الفصل الأول

ممارسة الطقوس في معبد الأسعار المنخفضة والعروض اللامتناهية

من الولايات المتحدة إلى الصين

حفاضات، وخبز، وحليب، وعصير، وتفاح، ودجاج … يحمل السير الناقل في السوبر ماركت السلعَ الأساسية التي اعتادت لورين ميلر شراءها كلَّ أسبوع. وهي السلع التي تشتريها العائلات عادةً في ضواحي أمريكا. هذه المرة، كانت السلعة الأخيرة على السير الناقل هي جهازَ راديو جديدًا تمامًا. وبينما كان أحد المساعدين يمسح السلعَ ضوئيًّا، ويتولى آخرُ تعبئتها في أكياس ورقية، فتحت لورين حقيبتها وأخرجت رِزْمة من عملةٍ تعد الأسهل في التعرُّف عليها بين بقية العملات المتداولة على كوكب الأرض: إنها الدولار الأمريكي. شراء لورين للبقالة طقسٌ أسبوعي، وكذلك محاولتها الاستفادة القصوى من ميزانيتها. لم تَعُد الزيادات في الأجور كما كانت من قبل، لكن لورين لا تزال تحاول التمتُّع ببعض الرفاهيات من آنٍ لآخر. واليوم، اشترت راديو جديدًا لتضعه في مطبخها. سعر الراديو منخفضٌ انخفاضًا لا يكاد يُصَدَّق. وأينما وقعت عيناها، وجدت المزيدَ من العروض التي تتسابق لجذب انتباهها في الممرات المزدحمة في متجر «وول مارت» الذي يشبه الكهف. وحينما كان محاسب الزبائن يتمنَّى لها يومًا سعيدًا، كانت لورين تتحرَّك بين العائلات المتشاحنة والأفراد المتجولين بمفردهم في المتجر بعيدًا عن ضوضاء المتسوقين وبعيدًا عن رغبتها المُلحة في إنفاق الدولارات نحو ساحة انتظار السيارات ممسكة بعربة التسوق الخاصة بها.

في كل أسبوع، يقصد نحو ١٠٠ مليون أمريكي أسبوعيًّا وجهةً استهلاكية مماثلة. فما هي السلعة التي من المرجَّح أن يضعوها في عربة التسوق؟ إنه الموز الذي يحبُّه الجميع. والسبب في ذلك ليس في عدم توافر الخيارات. اذهب إلى أقربِ متجر «وول مارت» (مع وجود ٣٥٠٤ متاجِرَ في جميع أنحاء الولايات المتحدة، الأرجح أنك ستجد واحدًا منها على بُعد ١٥ دقيقة بالسيارة) وستجد أكثرَ من ١٤٢ ألف سلعة مختلفة، بعضها سلعٌ غذائية وبعضها الآخر سلعٌ غير غذائية، على الأرفف. ستستغرق معاينتهم جميعًا بعضَ الوقت. يوجد أكبرُ متجر «وول مارت» في مدينة ألباني بولاية نيويورك. وتبلغ مساحته ٢٤ ألف قدم مربعة؛ أي ما يعدل مساحة أربعة ملاعب كرة قدم. فقط ألقِ التحيةَ المعتادة عند الباب («مرحبًا، كيف حالك؟») وتأمَّل الأرففَ المكدَّسة بالأطعمة والألعاب والإلكترونيات والأدوات والملابس ومستلزمات السيارات …

إنه أفضل متجر متكامل للبيع بأسعارٍ منخفضة. تُزين اللافتات، التي تعلن عن أسعارٍ منخفضة في متناول الجميع، ممراتِ المتجر ذات الإضاءة الزاهية، وتنتشر الإغراءات في كل مكان. ملصقات الأسعار تجعل المنتجات لا تُقاوَم، وتَعِد بإرضاءٍ فوق الوصف، وأيضًا بحياةٍ أيسرَ؛ كل ذلك في مقابل حَفنة من هذه الدولارات.

بالنسبة إلى متجر «وول مارت» وزبائنه، السعر هو كل شيء. إنَّ دخلَ متسوِّق «وول مارت» المعتاد أقلُّ بقليل من متوسط الدخل الأمريكي. قد يشتري واحدٌ من كل خمسة أشخاص يتسوقون في المتجر السلعَ باستخدام قسائم الطعام التي تصدِرها الحكومة لأصحاب الدخول المنخفضة. تسمح أسعارُ «وول مارت» باستيعاب ميزانية المتسوقين أمثال لورين ميلر (عدد النساء يفوق عدد الرجال في ممرات المتجر بنسبة ثلاثة إلى واحد).

هكذا يتحقَّق الحُلم الأمريكي بثَمن بخس. فأسعار السلع المنخفضة هذه تساوي دولاراتٍ كثيرة بالنسبة إلى متجر «وول مارت». فعبْر خزائنه يتدفَّق يوميًّا نحو مليار دولار في جميع أنحاء أمريكا. ويتدفَّق في فروعه على مستوى العالم نحو ٢٥٠ مليون دولار أخرى. وقد كانت قيمة المبيعات في عام ٢٠١٦ تساوي ٤٨١ مليار دولار. وهذا يعادل ٩٠٠ ألف دولار أمريكي في الدقيقة يوميًّا (بافتراض أن المتجر مفتوحٌ طَوال اليوم). قد تكون الأسعار منخفضةً، ولكن توافرها في كل مكان وبيع كلِّ ما يمكن تصوُّره بأعداد كبيرة يؤتيان ثمارهما. فالجميع يحتاج أن يأكل.

في معبد الأسعار المنخفضة والعروض اللامتناهية، من السهل جدًّا وضْع بعض السلع الإضافية في العربة أثناء رحلة التسوق الأسبوعية هذه. لماذا لا نشتري بطةً مطاطية لطيفة بقيمة دولارين لوضعها في حوض الاستحمام؟ وزوجًا من السماعات بقيمة ستة دولارات؟ وراديو ثمنه أقل من ٢٠ دولارًا؟ إن عمليات شراء المنتجات غير الغذائية هي التي تضخُّ الأرباح لمتجر «وول مارت». لكن معظم هذه الدولارات ليس مقدرًا لها الوصول إلى خزائن «وول مارت» أو مساهميه. لن يقطع الراديو الجديد الذي اشترته لورين ميلر سوى كيلومترات قليلة حتى يصل إلى منزله الجديد، لكنَّ نقود لورين ستقطع أكثرَ من ذلك بآلاف الأميال، حتى تصل إلى مصنعٍ ينتج الآلاف من أجهزة الراديو على الجانب الآخر من الكرة الأرضية.

في عام ١٩٦٢، أسَّس سام والتون إمبراطوريته «وول مارت،» التي تعتمد مبدأ بيع الكميات الكبيرة من السلع بأسعارٍ زهيدة، في أركنساس تحت شعار «سعر منخفض دائمًا». دائمًا. مقابل كل دولار يُدفع عند الخزينة، يربح متجر «وول مارت» نحو ثلاثة سنتات. لذلك فإن التركيز دائمًا يكون على تقليل التكاليف. وهذا مبدأ اتَّبعه سام في كل أمور حياته. فحتى بعد أن جنى ثروته، كان يقود شاحنةً صغيرة ويتشارك مع آخرين في غرفٍ فندقية رخيصة أثناء رحلات العمل. سمَح له ذلك كثيرًا بفهْم دوافع المتسوقين في جميع أنحاء أمريكا: وهي البحث عن صفقة رابحة. بالنسبة إلى الكثيرين، نبع ذلك من رغبةٍ وليس ضرورة. وبعد مرور نصف قرن، لا تزال استراتيجيته تجعل الزبائن المخلصين أمثال لورين ميلر يحرصون على التردُّد على متاجره.

على حد تعبير سام والتون، «المسألة ببساطة أن الكثير من السلع المصنوعة في أمريكا يفتقر إلى التنافسية، سواء من حيث السعر أو الجودة أو كليهما». ومن المفارقات أنْ أدَّى هذا في نهاية المطاف إلى اعتماد الشركة التي بناها السيد والتون، وهو رجل متديِّن ورأسمالي متطرِّف، بشكلٍ كبير على تكوين تحالفٍ مع جمهورية الصين الشعبية، حيث يوجد على الأرجح المصنع الذي أنتج الراديو الذي اشترته لورين ميلر. وكشفت «وول مارت» أنها طلبت بضائعَ بقيمة ١٨ مليار دولار من الصين في عام ٢٠٠٤. وهذا يمثِّل قفزةً هائلة نسبتها ٤٠ في المائة في عامين فقط، وهو ما يبرِّر قرار الشركة بنقل مقرها الرئيسي للتوريد العالمي إلى شينزين في عام ٢٠٠٢.

