، إلا إذا كان في استطاعتي أن أبعث من داخلي مثل هذه المشاعر؛ فأنا الذي أربط هذه الحالة النفسية، أو تلك بهذا الإيقاع، أو تلك النغمة. وأنا الذي أُضفي قيمةً بشرية، ومعنًى بشريًّا على الأصوات والحركة الموسيقية.

إن الموسيقى تبدأ بالمؤلف الموسيقي الذي تنقل إلينا أحواله وأفكاره الموسيقية عن طريق العازف أو القائم بالأداء عادة. وهكذا تختلف الموسيقى عن معظم الفنون الأخرى؛ إذ إننا نحن السامعين نبتعد عن مقاصد المؤلف مرتَين على الأقل. وقد نشعر بالإعجاب الشديد إزاء القدرات الموسيقية للقائمين بالأداء، ولكنهم مع ذلك ليسوا خالقين، وإنما هم مردِّدون لما خُلق من قَبلهم. وهم في مرتبةٍ أقل من حيث الفن؛ إذ إنهم يقتصرون على توصيل أحوال المؤلف وأفكاره لنا. وإذا كان هناك أساسٌ تجريبي معيَّن، في الرسم والنحت، لإصدار حُكم على نسخةٍ تَرمي إلى محاكاة الأصل، نظرًا إلى أن الفنون التصويرية والتشكيلية تقدِّم معيارًا ملموسًا للتقويم، فإن المرشد الوحيد في حالة الموسيقى هو شعورنا فحسب.

القسم الثالث: فلسفة للقيم الموسيقية

علم الجمال هو ذلك الفرع من الفلسفة الذي يختص بدراسة القيم الفنية، مثلما أن الأخلاق تبحث في السلوك القويم، والميتافيزيقا في المبادئ الأولى، والإبستمولوجيا في نظريات المعرفة، والمنطق في استخدام الفكر للمعرفة على الوجه الصحيح. ويُعَد كلٌّ من هذه الفروع الخمسة للفلسفة ميدانًا متخصصًا من ميادين البحث، وكلٌّ منها يمثِّل جانبًا لمذهبٍ فكري عام. لقد كان فلاسفة العصور القديمة والوسطى يبحثون في الجميل والقبيح، والهَزْلي والتراجيدي، والجميل والجليل، ضمن نطاق موقفهم الفلسفي الشامل؛ فنظرة الفيلسوف إلى الجميل هي في هذه الحالة نتاجٌ لتحليله الأساسي لطبيعة الكون ودور الإنسان فيه. ولقد رأينا، في التفسير المثالي الذي قدَّمه أفلاطون للعالم، أن الموسيقى كانت تُوصَف بأنها محاكاة لمثَلٍ تجريدي أعلى، وصدًى للانسجام الكوني. وفي فلسفة «سكستوس إمبريكوس Sextus Empiriccus» نجد تعريفًا للموسيقى أقربَ إلى العقول، هو أن الموسيقى لا تعدو أن تكون نوعًا من أنواع التعبير الإنساني. أما في أيامنا هذه فإن أصحاب الاتجاه المثالي وأصحاب الاتجاه الطبيعي في الفلسفة منقسمون إلى فِرقٍ تتفاوت آراؤها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ومهما اختلفَت درجات الفروق العقلية داخل هاتَين الفئتَين، فإن فلاسفة القرن العشرين يندرجون أساسًا ضمن إحدى هاتَين المدرستَين الفلسفيتَين؛ فالمثالية أو الطبيعية كانتا أساس آراء الفلاسفة عن الموسيقى في الماضي والحاضر؛ أي منذ أيام أفلاطون حتى ديوي. ولقد كان للآراء التي أبداها الفلاسفة تأثيرُها في الحياة العقلية والفنية للإنسان طوال تاريخ الحضارة الغربية.

ومن شأن المفكِّر الذي يتخذ من المثالية الفلسفية أساسًا لقيَمه الفنية الموسيقية أن يُعليَ من قَدْر المَلَكات العقلية فوق الملكات الحسية، وقد يُبالغ في تأكيد أهمية العقل، ويُقلل من أهمية الانفعال في المسائل الجمالية. وترتكز قيَمه على المقدِّمة المثالية القائلة إن العالم ينقسم إلى روح ومادة ونفس وجسم، وإن القوانين الطبيعية التي تتحكم في الجسم المادي لا سلطان لها على النفس الروحية. وهو خليق بأن ينظر إلى المؤلِّف الموسيقي والمفكِّر الميتافيزيقي على أنهما شريكان في السعي إلى كشف الحقيقة الحقة للإنسان؛ الأول بالنغم والثاني بالفكر الفلسفي؛ فالميتافيزيقي والمؤلِّف الموسيقي يُقرِّباننا من المثل الأعلى الشامل، ويُرشِداننا بالفلسفة إلى العالم الروحي، أو يكشفان لنا بالموسيقى عن لمحةٍ خاطفةٍ من الجمال الكوني الرائع.

ولقد كانت المذاهب الجمالية الموسيقية المبنية على المثالية الفلسفية تُعلل أصل الموسيقى، طوال التاريخ الغربي، عن طريق الميتافيزيقا، وتفسِّر معنى الموسيقى من خلال الغائية، وطبيعة الموسيقى من خلال الأخلاق؛ فالمثاليون ينظرون إلى الموسيقى على أنها تجسيدٌ حسي لفكرة تتخذ مظهر الأنغام والإيقاعات الموسيقية. وليس من المُستبعَد عليهم، حتى في وقتنا الحالي، أن يؤكِّدوا أن الموسيقى تستطيع أن ترفع أخلاق الإنسان أو تحُط منها، بل إن هناك من المثاليين من يعتقدون أن الموسيقى هبةٌ منحها إلهٌ كريم للبشر، حتى يُعينَهم على تحمُّل مصيرهم على الأرض.

وللمثالي معيارٌ موضوعي للقيم؛ فهو يذهب إلى أن للموسيقى في ذاتها خصائصَ معيَّنة تجعلها جيدةً أو رديئة. وقد نخطئ في تقديرنا لموسيقى معيَّنة، كما أننا قد نغيِّر رأينا، بحيث تختلف أذواقنا على مَرِّ السنين، ولكن التغيُّر في هذه الحالة إنما يطرأ علينا نحن في تفسيرنا لهذه القيم. أما القيم ذاتها فتظل ثابتة، كما يؤكِّد المثالي؛ إذ إن الجمال في الموسيقى، مع الحق والخير، هو الطرف الثالث في الثالوث الأزلي الذي لا يطرأ عليه أي تغيير.

أما الفيلسوف ذو النزعة الطبيعية، فلا يُشارك المثالي ميلَه إلى التقسيمات الثنائية؛ فليس من المحتمل أن يوافق ذلك الذي يبني قيمه الجمالية على النزعة الطبيعية في الفلسفة على الرأي المثالي القائل إن الموسيقى تكشف «حقائق عليا»، أو تُتيح للسامع بصيرةً يعبُر بها الهُوَّة بين ما هو حقيقي، وما هو غير حقيقي. وإنما يكفيه أن ينظر إلى الموسيقى، على أنها تعبيرٌ عن الانفعال البشري، لا تجسيدٌ حسي لفكرةٍ روحية. وهو لا يعتقد أن الموجودات المتناهية يمكنها أن تصل بفضل الموسيقى إلى حالةٍ من النشوة التي توحِّدها مع اللامتناهي. ومع ذلك فلا شك في أن صاحب النزعة الطبيعية وصاحب النزعة المثالية يشعران بنفس النوع من الانفعالات عندما يستمعان إلى الموسيقى، والفرق بينهما هو أن كلًّا منهما يشكِّل استجابته الشخصية للموسيقى وفقًا للموقف الأساسي الذي يتخذه في الفلسفة؛ فعلى حين أن المثالي يُضفي — بطريقة صوفية — دلالةً روحية على التجربة الجمالية، فإن الطبيعي يردُّ — بطريقةٍ تجريبية — قائلًا إن التجربة الجمالية تُتيح لنا تحررًا مؤقتًا من العوامل المحيطة بنا مباشرة، ومهربًا من المحن والأزمات التي نُواجهها، وتُتيح لنا وقتًا نستجمع فيه قُوانا، أو نستنفدُها في تربةٍ جديدةٍ تُضيف إلى حياتنا تنوعًا، وتُضفِي على وجودنا معنًى جديدًا.

