الفصل الثالث

العثور على الحب في دلتا النيجر

من الصين إلى نيجيريا

تقع مدينة كالابار الساحلية القديمة في الركن الجنوبي الشرقي من نيجيريا. وهو مكانٌ يتسم بالشاعرية والهدوء، ويضم حدائقَ نباتيةً ومتاحفَ ومحمياتٍ للحياة البرِّية، ولكن هذه الواجهة الجميلة تُخفي وراءها تاريخًا مظلمًا لمدينة كالابار. ففي الفترةِ بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، كانت المدينة ميناءً كبيرًا للرقيق؛ أي مركزًا رئيسيًّا للاتجار بالبشر. وقد وُثِّق هذا الفصل البَشِع من تاريخها في متحف كالابار للرقيق. وعلى الرغم من ذلك، أصبحت كالابار اليوم مركزًا للسياحة والمرح. وقد احتُفي بكرنفالها السنوي بوصفه «أكبر حفل شوارع في أفريقيا».

تقع مدينة كالابار على بُعد ٦٩٣٦ ميلًا من بكين، وهي المكان الذي تُرسِل إليه الصين بعضًا من دولاراتها. قد يبدو هذا خيارًا عابثًا بشكلٍ يثير التعجُّب. لكن بنك الشعب الصيني ليس هنا للاحتفال أو لأخذ حمَّام شمس: فكل دولار هو جزء من قرار استثماري جرى التخطيط له بدقة، وهو يَعِد بالقوة بالإضافة إلى الأموال في المقابل. هذا النوع من الاهتمام ليس جديدًا على مدينة كالابار. فيمكن حتى اعتبار الوجود الغربي في القرن الثامن عشر في غرب أفريقيا، وهو باكورة الاستعمار، قرارًا استثماريًّا يهدُف إلى الاستفادة من السلع النيجيرية. حينها فقط كانت البضاعة بشَرًا: العبيد. والآن، مرةً أخرى، تجد مدينة كالابار نفسَها لاعبًا مهمًّا في التجارة العالمية.

تقع المدينة على بُعد ٥٠٠ ميل من العاصمة المالية لنيجيريا، لاجوس، وهي أحدُ المستفيدين من الكميات الهائلة من الدولارات التي تتدفَّق من الصين إلى أفريقيا. في عام ٢٠١٤، وقَّعَت الحكومة النيجيرية عقدًا بقيمة ١٢ مليار دولار مع شركة الصين لإنشاءات السكك الحديدية لبناء خط سكة حديدية ساحلي يربط المدينتين، وقد استقبلت الحكومة النيجيرية جزءًا كبيرًا من قيمة العَقد في شكل قروض من الصين. وكان مصدر هذه الأموال هو خزائنَ البنوك مثل البنك الصناعي والتجاري الصيني، حيث أَودع صانع الراديو في شينزين الدولارَ الذي حصل عليه من لورين ميلر.

ليس الهدف من بناء خط السكة الحديدية الجديد هو مجردَ إمداد النُّخبة في لاجوس بطريق ساحلي مريح. سيعبُر الخط المكوَّن من ٢٢ محطة ١٠ ولايات من أصل ٣٦ ولاية في نيجيريا. وهذا يشمل، وهو الأهم، منطقةَ دلتا النيجر المُنتِجة للنفط. ضخَّت نيجيريا ما يصل إلى مليوني برميل من النفط يوميًّا في عام ٢٠١٦. وهي كمية هائلة، لكن لم تكن كافية لتحتل نيجيريا المرتبةَ الأولى بين أكبر ١٠ منتجين للنفط في ذلك العام، إلى جانب بلدانٍ مثل المملكة العربية السعودية أو حتى كندا. ومع ذلك، فإن المهم في الأمر ليس كمية النفط النيجيري. ما يهم هو الجودة؛ إذ يُعَدُّ هذا النفط من أجودِ أنواع النفط الموجود على كوكب الأرض، وهو مطلوب بشدة لاستخدامه في السيارات والطائرات. سيربط خط السكة الحديدية مدينة كالابار، العاصمة الاقتصادية لنيجيريا، بقلب منطقة إنتاج النفط. جاء ذلك في إطار خطة الحكومة الكبرى ذات الخمسة والعشرين عامًا، رؤية نيجيريا ٢٠٢٠، التي تهدُف إلى جعْل الدولة الواقعة في غرب أفريقيا واحدة من الدول صاحبة الاقتصادات الرئيسية في العالم. وتمدُّ الصين يدَ العون لها لتحقيق ذلك.

لماذا تختار الصين إنفاقَ دولارها على تمويل خط سكة حديدية موجودٍ على الجانب الآخَر من الكرة الأرضية؟ إنه مبلغ ضخم يُنفَق على مشروع بعيد عن الأراضي الصينية، وليس له من الفوائد الواضحة للشعب الصيني سوى القليل.

تسعى الصين إلى الانطلاق نحو العالمية. فقد ازداد حجم استثماراتها في الخارج بشكلٍ كبير على مدى العَقد الماضي. في عام ٢٠١٤، ولأول مرة، تجاوزت استثماراتها الخارجية الاستثمارات التي وصلت إلى شواطئها. إن الدولار الأمريكي من بين مليارات الدولارات الأخرى في نيجيريا، ومعظمها من الشركات المملوكة للدولة التي تختار إنفاقَ أموال الصين في الخارج.

الصين هي الآن واحدةٌ من بين ثلاثة مصادر رئيسية للاستثمار الخارجي. واهتماماتها متنوِّعة بالتأكيد. دعونا نضَع جانبًا السككَ الحديدية النيجيرية في الوقت الحالي. تسيطر الأوليغارشية الصينية في الوقت الحالي على أندية كرة القدم البريطانية مثل «أستون فيلا» و«وولفرهامبتون واندرارز» و«وست بروميتش ألبيون». تمتلك التكتلات الصينية شركاتِ صناعة أفلام مثل «جودزيلا». وموقع مقارنة الرحلات الجوية «سكاي سكانر» هو الآن في أيدي شركة صينية. وقد بيع «والدورف أستوريا»، أحدُ أكثر الفنادق شهرةً في نيويورك، للصينيين، ومن المقرَّر أن يُحوَّل جزءٌ منه إلى شققٍ فاخرة. وربما إذا رفعت الصين كأسًا ما في كرة القدم قد تثبت نفسَها بطلًا رائدًا على الساحة العالمية، لكن هذه مُقتنيات تذكارية، يكاد يكون هدفها التباهي.

والأهم بالنسبة إلى طموحات الصين الطويلة الأجل هي استثماراتها الاستراتيجية. فلدى الصين حصصٌ رئيسية في محطات الطاقة الأوروبية ومورِّدي المياه. حتى إنها أسهمت في تكاليف بناء دُور مسنين في أمريكا. تستخدم الصين قوَّتها على الصعيد العالمي لبسطِ سيطرتها وكسب المال من خلال الاستثمار في أساسيات الحياة. يعتمد استمرار المجتمع على الأساسيات التي تشمل الطاقة والمياه، كما أن أعداد كبار السن، لا سيما في الغرب الثري، تزداد بشكلٍ سريع.

هذه ليست سوى أمثلة قليلة على غزوات الصين الخارجية. فالصين تنفق دولاراتها في مجالاتٍ تتنوَّع بين العقارات والترفيه والسلع الاستهلاكية والبنية التحتية، وتُظهِر طموحاتها الواسعة والمتنوِّعة في مجالاتٍ أكبرَ من التصنيع المنخفض القيمة الذي كان السبب وراء بناء ثروتها.