منذ عام ٢٠٠٤، التزمت الشركة الصمت تمامًا بشأن هذا الموضوع. ولكن أشارت التقديرات بعد حصرِ عددِ حاويات الشحن ودراسةِ بيانات أخرى إلى تضاعُف إنفاق «وول مارت» السنوي على السلع المصنوعة في الصين ثلاث مرات تقريبًا ليصل إلى ٥٠ مليار دولار في غضون هذا العَقد أو نحو ذلك. الراديو الذي اشترته ميلر هو مجرد قطرة ماء في محيطٍ لا حدود له من البضائع التي تصل إلى شواطئ أمريكا ورفوف متاجرها. أُنشئت المصانع على طول الساحل الشرقي للصين وما وراءه. وبُنيت السفن التي يمكنها نقل ١٥ ألف حاوية عبْر المحيط الهادئ في خمسة أيام فقط. كل ذلك لإشباع الشهية النهِمة لمتسوقي «وول مارت». ففي المجمل، تبيع الصين ﻟ «وول مارت» فقط، بواسطة نحو ٢٠ ألف مورِّد، ما تبيعه لألمانيا أو المملكة المتحدة بأكملها. ومن المُحتمل أن ينتهيَ المطاف بنسبة كبيرة من كل دولار يُنفَق على لعبةٍ أو أداة كهربائية أو «تي شيرت» من متجر «وول مارت» في الولايات المتحدة في خزائنِ إحدى الشركات الصينية المُصَنِّعة.

إن «وول مارت» ليست على الإطلاق الزَّبون الأمريكي الوحيد للصين، لكنها تمثِّل أكثرَ من دولار واحد من كل ١٠ دولارات تنفقها الولايات المتحدة على السلع المصنوعة في الصين. من خلال التخلي عن الدولار الذي كسبته بشِق الأنفس، تدْخُل لورين ميلر في عَقد عالمي: إلكترونيات رخيصة مقابل العملةِ الأكثرِ أهميةً على وجه الأرض. في عام ٢٠١٥، شُحنت بضائعُ بقيمة ٤٨٣ مليار دولار تقريبًا من الصين إلى الولايات المتحدة، وبضائعُ بقيمة ١١٦ مليار دولار من الولايات المتحدة إلى الصين. كان الفرق البالغ ٣٦٧ مليار دولار بين القيمتين، أي الفجوة التجارية أو العجز، هو الأكبرَ في التاريخ، وقد تضخَّم في هذا القرن، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى عادات الشراء في «وول مارت».

إن الروتين اليومي الرتيب للورين ميلر لا يختلف عن روتين ملايين الأمريكيين: إنفاق دولار واحد في «وول مارت». لكن هذا الدولار البسيط هو جزءٌ من قصةٍ عالمية هائلة. إنه حتى أكثر من مجرد ترس في الآلة المدوية لأكثر شعب استهلاكي على وجه الأرض، إنه جزءٌ حاسم لازدهار التجارة العالمية التي أصبحت الحديثَ الاقتصادي والسياسي لعصرنا، وهي عملية لم تؤثِّر على الثروة والوظائف والرفاهية فحسب، بل أثَّرت أيضًا على مراكز القوة نفسها.

•••

وفقًا لتقديرات إحدى الدراسات، تسبَّبت «وول مارت» في خسارة الولايات المتحدة نحو ٤٠٠ ألف وظيفة في مجال التصنيع على مدى الاثني عشر عامًا الماضية بسبب استيراد البضائع من الصين. وهو الأمر الذي تنفيه «وول مارت». فماذا عن الوظائف التي تتسبَّب التجارة في خلقها في مجالات التوزيع والخدمات اللوجستية على سبيل المثال؟ وقد يسمح استمرار انخفاض الأسعار للزبائن بإنفاق المزيد من المال على تناول الطعام في أحد المطاعم أو الذهاب إلى السينما، مما يزيد الإيرادات والوظائف في أماكنَ أخرى. لكن الحقيقة أنها قد لا تكون من نوع الوظائف نفسِها ولا مستوى الرواتب نفسه.

لا شكَّ أن هذا التغييرَ في أنماط التوظيف في الغرب قد أصبح يُمثل مشكلةً لصانعي السياسات في جميع أنحاء العالم المُتقدم، وقد أضرَّ بالعمال والشركات. والمفارقة أن الازدهار التجاري قد يناسب لورين ميلر تمامًا بصفتها زبونة، لكنه قد لا يكون جيدًا لها بصفتها موظفةً أمريكية أو صاحبة عمل، في الواقع، قد يعني ذلك عدمَ وجود عمل لها على الإطلاق. في عام ١٩٨٥، نشرت شركة سام والتون إعلاناتٍ على صفحات كاملة في الصحف الكبرى للإعلان عن برنامج المتجر الجديد «اشترِ المنتجات الأمريكية». كما هو الحال مع قرارِ نقلِ بعض الإنتاج من الشرق الأقصى إلى مصنع ملابس أركنساس المتعثرِ في العام السابق (بناءً على طلب بيل كلينتون، سيناتور الولاية آنذاك)، فقد كانت خطوة تهدُف إلى مناشدة العملاء الأساسيين في «وول مارت». وبالرغم من ذلك، كما نعلم، استمرت الواردات الصينية في الزيادة.

منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، اختفى أكثر من ٤,٥ ملايين وظيفة في مجال التصنيع في الولايات المتحدة. يمتد حزام الصدأ، معقلُ الصناعات في أمريكا، من ولاية نيويورك وبنسلفانيا وأوهايو وميشيجان إلى شمال إنديانا وإلينوي وويسكونسن. وقد أُغلقت المصانع هناك بسبب عدم قدرتها على الصمود أمام المنافسين في الخارج الذين يوفِّرون البضائعَ بسعرٍ أرخص. إن مدينة فلينت في ميشيجان هي مهدُ «جنرال موتورز» ومسقط رأس المُخرج السينمائي مايكل مور. ومن ثَم، كانت المدينة نجمةَ فيلمه الوثائقي «رودجر آند مي» الذي حكى كيف بدأت شركة «جنرال موتورز». في ذروة أدائها، عيَّنت الشركة ٨٠ ألف شخص في فلينت. والآن، مع نقل المصانع إلى أماكنَ أخرى، ومنها المكسيك، انخفض هذا العدد إلى ٥٠٠٠. انخفض عددُ السكان إلى النصف؛ أي إلى ١٠٠ ألف. اثنان من كل خمسة ممن بقوا في فلينت يعيشون حياةَ الفقر. حتى قبل فضيحة تلوُّث المياه الأخيرة، انخفض سعر المنزل العادي في فلينت ليصبح أقلَّ من ٢٠ ألف دولار.

إنها مشكلة كبيرة للعائلات في مدنٍ مثل فلينت ولممثِّليهم السياسيين. فهناك ضغطٌ كبير لدعم هذه الصناعات المتقادمة لتمكينها من الصمود أمام المنافسين الأحدث والأكثر مرونة في الشرق. ومن المفارقات، أنه النوع نفسه من الدعم الذي سمح للصناعة الأمريكية بالازدهار عندما كانت في مهدها. فبين عامي ١٨١٦ و١٩٤٥، فرضت الولايات المتحدة واحدًا من أعلى الرسوم في العالم على البضائع الأجنبية التي تصل إلى شواطئها. خلف هذا الجدارِ الافتراضي، ازدهرت الصناعةُ المحلية الناشئة، دون التعرُّض لخطر الاختناق بسبب المنافسة قبل أن تظهر الولايات المتحدة بوصفها زعيمًا عالميًّا.

لماذا إذن لا تُصنِّع أمريكا ببساطة كلَّ السلع على أراضيها، ويشتري الأمريكيون المنتجات الأمريكية فقط؟ قد يكون للوطنية مفهومٌ جيد عندما يتعلق الأمر بالسياسة، ولكن يمكن أن يكون لها ثَمن باهظ. اختار سام والتون بدلًا من ذلك أن يملأ أرففَ متجره بالسلع المستوردة من أماكنَ بعيدة، بما يتماشى مع المبدأ الذي جلبه أيضًا من الخارج، والذي ظهر في بريطانيا بواسطة الاقتصاديَّين آدم سميث وديفيد ريكاردو في القرن الثامن عشر.

ذاع صيتُ آدم سميث من خلال إنعام النظر في كيفية صنْع الدبوس البسيط، وهي عملية تنطوي على ١٨ مرحلة مختلفة. قال سميث إنه إذا تولَّى عامل واحد صنْعَ دبوس واحد من الصفر حتى النهاية، فلن يُصنَع الكثير من الدبابيس. وفي المقابل، تكون العمليةُ أكثرَ كفاءة إذا أُسندت كل مرحلة إلى عامل مختصٍّ مختلف. بذلك، سوف يمكنك صنْع عدد من الدبابيس أكبرَ بكثير، ومن ثَم كسب المزيد من المال. إذا صنعت عددًا من الدبابيس أكثرَ مما تحتاجه السوق المحلية، يمكنك مقايضةُ فائض الدبابيس بشيءٍ آخر. ومن هنا ظهرت نظرية التخصُّص.