وفي رأي صاحب النزعة الطبيعية أن العالم دائمُ التغيُّر؛ فهو لا يقبل الرأي المثالي القائل إن جمال الموسيقى يعني احتواءها على صفاتٍ كامنة لها طبيعةٌ مطلقة ومستقلة عن التفسير الذاتي للسامع، وهو لا يفسِّر الموسيقى من خلال الميتافيزيقا العالية أو الغائية أو الأخلاق، وهو مع إدراكه الواضح لتأثير الموسيقى في السلوك البشري، لا يجد أي ارتباطٍ معقول بين التعبير عن الانفعال البشري في اللحن والإيقاع، وبين الإرادة الإلهية والخير الشامل. وإنما يعتقد أنصار النزعة الطبيعية أن الموسيقى صورةٌ أخرى من صور التعبير، تَوصَّل إليها الإنسان خلال تطوُّره، وبواسطتها ينقل مشاعره وأفكاره؛ وبالتالي فإن الإنسان هو الحكَم الوحيد على قيمة الموسيقى التي يخلُقها أو يتذوَّقها، أما إذا كان المرء جاهلًا بالطبيعة والتركيب الأساسيَّين للموسيقى، وإذا ظلت الموسيقى مجرد أنغام وإيقاعاتٍ متنوعة لا أثَر لها سوى أن تُطرِب الحواس، فعندئذٍ يكون مثل هذا الشخص خليقًا بأن يتخذ من العارفين بأسرار الموسيقى أصنامًا زائفة، وينظر إلى كلمات الناقد الموسيقي المحترف على أنها صوت نبوءة دلف؛٨ فالجهل في الموسيقى، شأنه شأن الجهل بمعناه العام، يُورِث الخوفَ من المجهول والخرافة وعبادة الأصنام.

ومن الممكن وضع مذهب في القيم الجمالية يجمع بين آراءٍ معيَّنة مُستمدَّة من المثالية والطبيعية معًا. والواقع أن أولئك الذين يُؤثِرون التوفيق بين القيم الموسيقية يُحاوِلون بناء مذهبٍ من تلك النقاط التي تروقُ لهم في المذهبَين المثالي والطبيعي في علم الجمال. هكذا فإن المذهب التوفيقي في القيم الموسيقية قد لا يصبح أكثر من مجرد خليطٍ موسيقي بين عناصرَ لا اندماج بينها، ولكنه قد يصبح أيضًا محاولةً إيجابيةً يُحاوِل فيها السامع أن يطبِّق أكثر فئات القيم منطقيةً على الأساليب الموسيقية المتغيِّرة، ليصل إلى حُكمٍ جمالي على قيمة الموسيقى موثوقٍ منه إلى أبعد حَد.

وهناك نوعٌ آخر من الناس يؤكِّد من ينتمي إليه أنه شخصٌ لا فلسفة له في الحياة ولا في الموسيقى. على أن الشخص الذي يكون ردُّ فعله على أداءٍ كاملٍ رائع لقطعةٍ موسيقيةٍ ما، هو قوله: «إنني أحب ما أحب، ولا أعبأ بمعرفة السبب.» إنما يعبِّر عن فلسفة للموسيقى، حتى لو كان يظن أنه يرفض كل فلسفة. مثل هذه الفلسفة قد لا يقبلها معظمنا؛ إذ إن هذا النوع من الاستجابة الشخصية للموسيقى، دون أي تقديرٍ عقلي، هو نوعٌ بدائي إلى أقصى حد، ينطوي على الحَط من قُدرات الإنسان العقلية على التأمل الباطن والتفكير؛ فالشخص الذي لا يكترث بأي عاملٍ فيما عدا اللذة التي تُتيحها الموسيقى له، إنما يكبِتُ قدراته الكاملة من حيث هو كائنٌ بشري.

أما المستمع الأكثر ثقافةً وعمقًا إلى حدٍّ ما، والذي يقول بطريقةٍ رومانسية «إن الإحساس الغامض بالمتعة الذي تُتيحه لي الموسيقى، هو إحساس لا تعبِّر عنه الكلمات.» فهو شخصٌ يخدَع ذاتَه من الوجهة النفسية؛ ذلك لأن الإنسان كائنٌ عاقل إلى جانب كونه حيوانًا انفعاليًّا. وإذا كان مثل هذا السامع يعني أن الانفعالَ العميقَ الذي تبعثُه التجربة الجمالية لا يمكن أن تنقلَه الكلمات إلى شخصٍ آخر نقلًا أمينًا، فإنه يكون عندئذٍ على حق؛ ذلك لأن التجربة الجمالية تجربةٌ شخصيةٌ لا يمكن أن تُنقل إلى شخصٍ آخر مع ضمان أنها ستؤدِّي فيه إلى نفس التأثير الانفعالي. أما إذا كان يعني أن التجربة الجمالية تتعلق بالانفعالات وحدَها، وإذا حُللَت فإنها تفقد تأثيرها، فإنه بذلك إنما يقصُر تذوُّقه الموسيقي على المستوى الحسي وحده.

إن للمستمع إلى الموسيقى الحقَّ في أن يترك الجمال النغمي والنماذج الإيقاعية لحركة اللحن تَسحَره وتَخلبُ لُبَّه. ومن الواجب خلال وقت الاستماع ألا يكون هناك شيءٌ له قيمة سوى المتعة والنشوة التي تثيرها فيه الموسيقى؛ إذ إن هذه هي طبيعة التجربة الجمالية، ولكن من واجب المستمع أن يُحاول بتفكيره أن يفهم السبب في إحساسه هذا، ويعرف كُنه تلك العوامل الكامنة في تركيب الموسيقى وأدائها، والتي أمكنها أن تنقلَه إلى حالة النشوة هذه. وإنه لمن خَطَل الرأي أن يُقال إن تحليل التجربة الجمالية يقضي عليها، ومن الخطأ أن نعتقد أننا كلما حاولنا معرفة سبب استجابتنا للإيقاع واللحن قل تأثيرها فينا؛ ذلك لأن المعرفة لا تَحدُّ من الانفعال، وإنما تهذِّبه.

والواقع أن دَور الناقد الموسيقي لا يحتل في بلادنا هذه الأهمية، إلا لأننا شعبٌ أمي من وجهة النظر الموسيقية؛ فالناقد يتبوأ مكانته الرفيعة بين ظَهرانَينا؛ لأننا نفتقر مع الأسف إلى أوَّليَّات المعرفة النظرية الموسيقية؛ فمعظمنا لا يُمكِنهم فَهمُ ما يقوله المؤلِّف الموسيقي؛ لأن القليلين جدًّا منا هم الذين يُمكِنهم أن يقرءوا أو يكتبوا الموسيقى البسيطة. وعلى الرغم من أن الكثيرين منا عازفون أو مُغنُّون هاوون بمعنًى ما، فإنا نفتقر إلى الثقة بالنفس في تكوين رأيٍ شخصي عن طريقة قائد الأوركسترا في أداء مصنَّفٍ كلاسيكيٍّ ما؛ لذلك نحتمي بسلطة الناقد الذي يُنبئنا بما يُقال، وكيف يُقال.

والواقع أن ممارسة الناقد المحترف لمهنته أصبحَت في أيامنا هذه واجبًا ثقافيًّا؛ فانتقاداتُه الحرة التي تكون لاذعةً في كثير من الأحيان، ليست رمزًا لمجتمعٍ حر وفنٍّ غير مقيَّد فحسب، بل إن موقفه السلبي المعتاد ضروريٌّ لتقدُّم الموسيقى، حتى لو كان أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب في تَوَقع الاتجاهات الفنية وتقويم الموسيقى. وإنه لمن الحُمق أن نظن، كما يفعل البعض، أن من الممكن الاستغناء عنه كليةً، ولكن من الصحيح أننا كلما نمَّيْنا قدرتنا على كشف أسرار الموسيقى التي يقدِّمها إلينا المؤلف، غدَونا أكثر استقلالًا في حكمنا، وأقل اعتمادًا على آراء الناقد وقراراته؛ أي إن دَورَه بوصفه حُجةً وسلطةً نحتكم إليها يقل كلما ازددنا استنارة.