وقد ترك هذا العديد من المراقبين في حالة من عدم الارتياح. تُسمى هذه الأنواع من المشروعات «الاستثمار الأجنبي المباشر». وهو يتضمَّن في الغالب شراء مبانٍ أو أشياء ملموسة، ولكنه قد يعني أيضًا شراءَ حصة كبيرة في شركة موجودة في بلدٍ آخر. إن السِّمة المشتركة بين جميع أنواع الاستثمار الأجنبي المباشر هي أنه يمنح المستثمرَ بعضَ السيطرة، سواء كان الاستثمار في مصنع أو سكة حديدية أو شركة.

بلغ المبلغ الذي أنفقته الصين على عمليات الاستحواذ في أوروبا في عام ٢٠١٦ أربعة أضعاف استثمارات أوروبا في الصين. ومع استمرار فورة الإنفاق في الصين، تعالت الأصوات المعارِضة لهذا النشاط، لأسبابٍ من أهمِّها أن الصين تحول دون سيطرة المصالح الأجنبية على صناعاتها الرئيسية. وهذا يترك أثرًا للملكية أُطلق عليه اسم طريق الحرير الجديد. تلقَّت أوروبا ضربةً بفعل الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨، وسدَّت الأموال التي استثمرتها الصين العديدَ من الفجوات.

وعلى مستوًى أقل جِدِّية نسبيًّا، عمَّت الدهشة عندما وَقَعَت إحدى العلامات التجارية الشهيرة في بريطانيا، وهي «ويتابيكس»، في أيدي الصينيين في عام ٢٠١٢. هل سيظل طعمه كما هو؟ ماذا ستفعل أمة اعتادت تناولَ كعك لحم الخنزير المشوي على الإفطار ببسكوت رقيق من حبوب القمح الكامل؟ ما حدَث هو أن «ويتابيكس» لم يلقَ استحسانَ المتسوقين الصينيين؛ لذا بيع لشركة أمريكية في عام ٢٠١٧. وعلى مستوًى أكثرَ جِدية، تدعَم الصين أيضًا محطاتِ طاقة جديدة في المملكة المتحدة، وتشتري حصصًا في شركات المياه التابعة لها. ثمَّة مخاوف من أن يؤديَ السماح للصين بالسيطرة على مثلِ هذه المناطق الحسَّاسة والحيوية إلى جعْل بلدٍ ما عرضةً للخطر، من الناحيتين المالية والاستراتيجية. وهناك مخاوفُ من أن المالكين الأجانب سيديرون الشركات — حتى في الصناعات الأقل أهمية — لجمع الأرباح للداعمين في الداخل، وخفض التكاليف على حساب العمال المحليين والعملاء. قد تفصِل آلافُ الأميال بين نيجيريا وبريطانيا، لكن يظل العديد من المخاوف الخاصَّة باستثمارات الصين على حالها في البلدين كما سنرى.

تغيَّرت الخريطة العالمية للمِلكية والسيطرة تغيُّرًا جذريًّا على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية، وتوجد الآن تدفُّقات من الاستثمار الأجنبي المباشر في كل مكان. حتى منتصف القرن العشرين، كانت غالبيةُ البلدان التي لديها أموالٌ للإنفاق والاستثمار في الخارج — وأبرزها بناةُ إمبراطوريات سابقة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا — تقع في الغرب. لقد كانت قادرةً على الاستفادة — ماليًّا ومن ناحية القوة الاقتصادية — من التجارة مع مناطق سيادتها الغنية بالسلع. تَبِع تفكُّك تلك الإمبراطوريات زيادةٌ في الحاجة إلى النفط للنقل والصناعة وارتفاع سعر هذه السلعة الحيوية. أدَّى هذا إلى ظهور أباطرة النفط في الشرق الأوسط، بأموالهم المؤثِّرة إلى حدٍّ كبير. تميل البلدان الغنية بالنفط مثل المملكة العربية السعودية والنرويج إلى أن تكون غارقةً في الفائض النقدي — «صناديق الثروة السيادية» — وهي عادةً ما تجول بناظريها حول العالَم بحثًا عن مكانٍ لجني الثمار والتأثير.

وهناك الأموال التي نضعها جميعًا — نحن العمالَ الذين نتقدم في السن سريعًا — جانبًا من أجل تقاعدنا: صناديق التقاعد. يحتاج الصندوق إلى الازدياد، لكننا على الأرجح لا نخطِّط للاستفادة من هذه الأموال لعدة سنوات قادمة؛ لذلك قد يهتمُّ مديرو الصناديق بتمويلِ مشروعاتٍ طويلة الأجل، ربما تكون في النهاية مشروعاتٍ أكثرَ فائدة (وأمانًا)، بدلًا من مجرد البحث عن الربح السريع. يميل أكبرُ أرباب العمل في المناطق الأكثر ثراءً إلى امتلاك القدْرِ الأكبر من هذه الأموال. تتصدر القائمةَ صناديقُ الموظفين العامة في اليابان والولايات المتحدة. زوَّد مدرسون كنديون — أو بالأحرى: مدخراتهم التقاعدية — حقولَ النفط البحرية في نيجيريا بكبلات إرساء عن طريق شركةٍ يمتلكونها؛ نظرًا إلى وفرة صناديق التقاعد وإلى طموحاتهم. إن ثروات نيجيريا مرتبطةٌ حرفيًّا بثرواتهم. ومع ذلك، فإن أعضاء صندوق التقاعد هذا غير مهتمين بالسيطرة؛ فالأهم بالنسبة إليهم هو العائد الجيد.

إذن، أين سينتهي المطاف بكل أموال الاستثمار الأجنبي المباشر هذه؟ لقد تضمَّنت الوجهات الأكثر شعبية للمستثمرين العالميين في عام ٢٠١٦ البلدانَ التي بها أكبرُ المتسوقين في العالم، وأولئك الذين يُشبِعون شهيَّتهم للإنفاق. احتلت الولايات المتحدة المركزَ الأول، في حين احتلَّت الصين المركزَ الثالث، فيما احتلَّت المملكة المتحدة المركزَ الذي بينهما. (لماذا المملكة المتحدة، ذلك البلد الصغير؟ كان هذا بسبب سلسلةٍ من عمليات الاستحواذ على الشركات الكبرى، ومنها إنشاءُ أكبرِ شركة منتجة للبيرة في العالم.) للتأكيد على مدى رغبة المستثمرين في استثمار دولاراتهم في مشروع لا شك في نجاحه، تقع الأسواق الغنية بالسلع الأساسية مثل هولندا والبرازيل وأستراليا أيضًا في المراكز العشرة الأولى. وعلى الرغم من كلِّ ما لديها من نفط، فإن نيجيريا لا تقع في أيٍّ من المراكز العُليا.

•••

يتطلب تحويلُ كل دولار بعضَ التنازلات عن الربح والسلطة في المقابل. تؤدي التحرُّكات الدولية المتزايدة للأموال إلى تحولات في الملكية والسيطرة الاقتصادية. فيُعَد غزو الصين الاقتصادي لنيجيريا أكثرَ من مجرد جزءٍ من سعيها لاحتواء سوق إنشاءات السكك الحديدية العالمية. إنه جزءٌ أساسي من خطة إنشاء طريق الحرير الجديد في الصين، عن طريق إقامة البنى التحتية لتعزيز الروابط التجارية على كلا الجانبين. تأمُل الصين جنْيَ الثمار — المالية وغير المالية — في مجالاتٍ أكثرَ من السكك الحديدية.

وصفَ رئيس شركة بناء السكك الحديدية الصينية خطَّ السكك الحديدية النيجيري بأنه «مشروع مفيد للطرفين». وذكر أن هذا الخط سيُمكِّن الصينَ من تصدير معدَّات بقيمة ٤ مليارات دولار — من الصلب إلى القطارات — إلى نيجيريا. يوفِّر بناءُ خط السكة الحديدية عقودًا جاهزةً وعملًا للشركات الصينية. إنها خطوة تالية ضمن خطة الصين لإدخال تكنولوجيا ومهارة وقيمة أعلى إلى صناعاتها التحويلية. كل هذا جزءٌ من محاولتها تولِّي مشروعاتٍ مماثلة في جميع أنحاء العالم.