كيف يفسِّر هذا ما تختار الدولة أن تتخصَّص فيه، وإلى أي مدًى تقوم بعمليات المقايضة؟ تتناول أعمالُ سميث وأحد أتباعه، وهو ديفيد ريكاردو، هذا بإسهاب. يتلخَّص الأمر في الآتي: من الأفضل لبلدٍ أن يستورد المنتجات التي يمكنه الحصولُ عليها من الخارج بسعرٍ أرخصَ من تصنيعها في الداخل. يجب أن تنتج الدولة السلعَ التي لديها «ميزة مطلقة» فيها. وإذا كان بمقدورها إنتاجُ كل شيء بشكلٍ أكثرَ كفاءةً من غيرها، يمكن أيضًا الاستفادةُ من خلال التركيز على السلع التي تُعَد الأفضل نسبيًّا فيها؛ أي التي لديها «ميزة نسبية» فيها.

يتوقَّف ذلك على تكلفة إنتاج شيءٍ ما في مكان معيَّن. فما الذي يؤثِّر على هذه التكلفة؟ هناك العديد من العوامل التي تؤثِّر على التكلفة، وهي توافر الموارد الطبيعية، والمناخ، والأرض، وحجم القوة العاملة، والأجور، والإيجار، واللوائح، والمهارات، والآلات، والنقل. تتمتَّع الصين بقوًى عاملة شابة وفيرة ولوائحَ قليلة نسبيًّا. فمقابل كل دولار يتعيَّن على شركةٍ ما إنفاقه في توظيف عامل مصنع صيني، سيتعين عليها دفعُ ما يقرُب من خمسة أضعاف هذا المبلغ مقابل توظيف عامل أمريكي مكافئ. تستطيع «وول مارت» استيرادَ سلع من الصين أرخصَ ثمنًا؛ إذ أصبح الصينيون متخصِّصين في الصناعات ذات التكنولوجيا المنخفضة. فيمكن للمصانع في شينزين أن تنتِج الألعابَ والإلكترونيات بتكلفةٍ أقلَّ بكثير من مصنع في ميشيجان. بالنسبة إلى المُصنِّع الصيني— وأي شخص آخر — فإنَّ بيعَ السلع للولايات المتحدة أمرٌ سهل. فالمستهلِكون الأمريكيون يُنفقون دولارًا من كل خمسة دولارات تُنفَق حول العالم؛ والسوق الأمريكية لا تزال السوقَ الأضخم في العالم.

لكن عملية تبادُل السلع هذه لا تحدُث في اتجاه واحد فقط. فسنوات من الزراعة المتخصصة، والمناخ المُعتدل، والنوع المناسب من التربة جعل من الولايات المتحدة بيئةً ملائمة لإنتاج فول الصويا، وهو الشيء الذي عجزت الصين عن تحقيقه، بسبب تآكل التربة وعدم انتظام إمدادات المياه. تنتج أمريكا ثلث إنتاج العالم من فول الصويا، الذي يُستخدم في منتجات الطهي، كما يُستخدم علفًا للحيوانات. وبطبيعة الحال، فإن أكبرَ زبائنها هو البلدُ الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم. مع ازدياد ثراء الصين، تزداد كذلك شهيتُها للحوم، ومن ثَم لأعلاف الماشية. يصل اثنتان من كل ثلاث حبات فول صويا تُنتَج في الولايات المتحدة إلى الشواطئ الصينية، وقد تضاعفت هذه الوارداتُ ثلاث مرات في العَقد الماضي.

ومن الناحية الأخرى، فإن الولايات المتحدة هي المهيمنة في مجالِ بيع الآلات والمعدَّات العالية المواصفات والتقنية. فعلى سبيل المثال، اشترت الصين العامَ الماضي طائراتٍ تُقَدَّر قيمتُها بثمانية مليارات دولار من أمريكا. تتوقَّع شركة «بوينج» الأمريكية العملاقة في مجال الطيران بشدة أن تطلب الصين طائراتٍ تُقَدَّر قيمتُها بما يزيد عن تريليون دولار في العشرين سنة القادمة، كما تتوقَّع الشركة احتفاظها بنصيب الأسد في السوق.

فلماذا لا تخطِّط الصين لزيادة استثماراتها في مجال صناعة الطيران، وتركِّز أمريكا أكثرَ على احتياجات شعبها؟

هبْ أن جميع عمال المصانع في الولايات المتحدة والصين صنعوا إما طائرات أو أجهزة راديو. لنفترض أن هذه القوى العاملة بارعةٌ للغاية، وهناك تكاليفُ نقلٍ منخفضة، ولا توجد عوائقُ تجارية، مثل التعريفات. ولنفترض أنه مقابل كل طائرة تنتجها الصين، يمكنها إنتاج ١٠٠ ألف جهاز راديو. ولنفترض أنه مقابل كل طائرتين تنتجهما الولايات المتحدة، يمكنها إنتاج ١٠٠ ألف جهاز راديو. إذا قرَّر كلا البلدين صنْع أجهزة الراديو والطائرات، يمكنهما في الفترة الزمنية نفسِها إنتاجُ ما مجموعه ثلاث طائرات و٢٠٠ ألف جهاز راديو.

ماذا لو أن كِلا البلدين تخصصا في صناعة الطائرات؟ ستقدِّم الولايات المتحدة تضحيةً أقل؛ إذ ستتخلى عن صناعة عدد أقل من أجهزة الراديو (٥٠ ألفًا) مقارنةً بالصين (١٠٠ ألف) لصنْع كل طائرة إضافية. لذلك قد تقرِّر الولايات المتحدة ترْكَ إنتاج الراديو للصين وتركيز كلِّ اهتمامها على إنتاج الطائرات، والعكس صحيح. في هذه الحالة، سينتهي الأمر بإنتاج الولايات المتحدة أربع طائرات، وإنتاج الصين ٢٠٠ ألف جهاز راديو. باستخدام الموارد نفسِها في البلدين، تكون النتيجة النهائية أكبرَ بشكل عام.

ماذا لو تمكَّنت الصين من تصنيع كل شيء، وفي ذلك الطائرات (التي لا تستطيع تصنيعها في الوقت الحالي)، بسعرٍ أرخص وأكثر كفاءة في المستقبل؟ سيظل من المنطقي للولايات المتحدة أن تتخصَّص في إنتاج الطائرات إذا كان بمقدورها تصنيعُها بشكلٍ أكثرَ كفاءة (مقارنةً بأجهزة الراديو) من الصين. تخيَّل، على سبيل المثال، إذا كان بإمكان الولايات المتحدة، باستخدام الموارد نفسِها، أن تنتج طائرتين أو ٥٠ ألف جهاز راديو، بينما يمكن للصين أن تنتج ثلاث طائرات أو ١٥٠ ألف جهاز راديو. يتعيَّن على الولايات المتحدة التضحية ﺑ ٢٥ ألف جهاز راديو مقابل كل طائرة تصنعها، بينما يتعيَّن على الصين التخلي عن ٥٠ ألف جهاز راديو. هذه التضحية هي الطريقةُ التي يقيس بها الاقتصاديون «تكلفةَ» صنْع تلك الطائرة. تتحمَّل الولايات المتحدة تضحياتٍ أقل، مما يعني أن لديها ميزةً نسبية في صناعة الطائرات. وإذا تخصَّص كل بلد في صنْع سلعة، فستبقى النتيجة النهائية أكبرَ بشكل عام.

لذا فإن التخصص والتجارة الحرة يعنيان المزيدَ من السلع والتكاليف الأقل. ويؤدي انخفاضُ التكاليف إلى أسعارٍ أقل. تشتري الصين الطائرات التي تحتاجها لإشباع حب التجوال لسكانها الذين تزداد ثرواتهم، وتُوَفِّر لورين ميلر المالَ عن طريق شراء راديو صيني من «وول مارت». نتيجة لذلك، يكون لديها المزيدُ لتنفقه على أشياءَ أخرى، مثل اصطحاب أطفالها إلى صالة البولينج في عطلة نهاية الأسبوع.

إن انخفاض الأسعار يعني تكلفةَ معيشةٍ أقل. بما أن التضخم يساوي معدَّل ارتفاع تكلفة المعيشة، سيقل التضخم بدوره. إن السيطرة على التضخم، ومن ثَم ضمان الاستقرار الاقتصادي والمالي، هو المهمة الرئيسية للبنوك المركزية، وهي المسئولة عن إدارة المعروض النقدي، وأسعار الفائدة، ومن ثَم اقتصادات بلدانهم بشكل عام. يكون لدى البنوك المركزية معدَّل مُستهدف للتضخم. إذا ارتفعت الأسعار بوتيرةٍ أسرعَ من هذا المعدَّل، فإن البنوك عادةً ما ترفع أسعار الفائدة، لمنع الاقتراض وخفض الإنفاق، مما يجعل من الصعب على تجار التجزئة رفعَ الأسعار. تساعد تلك السلع الصينية ذاتُ الأسعار المنخفضة على إبقاء أسعار الفائدة الأمريكية منخفضةً أيضًا، وهذا بدوره يحافظ على انخفاض تكلفة الاقتراض بالنسبة إلى الأسرِ والشركات. وتساعد الواردات الصينية الرخيصة لورين ميلر على تَحَمُّل تكلفة الرهن العقاري على منزلها والأشياء التي تريد شراءها ووضعها فيه.