ولا شك أن الناقد الموسيقي الذي يحيا في ظل الفاشية الشمولية لا يملك إلا الازدراء لأية فلسفةٍ موسيقية مبنية على القيم المتحرِّرة؛ فهو خليق بأن يعُدَّها مذهبًا جماليًّا ذا صبغةٍ رومانتيكية، لا بُد أن يقضي على ذاته من جرَّاء تأكيده للحرية الفردية، وتجاهُله للحاجات الجمالية للمواطنين. مثل هذا الناقد لا بد أن يؤكِّد أن علاقة الفرد بالدولة في الحكومة المتسلطة لا تحتمل الأحكام الشخصية أو نزوات الأقليات المُقفَلة على ذاتها، التي تضع السياسة الاجتماعية موضع الشك أو تزدري اللجنة المركزية للحزب في المسائل المتعلقة بالنقد.

ولقد كان النظام الشمولي للفاشية يبني قيَمَه الموسيقية، في ألمانيا النازية على الأقل، على التمييز العنصري؛ فقد قرَّر هتلر، بكل بساطة، أن موسيقى مندلسون لا بد أن تُمنع، وأكَّد هتلر على نحوٍ قاطع أن مندلسون كان يهوديًّا،٩ ولا يمكن لليهود أن يكتبوا موسيقى مساوية لما يكتبه الآريون. ولما كان يجزم بأن الآريين جنسٌ أرقي، فلا بد أن تكون موسيقى مندلسون السامية من نوعٍ أحَط. ولا شك أن هذا لا يمكن إلا أن يكون منطقَ دكتاتورٍ مجنون يستخلص من مقدِّماته الباطلة حكمًا على القيمة الموسيقية لإنتاج مؤلِّفٍ موسيقي على أساس تمييزٍ عنصري زائف.

على أن الفلسفة الاجتماعية الأقل عنفًا عند ليو تولستوي تهدِّد أي مذهبٍ إنساني في علم الجمال بخطرٍ لا يقل عن خطر الدولة المتسلطة أو الدكتاتور الطاغية؛ ذلك لأن الرسالة التي أخذَها تولستوي على عاتقه بأن يقيم مجتمعًا مبنيًّا على التعاليم المسيحية أدَّت به إلى أن يقوِّم كل موسيقى بروح لا تقل في تعصُّبها عن روح آباء الكنيسة، فكانت النتيجة أنه استبعد كل المؤلَّفات الكلاسيكية تقريبًا من نظامه المثالي، على أساس أنها أعقَد من أن يفهمها الجميع؛ وبالتالي تفتقر إلى تلك البساطة الشاملة التي تربط كل الناس سويًّا. ولا جدال في أن الدهشة والعجَب يتملَّكان المرء عندما يُمعِن التفكير في ذلك القَدْر الضئيل من الموسيقى، الذي استبقاه تولستوي ليُساعده في نشر دعوته إلى الإخاء، وذلك القَدْر الكبير الذي رفضَه لأنه لا يُساعده في أداء رسالته المتعصِّبة. ومن المؤكَّد أن الصرامة التي كان يقِّرر بها أي موسيقى تصلح لإقامة مملكة الله في الأرض قد أحالَته من عملاق في الأدب إلى قزمٍ في الموسيقى.

فقد كان تولستوي يُعجب ببعض مقطوعات باخ الغنائية، وبعض موسيقى هايدن وموتسارت وشوبرت. وكان ينظر بعين الرضا إلى موسيقى شوبان «… (وذلك عندما لا تكون ألحانه مثقلةً بقَدْرٍ مُفرِط من التعقيدات والزخارف) …» كما كان يحب بعض المؤلَّفات المبكِّرة لبيتهوفن، ولكنه رفَض موسيقى الحقبة المتأخرة من حياة بيتهوفن، بحجة أنها «ارتجالات لا قوام لها»، أما السيمفونية التاسعة والرباعيات الأخيرة التي نُشرَت بعد وفاة بيتهوفن، والتي ربما كانت أروعَ موسيقى كتبها الإنسان، وصوناتات البيانو في الفترة المتأخرة، ولا سيما الصوناتا مصنف رقم ١٠١؛ كل هذه يَسخَر منها تولستوي على أساس أنها غيرُ مفهومة إلا للقلة، وأعقد من أن تفي بحاجات المسيحية. أما موسيقى فاجنر وليست وبرليوز وريشارد شتراوس فإنه يرفُضُها كلها.

ومن المؤكَّد أن اليقين القاطع الذي كان تولستوي يرفُض به مؤلَّفات هؤلاء الموسيقيين خليقٌ بأن يقدم إلينا سببًا قويًّا للتفكير في الأخطاء الثقافية التي يمكن أن تنشأ عن تطبيق الفلاسفة ورجال السياسة والدين لمعاييرَ مطلَقة في النقد الموسيقي؛ فمنذ اللحظة التي يعتقد الفيلسوف أنه قد اهتدى إلى الحل النهائي الشامل لمشكلة طبيعة العالم، ومعنى الحياة، وصحة القيم الإنسانية، لا يعود باحثًا سقراطيًّا عن الحقيقة، وإنما ينغمس في الدفاع المتعصب عن موقف أو الدعاية المتحمسة له. وفي نفس اللحظة التي يضع فيها الناقد الموسيقي صيغةً شاملة يتعيَّن عليها أن تنطبق على مبادئَ لاهوتيةٍ أو سياسيةٍ معينة، فإنه يصبح بدوره مدافعًا عن إيمان أو داعيةً إلى قضية.

على أن الرأي الصحيح هو أنه لا تُوجد حقائقُ مطلَقة، أو أحكامٌ نهائية؛ فالقمم ليست أزلية، وإنما هي تُولَد من جديد على الدوام، وليس ثمَّة ناقدٌ عالم بكل شيء، نستطيع أن نتطلع إليه لنجد عنده جوابًا نهائيًّا حاسمًا في مسائل القيَم الموسيقية. وإنه لمما يؤسف له أن الكثير منا ينتظرون كلمة الناقد ليعرفوا كيف يكوِّنون رأيهم عن هذه القطعة الموسيقية أو تلك الطريقة في العزف. والمؤسف في الأمر هو أن هؤلاء الناس يختارون الانقياد بدلًا من أن يختاروا الاستنارة والاسترشاد، مع أن بعضًا من هؤلاء الناس أنفسهم قد يختلفون مع أعظم نقاد صحيفةٍ كبرى، أو يثورون عليه بشدة حين يكون الأمر متعلقًا بكتابٍ تختلف عليه الآراء، على حين أن هؤلاء القُراء المثقفين إلى أبعد حدٍّ يقبلون الرأي الذي ينشُره المحرِّر الموسيقي في الجريدة ذاتها دون أي شكٍّ أو تَحَدٍّ.

وهناك من بيننا أيضًا أناسٌ يقفون في خشوع أمام جماعة المثقفين في الموسيقى، الذين يتخذون من غير المألوف صنمًا معبودًا، ويتحدثون عن «إريك ساتي» بتبجيلٍ وجودي. ومن واجبنا أيضًا ألا نُقيم وزنًا لادِّعاء أولئك المثقفين الذين يحكُمون على الأمور الخاصة، ويؤكِّدون على نحوٍ قاطع أن «موسيقى الغرفة» هي ما يختاره صاحب النظرة الجمالية الخالصة، على حين أن الأوبرا تسليةٌ شعبية للجماهير؛ ذلك لأن الشخص الذي يؤثِّر فيه بعمقٍ أداءٌ جيد لخماسية لشوبرت يمكن أيضًا أن يؤثِّر فيه أداءٌ جيد لقطعةٍ غنائية لبوتشيني. ولا يمكن أن يحتقر القوالبَ الموسيقيةَ الشعبية إلا شخصٌ لا يُحس بقيَم الآخرين.