ولكن فيما يتعلَّق بالمصالح الصينية في نيجيريا، فإن جميع الطرق — أو، في هذه الحالة، السكك الحديدية — تؤدي إلى النفط والمواد الخام. وليس الصين وحدَها؛ فما يقرُب من نصف الأموال المُستثْمَرة في أفريقيا من بلدانٍ أخرى تحتاج إلى السلع الأوليَّة، مثل الألماس والكوبالت، ومن المعلوم أن الكوبالت عنصرٌ أساسي يدخُل في صناعة الهواتف الذكية.

بالنسبة إلى البنك الصيني، فإن الاستثمار في نيجيريا يتعلَّق بالسلطة والنفوذ. ومع ذلك، لم تكن الصين بحاجة إلى التصدي لمنافسة الشركات المتعددة الجنسيات أو البنوك أو الحكومات الثرية الأخرى لإنجازِ مشاريع البنية التحتية النيجيرية التي استثمرت فيها دولاراتها.

يأتي معظم الاستثمار الأجنبي المباشر المتجه إلى نيجيريا من شركات النفط، منها العملاق الأنجلو هولندي «شل» وشركة «إكسون موبيل» الأمريكية. على الرغم من ثروة نيجيريا من الموارد الطبيعية والإمكانيات، لا يرغب العديد من المستثمرين الآخرين في دعم مشروعات الدولة. فبالنسبة إليهم، فإن المخاطر التي ينطوي عليها الأمر كبيرةٌ للغاية؛ فقد توصَّلوا إلى أنهم على الأرجح لن يتمكنوا من استعادة استثماراتهم الأوليَّة، فضلًا عن جنْي أي فوائد إضافية.

إذا كنت بلدًا غنيًّا أو شركة خاصة، فإن اختيارَ مكانٍ لاستثمار أموالك لا يختلف كثيرًا عن المواعدة عبْر الإنترنت. فثمَّة الكثير من الخيارات الموجودة. عندما يتعلَّق الأمر بالمواعدة، فأنت تُصنِّف في الأساس المرشحين بناءً على عددٍ من العوامل: المظهر، وروح الدُّعابة، والمعتقدات المُشْترَكة، وما إذا كان الشخص يتأكَّد من وضع غطاء أنبوب معجون الأسنان. وبعد ذلك تُرتب مدى أهمية كلٍّ من هذه السمات بالنسبة إليك. قد يبدو هذا أشبهَ بإجراء طبي دقيق، ولكن انتبه لهذه العوامل وقد تحظى بالشريك المناسب.

والأمر لا يختلف بالنسبة إلى المستثمرين المحتملين. فكلُّ ما يريدونه هم أيضًا هو علاقةٌ مُجزية ومتناغمة (على أملِ أن تكون علاقة دائمة) مع شريك جذَّاب ومتوافق مقابل دولارهم. لكن يتعيَّن عليهم موازنة العوامل قبل التخلُّص من الشركاء غير المناسبين والوصول إلى الشريك المناسب. فالمسألة هنا اختيار بين مخاطرة ومكافأة.

هل يبحثون عن علاقةٍ بعيدة المدى، لبناء قاعدةٍ بعيدة عن الوطن كما تفعل الصين، أو قاعدةٍ أقل خطورة بالقرب من الوطن؟ ما مدى جاذبية المشروع؟ هل هو رفيع المستوى؟ هل يَعِد بعائدٍ مادي كبير ويوفِّر أيضًا الأعمالَ والوظائف لمن في الوطن، كما تفعل السكك الحديدية الساحلية؟ هل هو محفوف بالمخاطر؟ ما هو المناخ السياسي؟ هل يمكن أن تأتِمن الحكومة على أموالك أم إنها ستغيِّر القواعد أو اللوائح بطريقةٍ تضر باستثمارك؟ ما مدى سطوع الاحتمالات، في مقابل عدم اليقين؟ هل البلد عُرضة للاضطرابات؟ هذه ليست سوى عدد قليل من العوامل التي يتعيَّن على المستثمرين أخْذُها في الاعتبار.

بسطت المملكة المتحدة سيطرتَها على نيجيريا في القرن التاسع عشر نظرًا لأن نيجيريا بلدٌ غني بالموارد، وبسبب رغبة المملكة المتحدة نفسِها في احتكار أسواق نيجيريا لبيع المنتجات المُصَنَّعة، وكان هذا هو السببَ نفسَه الذي دفع بلدانًا أوروبية أخرى إلى احتلال بلدانٍ أفريقية. إنه أيضًا السببُ نفسه الذي يجعل من نيجيريا بلدًا جذَّابًا في نظرِ الصين الآن؛ وهذا باستثناء أن الزيت، الذي يُعَدُّ عاملَ الجذب الرئيسي، كان من نوعٍ مختلف في القرن التاسع عشر؛ إذ كان زيت النخيل. صُنِعَ الصابون وقتَها من زيت النخيل؛ ومن ثَم شُغِّلت الآلات في أوروبا للسادة الاستعماريين. لكنَّ الغرب فشِلوا — أثناء سعيهم لنقل أكبر عدد ممكن من المواد الخام مثل الكاكاو والزيت والبن خارج أفريقيا — في تطوير مجالاتٍ أخرى أو مشاركة المعرفة الصناعية. فقد بُنِيَت الطرق والسكك الحديدية حيث كانت تخدم احتياجات سادةَ الاقتصاد فقط. واحتكرت قطاعاتٌ وأيادٍ قليلة الثروةَ والسلطة. وعندما انهارت الإمبراطوريات المختلفة في منتصف القرن العشرين، أدَّى النزاع على السلطة إلى صراعٍ عرقي وإقليمي واسعِ المدى.

ونتيجةً لذلك، أصبحت نيجيريا معروفةً بعدم الاستقرار السياسي وإساءة استخدام السلطة والفساد والاضطرابات المدنية كما هي معروفة بحقولها النفطية. ومن المفارقات، أن هذا هو ما جعل الكثير من دول الغرب تحذف نيجيريا من قائمة الشركاء المحتملين، وجعل الصين على أُهبةِ الاستعداد. إن حجمها واحتياطاتها النفطية تجعل من نيجيريا المثالَ الأكثر تطرفًا، لكن الإرثَ الاستعماري نفسَه ينطبق على العديد من البلدان الأخرى في المنطقة؛ إذ يُنظر أحيانًا إلى المخاطرة، بدرجةٍ أقل، على أنها تفوق المكافأة. استبدل زيت النخيل بالكاكاو أو القهوة أو الشاي، ويمكن أن ترويَ غانا وكينيا قصصًا مماثلة. إن واقع وتصوُّر الاستقرار السياسي والمخاوف الأمنية يقلِّل من جاذبية الموارد الطبيعية.

كان النصف الثاني من القرن العشرين في نيجيريا مليئًا بالديكتاتوريات العسكرية. وعاد الحكم الديمقراطي عام ١٩٩٩ لكن ذلك لم يكن يعني نهايةَ حالة عدم الاستقرار والاضطرابات. كما أنه لم يُسكِت مزاعمَ الفساد واختلاس الأموال، حتى على أعلى المستويات الرسمية. كما كان الحال في الحِقبة الاستعمارية، فإن القوة والثروة المستمدَّتين من حقول النفط هي حكرٌ على عددٍ قليل من النُّخبة النيجيرية والشركات الأجنبية. وهي تشمل «شل» و«إكسون موبيل» و«إيني» و«شيفرون» و«توتال»: عمالقة الوقود في الغرب: وعد الرئيس محمد بخاري، الذي انتُخب في عام ٢٠١٥، بالقضاء على الفساد والمضي قُدمًا في الإصلاحات الاقتصادية، ومع ذلك لا يزال الشك يراود الكثيرين.