باختصار، تَعِد التجارة الحرة بمستوًى معيشي أعلى من جميع النواحي. أليس كذلك؟

الحقيقة هي أن العالَم لا يعمل على النحو الموصوف أعلاه، ولم يحدُث ذلك من قبل. أولًا، للنقل تكلفةٌ مالية وبيئية، حتى في عصر النقل بالحاويات. إنه أحدُ أسباب زيادة إنتاج السيارات المحلية في الصين طَوال الوقت، وهو أكبر من إنتاج الولايات المتحدة واليابان مجتمعين.

بالإضافة إلى ذلك، فإن العمَّال ببساطة ليسوا متعدِّدي المؤهلات. قد لا يكون الشخص الماهر في تجميع أجهزة الراديو مؤهلًا لتصميم طائرة. فالمهارات مختلفة جدًّا ولا يمكن اكتسابها بسهولة، مما قد يؤدي إلى فقدان عدد كبير جدًّا من الوظائف، وهو ما يمكن أن يكون كارثيًّا لمدنٍ مثل فلينت. قد يبدو إنفاق مبلغ نظير جهاز راديو صيني الصنع قرارًا منطقيًّا من الناحية المالية على المستوى الشخصي، ولكن على المستوى الوطني، فإن التداعيات السياسية والاقتصادية هائلة.

تتكرَّر الزيارات الأسبوعية إلى «وول مارت»، مثل زيارة لورين ميلر، في جميع أنحاء العالم. لقد أدَّت الدولارات واليورو والين والعملات الأخرى التي ينفِقها المتسوِّقون إلى زيادة الرخاء في البلدان النامية من خلال جعلها ورشَ عملٍ للعالم. يبيع تجَّار التجزئة العمالقة مثل «وول مارت» الآن أجهزةَ راديو رخيصة الثمن للمجتمعات في منطقة حزام الصدأ، وهي مجتمعات كانت تُصَنِّع مثل هذه السلع بنفسها. والآن، بعد خروج هذه الصناعات من السوق، قد يجد الأشخاص الذين عمِلوا فيها ذاتَ مرة أنفسَهم أكثرَ اعتمادًا على تجَّار التجزئة الذين يبيعون السلعَ المنخفضة التكلفة مثل «وول مارت» لتلبية احتياجاتهم. ومن المفارقات أن هذا يرجع جزئيًّا إلى تفضيل «وول مارت» للحصول على الصفقات في البلدان الأخرى. فأولئك الذين يجادلون بأن عمالَ المصانع في الغرب هم مَن دفعوا ثمن توافر السلع الأرخص ثمنًا أصبحوا أعلى صوتًا من أي وقتٍ مضى.

من الناحية النظرية، فإن العولمة والتجارة الحرة يصبَّان في مصلحة المستهلكين والبلدان ككل. هذا من الناحية النظرية فقط. لكنَّ مواطني جوانزو أو تيخوانا ليس لديهم حق التصويت في الانتخابات الأمريكية. أما أولئك الذين فقدوا مصادر رزقهم في فلينت فلديهم حق التصويت. فما هو جيد للعالم بأسره، أو حتى أمريكا ككل، إذا كانت تستفيد من انخفاض تكلفة المعيشة، ليس بالضرورة جيدًا لاقتصاد الدولة المجاورة، أو لرجال ونساء الدولة المسئولين أمام سكانها. يشعر البعض، ليس فقط في أمريكا، أنهم قد حُرِموا من جني ثمار العولمة. بسبب الاحتجاج من «الخاسرين» في اللعبة، يتَّجه التركيز مرةً أخرى نحو القومية والعزلة، أو بالأحرى نحو اتفاقيات تجارية أصغر مع أقرب و/أو أعز البلدان، أو كليهما، بدلًا من التجارة الحرة للجميع. إن السياسة الداخلية والاقتصاد العالمي يسيران في مسارٍ تصادمي.

•••

ما الذي يمكن أن تفعله الحكومات لحماية الصناعات أو المناطق المتعثرة من مخاطر التجارة الحرة، وربما حتى تقليل تلك الفجوة التجارية؟ أولًا، يمكن لهذه الحكومات الحدُّ من خياراتنا. يمكن لها جعْل هذا الراديو الصيني أقلَّ جاذبية، أو جعله يختفي تمامًا. هل تريد أن يشتريَ الناس السلع الأمريكية؟ إذن اجعل الواردات باهظةَ الثمن نسبيًّا أو يصعُب الحصول عليها. جرِّب أن تفرضَ تعريفةً على البضائع التي تدخل الدولة، أو أن تحدِّد حصةً للكميات المسموحِ بها.

في الواقع، نادرًا ما توجد تجارة حرة حقًّا. فمن ضباط الجمارك الذين يفحصون الحقائبَ بحثًا عن البضائع المُهَرَّبة إلى الرسوم الإضافية التي تُضاعِف سعر البضائع التي تدخل بوتان، ثمَّة عوائقُ أمام التجارة في كل مكان. وتأخذ هذه العوائق أشكالًا كثيرة.

في بعض الأحيان، تفرض البلدان رسومًا حتى على البضائع التي تغادر موانيها، مما يجعلها أكثرَ تكلفة بالنسبة إلى المشترين في الخارج. قد يبدو ذلك غريبًا؛ إذ عادةً ما تهدُف الجهود لتقويض اقتصاد الدولة المجاورة؛ والأغرب هو أن الصين هي التي فعلت ذلك. لكنها فعلته في وقتٍ من الأوقات. فقد كانت الأسعار الدولية المرتفعة للحبوب تغري المزارعين الصينيين للبيع في الخارج، مما أدَّى إلى حدوثِ نقص محلي. لترجيح الكِفة، فرضت الحكومة ضرائبَ على الصادرات بشكلٍ ملموس، وكان هذا بدافع الاهتمام بإطعام شعبها. فالصين لديها خُمس سكان العالم، ولكن ٧ في المائة فقط من أراضيها صالحة للزراعة.

وبالمثل، يمكن لحكومةٍ ما أن تضخَّ بعضَ الأموال لصناعةٍ متعثرة من خلال الدعم المباشر — كما حدَث مع بعض شركات الطيران الأوروبية — أو عن طريق خفضِ فاتورتها الضريبية. وبشكلٍ أكثرَ صراحة، يمكن لأي دولة أن تحاول التحكُّم في سعر صرف عملتها. فكلما انخفضت قيمةُ هذه العملة، أصبحت صادراتها أرخصَ ثمنًا وأكثرَ جاذبية. وهو أمرٌ اتُّهمت الصين بممارسته مرارًا وتكرارًا.

تُقَدِّم صناعة الصلب مثالًا رائعًا على كل هذا. يتصدَّر الصلب حاليًّا عناوينَ الصحف على الصعيد الدولي. فقد أدَّى صعود الصين السريع لتصبح مصنعًا للعالم — وقرارها بشَق طريقها للخروج من الأزمة المالية العالمية لعام ٢٠٠٨ — إلى ازدهار قطاع الإنشاءات، مما أدَّى إلى إقبالٍ كبير على الصلب. بحلول عام ٢٠١٥، كانت الصين تُنتج نصفَ إنتاج الصلب في العالم، ومعظمُه مخصَّص للاستخدام المحلي. دعمت الحكومة كلًّا من الطاقة المُستخدمة في صناعة الصلب وشركات إنتاج الصلب أنفسهم. وهذا يعني أن الصين يمكن أن تبيعَ سلعَها بأقل من تكلفةِ تصنيعها في أي مكان في العالم: وهي عملية يُطلَق عليها بشكلٍ غيرِ دقيق «الإغراق». لقد أدَّى الإغراق إلى انخفاض أسعار الصلب في جميع أنحاء العالم.

حاولت شركات إنتاج الصلب الكبرى البقاءَ في السوق، مع إبداء انزعاجها الشديد. وبعد ذلك، تراجع البناء في الصين، مما أدَّى إلى إغراق السوق بالصلب. فأقدمت الصين على تصدير الكثير من الصلب إلى الأسواق العالمية، وهو ما أدَّى إلى انخفاض سعره أكثرَ. في مكان آخرَ، اضطُرت شركات صناعة الصلب إلى الاستسلام وإغلاق المصانع وتقليص عدد الوظائف. في عام ٢٠١٦، كان إنتاج الصلب في الولايات المتحدة يقارب نصفَ المستوى المُسجَّل في عام ١٩٧٣.