كذلك ينبغي أن نسخر من أولئك المتطرفين الذين لا يستمعون إلا إلى «مادريجالات» عصر النهضة أو «كونشرتات» عصر الباروك، ويزدرون أية موسيقى كُتبت بعد وفاة باخ؛ ذلك لأنه لا ضرَر في أن يُبدي المرء إعجابًا خاصًّا بفترةٍ معينة في تاريخ الموسيقى؛ لأن قوالب هذه الفترة والرنين النغمي للآلات فيها يجتذبه اجتذابًا شخصيًّا فريدًا. ومع ذلك فمن الممكن أن يؤدي هذا الاهتمام بالماضي الغابر إلى تضليل المرء إذا تحوَّل إلى متخصصٍ في فترةٍ معيَّنة من فترات الموسيقى، وصَمَّ أذنَيه عن موسيقى الفترات الأخرى. وبالمثل فإن ذلك الذي يعتقد خطأً أن موسيقى الماضي أحطُّ مرتبةً من موسيقى الحاضر يحتاج إلى بعض التوجيه؛ إذ إن مقطوعةً للفيولينة المفردة من تأليف كوريلِّي Corelli يمكِنها أن تبعثَ فينا من المتعة الجمالية قَدْر ما يبعثه منظر الموت الختامي في دراما «تربستان وإيزولده»؛ فالجمال البسيط في موسيقى كوريلِّي يثير فينا تجربةً جماليةً هادئةً وقورًا، على حين أن تلك الموسيقى المشبوبة بالعاطفة، التي كتبها فاجنر للمنظر الأخير من هذه الدراما الموسيقية المؤثِّرة، تبعثُ فينا شعورًا بالوجد الانفعالي. وكلا النوعَين من الموسيقى يخدمُ الغرضَ المقصودَ منه؛ فأحدهما يبعث ما يُسميه نيتشه بالحالة الأبولونية، والآخر ما يُسميه بالنشوة الديونيزية، وكلاهما ضروري لحياة الإنسان.
ولقد كان بعض النقَّاد الذين ظهروا في الأمس القريب، مثل هانسليك وبوزوني، وكذلك فيلسوف ندر أن نجد من الفلاسفة من قال بمثل آرائه في الموسيقى، هو «هربارت Herbart»؛ كان هؤلاء يؤمنون بأن الموسيقى ليس لها معنًى يتجاوز نطاقها الخاص؛ فهم قد أرادوا أن يقفوا في وجه الرومانسية بالقول إن الموسيقى فنٌّ مستقل. ويُوجد في صفوفنا اليوم أيضًا أمثال هؤلاء من أصحاب النظرة الخالصة، الذين يحرصون على الاحتفاظ بنقاء الموسيقى وترفُّعها عن المضمونات النفسية والاتجاهات الاجتماعية والمسائل الأخلاقية. وهم يعتقدون أن البحث الجمالي في الموسيقى ينبغي أن يقتصر على تحليل القيَم الشكلية للقطعة الموسيقية ولا شيء غير ذلك. والأساس الذي يرتكزون عليه هو أن الموسيقى، كما قال هانسليك، هي تعبيرٌ عن الأفكار الموسيقية؛ فالموسيقى التي تُثير الانفعالات وحدها وتتجاهل العقل، لا تؤدي إلا جزءًا من وظيفتها، وهي اجتذاب الإنسان ككل؛ أي أن هذا الاتجاه الفكري الأفلاطوني الجديد١٠ يرى أن الموسيقى التي تُهيب بالانفعالات أكثر مما تُهيب بالعقل، إنما تجتذب العناصر الأخَس والأحَط في الإنسان. أما الموسيقى المثلى من وجهة النظر الجمالية، فهي ترتيبٌ وتوزيعٌ للقيَم الشكلية على نحوٍ يكفُل للموسيقى أداء وظيفتها الكاملة، وهي بعثُ انفعالاتٍ سارة وإرضاء العقل. ولا جدالَ في أن هذا مثلٌ أعلى جمالي لا يمكن أن يُنازِع فيه أحد. غير أن الكثيرين منا لا يقبلون ذلك الاهتمام المُفرِط الذي يُبديه أصحاب النظرية الخالصة بالجانب العقلي من التربة الجمالية، في الوقت الذي يُقلِّلون فيه من أهمية الجانب الانفعالي منها.

إن التحليل الموسيقي للقيَم الشكلية لمدوَّنةٍ سيمفونيةٍ ضخمة أو أغنيةٍ فنيةٍ بسيطة ليس إلا وجهًا واحدًا من أوجه البحث الجمالي؛ ذلك لأن اللحن والإيقاع والهارمونية والقالب أو الشكل؛ كل هذه قيَمٌ موسيقية أساسية؛ فالقائم بالأداء وقائد الفرقة الموسيقية، يهتمَّان اهتمامًا أساسيًّا بالخط اللحني وتطوير الموضوعات الرئيسية والتغيُّرات الإيقاعية، وبناءِ هيكلِ القطعة الموسيقية أو قالبها الشكلي. ومن المؤكَّد أن التجربة الجمالية للمستمع المستنير تزداد عمقًا إذا كان لديه القدرة على إدراك العلاقات الشكلية بين هذه القيم بعضها وبعض؛ أعني القدرة على إدراك تكامُل هذه القيَم في صورةٍ موسيقيةٍ مُركَّبة، وعلى معرفة مدى توفيق المؤلِّف الموسيقي في معالجة هذه القيَم والتعبير عنها فنيًّا. غير أن البحث الجمالي في الموسيقى هو نظام من القيَم أشمل من تحليل الموسيقى ذاتها؛ إذ إن عليه أن يتناول أيضًا النواحي الإبداعية التأثيرية في الموسيقى؛ لأن الدراسة النفسية للإبداع الفني وتحليل التذوُّق الموسيقي هما مشكلتان جماليتان على جانبٍ كبير من الأهمية. كذلك ينبغي على المفكِّر الجمالي أن يتذكَّر أن الموسيقى لا يمكن أن تُفهم وتُقدَّر إلا في سياقها التاريخي؛ فالعوامل الدينية والدنيوية والاتجاهات السياسية للعصر، والمعتقدات الاجتماعية للشعب؛ كل هذه عناصرُ ضروريةٌ في أية دراسةٍ جماليةٍ للموسيقى.

والواقع أن خَلْق الموسيقى والاستمتاع بها عمليتان ترجع جذورهما إلى الانفعالات؛ إذ إن الموسيقى وسيلةٌ نغمية وإيقاعية للتعبير، ينقل بواسطتها المؤلِّف الموسيقي مشاعره إلى الآخرين. وعلى ذلك فإن نظام القيَم الذي تتألف منه الفلسفة الجمالية للموسيقى ينبغي أن ترجع جذوره هو الآخر إلى الانفعالات، وإن كان يقتضي من السامع أذنًا موسيقيةً حساسة وعقلًا لمَّاحًا في الوقت ذاته. والعامل الذي يحدِّد القيمة الفنية للقطعة الموسيقية هو مقدار أصالة مؤلِّفها وسَعَة خياله في التعبير عن ذاته. أما نحن فلا نستطيع أن نستخلص من هذه الموسيقى أكثر مما وضعناه فيها عن طريق حساسيتنا الإدراكية وحُكمنا التحليلي؛ فالموسيقى متولِّدة من الانفعال لكي تُهيب بالانفعال. ونحن نتلقَّاها بحواسنا، ونحكُم عليها بعقولنا. ولا يمكن أن تكون لها عندنا قيمةٌ جمالية إلا إذا كان لها معنًى بالنسبة إلينا.

إن القيمة الجمالية للقطعة الموسيقية تتوقَّف على أمرَين؛ أولهما مدى قدرة المؤلف على نقل أحواله ومشاعره إلينا؛ إما بطريقٍ مباشر أو بوساطة فنانٍ قائم بالأداء. وثانيهما: قيمة نفس هذه المشاعر والأحوال التي ينقلها إلينا، ولكن تحقيق الأمر الأول يستلزم أن يكون السامع قادرًا على أن يُعيد خَلْق ما كان المؤلِّف يُحاول أن يقوله؛ فالاستجابة الجمالية الصحيحة تتوقف على قدرة السامع على التشبُّع بروح المؤلف في حالته الأصلية. ولن يأتي له ذلك إلا بالسمع وإعمال العقل، كما قال أرسطوكسينوس. وإذن فالموسيقي لا يمكن أن تكون وسيلةً للاتصال الانفعالي، إلا إذا كان المرء حسَّاسًا بتلك الأحوال والمشاعر التي حاول الموسيقار أن ينقلَها إلينا. وبعد أن تُثار في نفس السامع هذه التجربة الانفعالية، ينبغي أن يكون قادرًا على تكوين حُكمٍ سليم على قيمة هذه المشاعر والأحوال في القطعة الموسيقية ذاتها. ولما كان الكثير من المؤلَّفات الموسيقية الجديدة يتجاوز نطاق قدرتنا على الإدراك والفهم، فلا بد لنا من بذل الجهد والتذرُّع بالصبر والانتظار رَدَحًا من الزمان حتى نستطيع الوصول إلى حكمٍ صحيح على قيمة المشاعر والأحوال في القطعة الموسيقية، كما تجسَّدَت في أفكارٍ إيقاعيةٍ ولحنيةٍ مجددة. ومن جهةٍ أخرى فهناك نوعٌ آخر من الموسيقى يجذبنا كثيرًا أول ما نسمعه، لكنه سرعان ما يُفقد؛ لأنه لا يعود يُمِدُّنا بالحافز على تكوين تجربةٍ جمالية.