يدَّعي البنك الدولي أن أربعة من كل خمسة دولارات يجنيها قِطاع الطاقة تذهب لصالح ١ في المائة فقط من سكان نيجيريا. وقد أثار الاستياء والفقر والسَّخط ليس فقط المسلَّحين في جنوب البلاد، بل أثار التوتُّر أيضًا بين الجماعات العِرقية. واندلعت الاضطرابات إلى أعمالِ عنف وهجمات على أنابيبِ ومنشآتِ النفط. دفع التهديد بالاختطاف شركاتِ النفط الأجنبيةَ إلى إنفاق مبالغَ طائلة على الأمن: يتم إسكان الموظفين في المعسكرات المُحَصَّنة، والمباني السكنية، وحتى المجمعات التي يموِّلها أصحابُ العمل. يمكن أن تضمَّ هذه المجتمعاتُ المسوَّرة كلَّ شيء من الفنادق إلى المدارس والمطاعم. وهي تكون في بعض الأحيان ضواحٍ بأكملها، منعزلة تمامًا عن الحياة المحلية ومليئة بأحدث التجهيزات وسيارات الدفع الرُّباعي ومكيفات الهواء وما إلى ذلك. إنه نمطُ حياةٍ بعيد كلَّ البعد ليس فقط عن التجربة النيجيرية النموذجية، بل أيضًا عن أنماط الحياة في وطن هؤلاء الموظفين. إنها أصداء الاستعمار، ولكن التركيز على الأمن أكثرُ من الرفاهية. ويجب دفْع أجورٍ أعلى لهؤلاء الموظَّفين — عِلاوة مخاطرة — حتى يقبلوا المخاطرَ التي تشكِّلها الحياة في نيجيريا على سلامتهم. فحتى الذهاب إلى المطار يحتاج إلى موكبٍ مُسَلَّح. فدائمًا ما يكون هؤلاء الموظفون مستهدفين.

لا تزال نيجيريا دولة غير متكافئة ومتباينة للغاية. فما يقرُب من نصف سكانها مسلمون، يعيش معظمهم في الشمال. ومن المرجَّح أن يوجَد غير المسلمين، ومعظمهم من المسيحيين، في المنطقة الجنوبية الغنية بالنفط. ومع ذلك، هذا لا يعني بالضرورة أن النيجيريين الذين يعيشون هناك يتمتَّعون بتلك المزايا. فقد تصاعدت التوترات العِرقية والدينية واستحالت إلى توترات سياسية مع انتقال السلطة بين المعسكرين.

وفي الشمال، تواجِه الحكومة تهديدًا متزايدًا من جماعة بوكو حرام المُتطرِّفة، التي احتلَّت عناوينَ الصحف الدولية بعد اختطافها أكثرَ من ٢٠٠ تلميذة من شيبوك في عام ٢٠١٤. وقد أثار سعي الجماعة الجهادية لإقامة الخلافة أزمةً إنسانية، مما أدَّى إلى نزوح ما يقرُب من مليوني شخص. وفي الوقت نفسه، تعطَّل إنتاج النفط بشدة في الجنوب بسبب هجمات المتمردين على خطوط الأنابيب. حتى مع إمداد الصين لنيجيريا بالمعدات العسكرية وتدريب قواتها المُسَلَّحة، فإن الحكومة النيجيرية تواجه تحدياتٍ هائلة.

إن النظام الضريبي المُعَقَّد وأسعار النفط المُتَقَلِّبة من شأنهما أن يجعلا من نيجيريا وسطًا مُرهِقًا ومكلِّفًا حتى لأكثر شركات الطاقة ثراءً. فمن الممكن أن تتحوَّل العلاقة الطويلة المدى بسرعة إلى علاقةٍ مُتَطَلِّبة. ومع ذلك، فإن الصين مستعدة لتَحَمُّل مشكلات نيجيريا إذا كان ذلك يعني فرْض نفوذها على مصدرٍ يمدُّها بالذهب الأسود بشكلٍ منتظم. فقد أصبحت الصين أكبرَ مُسْتهلِك للنفط في العالم بسبب النهضة التي تشهدها الأمة وازدهار مصانعها. لذلك، يجب عليها ضمانُ حصولها على النفط الذي تحتاجه حتى تواصل مصانعها العمل. فمن المستحيل لدولة أن تكون قطبًا رئيسيًّا في التصنيع من دون أن يتسنَّى لها الحصول الفوري على النفط. عادةً ما يكون لدى المنافسين الكبار للصين — الولايات المتحدة، وحتى أجزاء من أوروبا — نفطُهم الخاص، أو على الأقل إمدادات جاهزة من الحلفاء القدامى. ويتعيَّن على الصين، إلى حدٍّ كبير، أن تجد حليفها الخاص؛ لذلك تغضُّ الطرف عن مشكلات نيجيريا. إنه أمرٌ يشبه بشكلٍ ما مواعدةَ شاب سيئ الخُلُق لأنه يمتلك سيارة فارهة.

ثمَّة سبب وراء وصول الصين بسهولة إلى مخازن النفط في نيجيريا. فقد كانت البنية التحتية النفطية في نيجيريا مُتعثِّرة. فمصافيها الأربع لا ترقى إلى المستوى المطلوب. يمكن لنيجيريا ضخُّ النفط الخام اللزِج من باطن الأرض لكنها لا تستطيع معالجته. ومن المفارقات أنه يتعيَّن عليها استيرادُ أكثر من ٨٠ في المائة من النفط المكرَّر الذي يحتاج إليه شعبها وشركاتها، بتكلفةٍ أعلى بكثير. يأتي هنا دَور الصين التي وعدت نيجيريا بمبلغ ٨٠ مليار دولار لإصلاح وبناء مصافي التكرير وخطوط الأنابيب ومنشآتٍ أخرى. بعد بعض التودد اللطيف، ليس من المستغرَب أن تتسابق الشركات الصينية إلى الحصول على حق استغلال احتياطيات النفط الأكثر ربحًا في نيجيريا. وهذا لا يعني فحسب أن الصين يمكنها بسهولة الحصولُ على نوع النفط الذي تحتاج إليه، بل يعني أيضًا إمكانيةَ الاستفادة من بيعه للآخرين. هذا النوع من الاستثمار يغري بدوره نيجيريا لمواصلة تطوير قِطاعها النفطي. إنها تسعى جاهدةً إلى ضخِّ المزيد من النفط، الذي تنتظر الصين شراءه. في عام ٢٠١٥، اشترت الصين مليون برميل من نيجيريا، وهو جزء صغير من إنتاجها. لكن الصين تقول إنها تريد المزيدَ، بل أكثر بكثير.

في المستقبل، يمكن لنيجيريا أن تتوقَّع الحصولَ على المزيد من الأموال من المصدر نفسِه. قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، عندما كشف النقابَ عن أحدث شريحة من الاستثمار: «بالمقارنة مع حجم بلدينا وسكانِهما وسوقهما، لا يزال تعاوننا ينطوي على فرص كبيرة يتعيَّن استغلالها.» من المرجَّح أن تُستغَل احتياطيات الصين للحصول على المزيد من الدولارات.

ومع ذلك، يمكن لنيجيريا أن تجدَ معجبها يتوق للتغيير. فقد تراجع الطلب على النفط في الصين بسبب تباطؤ النمو. وقد دفعها ذلك إلى البحثِ عن بدائل، وهناك شائعات مُفادها أن الصين ربما تركِّز على أمريكا اللاتينية بعد ذلك. جاء الإعلان عن قيام الصين ببناء خطِّ سكةٍ حديديةٍ فائقِ السرعة في نيجيريا بعد أن رفضت المكسيك اتفاقًا مماثلًا. يتميَّز الاستثمار الأجنبي المباشر بالتقلُّب؛ قد يجد الدولار التالي نفسَه يلاحق نموذجًا جذابًا آخرَ في قارةٍ مختلفة تمامًا.