امتدَّت الآثار المترتِّبة على انهيار صناعة الصلب إلى خارج حزامِ الصدأ. لكي تحافظ أيُّ دولة على أمنها، عليها أن تتأكَّد من قدرتها على الاعتماد على نفسِها في إنتاج الغذاء والماء والأسلحة، وربما حتى الصلب. وغالبًا ما يُطلَق على هذه الصناعات اسم «الصناعات الاستراتيجية». وحماية هذه الصناعات أمرٌ مهم. حتى إن بعض الدول تعتبر الصلب صناعةً استراتيجية.

ثمَّة طرقٌ عدة يُمكن للولايات المتحدة الأمريكية (أو أي دولة أخرى) من خلالها حماية صناعاتها، وفي الوقت نفسه تحقيق فوائدَ إضافية. تركِّز غالبية هذه الطرق على تحديد سعر البضائع الواردة أو كمياتها، أو إيجاد طريقة للتخطيط من أجل زيادة الكميات التي يمكن أن تصدرها إلى الخارج. عندما يحدث هذا، يصبح الاستيراد غيرَ جذاب ويتجه تجار التجزئة إلى الاستفادة من إنتاج بلدهم. قد يعيد المصنِّعون المتعثرون فتْح بعض المصانع، ما يؤدي إلى الحفاظ على الوظائف أو حتى خلقِ الجديد منها. تجلِب التعريفات أموالًا إضافية للحكومة. وهذه أخبارٌ جيدة لكلٍّ من ميزانيات الأسر في ولاية ميشيجان وميزانية الحكومة. لكنها ليست أخبارًا جيدة بالنسبة إلى شينزين.

سيكون ردُّ الفعل البديهي أن تفرض الصين تعريفاتٍ جمركية وحواجزَ تجارية على السلع الأمريكية الصُّنع. هذا النوع من الانتقام يتصاعد بسرعةٍ حتى يُصبح حربًا تجارية. والنتيجة؟ لن يكون المصنع في شينزين هو الخاسرَ الوحيد؛ إنما أيضًا «بوينج» و«فورد»؛ إذ ستتجه الصين إلى شراء الطائرات من شركة «إيرباص» الأوروبية والسيارات من شركة «فولكس فاجن». ومن الممكن أن تصبح الوظائفُ الأخرى والأعمال التجارية بأكملها في خطر.

عوضًا عن ذلك، قد يجد بعضُ العمال وظائفَهم محميةً بسياساتٍ تمنع الواردات. ومع ذلك، سيدفعون الثَّمن عندما ينفقون أجورَهم؛ لأن التعريفات تعني أن الواردات تصبح أكثرَ تكلفة. تدفع تكلفةُ المعيشة المرتفعة البنكَ المركزي إلى رفع أسعار الفائدة. لن يقتصر الأمر على عدم كفاية أموال المتسوقين، بل من المحتمل أن يكون لديهم خياراتٌ أقل؛ لأن بعض السلع المستورَدة ستختفي من السوق. يا لهذا من مستوَى معيشةٍ مرتفع!

إن عمليات الإنتاج معقَّدة. فيمكن أن تحتويَ طائرة «بوينج» «الأمريكية» على محرِّكات من المملكة المتحدة، ونُظمِ ملاحةٍ لاسلكية من كندا، وتيتانيوم من الصين. وفرضُ رسوم على الواردات الصينية من شأنه أن يؤثِّر سلبًا على «بوينج». يحتوي جهاز «آيفون» النموذجي على مكوِّنات من ١٢ دولة على الأقل، منها تايوان والصين وألمانيا. فإذا أقدمت واشنطن على تضييق الخناق على التجارة الحرة، فإن عملاء «أبل» ومستثمري الشركة في وادي السيليكون سيتأثَّرون سلبًا.

إلى أي مدًى سيفتح خفض الواردات القادمة من الصين البابَ أمام إعادة إنعاش قطاع التصنيع في أمريكا؟ لقد قلَّ التوظيف في قطاع التصنيع بالفعل قبل أن توقِّع الولايات المتحدة اتفاقياتِ التجارة الحرة مع المكسيك على سبيل المثال. ربما لعِبت التكنولوجيا دورًا كبيرًا في اندثار الوظائف الأمريكية، مثلما فعلت المصانع على بُعد آلاف الكيلومترات. إن فرْض رسوم جمركية قد لا يُحْدِث فرقًا كبيرًا. فالروبوتات قد وصلت بالفعل.

قد يكون تأثير الحرب التجارية هائلًا. ففي عام ٢٠١٦، ناقش الرئيس الأمريكي المُرتقب دونالد ترامب فرْضَ تعريفة جمركية بنسبة ٤٥ في المائة على البضائع الصينية. ووفقًا لتقديرات الاقتصاديين في بنوكٍ مثل «إتش إس بي سي» و«دايو كابيتال ماركتس»، فإن الصادرات إلى الولايات المتحدة قد تنخفض نتيجةً لذلك بنسبة تتراوح بين ٥٠ و٨٥ في المائة، أو بما يصل إلى ٤٢٠ مليار دولار. ويمكن أن يؤديَ ذلك إلى تقليص دخل الصين بنسبة تصل إلى ٥ في المائة، ما يهدِّد ملايين الوظائف.

كمثال صارخ على تأثير الحواجز التجارية، لنلقِ نظرةً على الكساد الكبير في أمريكا. في عشرينيات القرن الماضي، ازدهر الاقتصادُ ازدهارًا مذهلًا: زاد الإنفاق والإنتاج والاستثمار في سوق الأوراق المالية زيادةً كبيرةً جدًّا وبسرعة فائقة. لم يكن من الممكن لكلِّ هذا أن يدومَ طويلًا. فقد فقدت الأسهم في «وول ستريت» ثلثَ قيمتها في غضون أسبوع عندما حدث انهيارٌ لسوق الأسهم عام ١٩٢٩، مما أضرَّ بثقة المستهلك وبالثروة وبالإنفاق. أقدمت الشركات على تسريحِ الآلاف من العمال. ما كان من المتوقَّع أن يكون ركودًا قصيرًا نسبيًّا، وانعكاسًا في حظ الاقتصاد، تفاقَم عندما فشِلت السلطات في البداية في ضخِّ المزيد من الأموال (ما يُسمى «التيسير الكمي») لدعمِ النظام المالي. وبعد ذلك جاء قانون سموت-هاولي لعام ١٩٣٠. بموجب هذا القانون، رُفعت قيمةُ الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على ٨٩٠ سلعة زراعية مستوردة. كان هدف القانون هو دعمَ المزارعين الأمريكيين، الذين تعرَّضت أعمالهم للدمار بسبب سلسلة غيرِ مسبوقة من العواصف الترابية الشديدة والجفاف عبْر سهوب براري كندا والولايات المتحدة المعروفة باسم «قصعة الغبار». وبدلًا من ذلك، واجه الفقراء من الأمريكيين ارتفاعًا حادًّا في أسعار المواد الغذائية. وفي المقابل، فرضت البلدان الأخرى تعريفاتها الخاصة، وانخفضت التجارة العالمية بنسبة ٦٥ في المائة. إن النمط نفسَه من سياسات الحماية التي سمحت للولايات المتحدة ببناء صناعاتها قبل قرنٍ من الزمان كان يؤجِّج أزمةَ الكساد الكبير.

دعت الولايات المتحدة، التي لا تحمِل فحسب ويلاتِ هذه الحرب التجارية، ولكن أيضًا الحرب العالمية الثانية، حلفاءها في ساحة المعركة إلى مناقشة اتفاقيةٍ تهدُف إلى خفض التعريفات الجمركية على تجارة السلع. كان قد أُنشئ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للتو من أجل تنسيق السياسات المالية؛ كانت الفكرة أن يكون هناك كِيان مثلهما يُعنى بتسهيل التجارة.

في عام ١٩٤٧، تحت الاسم المُعقَّد «الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (الجات)»، نجحت المباحثاتُ في جنيف في البدء في تقليص هذه الحواجز. اتُّفق على نحو ٤٥ ألف تسهيل تجاري بين ٢٣ دولة، الأمر الذي كان له أثره على تجارةٍ بقيمة ١٠ مليارات دولار. وهي نتيجة ليست سيئة بعد سبعة أشهر من العمل.

لم يكن ذلك سوى البداية. فقد ظلَّت معظم الحواجز التجارية كما هي، وركَّزت التسهيلات التجارية التي أمكن التوصُّل إليها على تقليلِ التعريفات وليس إلغائها. استمرَّت المحادثات على مدى نصف قرن تقريبًا، بهدفِ وضعِ قواعدَ لتحرير التجارة العالمية. وفي عام ١٩٩٥، تمخَّضت الجات عن منظمة التجارة العالمية. وقد كان ذلك أكثرَ من مجرد تغيير في الشعار. فبينما كان الغرض من الجات هو إقرارَ قواعدَ تَحْكُم العلاقات التجارية، فإن منظمة التجارة العالمية هي الهيئة التي تدير وتشجِّع التجارةَ بحريةٍ أكثرَ باتباع القواعد الموضوعة بالفعل، والرقابة عليها. فهي تضمن اتباعَ هذه القواعد. إن العضوية في هذه المنظمة طواعيةٌ ويتزايد عدد الأعضاء باطراد. في عام ٢٠٠١، كان العضو رقم ١٤٣ هو الصين.