إن صياغة حكمٍ تقويمي هي عملٌ ذهني، وهي عمليةٌ عقلية تتضمن تقدير أحوال المؤلف ومشاعره كما عبَّر عنها في صورةٍ موسيقية. وهي تقديرٌ عقلي للطريقة التي أُدمجَت بها القيم الشكلية اللحنية والإيقاعية الهارمونية في قالبٍ موسيقي مُركب؛ فاللحن تعبير عن الشعور، والإيقاع يبعث الحياة في هذا الشعور. وهو بالنسبة إلى الموسيقى بمثابة قانون التغيَّر المحتوم في صوره المتعددة بالنسبة إلى الطبيعة. والهارمونية هي مزجُ هذه المشاعر والتغييرات الإيقاعية في تعبيرٍ موحَّد كان سيظل لولا هذا المزج، مجرد مشاعرَ منعزلة وإيقاعاتٍ متفرقة. أما المزاج والشعور فهما أحوالٌ انفعالية تحتاج دراستُها إلى نشاطٍ عقلي.

ولا بد لتقدير الموسيقى من أذنٍ حسَّاسة نفَّاذة، تُكتسَب بالمران والتوجيه. وأول استجابةٍ لنا نحو الموسيقى تكون استجابةً ذاتية أساسًا؛ إذ نُضفي عليها ما اكتسبناه من تجاربَ متنوعة تحكَّمَت في تشكيلها بيئتنا الدينية والثقافية والاقتصادية. على أنه إذا كانت الموسيقى قادرة على إحداث تجربةٍ جمالية تفي بحاجةٍ نفسية أو اجتماعية، فلا بد أن تكون لها قيمةٌ محدَّدة بوصفها وسيلةً فنية للعلو بحياتنا اليومية المعتادة، ولا يمكن أن تكون للموسيقى قيمةً إلا إذا كان لها معناها عند السامع. ومع ذلك فمن الممكن أن يكون لها معنًى عند شخصٍ معيَّن، ولا يكون لها أي معنًى عند شخصٍ آخر، وبدليل ما كتبه الموسيقار برليوز حين قال: «إن ما أجده جميلًا إنما هو جميل عندي، وقد لا يكون جميلًا عند أخلص أصدقائي.» كما كتب المفكِّر تشترتن يقول: «إن الناس العاديين يُبغِضون العمل الجديد الرفيع المستوى، لا لأنه جيدٌ أو رديء، بل لأنه ليس بالشيء الذي يطلبون.» فطبيعة المعنى الموسيقي إنما تكون في الانفعالات التي يجسِّدها المؤلِّف الموسيقي بخياله الخصب، في نماذجَ إيقاعية وتراكيبَ هارمونية. وما اللحن البسيط أو الموضوع الموسيقي الرئيسي في الأصل، إلا انفعالٌ خامٌ أُضفي عليه شكل ولون من أجل الوصول إلى فعالية التأثير الفني؛ فالموسيقى هي المزج التام بين الشعور والعقل، وبين المضمون والشكل. وما القطعة الموسيقية إلا وسيلةٌ لنقلِ مشاعرَ وانفعالات. وإذا كان الجزء الأكبر من الموسيقى الجديدة، وقدْرٌ كبير من تراثنا الموسيقي يبدو مفتقرًا إلى المعنى في نظر الجمهور العادي، فإن السبب الأكبر في ذلك هو حالة الأمية الموسيقية المتفشِّية بيننا؛ ذلك لأن المعاني التي تستطيع الموسيقى نقلها تظل كامنةً في الطابع الإيقاعي والتركيبي للمدوَّنة الموسيقية ذاتها، ولا يمكن أن تنتقل إلى حالة الظهور والوضوح إلا إذا توافَر لها فنانون يؤدُّونها، وأذنٌ تستمع إليها، وأذهانٌ تقدِّر ما يُحاوِل الموسيقار أن يقوله؛ فمن المحال إذن أن يستخلص المرء من الموسيقى أكثر مما يضعه فيها من حساسية الإدراك ونفاذ التفكير.

ولكن ما هي القيَم التي ينبغي أن نتطلع إليها، ونحن نستمع إلى الموسيقى؟ ينبغي، قبل كل شيء، أن يكون للموسيقى تأثيرٌ انفعالي قد يكون فوريًّا، وقد لا يأتي إلا بعد مُضي وقت؛ إذ إن الاستمتاع بالموسيقى هو قبل كل شيء مسألةُ انفعالٍ فحسب. ولما كانت الموسيقى تنشأ من ذلك الانفعال الخام الذي يسعى إلى الانطلاق في عالم الواقع القاسي، ولكنه لا يجد مجالًا لهذا الانطلاق، فلا بد أن تكون مشتملة على تشكيلٍ جذابٍ للأحوالِ النفسيةِ والمشاعر التي تعلو على الواقع المباشر، وحتى في الحالات التي تُحاوِل الموسيقى فيها أن تكون وصفية بطريقةٍ واقعية، فلا بد لها أن تصف الأشياء المألوفة بطريقةٍ غير مألوفة، أو تُحاوِل أن تجعل للعالم العادي للأنغام وقعًا غير عادي في الآذان.

إن مكانة المؤلِّف الموسيقي لا تُقاس بمدى قدرته على بعث الأصوات الطبيعية من جديد، وإنما تقُاس بمدى تمكُّنه من تجميل الأصوات الطبيعية؛ بحيث إن الأمور التي تبدو لنا مألوفة ونُسلِّم بها دون مناقشة، تُعرض علينا بطريقةٍ مجددة تثير خيالنا، وتؤثِّر في مشاعرنا؛ فقيمة الموسيقي في نظرنا لا تكون في براعته في محاكاة الأصوات والظواهر المتحركة، بل في قدرته على تحوير هذه الأصوات والظواهر المتحركة تحويرًا فكريًّا مثاليًّا؛ فأوتورينو رسبيجي Ottorino Respight (١٨٧٩–١٩٣٦م) يقطع التجربة الجمالية لسامعيه عندما يوقف الموسيقى في مدوَّنته؛ لكي يقدِّم ترديدًا طبيعيًّا لزقزقة عصفورٍ مسجَّلة على أسطوانة،١١ أما بيتهوفن فيحفظ للسامع تجربته الموسيقية عندما يُضفي زخرفًا على صوت الطائر، وهو يتردَّد في أعقاب صوت العاصفة المطيرة التي تتلاشى تدريجيًّا.١٢ وتلك في الواقع مشكلةٌ قديمة قِدَم أفلاطون الذي كان يعتقد أن على الموسيقي أن يردِّد الطبيعة بأمانة في موسيقاه، هو الرأي الذي ردَّ عليه أرسطو بقوله إن مهمة الموسيقار ليست الاقتصار على محاكاة الطبيعية كما هي، وإنما هي أن يُعيد خلق الطبيعة في موسيقاه بإضفاء طابعٍ فكري مثالي عليها. فليس المهم هو المظهر الخارجي للظواهر أو الأصوات المألوفة في الطبيعة، وإنما هو التعبير عن المشاعر الباطنة التي تُثيرها هذه الأصواتُ في نفس المؤلف الموسيقي، والتي يعبِّر عنها في مؤلفاته، لا كما هي الطبيعية، بل كما يتصوَّرها هو، وبذلك يخلُق عالمًا من الأصوات أروعَ من ذلك الذي اتخذه أنموذجًا له.

ومن الواجب أن يكون المصنَّف الموسيقي ملائمًا لتركيب الآلات أو للمدى المناسب للأصوات البشرية التي كُتب لها. على أن بيتهوفن كان يكتب للصوت، وكأن لديه نفسَ مدى آلة الفيولينة ومرونتها. وكان فاجنر يطلب من المغني، بلا رحمة، أن ينافس بصوته أوركسترا عظيمة الضخامة. ومهما كانت عبقرية بيتهوفن وفاجنر، فإن قيمتهما بوصفهما مؤلفَين للصوت البشري أقل من قيمتهما من حيث هما يكتبان للأوركسترا.