•••

قد لا تكون نيجيريا من بين اللاعبين الرئيسيين على الصعيد العالمي لكنها ثاني أكبر نقطة جذب للأموال الأجنبية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بعد أنجولا. فهي تجتذب الكثيرَ من الدولارات ويظهر اسمها في العناوين الرئيسية بسبب نفطها، وهي تسعى بِجِد للحصول على هذا الاستثمار، كما يفعل العديد من جيرانها. تتسلل إثيوبيا أيضًا إلى صفوف البلدان التي تجذب الاستثمارَ الخارجي. قد لا يكون لديها نفط، ولكن لديها سلعٌ أوَّلية أخرى، وهي دولة ذات كثافة سكانية تجعلها مكانًا جذابًا، مع تدفُّق الأموال الواردة من قطاعاتٍ مثل الخدمات المالية والاتصالات والتكنولوجيا. ومع ذلك، ثمة فكرة شائعة: إن المشروعات تَعِد بالمال للبعض، لكنها لا تضمن خلْق فرص عمل جماعية. يتعيَّن على جميع البلدان النامية التغلُّب على بعضٍ من العقبات نفسِها التي تواجهها نيجيريا: طمأنة الأجانب ليس فقط بشأن الآفاق المستقبلية للنمو، ولكن أيضًا بشأن سهولة ممارسة الأعمال التجارية والاستقرار السياسي. تحاول إثيوبيا، على وجهِ الخصوص، جذْب الأموال لتمويل مشروع طموح، وهو بناء سد على النيل. هذا النوع من مشروعات البنية التحتية الكبرى ليس مجرد مصدر الرزق الرئيسي للمستثمرين الأجانب؛ لكنه الطريق إلى الازدهار بالنسبة إلى البلدان الأكثر فقرًا.

وقد أشاد وزير النقل بخط سكة حديد كالابار باعتباره «ممرًّا رئيسيًّا» لاستراتيجية نيجيريا. وذلك ليس على سبيل المبالغة. فلا فائدة من امتلاك القدرة على إنتاجِ ما يريد العالَم شراءه إذا كانت عملية تصنيعه أو استخراجه مُكلفة ومُعقدة، ولا يمكن للعملاء الحصول عليه بالسعر المناسب. وهذا يعني امتلاكَ البنية التحتية المناسبة، مثل المدارس والطاقة وأنظمة الاتصالات وخطوط النقل.

لطالما احتاج النقل في نيجيريا بشدة إلى عمليات التحسين. في بداية الألفية، كان لدى البلاد خطان رئيسيان فقط للسكك الحديدية، كلاهما يسير بسرعةٍ منخفضة ويعاني درجاتٍ مختلفة من الإهمال. تحمَّلت الطرق في نيجيريا العبء الأكبر من صناعة الشحن مما أدَّى إلى خسائرَ فادحة. وقد أدَّت حالة الازدحام والاضطراب إلى تباطؤ حركة المرور إلى حدٍّ كبير. ستسير القطارات على خط السكة الحديدية الجديد بسرعة ٨٠ ميلًا في الساعة، مما يقلل بمقدار النصف زمنَ الرحلة الحالية الذي يستغرق ١٢ ساعة بين كالابار ولاجوس. إلى جانب ربط المركزين التجاريين، ستنقل السكك الحديدية، حسب زعم الحكومة النيجيرية، ٥٠ مليون مسافر سنويًّا. ووفقًا للشركاء الصينيين، سيخلق تشييده ٢٠٠ ألف فرصة عمل. وهذا أمرٌ مُرحَّب به بشكلٍ كبير في بلدٍ لم يواكب معدَّل خلق فرص العمل فيه معدَّل النمو السكاني الهائل، لا سيما في المدن. أما بالنسبة إلى نيجيريا، فلكل دولار تحصُل عليه أهمية. قد يبدو الدولار مبلغًا تافهًا، ولكن في بلدٍ يعيش فيه ستة من كل ١٠ أشخاص على أقلَّ من دولار في اليوم، فإن لكل دولار أهمية.

لا يزال أمام البلاد شوطٌ طويل لتقطعه من أجل الاستفادة من إمكاناتها الاقتصادية. لقد سيطر النفط على الأحداث — وأرباح نيجيريا — مدةً طويلة جدًّا. ربما كانت الدولة ذات يوم مصدرًا رئيسيًّا للكاكاو وزيت النخيل، لكن التركيز على النفط يعني أن هذه الصناعات تُركت لتندثر. لا يزال يعمل اثنان من كل ثلاثة نيجيريين في الزراعة. قد تكون نيجيريا مُصدِّرًا رئيسيًّا للمواد الغذائية، ولكن مع القليل من الاهتمام بهذا القطاع، لم يكن هناك تقدُّم في الإنتاجية، وهي الكمية التي يمكن لكل عامل إنتاجُها في ساعة أو يوم. على الرغم من مواردها الطبيعية، يتعيَّن على نيجيريا استيرادُ المواد الغذائية لإطعام سكانها الذين تتزايد أعدادهم. يمكن أن تساعد خطوط السكك الحديدية المُحَسَّنة إلى حد كبير. ولكن حتى لو كان لديها المال — وهو ما تفتقر إليه — فهي لا تمتلك الخبرةَ لبناء سكك حديدية عالية السرعة.

إن المردود لنيجيريا من استثمار هذه الدولارات واضح. فقد يساعد أيضًا في حدوث تَحَسُّن طفيف في توزيع ثروة قطاع النفط. في الوقت الحاضر، يعيش ٦٠ في المائة من سكان نيجيريا البالغ عددهم ١٨٠ مليون نسمة في فقرٍ بأقلَّ من دولار واحد في اليوم. وقد تساعد الإجراءات التي تتخذها الصين في وصول المزيد من الأموال إليهم، وهذا يعود بالفائدة على كلا الطرفين: تهدُف الصين إلى استخدام نفوذها المتنامي في نيجيريا كي تُسهِم في توجيه هذه الأموال إلى شركات التصنيع التابعة لها.

ينتشر قماش أنقرة المُلوَّن التقليدي بطول سوق لاجوس الرئيسي. تُكلِّف الياردة منه نحو دولار. بالنسبة إلى المواد التي تُستخدم بشكل متكرر بكميات كبيرة لأزياء الزفاف أو الجنازات، فإن التكلفة المنخفضة تُعَد ميزة. ولكن التصميم هو ما يُحتمل أن يكون تقليديًّا. قد يكون النسيج نفسُه قد صُنع في الصين، وهو بديلٌ أقلُّ جودة للأقمشة المغزولة منزليًّا، ولكن بأسعار معقولة. وقد أدَّى إلى خسارة المنتجين المحليين لأعمالهم. وينطبق الأمر نفسُه على المنتجات الأخرى: على سبيل المثال، الآلات المُسْتَخدمة في المصانع؛ إذ تحل الصين بشكلٍ متزايد محلَّ الموردين الأوروبيين. وكما هي الحال في أمريكا، فإن الصين تبذل قصارى جهدها لتقويض المنتجين المحليين والمنافسين الدوليين، وهو ما يصب في صالح المتسوقين.

يَعِد الدولار الذي تمتلكه الصين بالوصول إلى سوق النفط والمستهلكين في نيجيريا والتأثير فيهما، وتوفير العمل لمُصنعيها. لكن هل يستطيع شراء قلوب النيجيريين أيضًا؟ لتلبية احتياجاتها، تدرك الصين أنه يمكنك كسبُ قلوب الناس بسهولةٍ أكبرَ من خلال كونك لطيفًا؛ وأن كرم الضيافة والتودُّد اللطيف يتفوق على العداء. وتأمُل أن يمنح خط السكة الحديدية أمَّتها — ومنتجاتها — علاقاتٍ عامة جيدة مع النيجيريين العاديين. كانت الصين تتطلع إلى تكثيف «قوَّتها الناعمة» مع نيجيريا. هذا النوع من القوة هو السلاح الأمثل في السياسة الخارجية لأي دولة تريد التقدم على الساحة العالمية في القرن الحادي والعشرين.