في الوقت الحالي، يتجاوز عدد أعضاء منظمة التجارة العالمية ١٦٠ عضوًا. تتصدر الدول الكبرى عناوينَ الأخبار، لكن أكثر من ثلاثة أرباع أعضاء منظمة التجارة العالمية هم من البلدان ذات الدخل المنخفض، الذين غالبًا ما يحاولون النهوضَ بصناعاتهم. يُسْمَح بعقدِ صفقات مع هذه الدول بشأن الحواجز التجارية. في واقع الأمر، أعطت منظمة التجارة العالمية الأولويةَ لمساعدة الدول النامية على التقدم.

يتمثَّل جزءٌ كبير من دور منظمة التجارة العالمية في تسوية النزاعات، وفي أكبرِ هيئة تشريعية وقضائية في العالم، تُتَّخذ القرارات بالإجماع. هل ينبغي السماح للصين بدعم إنتاج الأرز؟ هل من العدل استخدامُ الأموال الحكومية لإنقاذ صناعة السيارات الأمريكية بعد الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨؟ يجب على منظمة التجارة العالمية أن تفحصَ الأدلة من نوع «قال وقالت» كما لو كانت تفصِل في شجارٍ بين مجموعة من التلاميذ. وقد تلقَّت المنظمة، في العشرين سنة الأولى من عمرها، نحو ٥٠٠ شكوى.

يركِّز معظم هذه الشكاوى على عملية الإغراق، أي بيع البضائع بسعرٍ أقلَّ من تكلفة إنتاجها، كما هي الحال مع الصلب في الصين، وذلك عادةً بفضل خطة الإنقاذ الحكومية. فمن المستحيل منافسةُ سِلَعٍ لها هذه الأسعار المنخفضة، ولكن من ناحيةٍ أخرى أفاد الصلب الأرخص، على سبيل المثال، مشروعاتِ التصنيع والبناء الموجودة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، إذا اعتبرنا أن دولةً ما انتهكت القواعدَ، فقد تسمح منظمة التجارة العالمية بالرد. فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة رسومًا على بعضِ واردات الصلب الصينية الرخيصة.

بشكل عام، سمحت منظمة التجارة العالمية بحريةٍ أكبرَ في التجارة، وإن لم تكن حرةً تمامًا. وبسبب أن التجارة تعني نموَّ الاقتصادات عامةً بوتيرةٍ أسرع، فقد أدَّى ذلك إلى توفير المزيد من الوظائف وزيادة الدخل بالإضافة إلى مزيد من الخيارات والأسعار المنخفضة للمستهلكين.

•••

سيكون قرارُ لورين ميلر بشراء جهاز راديو من «وول مارت» بدايةَ رحلةٍ طويلة للدولار الخاص بها. تُقَدِّم هذه الرحلة لمحةً عن مدى ارتباط ازدهار الولايات المتحدة بشكلٍ وثيق بتجارتها مع بقية العالم. إن السعي وراء مستوًى معيشي أفضلَ يعني أن العملاء دائمًا يبحثون عن سلعٍ أرخص. ولمنع لورين ميلر من التوجُّه إلى «كمارت» أو «تارجت،» يتعيَّن على «وول مارت» التأكُّد من أن أسعارها تظل منخفضة، ويُفَضَّل أن تكون أقلَّ من أسعار منافسيها. وهذا يعني الحصولَ على مخزونٍ من أرخص مُوَرِّد متاح، أيًّا كان مكانه في العالم، وهذا يعني تدفُّق الدولارات إلى هذا المُورِّد.

كيف يمكن للصين، ودولٍ أخرى، أن تُضْعِف الولايات المتحدة بهذه الطريقة؟ لماذا تقل الأجور في شينزين بكثير عن الأجور في الولايات المتحدة؟ كيف يمكن ﻟ «وول مارت» أن تدفع ١٣ دولارًا في الساعة لمحاسبِ الزبائن في تكساس، بينما تدفع أقل من دولارين في الساعة لشخصٍ يؤدي الوظيفةَ نفسَها في متاجرها الصينية؟

يعود جزءٌ كبير من هذا الفارق في الأجور إلى التركيبة السكانية. فيوجد أكثرُ من ٩٠٠ مليون صيني في سن العمل؛ أي خمسة أضعاف عدد مَن هم في سن العمل في الولايات المتحدة. وهم، في المتوسط، أصغرُ سنًّا من نظرائهم الأمريكيين. فإذا كنت ترغب في توظيفِ عمال في مصنع أو متجر كبير في الصين، يمكنك اختيارُ مَن ترغب من العمال، ولن تضطر إلى دفع المبلغ نفسِه لجذبهم.

وبالنسبة إلى العمال الصينيين، فإن البديل عن قبول وظيفة المصنع هذه يُعَد أقلَّ جاذبية. تقليديًّا، تتقدم البلدان التي تغلُب عليها الزراعةُ نحو الصناعةِ ثم نحو اقتصادٍ يعتمد بشكلٍ أكبرَ على الخدمات. ولا تزال الصين في مرحلةٍ مبكرة نسبيًّا من هذه العملية. بالنسبة إلى العديد من أولئك الذين يصنعون ألعابًا ﻟ «وول مارت»، كان الاختيارُ في العقود القليلة الماضية بين الكدح في مزرعة أو التوجُّه إلى المغانمِ الأكثرِ ربحًا نسبيًّا في دلتا نهر اللؤلؤ. الأجور أعلى في خط التجميع نظرًا لأن العمل على خط التجميع يتطلب — من بين أسباب أخرى — مجموعةً أكبرَ من المهارات.

حتى الآن، يوجد اختلافٌ كبير في التصنيع بين الصين وأمريكا. فلا تزال الولايات المتحدة تتفوَّق في الصناعات العالية التقنية التي تتضمَّن تصميمًا متقدمًا: الطائرات بدلًا من المصابيح الكهربائية. وهذا يتطلب معدَّاتٍ ذاتَ تخصُّص أعلى وعمالًا مؤهلين تأهيلًا عاليًا، مما يؤدي إلى زيادةِ إنتاجية القوى العاملة. ويرجع ذلك — من بين أسباب أخرى — إلى أن الولايات المتحدة لها السبق؛ إذ اندلعت ثورتها الصناعية قبل ١٤٠ عامًا.

بدأت الصين التفكير في أن تصبح ورشةَ عمل العالَم قبل بضعة عقود فقط. فقد تمتَّعت الولايات المتحدة لقرن ونصف القرن ببيئةِ أعمال أكثرَ ملاءمة لخلق أفكارٍ جديدة وتحقيق التنافس بين الشركات. لكن، في الصين، لم تروِّج الثقافة الكونفوشيوسية وإرث الشيوعية لمفهوم الابتكار، ولم توفِّر إطارًا لتعزيز ثقافة ريادة الأعمال. فعلى سبيل المثال، لم يُسمَح بالملكية الخاصة للأراضي إلا في عام ١٩٧٨. من التبادل الحر للمعلومات إلى النظام الضريبي إلى حماية الملكية الفكرية، كانت الصين بطيئةً في تشجيع الأفكار الرائدة وحمايتها. وحتى وقتٍ قريب جدًّا، كان التركيز يَنصبُّ على اتباع خطط الأعمال المركزية بدلًا من رعاية الشركات الناشئة. تصدَّرت الولايات المتحدة الأمريكية قائمةَ أفضل الأماكن لريادة الأعمال في عام ٢٠١٥. في حين ظلت الصين في المرتبة رقم ٦١. غالبًا ما تؤدي الأفكار الرائدة إلى زيادة إنتاجية الموظفين، الذين يشغلون بعد ذلك وظائفَ ذاتَ أجور أعلى.

ولكن على الرغم من أن أمريكا قد تمنح أمثال ستيف جوبز حريةً أكبرَ لتطوير أفكارهم، فإنها أيضًا تفرض قيودًا أكثرَ بكثير عليهم في جانبٍ معيَّن، وهو حماية موظفيهم. فمن الصحة والسلامة المهنية إلى عدد ساعات العمل، تُعتبر القواعدُ أكثرَ صرامةً في أمريكا. أما في الصين، فربما لا يزال من الممكنِ غضُّ الطرْف عن عمالة الأطفال، أو تطبيق حدٍّ أدنى للأجور أو حتى مراعاة القانون البيئي. وتُعَد إصابات العمل أكثرَ شيوعًا مما هي عليه في الغرب.

كَثَّفت الشركات العالمية مثل «وول مارت» مراقبتَها على المُورِّدين الصينيين، ومن بين أسبابِ ذلك محاولةُ امتصاص غضب العملاء. ولكن مع وجود ٨٠ ألف مصنع يُزوِّد تجارَ التجزئة بالسلع على بُعد آلاف الأميال، فإن مراقبتها طَوال الوقت يمثل تحديًا. تزعم منظمات حقوق الإنسان أن الرؤساء المعدومي الضمير بارعون في التحايل على عمليات المراقبة.