وكثيرًا ما يُنظر إلى موسيقانا المعاصرة على أنها تفتقر إلى القيمة الجمالية؛ لأنها لا تتضمن ألحانًا مناسبة للصوت البشري، أو موضوعاتٍ لحنية متصلة للآلات الموسيقية؛ فالموسيقي المعاصر يُتَّهم بأنه يخلق موسيقاه بطريقةٍ آلية خالية من اللحن، وإذا خلَق ألحانًا قليلة، فإن هذه الألحان لا تُمتعُنا بقَدْر ما كانت تُمتعُنا ألحان الماضي. على أن كل عنصرٍ كان فيه من المحافظين وأنصار القديم مِمن يجأرون بالشكوى من أن موسيقيِّي جيلهم يعذِّبون المغنِّين بمقطوعاتٍ لا تغنَّى، ويُرهِقون العازفين بمدوَّنات لا تُعزف. ومع ذلك فإن الأوبرات الإيطالية الرومانسية تضُم من الِفقرات الغنائية المجهِدة التي لا تصلُح للصوت الغنائي بقَدْر ما تضُم الأوبرات المعاصرة. وعلى أية حال فإن الموسيقى الغنائية التي تطلب من المغنِّي أكثر مما ينبغي، والتي تُرهِق الصوت في مداه المعتاد، لا تصلُح للصوت الآدمي، سواء أكانت تنتمي إلى العصر الرومانسي أم إلى عصرنا الحاضر. وهذا لا يصدُق على الآلات مثلما يصدق على الصوت البشري. إن المؤلفين الموسيقيين المعاصرين يكتبون مقطوعاتٍ لحنيةً للصوت والآلات الموسيقية تختلف عن مقطوعات الماضي لأسبابٍ واضحة. وقيمة هذه الألحان، سواء منها الماضية والحاضرة، تتوقف أولًا على ملاءمتها لنطاق صوت الإنسان والآلات، وتتوقف ثانيًا على مدى إتاحتها للمغنِّي والعازف أن يستخلص منها كل القيمة الموسيقية التي يستطيع الصوت والآلة أن يحقِّقاها، كلٌّ حسب طبيعته.

ومن الواجب أن تفي القطعة الموسيقية بالغرض الذي خُلقَت من أجله، والذي كان مقصودًا منها أصلًا؛ فاللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي قد حكمَت مثلًا بأن أوبرا «الصداقة العظيمة» لم تحقِّق الغرض الذي خُلقَت من أجله؛ إذ كانت الموسيقى معقَّدة لا تقدِّم تصويرًا «واقعيًّا» للحياة الشعبية والموسيقية للإقليم الذي أُلِّفَت الأوبرا عنه؛ ففي رأي اللجنة أن مؤلِّف هذه الأوبرا لم يقدِّم إلى المواطن السوفييتي ما يدُل على فهمٍ «صحيح» لحياة الإقليم الذي يتحدَّث عنه وثقافته؛ لذلك كانت هذه الأوبرا فاشلةً من الوجهتَين التعليمية والسياسية. غير أن من المشكوك فيه أن مؤلِّف الأوبرا كان يشارك اللجنة نفس هذه الآراء في دخيلة نفسه، ولكنه على أية حال كان مُضطرًّا إلى الرضوخ لقرارها القائل إن موسيقاه كانت لها قيمةٌ إيديولوجية سلبية؛ لأنها لا تفي بالحاجات الفنية للجماهير.

وفي المجال الديني نجد الموقف مُشابهًا إلى حدٍّ ما؛ فقد كان يوهان سباستيان باخ يعتقد أن الموسيقى التي يخلُقها ذات طابعٍ ديني عميق يصلُح للشعائر البروتستانتية، غير أن رؤساءه كان لهم رأيٌ مخالف في كثيرٍ من الأحيان؛ فقد كان باخ يكتب موسيقى للأرغن يعتقد أنها ملائمةٌ للجو الديني، ومع ذلك فقد كان عقدُه يتضمن نصًّا يشترط ألا يعزف في الكنيسة موسيقى تصرف أنظار المستمعين عن العبادة. وكان معنى هذا الشرط أن رؤساءه يعتقدون أن بعض موسيقاه لا يصلح للصلاة؛ فموسيقى باخ، من وجهة نظرهم، لم تكن دائمًا تحقِّق الغرض الذي كُتبَت من أجله.

وتكون الموسيقى محقِّقة لغرضٍ معيَّن في الدين أو السياسة حسب معيارٍ للقيم يُتخذ أساسًا للحكم عليها. غير أن من الخطأ القول إن الموسيقى المرتبطة بعناصرَ دينية أو سياسية هي وحدَها التي تقوم بمثل هذه الطريقة الموضوعية؛ فالأمريكيون والسوفييت يتفقون على أن الموسيقي حين يكتب «مارشًا»، فمن الواجب أن يكون ذا طابعٍ عسكري؛ أعني أن يكون إيقاعه بسيطًا، ويكون اللحن قويَّ التأثير في النفوس. كذلك يتفقون على أن الموسيقي حين يؤلِّف للباليه، فيجب أن يكون إيقاعه قويًّا مثيرًا، وأن يكون اللحن سهل التداول؛ فهناك شروطٌ موسيقية شكلية ينبغي توافُرها إذا شئنا أن تشجِّع الموسيقى الجنود على المشي على أنغامها، والراقصين على أداء رقصاتهم بألحانها. ولما كان الجنود يمشون بطريقة متشابهة، والراقصون يرقصون أيضًا بطريقةٍ متشابهة، فلا بد أن تكون المعايير التي نشترطها لهذه الألوان من الفن الموسيقي متشابهة أيضًا.

وعندما يُطلب إلى المؤلف الموسيقي أن يخلق وفقًا لشروطٍ محدَّدة مقدمًا، فعندئذٍ تكون مشكلة التأكد من تحقيق موسيقاه للغرض الذي كُتبَت من أجله مشكلةً بسيطة؛ فمثل هذه الموسيقى التي لا تُخلق بوصفها فنًّا مستقلًّا لا يمكن تقديمها إلا على أساس الوظيفة التي تؤديها. أما الموسيقى المستقلة، فكل ما يُشترط فيها لكي تكون قد حقَّقَت الغرض المقصود منها هو أن تتيح للسامع تجربةً جمالية فحسب؛ فالموسيقي يكون قد حقَّق أغراضه فينا إذا كانت موسيقاه تنطوي على تكامُلٍ فعال بين القيَم الموسيقية الشكلية التي يمكِنها أن تُثير في نفس السامع استجابة ذات طبيعةٍ جمالية.

ولقد كُتبَت مقطوعتا سترافنسكي «متتابعة طائر النار Fire Bird Suite» و«طقوس الربيع Rites of Spring» للباليه، وحقَّق هذان المصنَّفان الغرض المقصود منهما بنجاحٍ باهر. وعندما يُعزفان في قاعة الموسيقى ﺑ (لا رقص)، فإنهما يلقيان نجاحًا أعظم بوصفهما روائعَ موسيقية؛ ففي هذه الموسيقى من القوة والأصالة ما يجعلُها تصلُح للباليه وقاعة الموسيقى الخالصة، كما هي الحال في موسيقى الأوبرا عند فاجنر وديبوسي. غير أن من المعتاد أن يكون للموسيقى المكتوبة لمصاحبة الرقص في الباليه، أو لمارشٍ عسكري، أو للأوبرا، غرضٌ معيَّن تحقِّقه، وينبغي ألا تقوم إلا على أساس هذا الغرض. أما إذا فُصلَت هذه الموسيقى عن الغرض الذي تخضع له، وعُزفَت على أنها موسيقى مستقلة، فعندئذٍ يتوقف تقديرُنا للنجاح الموسيقي على الرأي الشخصي للمستمع.