حرصت الصين على إقامة علاقات دبلوماسية وسياسية مع الدولة الواقعة في غرب أفريقيا منذ عام ١٩٧١. وفي الوقت الذي تراجع فيه الغرب خلال الديكتاتوريات العسكرية لنيجيريا، عززت الصين علاقاتها معها. تشتهر الصين بسجلها المُتباين في مجال حقوق الإنسان، مما يمنحها ميزةً نسبية؛ إذ إنها لا تنزعج من سلوك الدول الأخرى. كما يفعل الأصدقاء الحميمون فقط، فقد قدَّمت الصين للحكومة النيجيرية المساعدةَ العسكرية أثناء التمرد في دلتا النيجر. وفي المقابل، قدَّمت نيجيريا دعمها الواضح الموثق لمحاولات الصين بالحقوق التي تطالب بها فيما يخص تايوان.

على نطاقٍ أصغر، ولكن لا يزال حيويًّا، أقامت البلدان روابطَ ثقافية وتعليمية، من مهرجانات الأفلام المتبادلة إلى التبادل الطلابي، بنجاح متفاوت. كانت العلاقة بين هيئة التلفزيون النيجيري وشركة التكنولوجيا الصينية «ستار تايمز» مثمرةً بقدرٍ أكبر، مما أدَّى إلى خدمة التلفزيون الرقمي المدفوع. فمقابل ما يزيد قليلًا عن دولار شهريًّا، يمكن للنيجيريين مشاهدة عشرات القنوات، ويرجع الفضل في ذلك إلى الصين.

وفي عام ٢٠١٤، وجد استطلاعٌ أجْرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أن نيجيريا كانت البلد الأكثر ميلًا إلى الصين؛ فقد انصرفت عنها بلدانٌ أخرى بسبب سجلات حقوق الإنسان في الصين والتصورات عن أفعالها المتعطشة للسلطة، بل حتى التنمُّر. إن نيجيريا هي أكبرُ عميل خارجي لشركات الإنشاءات الصينية. وهذا توقيت مفيد لتلك الشركات؛ إذ ينخفض الطلب في الصين. يبدو أن العلاقة بين الصين ونيجيريا راسخة؛ إنه اتحاد مبني على المنفعة المالية المتبادلة والنفوذ المتزايد. إذا كانت هذه قصة خيالية تقليدية، فقد يكون هذا هو الوقت الذي يبدأ فيه الطرفان العيشَ في سعادة دائمة.

لكن كل الحكايات الخيالية لها جوانبها المظلمة، ولم يكن هذا الاتحاد بين البلدين بعيدًا كلَّ البعد عن السلاسة في الماضي فحسب، بل من المرجَّح أن يظل كذلك. هل هناك جانب سلبي لنيجيريا؟ إن ضخَّ السيولة التي تشتد الحاجة إليها في بِنيتها التحتية المتداعية أو غير الموجودة يعزِّز مستويات المعيشة، على الأقل بالنسبة إلى البعض. هل يهمُّ أن تكون الصين، وليست الحكومة النيجيرية، هي التي تنتِج النقد؟ نعم يهم. ففي المقابل، تتخلى نيجيريا عن بعض القوة والتأثير على مستقبلها.

يضع التركيز على النفط نيجيريا تحت ضغطٍ هائل لاستخراجه وتكريره بأي ثَمن. يحدث هذا على حساب تنمية قطاعاتها الزراعية أو التصنيعية المُهمَلة بالفعل. في عالَم مثالي، من شأن هذا النوع من الاستثمار أن يزود نيجيريا بالتكنولوجيا لتمكين قوةٍ عاملة أكثرَ دراية وإنتاجية. قد يحدُث ذلك، إذا جرى تقاسم الثروة بالتساوي بدلًا من مجرد احتكار الثروة من قِبَل مَن هم في القمة. ولكن عندما تبني الصين السكك الحديدية، يمكن النظر إلى استثمارها على أنه تسهيل لشركات التكنولوجيا الفائقة والعاملين فيها، وليس كفرصة لتنمية مهارات العمال المحليين.

مع اشتداد التوترات في شمال نيجيريا، يواجه الملايين احتمالَ المجاعة. لا تستطيع الدولة إطعامَ نفسها، والأموال الصينية لا تتيح مسارًا مستدامًا نحو الازدهار. يستمر الإرث الاستعماري. وفي الوقت نفسه، هناك المئات من الانسكابات النفطية في دلتا النيجر كل عام، مما يتسبِّب في كوارث بيئية.

قد تقول حكومتا البلدين إن علاقتهما هي علاقة مزدهرة قائمة على الاعتماد المتبادَل المفيد. ففي هذه العلاقة، تساعد قوة عظمى مزدهرة دولةً أخرى على تحقيق أهدافها من خلال سدِّ الفجوة المتعلقة بالأفكار. بينما يصف البعض الآخر هذه العلاقةَ بأنها قائمة على الاستغلال والإمبريالية الصينية. يقول لاميدو سانوسي، المحافظ السابق للبنك المركزي النيجيري، إن هذه العلاقة تُذكِّرنا بالاستعمار القديم؛ فالصين تأخذ الموادَّ الخام من نيجيريا وتبيع لها بضائعَ مُصنَّعة، غير مكترثة بإثراء نيجيريا بالمهارات أو توفير الوظائف للنيجيريين. ويخالف وانج يي، وزيرُ الخارجية الصيني هذا الرأيَ بقوله: «لن نسلك على الإطلاق المسارَ القديم للمستعمرين الغربيين.»

•••

على الرغم من انخفاضه إلى ٣,١ مليارات دولار في عام ٢٠١٥، مع انخفاض أسعار النفط بشكل طفيف، فقد تجاوز الاستثمار الأجنبي المباشر المبلغَ الذي تحصُل عليه نيجيريا من المساعدات الخارجية. ومع ذلك، لن يتدفق الكثيرُ من دولاراتنا لتحسين مستويات المعيشة للجزء الأكبر من السكان. من المحتمل أن يكون تأثير الدولار في نيجيريا قضيةً شائكة.

لكن هل ينبغي لنيجيريا الاعتمادُ على الاستثمار الصيني لتحسين حياة النيجيريين؟ أليس هذا من اختصاص الحكومة النيجيرية؟ ربما، ولكن من إخفاقات الحوكمة وسوء الإدارة الاقتصادية إلى نقص الأموال بسبب انخفاض أسعار النفط، يتضح أن الحكومة النيجيرية قد فشِلت منذ مدة طويلة في تحقيق ذلك. هل ينبغي أن يكون للمساعدات دورٌ في سد هذه الفجوة؟

إن الرفاهة تتعلَّق بأمورٍ أكثرَ بكثير من متوسط مستوى الدخل في بلدٍ ما. وينطبق هذا أكثرَ ما ينطبق على نيجيريا، حيث يُقدَّر دخْل عدد قليل من الناس بمئات الملايين بينما يكسِب الغالبية بضع مئات من الدولارات فقط في السنة. بجمع كل هذه الدخول، وتقسيمها على عدد الأشخاص، سنحصُل على فكرة مضلِّلة عن مدى رفاهة المواطن النيجيري «العادي». لتقييم التنمية، أو الرفاهة، يتناول البنك الدولي عددًا من العوامل الأخرى أيضًا، بدءًا من متوسط العمر المتوقَّع إلى وفرة الماء النظيف ومحو الأمية. يمكن للنيجيريين المولودين اليوم أن يتوقعوا أن يعيشوا حتى سن ٥٣ عامًا. أقلُّ من أربعة من كل خمسة يتمُّون تعليمهم الابتدائي. وأكثر من ربع السكان — أكثر من ٤٠ مليون شخص — لا يمكنهم الحصولُ على مياه نظيفة. يمكن لبلدٍ غني بالموارد الطبيعية وعددٍ هائل من السكان في سن الشباب أن يحقق نتائجَ أفضلَ بكثير.