يُمكن أن تكون العواقب مُرَوِّعة، ليس فقط للعاملين؛ فقد لقي ١٧٣ شخصًا مصرعَهم في انفجارين هائلين في تيانجين بعد تخزين موادَّ كيميائيةٍ خطرةٍ بشكل غير آمنٍ في مستودع قريب من المناطق السكنية؛ ولقي ١٢٠ شخصًا حتفهم في حريق نشِب في مصنع تجهيز الدواجن، بسبب الظروف القاسية ومخارج الحريق المغلقة. هذان ليسا سوى مثالين فقط من بين عشرات الحوادث الصناعية الكبرى التي وقعت في الصين خلال السنوات الأخيرة.

تعتبر أيضًا الحوادثُ الأصغر حجمًا التي تؤثِّر على سبلِ عيش العمال شائعة. فلا توجد ثقافةُ التعويض، ولا يَتوقَّع أحدٌ أن يتحمل صاحب العمل تكاليفَ الرعاية الطبية للعمال. ويُمكن تغييرُ العمال بسهولة. فبالنسبة إلى أصحاب العمل، يمكن أن تكون حياة العمال رخيصةً تمامًا مثل العمالة. يُمكن القول إن بعض العمال في الصين يدفعون ثمنًا باهظًا مقابل العولمة في حين أنهم غيرُ قادرين على جني ثمارها.

إن التَّرَقُّب المذهل الذي يصاحب الكشف عن كل إصدار جديد لهاتف «آيفون» يوضِّح كيف أصبحت هواتف «أبل» المحمولة رمزًا لنمط الحياة العالمي. قد تحدُث عمليات إطلاق هذه الهواتف في وادي السيليكون، لكن يجري تجميع الهواتف نفسها على بُعد آلاف الأميال، خاصةً في مدينة تشنجتشو الصينية، في مصانع شركة تُسمى «فوكسكون». في عام ٢٠١٧، وصل سعرُ الطرازِ الأحدث من الهاتف المحمول إلى ٩٩٩ دولارًا أمريكيًّا. وهو أجرُ شهر تقريبًا لشخصٍ ما على خط التجميع. أما المواطن الأمريكي العادي الذي يعيش في حي لورين ميلر فسيحتاج أقلَّ من نصف ذلك الوقت لكسبِ المال ودفعِ ثَمن الهاتف.

بالنسبة إلى الأشخاص العصريين في العالَم الأول، فإن سعر هاتف «آيفون» المرتفع يجعلهم مطمئنين. تشير بعض التقديرات إلى أن التكلفةَ الفعلية لتجميع كل هاتف تبلغ نحو ٣٠ دولارًا. حتى عند حساب تكاليف الأبحاث والتصميم لشركة «أبل»، نحن لا نحتاج إلى عقلٍ مثل عقلِ ستيف جوبز لمعرفةِ أن هامش الربح هائل. إن هاتف «آيفون» بعيدُ المنال عن موظفي «فوكسكون» الذين قاموا بتجميعه بشِق الأنفس. فهو، من باب أولى، لا يستهدِف عمال «فوكسكون». تعرِف «أبل» أن العملاء الميسورين في جميع أنحاء العالم على استعدادٍ لدفعِ مبالغَ كبيرةٍ مقابل الوجاهة المُتمثِّلة في حمل هواتفها، وهي تحدِّد أسعارها وفقًا لذلك.

تنتج «أبل» هواتفَ محمولةً أرخصَ قليلًا تستهدِف البلدانَ ذات الدخل المنخفض. في الصين، فشِل هذا النموذج في منافسة العلامات التجارية الأرخصِ ثمنًا. ومع ذلك، فإن كون الدولة واحدةً من الأسواق الأساسية لشركة «أبل» يكشف عن مدَى تَعَطُّش السوق لأفضل الطرازات وعن قدرةِ النُّخبة الثرية في الصين على دفعِ ثَمنها. لقد جلبت العولمة سمةً غربية مميزة إلى الصين ما بعد الشيوعية، وهي عدم المساواة في الدخل. فالهُوة بين الأغنى والأفقر في الصين هي على عمق الهوةِ نفسها في أمريكا.

وبشكلٍ عام، فإن تكلفة المعيشة في الصين ليست مرتفعةً كما في الولايات المتحدة. فأسعار السلع والخدمات، من الملبس إلى المسكن، التي ينفِق الناس بالفعل أموالَهم عليها أقلُّ، ما لم نتحدَّث عن الهواتف الذكية المستوردة، على سبيل المثال. (هذا في المتوسط: فبالطبع إذا عقَدنا مقارنةً بين المقاطعات المالية ذات البنايات الشاهقة الجذابة في شنغهاي، وضواحي إنديانابوليس فسنحصل على إجابةٍ مختلفة. لكن هذه لا تعدو كونها استثناءات). بشكل عام، لا تصل الأجور في الصين إلى المستوى الذي تصل إليه الأجور في الولايات المتحدة؛ لذلك يعيش العمال الصينيون في مستوًى معيشي أقلَّ من نظرائهم الأمريكيين. هذا بالإضافة إلى التلوُّث وانعدام الحريات الفردية وتدنِّي مستوَى جودة الحياة في الصين مقارنةً بأمريكا. ولكن هذا قد يتغيَّر.

لقد تحوَّلت الصين تحوُّلًا تامًّا في الخمسين سنة الأخيرة أو نحو ذلك. فقد انتشر التصنيع على نطاقٍ واسعٍ في منتصف القرن الماضي، تحت سيطرةٍ حكوميةٍ صارمة. بعد ذلك، في سبعينيات القرن الماضي، رُفعت القيودُ عن الكمية المسموح للشركات بإنتاجها وعمَّن يمكنه شراء سلعها. وصار بمقدور الشركات الاحتفاظُ بأرباحها وتحديد أجورها. والأهم من ذلك، فقد صار بإمكانها البيعُ خارج حدود دولتها. مُهِّد الطريق أمام الصين لتصبح مصنعَ العالم. في الفترة بين عامي ١٩٧٨ و٢٠١٢، نما الاقتصاد الصيني بنحو ١٠ في المائة سنويًّا، وفقًا للإحصاءات الرسمية. يسود الشكُّ حول مدى موثوقية هذه الأرقام لكنها تشير إلى نموٍّ يفوق عدةَ مرات المتوسط الأمريكي.

ارتفع دخلُ الأعداد الكبيرة الذين هاجروا من المناطق الريفية إلى المصانع. منذ عام ١٩٧٨، انتُشل أكثرُ من ٧٠٠ مليون شخص من براثن الفقر. وتوضِّح دراسةٌ أجراها استشاريون في شركة «ماكنزي آند كومباني» الازديادَ السريع لأفراد الطبقة الوسطى الصينية من خمسة ملايين فقط في عام ٢٠٠٠ إلى ٢٢٥ مليونًا، ومن المقرَّر أن يزدادوا أكثرَ. عادةً ما يتراوح دخل هذه الطبقات المتوسطة الجديدة بين ١١ ألف دولار و٤٣ ألف دولار، وأفرادها يمتلكون عقاراتٍ ويعيشون في المناطق الحضرية. وعلى الرغم من تشابه ذلك جدًّا مع الحُلم الأمريكي، فإنه مختلف تمامًا.

إلى أين تتَّجه الصين؟ مع التحرير والازدهار تأتي المطالبُ وكذلك التطلعات، على الرغم من قيود الحكومة الشيوعية. ربما كانت الأجور المنخفضة هي المفتاحَ لنجاح الصادرات الصينية، لكن العمال بدءوا في المقاومة. ومع تزايد وعيهم بقيمتهم، طالبوا بزيادةِ الأجور وتحسين ساعات العمل وظروفه. فلماذا لا يُستعاض ببساطةٍ عن هؤلاء العمال بعمالٍ أقلَّ إزعاجًا؟ لم يَعُد الأمر بهذه السهولة. يتعيَّن على أمثال موردي «فوكسكون» و«وول مارت» البحثُ الحثيث في المناطق الريفية عن عمالٍ لملء الوظائف الشاغرة.

من بين أسبابِ ذلك ما فعلته الحكومة. في عام ١٩٧٩، انتهجت الصين «سياسة الطفل الواحد» التي من المقرَّر أن تستمر مدة ٣٥ عامًا. نجح هذا في الحد من معدَّل المواليد المرتفع، ولكن كان له أيضًا عواقبُ مقلقة. فتفضيل الذكور أدَّى إلى وأدِ الإناث والإجهاض. وأصبح الآن عددُ الرجال يفوق عددَ النساء بأكثرَ من ٦٠ مليونًا. وزاد متوسط عمر السكان بسرعة: بحلول عام ٢٠٥٠، سيكون واحدٌ من كل أربعة صينيين فوق الخامسة والستين. في حقيقة الأمر، تتقلَّص القوة العاملة في الصين.