ولمؤلِّف موسيقى الجاز بدَوره معاييره الخاصة من القيَم الشكلية التي تختلف عن معايير مؤلِّفٍ موسيقي مثل شونبرج. وعلينا عندما نقدِّم قطعةً من موسيقى الجاز ألا نُطبِّق عليها نفس معايير الموسيقى الكلاسيكية؛ إذ إن مقاصد المؤلِّف الموسيقي مختلفة في كل حالةٍ عنها في الأخرى؛ فهناك موسيقى جادَّة جيدة وموسيقى جادَّة رديئة، مثلما أن هناك جازًا جيدًا وجازًا رديئًا. والاستمتاع بأحد هذَين الأسلوبَين لا يحول دون الاستمتاع بالآخر؛ لأننا نأخذ من كلٍّ منهما ما يفي بالحاجات التي يُمكِنهما أن يُلبِّياها من أجل إثراء حياتنا. ولا بد أن يكون متحذلقًا ذلك الذي يميِّز بينهما على أساس أن أحدهما يصلُح لعامة الناس والثاني للصفوة المختارة.

وهناك عاملٌ جمالي ينبغي في هذا الصدد أن نأخذه بعين الاعتبار، هو عامل التحوير أو النقل. ولنضرب لهذا العامل مثلًا هو سيمفونية بيتهوفن الريفية؛ فهذه السيمفونية كانت مقصودةً في الأصل، لتكون تصويرًا للطبيعة بصورةٍ سمفونية، وهي تفي بهذا الغرض الوصفي بالفعل، ولكن إذا استُخدم هذا المصنف، بحيث يلائم أغراض الباليه، فإنه لا يعود يُثير في النفوس الأحوال والمشاعر الأصلية للموسيقى. كذلك فإن مقدِّمة وفوجة باخ لا تعود نفس العمل الكلاسيكي إذا تحوَّلَت للأوركسترا الحديث. ولا بد أن تكون أحكامنا على هذَين العملَين متعلقةً بمقاصد المؤلف الأصلية، لا بالتطبيقات التي يُدخِلها آخرون على هذه الأعمال بعد وفاة مؤلِّفها بوقتٍ طويل.

وإذن فلِكَي تكون للموسيقى قيمةٌ جمالية، فلا بد أن تكون مثيرةً للانفعال، ولا بد أن تُلائم الصوت البشري والآلة التي كُتبَت من أجلها، وأن تفي بالغرض المقصود منها. وأخيرًا فينبغي أن تحتوي المدوَّنة الموسيقية ذات المستوى الرفيع على أفكارٍ متنوعة، وأن تتميز في الوقت ذاته بالوحدة والتوازن؛ فالمدونة الموسيقية التي تحتوي على أفكارٍ متنوِّعة تكون قيمتها الجمالية أعظم من تلك التي تكرِّر الموضوعات اللحنية الرئيسية بطريقةٍ رتيبة مملَّة. ومع ذلك فالمدوَّنة الجيدة لا تقتصر على ما تحتويه من الأفكار المثمرة فحسب، بل يجب عرضُ هذه الأفكار ببراعة وموازنتُها في سياق المصنف بأكمله؛ فالأوبرا التي تبالغ في تأكيدها أهميةُ المقاطع الغنائية (من قبيل الآريا) على حساب تكامُل الأوبرا بوصفها كيانًا فنيًّا موحَّدًا لا تكون متوازنةً على النحو الصحيح. والسيمفونية التي تَحفِل بألحانٍ حنون تكرِّرها دون عنايةٍ بتنويع الموضوعات اللحنية لها قيمةٌ جمالية أقل من قيمة السيمفونية التي تُنمَّى فيها الألحان، وتُطوَّر بطريقةٍ متنوعة زاخرة.

وإذن فلا بد أن يقدم المصنِّف الموسيقي أفكارًا متنوِّعة في تنميته للمادة اللحنية، ولا بد أن يكوِّن وحدةً تتوازن فيها التطويرات والتنويعات المتعددة وتتفاعل.

وكلما ازدادت حرية المؤلف في استخدام الهارمونية والبوليفونية والإيقاع كان أقدر على التعبير عن أحاسيسه ومشاعره. ومع ذلك فمن المُحال أن يكون التأليف الموسيقي حُرًّا تمامًا؛ إذ إنه حيث لا يتوافر قَدْر من النظام تسود الفوضى. وإنما المقصود من الحرية في الموسيقى هو استخدام الإمكانيات النغمية والإيقاعية للوصول إلى أبلغ تعبيرٍ ممكن.

وتُتيح بعض أنواع الموسيقى للمؤلِّف مزيدًا من الحرية عن بعضها الآخر؛ فحين يكتب موسيقى خالصة يكون أقل قيودًا منه عندما يكتب موسيقى مصحوبة بالكلمات؛ إذ يتعيَّن على المؤلف في الحالة الأخيرة أن يشكِّل موسيقاه وفقًا لإيقاع النص ووزنه وقافيته إلى حدٍّ ما. وعندما يتابع الموسيقي المعنى العقلي لنصٍّ ديني، فإنه يُخضِع موسيقاه لهذا النص. أما عندما يكيِّف مؤلِّفٌ موسيقي مثل فرجيل طومسون Virgil Thomson ألحانه وفقًا لأبيات «جرترود ستين Gertrude Stein» العسيرة الفهم في قطعتَيها «أربعة قديسين وثلاثة فصول Four Saints and Three Acts» ومن بعدها «أمنا جميعًا Mother of us» فإنه عندئذٍ يذهب إلى الطرف المضاد، فيتجاهل تمامًا المعنى العقلي للنص.

ولقد كان الفلاسفة السابقون، باستثناء شوبنهور ونيتشه، يؤكِّدون الحاجة إلى لغةٍ منطوقة من أجل إضفاء معنًى ذهني على الانسياب الإيقاعي للانفعال الموسيقي. كذلك كان كبار رجال الدين ينظرون إلى الموسيقى على أنها وسيلةٌ لنشر كلمة الله. وما زال النقد السوفييتي الحديث يذهب إلى أن الموسيقي ينبغي ألا يقتصر على «الميل المتحيز إلى الأشكال المعقَّدة من موسيقى الآلات والموسيقى السيمفونية، غير المصحوبة بنصٍّ كلامي».

إن الشعر والموسيقى هما أكمل صورتَين فنيتَين يعبِّر بهما الإنسان عن مشاعره وأفكاره؛ فهما أقدَر أنواع الفن على التعبير عن المشاعر، كلٌّ في ميدانه الخاص. على أن ما يكون له تأثيره في إحدى هاتَين الواسطتَين قد يضيع إذا عبَّرَت عنه الواسطة الأخرى. أما عندما يمتزج البيت الشعري أو الفِقرة النثرية مع اللحن بنجاح، بحيث لا يفقد أيهما طابعه الفردي، وإنما يزيد كلاهما من فعالية الآخر، فعندئذٍ يكون الموسيقي قد أدمج على نحوٍ فنيٍّ نادر بين صورتَين رائعتَين من صور التعبير البشري.

والوسيلة التي تنقل إلينا أحوال المؤلف الموسيقي النفسية وأفكاره وتعرِّفنا بها هي مقدرةُ القائم بالأداء وفهم قائد الأوركسترا؛ فهؤلاء هم الرسل أو الوسائط بين ذلك العدد القليل من البشر المبدعين وبين أولئك الذين يخشعون منا لتلك النفوس الخلَّاقة التي تُثري حياتنا بجمال النغم؛ فالخالق والمتذوِّق معتمدان معًا على القائم بالأداء. والعازف أو المغنِّي البارع يؤدي أعمال موسيقيٍّ ما بأمانةٍ أعظم مما يؤديها فنَّان من الصف الثاني؛ فهو في الحالة الأولى يُعيد خلق المدوَّنة الموسيقية بروح مؤلِّفها وأسلوبه، وتُتيح له حساسيته وقدرته على الفهم أن يُميط اللثام عن أحوال المؤلِّف، وينقلها إلينا، وأن يستخلص من المدوَّنة الموسيقية ما وضَعه المؤلِّف فيها. وعليه أن يركِّز إحساسه في الموسيقى، ويفهم كيف ينقل التفاصيل والفروق الدقيقة بين المشاعر، قبل أن يقوم بأدائها بطريقةٍ فعَّالة. وفي وسعه أن يبعث الحياة في الرموز الموسيقية، ويجعل ما هو ماضٍ وميت يحيا مرةً أخرى من خلال الإيقاع والنغم.