لم يُنشأ البنك الدولي من أجل تسجيل الإحصائيات فحسب، وإنما أيضًا من أجل تعزيز مستقبل أفضل لبلدان مثل نيجيريا. فهدف البنك الدولي الأساسي هو «القضاء على الفقر المدقع في غضون جيل وتعزيز الرخاء المشترك». إنها أهداف طموحة. ويعني ذلك بمصطلحاتٍ نقدية أنها تحتاج إلى الكثير من السيولة، على شكل قروض ومنح لدعم المشروعات الطويلة الأجل بالإضافة إلى تقديم الدعم الطارئ. إن المنظمات غير الحكومية الدولية الأخرى التي تقوم بعملٍ مماثل تشمل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الأفريقي.

ثم هناك أموالٌ تأتي من خلال الجمعيات الخيرية الدولية — من أكبر الهيئات المتعددة الجنسيات، مثل «أوكسفام» والصليب الأحمر، إلى الهيئات الأصغر التي تدعَم المبادرات المحلية — والمبالغ التي تعهَّدت بها حكومات البلدان الغنية، ومنها المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. وقد زوَّدت كلُّ هذه المصادر معًا نيجيريا بقرابة ٢,٥ مليار دولار في عام ٢٠١٥.

عندما يُطلب من أحدهم تذكُّر المساعدات الموجَّهة إلى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فإن الذين تسمح أعمارهم بتَذَكُّر ثمانينيات القرن الماضي سيسترجعون على الفور الصورَ المروِّعة لإثيوبيا التي دمَّرتها المجاعة والتي أدَّت إلى سلسلة عالمية من الأغاني والحفلات الموسيقية تحت شعار «لايف آيد». وتؤكد إقامة حفل موسيقي آخرَ لزيادة الفائدة للاحتفال بالذكرى السنوية العشرين ﻟ «لايف آيد» تحت شعار «اجعل الفقر من أمور الماضي» على حقيقة أن العديد من المشكلات الإنسانية ظلَّت دون حلٍّ في عام ٢٠٠٥. في نيجيريا، استمرت الحاجة إلى المساعدات الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. وفي مطلع عام ٢٠١٧، كانت الأمم المتحدة بحاجة إلى توفير الغذاء لما يقرُب من ٣ ملايين شخص في شمال شرق البلاد، حيث تسبَّب الإهمالُ والجفاف والفقر المزمن وبوكو حرام في ظهور خطر المجاعة. سلَّط الوضع الضوءَ على الحاجة إلى تزويد المجتمعات الزراعية بالبذور والأدوات والمساعدة على استبدال الموارد المدمَّرة في الوقت المناسب لموسم الزراعة، للحيلولة دون التلف المستمر للمحاصيل والجوع الدائم.

خُصِّصت معظم المساعدات التي تصل إلى شواطئ نيجيريا لمشروعات البنية التحتية الطويلة الأجل، مما يعزِّز المناطقَ الأقل عصرية أو المربِحة التي لا تصل إليها الاستثمارات الأجنبية. من خلال سدِّ الثغرات، تكمُن الفكرة في تمكين نيجيريا من جمع الأدوات التي تحتاج إليها للاستفادة المثلى من إمكاناتها في الاقتصاد العالمي.

ما حجمُ الفارق الذي أحدثته المساعدات المقدمة لنيجيريا؟ على الرغم من ثروتها النفطية، لا تزال البلاد تعاني فيما يتعلَّق بمستويات تحسين رفاهية سكانها وازدهارهم. ومع ذلك، كانت هناك بعض الانتصارات، منها وقف انتشار فيروس نقص المناعة البشرية. موَّل البنك الدولي جزئيًّا نظامَ النقل العام الذي تشتد الحاجة إليه في لاجوس التي يتجاوز عدد سكانها ٢٠ مليون نسمة، وهذا الرقم في ازدياد، وهي أكبر مدينة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. في حين أن المشروع أثبت أنه مفيدٌ بشكل كبير حتى للقطاعات الأشد فقرًا من السكان، فقد اعتبره البنك الدولي «مُرضيًا إلى حدٍّ ما» فقط، لأسباب من أهمها أن التكلفة قد زادت بأكثرَ من الضِّعْف بحلول الوقت الذي اكتمل فيه المشروع.

يُسارع النقاد إلى الإشارة إلى إمكانية إساءة استخدام أموال المساعدات بسهولة على أرض الواقع. بادئ ذي بدء، أحيانًا ما يجري التخطيط لهذه المشروعات من دون عناية. فقد تبرَّعت المملكة المتحدة بما يزيد على ١٠٠ مليون دولار للمساعدة في خصخصة منظومة الطاقة في نيجيريا؛ وشملت النتائج ارتفاعَ الأسعار وفقدان الوظائف وانقطاع التيار الكهربائي. وقد تُقدَّم المساعدات أو القروض أيضًا بشروط: أوامر لإصلاح الاقتصاد بطرقٍ قد لا تبدو في مصلحة الشعب. غالبًا ما تكون هذه المشروطية هي الطريقة التي تتَّبعها هيئات مثل صندوق النقد الدولي، وقد تعرَّضت للانتقاد باعتبارها طريقةً حسنة النية وفي الوقت نفسه مضلِّلة وتتَّبع نهجَ «آلية واحدة تناسب الجميع» يمكن أن يكون ضارًّا في حد ذاته.

واتهم آخرون الجهات المانحة للمساعدات بأنها تعطي البلدانَ الفقيرة من دون مقابل، مما يخلق ثقافة التبعية. ويقول هؤلاء إن عرْض المال السهل يعني أن الحكومة ليس لديها الحافز لإجراء ما يلزم من إصلاحات، وتوجيه دخلها من الصادرات بكفاءة، والتأكد من أن الاقتصاد مهيأ لتوفير احتياجات الشعب.

مقابل قصة نجاح، ثمة قصة أخرى تدُل على أن المساعدة لا تعوِّض النقص الذي يخلِّفه الاستثمار. كلُّ ما هنالك أنها تؤكِّد عدمَ وجود مخطَّط للبلدان الفقيرة من أجل التغلب على الفقر ورفع مستويات المعيشة لتصبح مثل جيرانها الأغنى. في الواقع، قد تواجه البلدان التي «تنعم» أكثر من غيرها بالموارد مثل النفط صعوبةً أكبرَ مع وفرة هذه الموارد، كما سنرى لاحقًا مع العراق وروسيا.

•••

لماذا تستثمر الصين، أو أي بلد آخر، في نيجيريا بالدولار؟ لماذا، في صفقة بين الصين ونيجيريا، نشير إلى عملة تنتمي إلى بلدٍ على الجانب الآخر من الكوكب؟ لماذا لم يُستخدم الرنمينبي، العملة الصينية، أو النيرة، العملة النيجيرية؟ إن الدولار، بكل بساطة، هو اللغة المالية العالمية المشتركة، العملة القياسية لتعاملات التجارة والاستثمار. فمن السهل فهْم قيمته؛ وهو سهلُ الاستخدام ويمكن الوثوق به. إنه الجار المُخْلِص الذي يتوسَّط في علاقة غير مستقرة بين شريكين، على الرغم من روعتها في نواحٍ كثيرة.