في حين أن العمال الجدد في المصنع عادةً ما كانوا في سن المراهقة أو أوائل العشرينيات، فقد يكونون الآن في الأربعينيات من العمر. ونظرًا لأن الصين قد لا تفي بقوانين العمل الدولية، فقد بدأ العمال الآن في تشكيل نظامهم الخاص للعلاقات الصناعية. كما أدَّى الوعي المتزايد بظروف العمل الشاق ومعارضتها من قِبل المتسوقين في جميع أنحاء العالم إلى زيادة الضغط على أرباب العمل.

نتيجةً لذلك، زادت المكاسب. ففي جميع أنحاء الصين، قفزت الأجور بنسبة ٩,٥ في المائة في عام ٢٠١٤، وهو أبطأ نموٍّ في الدخل المُكتسب منذ عام ٢٠٠٠. إنه ارتفاعٌ في الأجور لا يمكن لمعظم العمال في الغرب سوى أن يحلُموا به، على الرغم من أن رواتبهم أعلى بعدة مرات. في الآونة الأخيرة، كان هذا الاتجاه التصاعدي في الدخل المُكتسب متوافقًا تمامًا مع خطط الحكومة الصينية، والتي تُنشَر كل خمس سنوات. تريد الحكومة أن يقودَ المستهلكون المحليون النموَّ أكثرَ من قبل، وهذا لا يمكن أن يحدُث إلا إذا كانت لديهم المقدرة المالية.

لكن ارتفاع فاتورة الأجور يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، مما يضع المصانعَ الصينية تحت الضغط. فبدلًا من فرض رسوم إضافية على «وول مارت» والمخاطرة بخسارة العَقد، كانت الشركات تبذل قصارى جهدها لإبقاء التكاليف منخفضةً. وأحد الخيارات هو الاستثمار في تكنولوجيا أفضلَ لتسريع التصنيع وزيادة الإنتاجية. أو، بالنظر إلى أن الصين بلدٌ ضخم ومتنوِّع، فلماذا لا تنتقل إلى حيث تكون أجور العمال أرخصَ، بدلًا من البقاء في شينزين وانتظار مجيئهم إليك؟ فعلى سبيل المثال، تصنع شركة «فوكسكون» الآن هواتفها في مقاطعاتِ خنان وسيشوان وجوييانج؛ حيث تكون الأجور أقلَّ بكثير، والأراضي أرخصَّ ثمنًا، ويتوافر المزيد من الإعفاءات الضريبية التي يمكن الاستمتاعُ بها. ومع ذلك، هذا ليس سوى حلٍّ مؤقت. فيومًا ما سترتفع التكاليف في هذه المناطقِ أيضًا وستضطر المصانع عاجلًا أو آجلًا إلى رفع أسعارها.

كيف ستستجيب «وول مارت» التي لديها فاتورةُ أجورٍ أكبر؟ يمكن أن تتأثَّر أرباحها سلبًا وتستمر في الطلب. لكن هذا من شأنه أن يزعج مساهميها. أو يمكن أن ترفع الأسعارَ داخل المتجر وفقًا لذلك. قد يزعِج ذلك العملاءَ الذين قد يتوجَّهون بعدئذٍ إلى ممرات «تارجت» أو «كمارت» بدلًا من «وول مارت»، على الرغم من أن تجار التجزئة هؤلاء من المحتمل أن يواجهوا المشكلاتِ نفسَها.

أو يمكن أن تنقل «وول مارت» أعمالَها إلى مكان آخرَ. هل هذه فرصةٌ لشراء السلع الأمريكية؟ ربما، ولكن كما رأينا، سيكلِّف ذلك أضعافًا مضاعفة. ماذا عن التسوق في مكانٍ أبعدَ قليلًا؟ القوة الشرائية للورين ميلر متاحةٌ أمام أفضل — في هذه الحالة أرخص — مقدِّم عرْض. هنا تظهر أماكنُ أخرى مثل فيتنام والفلبين.

تبدو الأجور في الصين سخيَّة بالنسبة للأجور في فيتنام. إذ يبلغ الحدُّ الأدنى للأجور لعامل النسيج في فيتنام نحو ١٠٠ دولار شهريًّا. وهذا أقلُّ من خُمس المبلغ الذي يكسِبه العامل في الصين مقابل خياطة القميص نفسه.

أصبحت ملصقات «صُنع في فيتنام» شائعةً الآن في الملابس التي تبيعها أكبرُ الأسماء العالمية في الشوارع الرئيسية، من «إتش آند إم» إلى «يونيكلو،» ومُعَلَّقة في خزانةِ ملابسِ عائلةِ لورين ميلر. أنشأت «وول مارت» مكتبًا للتوريد في مدينة هو تشي منه في عام ٢٠١٣. تمثِّل صناعة الملابس والمنسوجات الآن ثلاثة دولارات من كل ٢٠ دولارًا يُحصَل عليها في الاقتصاد الفيتنامي، ويعمل بها قرابة ٣,٥ ملايين شخص.

تعثَّرت فيتنام بسبب حاجتها إلى استيرادِ معظم الخامات — من القماش إلى السحَّابات — التي تحتاجها شركاتها الصغيرة نسبيًّا وأنظمةُ التوزيع الأقل تطورًا. لكن الحكومة لديها خططٌ طموحة لتغيير ذلك، ومنها إنشاءُ مطار جديد وعقدُ اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي. تتطلع صناعةُ المنسوجات إلى مضاعفة عائدات الصادرات خلال العَقد المقبِل.

هذه الخطط حتمًا كانت ستتعثَّر عندما تراجعت الولايات المتحدة عن صفقةٍ تجارية تشمل فيتنام. تلك الصفقة — الشراكة العابرة للمحيط الهادي — كانت ستخفض التعريفاتِ الجمركيةَ التي تفرضها الولايات المتحدة حاليًّا على واردات المنسوجات من فيتنام (بنسبة تبلغ في المتوسط ١٧ في المائة). ومع ذلك، ستستمر البلاد في السيرِ على أثر الصين؛ إذ إن مصانعها بديلٌ جذاب بشكلٍ متزايد.

بمرور الوقت، سترتفع الأجورُ في فيتنام أيضًا. وماذا بعد؟ سوف يبحث تجارُ التجزئة في العالم عن المُورِّد التالي للسلع المنخفضة السعر. إن بنجلاديش وكمبوديا أرخصُ ثمنًا. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى اللوائح والإجراءات المناسبة، الذي أدَّى إلى كوارثَ مثل الانهيار المأساوي لمصنع «رانا بلازا» في دكا، وهو ما أدَّى إلى مقتلِ أكثرَ من ١١٠٠ شخص، يجعلهما أقلَّ جاذبية. ولكن هذا من الممكن أن يتغيَّر. وتوجد أيضًا ميانمار، حيث تستورد «إتش آند إم» الآن سترات. إنها صورة ديناميكية وتنافسية على نحوٍ متزايد. ينضم العديد من البلدان الأخرى إلى المعركة من أجل أن تحظى بدولار لورين ميلر.

وماذا سيحدث للصين؟ بعد أن احتلت مكانةً ثابتة ونالت سمعةً طيبة، يبدو أنه مُقَدَّر لها أن تظل الجهةَ المصنِّعة الرئيسية للسلع البسيطة لبعض الوقت. لكن تطوُّر علاماتها التجارية المحلية مثل شركة «شاومي» المُصَنِّعة للهواتف يثبت أن الصين تصنع مكانتها الخاصة في التصميم العالي التقنية وكذلك في الإنتاج. ولم يَعُد هذا الأمر حِكرًا على الولايات المتحدة. أدَّى الازدياد المفاجئ للطبقة الوسطى مع عادات التسوق الخاصة بها إلى خلقِ فرصٍ عديدة، وهو ما دفع، على سبيل المثال، نموَّ عملاقِ التجارة الإلكترونية «علي بابا»، الذي انطلق إلى المسرح العالمي بأكبرِ إطلاقٍ شهدته سوق الأسهم الأمريكية على الإطلاق. في عام ٢٠١٦، تفوَّقت شركة «علي بابا» على «وول مارت» بوصفها أكبرَ بائع تجزئة على هذا الكوكب، فقط بالاستعانة بممرات افتراضية بشكلٍ أساسي بدلًا من الممرات الحقيقية.

في الوقت الحالي، نعود إلى الطريقة التقليدية للبيع بالتجزئة في متاجر «وول مارت» تلك. فهناك، لا تزال الصين المصدرَ الرئيسي للعديد من البضائع ذات الأسعار المعقولة المكدَّسة عاليًا على الأرفف. يصل الدولار الذي أنفقته لورين ميلر عند أمين صندوق «وول مارت» في تكساس إلى شركةٍ لتصنيع الراديو على بُعد ٨٠٠٠ ميل. ومع ذلك فإن تلك الشركة لن تحتفظ بهذا الدولار فترة طويلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