أما إذا كان القائم بالأداء أقل براعة، فلن يستطيع أن يؤكِّد ويوضِّح سمات أسلوب المؤلف، أو أن يكون حسَّاسًا بما تتطلبه المدوَّنة من شروطٍ دقيقة. ولن يميِّز بين طريقة مؤلفٍ كبير أو آخر في الغناء أو العزف أو القيادة، بحيث يبدو كل ما يعزفه متشابهًا على نحوٍ رتيب، وتغيب عنه الفروق الدقيقة بين أساليب مختلف المؤلفين الموسيقيين، لعجزه عن الاندماج في حياة الفنان الذي يُحاول أداء أعماله والاندماج في موسيقاه. وقد يُعين التدريب شخصًا كهذا على مراعاة الأوجه الآلية للأداء، ولكنه في النهاية لن يستطيع أن يقدِّم إلى سامعيه إلا ما تمكَّن هو ذاتُه من استخلاصه من الموسيقى، وما أضفَته عليها حساسيتُه وفهمه، فإن كانت ملَكَتاه الأخيرتان غير ناميتَين، فسوف يظل صانعًا أو حرفيًّا، ولكن لن يرقى إلى مرتبة الفنان الموسيقي.

وتتألف الرموز الموسيقية التي يُعيد القائم بالأداء خلقَها لنا في صورة موسيقى نغمية من قيمٍ شكلية. هذه القيم تنطوي على أنماطٍ إيقاعية وتراكيبَ هارمونية هي تجسيدٌ لمشاعر المؤلِّف الموسيقي وأفكاره. ومهمة القائم بالأداء هي أن يحكي لنا تلك الأحوال الموسيقية بإخلاص. وعندئذٍ تكون لهذه الموسيقى قيمةٌ في نظرنا إذا كانت تُثير شعورًا ذا طبيعةٍ جمالية يفي بحاجاتنا النفسية والاجتماعية، ويعمل على إعلاء حياتنا الدارجة، فيُتيح لنا عندئذٍ تحررًا مؤقتًا من مشاغلنا المباشرة، ويجتذبنا إلى عالمٍ خيالي نحلِّق فيه ثم نعود إلى المجرى الرئيسي لحياتنا وسلوكنا، وقد انتعشنا وتجدَّدَت قوانا. وليس معنى ذلك أن من الواجب أن نقتصر في استخدامنا للموسيقى على اتخاذها مُخدِّرًا يُغرقنا في الأوهام؛ فالقيمة الجمالية للموسيقى إنما تكون في مقدرتها على أن تجعلنا ندخل مع الموسيقي الذي يُصوِّر لنا العالَم كما يراه ويسمعه في تجربةٍ أو سلسلةٍ من التجارب المشتركة. وبفضل الفن الموسيقي يمكن أن تُصبح حياتُنا أكثر ثراءً، ووجودنا أكثر امتلاءً.

١  ملفين ريدر، علم الجمال الحديث Melvin M. Rader: A. Modern Book of Esthetics، ص١٨٣، الناشر: Henry Holt and Co، نيويورك، ١٩٣٥م.
٢  ص١٥ (ترجمة F. L. Pogson)، الناشر Allen and Unwin، لندن، ١٩٢٨م.
٣  يُلاحظ أن هذا العنوان لا يدُل على كتاب لبرجسون بهذا الاسم، وإنما على الترجمة الإنجليزية التي نُقل إليها عنوان كتاب برجسون: «بحث في المعطيات المباشرة للوعي Essai sur les donnees immediates de la conscience»، وقد ظهر هذا الكتاب عام ١٨٨٩م، أما الترجمة الإنجليزية فظهرت عام ١٩١٠م (المترجم).
٤  يقول تشسترتون في كتابه «المُهرطِقة Heretics»، ص٩٠، الناشر The Bodley Head، لندن، ١٩٠٥م: «عندما كان الناس خشنين غلاظًا، وعندما كانوا يعيشون وسط ضروبٍ قاسية وقوانينَ صارمة، عندما كانوا يعرفون القتال بمعناه الحقيقي لم يكن لديهم سوى نوعَين من الأغاني؛ الأول فرح بانتصار الضعيف على القوي، والثاني حزن؛ لأن القوي انتصر على الضعيف مرةً بطريقةٍ ما؛ ذلك لأن هذا التحدي للأوضاع السائدة، وهذا السعي الدائم إلى تغيُّر التوازن القائم، وهذا التحدي السابق لأوانه للأقوياء، هو الطبيعة الكاملة والسر الباطن لتلك الغامرة النفسية المسماة بالإنسان.»
٥  «الحكم الجمالي Aesthetic Judgment»، ص٢١٦، الناشر Thomas Y. Cromwell، نيويورك، ١٩٢٩م. ولقد كان الفيلسوف الإيطالي كروتشه Croce (١٨٦٦–١٩٥٢م) خليقًا بأن يتفق مع برال على هذا المسألة؛ ذلك لأن كروتشه يرد على الموسيقار المزعوم الذي يشكو من أنه يستطيع أن يحرِّك العالم لو أنه استطاع التعبير عما يشعر به، بالقول إن شعوره إما أنه ليس عميقًا بما فيه الكفاية، وإما أنه هزيل إلى حدٍّ يستحيل معه التعبير عنه؛ ففي رأي كروتشه أن الموسيقي الذي لديه أي شيء يقوله، سيقوله بوسيلةٍ أو بأخرى، وبصورةٍ أو بأخرى. كذلك يقول كروتشه: إن الفن يموت في الفنان الذي يصبح ناقدًا. وقد تبيَّن للموسيقار شونبرج في تجربته الخاصة أن هذا صحيح، وأن الموسيقي الذي يكتب نقدًا موسيقيًّا لا يكون في هذه اللحظة موسيقيًّا؛ لعدم وجود وحي موسيقي، يستلهمه ما يكتب. «ولو كان ملهمًا لما وصف الطريقة التي ينبغي بها أن تؤلَّف القطعة، ولألَّفها هو ذاته» (من كتاب «الأسلوب والفكرة Style and Idea»)، ص٣، الناشر Philosophical Library، نيويورك، ١٩٥٠م.
٦  د. ر. برال، المرجع المذكور من قبلُ، ص٧٤.
٧  العقل والفن Reason and Art، ص٤٥–٥١، في كتاب «حياة العقل The Life of Reason» الناشر Scribner، نيويورك، ١٩٢٢م.
٨  نبوءة دلف هي التي كان سقراط يستلهمها الوحيَ والمشورةَ في أهم شئون حياته، وكان اليونانيون عمومًا يؤمنون بقدرة هذه النبوءة على كشف الحُجُب، ويقصدون معبد دلف ليستمدُّوا منه النصح والرأي السديد (المترجم).
٩  كان مندلسون من أسرة يهودية مشهورة، جده الفيلسوف موسى مندلسون، ولكنَّ والدَيه اعتنقا البروتستانتية قبل ميلاد فليكس. وكان مندلسون من المقرَّبين إلى الملكة فيكتوريا، وزوجها الأمير ألبرت الألماني، وله سيمفونيةٌ تحتفل بالإصلاح الديني Reformation Symphony، وأوراتوربات وموسيقى دينية للأرغن … إلخ (المراجع).
١٠  يُلاحَظ أن الإشارة هنا لا علاقة لها بالأفلاطونية الجديدة أو المحدَثة، وهي المذهب الفلسفي المعروف الذي بلغ قمته عند أفلوطين. وإنما يشير المؤلف إلى أن هذا اتجاهٌ أفلاطوني ظهر في العصر الحديث فحسب. كذلك ينبغي أن يحذر القارئ الاعتقاد بأن أصحاب هذه النزعة الخالصة أفلاطونيون بالمعنى الكامل لهذه الكلمة؛ إذ إنهم قد يقتربون من أفلاطون في مسألة الإشادة بالعقل على حساب الانفعالات، كما قال المؤلف، ولكنهم يبتعدون عنه تمامًا في نظرتهم المتحرِّرة من كل الاعتبارات الأخلاقية والسياسية والدينية، وهي الاعتبارات التي كان لها المحل الأول في نظرية أفلاطون الجمالية في الموسيقى (المترجم).
١١  الإشارة هنا إلى مقطوعة رسبيجي الوصفية «أشجار الصنوبر في روما Pines of Rome» التي يظهر فيها صوتٌ طبيعي لشقشقة العصافير على الأشجار التي تمتلئ بها روما (المترجم).
١٢  الإشارة هنا إلى الجزء المعروف في السيمفونية السادسة (الريفية) لبيتهوفن (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