تدفع نيجيريا ثَمن الغالبية العظمى من وارداتها — من الغذاء إلى المنسوجات — بالدولار. وهي ليست البلد الوحيد الذي يفعل ذلك: فكلُّ بلد تقريبًا يجد أن قيمة تجارته بالدولار تتجاوز حجم تجارته مع أمريكا. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن السلع مُسَعَّرة بالدولار. لكنَّ دولارًا واحدًا من كل خمسة تنفقها نيجيريا على واردات السلع يذهب إلى الصين، مما يجعلها أكبرَ شريك تجاري للبلد الواقع في غرب أفريقيا، حتى قبل أخذ الاستثمار الصيني في السكك الحديدية وخطوط الأنابيب في الاعتبار. قد يُدفع ثمن النفط بالدولار، ولكن ليس من الضروري أن ينطبِق ذلك على جميع السلع. أليس من المعقول أكثر استبعاد الدولار والتعامل بالعملات المحلية؟

ثمة تحركاتٌ اتُّخذت في هذا المسار في عام ٢٠١٥. وذلك عندما اتفقت البنوك المركزية في كلا البلدين على إتاحة الأموال بكلٍّ من عملتيهما لدفع ثَمن الواردات من البلد الآخر. ويُعرف ذلك باسم مقايضة العملات، وهو نوع الصفقة التي تعقدها الصين بشكلٍ متكرر في السنوات الأخيرة؛ إذ إنها تحاول تأكيدَ قوة عملتها الخاصة. أو، كما تدَّعي الصين، تسهيل التجارة وتحقيق الاستقرار في الأسواق.

إذن، لم يَعُد للدولار دورٌ الآن؟ ليس بهذه السرعة. فهذه خطوة مهمة، ولكنها صغيرة، فلا يزال يُدفع ثَمنُ معظم السلع التي تصل إلى نيجيريا من بائعين دوليين بالدولار. وفي الوقت نفسِه، ومع كل هذه الاستثمارات والمساعدات، تبقى بضعة مليارات من الدولارات تتدفَّق إلى نيجيريا كل عام. يحب البنك المركزي النيجيري أن يحكِم قبضته على الدولار، كما تفعل الصين؛ لأنه في نيجيريا، سواء أشاءت الحكومة ذلك أم أبت، فإن الدولار هو الملك.

مع تدفُّق النفط الباهظ الثمن من نيجيريا منذ سنوات، تدفَّقت كمياتٌ وفيرة من الدولارات. إذا أراد الناس النفطَ النيجيري، فإنهم بحاجة إلى عملة نيجيريا لشرائه. أدَّى هذا إلى إبقاء سعر النيرة — سعر الصرف مقابل الدولار — مرتفعًا. ولكن بعد ذلك انخفض سعر النفط، وبحلول أوائل عام ٢٠١٦، انخفض إلى أدنى مستوًى له منذ ١١ عامًا. والنفط الأرخص يعني دولاراتٍ أقلَّ وطلبًا أقلَّ على النيرة، مما يعني انخفاضًا في سعر الصرف. ستكون قيمة النيرة أقل، وإذا أراد النيجيريون شراء دولارات، فستكلفهم الكثير.

الشيء الواضح — والأسهل — الذي يتعيَّن على الحكومة فِعله هو ترْك قيمة العملة تنخفض. كان هذا ما تفعله البلدان الأخرى المُنْتِجة للنفط. اضطرت الحكومة إلى ترك قيمة العملة تنخفض إلى حدٍّ ما: فقدت النيرة أكثرَ من ٢٥ في المائة من قيمتها في الأشهر الستة حتى فبراير ٢٠١٥، وفي ذلك الوقت كانت قيمة الدولار الواحد تساوي ١٩٨ نيرة، مقارنةً بنحو ١٦٠ نيرة في السابق. لكن المثير للجدل هو أن الحكومة النيجيرية قاومت انخفاض قيمة العملة أكثر من ذلك. كان منطقها هو أن النيرة الأضعف تعني دولةً أضعف. وقالت إن سعر الصرف المنخفض يرفع سعر الواردات (وهذا صحيح)، مما يزيد من تكلفة المعيشة، خاصةً في نيجيريا، التي تعتمد بشدة على السلع المستوردة من الخارج.

وبدلًا من ذلك، قرَّرت الحكومة أن الوقت قد حان لإقناع النيجيريين بشراء السلع النيجيرية، وزيادة الإنتاج في المجالات التي قلَّ فيها. إنها فلسفة تتكرَّر في جميع أنحاء العالم، وهو ردُّ فعل عنيف متزايد ضد تأثير العولمة؛ إذ تُدافع البلدان عن مصالحها الخاصة. لكن نيجيريا اتخذت نهجًا غير عادي إلى حدٍّ ما. فقد أعدَّ البنك المركزي قائمة تضم ٤١ سلعة — من الأرز إلى الطائرات الخاصة — لن تستوردها نيجيريا بالدولار بعد الآن.

وفي الصين، ظل البنك المركزي مُحكِمًا قبضته على الدولار الأمريكي لأنه أراد التحكم في سعر صرفه، لمنع قيمته من الارتفاع بسرعة كبيرة. لكن نظيرتها النيجيرية فعلت ذلك ببساطة لحماية احتياطاتها من الدولار الذي يتضاءل تضاؤلًا متسارعًا عندما شهدت دخول دولاراتٍ أقلَّ إلى البلاد. إن الدولار هو العملة التي تحتاج إليها نيجيريا لإنجاز الجزء الأساسي من نشاطاتها التجارية عالميًّا. كان نقص الدولارات في الواقع يحمل نيجيريا على الاستجابة.

ولكن، كما كان ممكنًا للصين أن تُحَذِّر نيجيريا، فإن إحكام الدولة قبضتها على الدولارات يمكن أن يأتيَ بنتائجَ عكسية: فهو يخفِّض قيمةَ عملة هذه الدولة. وقد أدَّى قرار الحكومة هذا إلى تفاقم مشكلة النيرة.

في نيجيريا، يتعامل أولئك الذين تعتمد سبل معيشتهم على الشراء من الخارج مع فواتير مُسَعَّرة بالدولار. لذلك كانوا عازمين على الحصول على دولارات من أجل عمليات الشراء هذه. فظهرت السوق السوداء. ولجئوا إلى الأسواق الخفية وما يماثلها عبْر الإنترنت. ومع نقص المعروض من الدولارات، أصبح الحصول عليها يُكلِّف نيراتٍ أكثر وأكثر، نحو ٤٠٠ نيرة في عام ٢٠١٦، وهو بعيد كلَّ البُعد عن «سعر الصرف الرسمي» الذي وضعه البنك المركزي، الذي يقترب من ٣٠٠.

في الوقت نفسه، أدَّت القيود المفروضة على الواردات إلى نقص المواد الخام للمصانع، ووجود أرفف خالية بالمتاجر. فارتفعت الأسعار، مع توجيه اللوم إلى «مشكلة الدولار». أوقفت بعض شركات الطيران، مثل «يونايتد» الأمريكية و«إيبريا» الإسبانية، الرحلات الجوية إلى نيجيريا؛ إذ لم يتمكنوا من تحويل الأموال التي كانوا يكسبونها من مبيعات التذاكر في البلاد إلى دولارات.

كانت الحكومة النيجيرية تقبض على دولاراتها بقوة. ولم يكن ذلك مجردَ استنزاف لموارد النيجيريين؛ فقد كان أيضًا يؤثِّر سلبًا على المصداقية الاقتصادية للحكومة، فأدى إلى زيادة عمليات التهريب والفساد. وقد أدَّى هذا إلى إحجام المستثمرين الأجانب الذين كانوا قد تراجعوا بالفعل بسبب انخفاض أسعار النفط. وكانت محاولة السيطرة على العملاق الأخضر تكلِّف البلد الكثير، ومن ثَم، تُبقي الدولارات بعيدة.

ساعد الاتفاق مع الصينيين على السماح باستبدال الرينمينبي بالنيرة في التخفيف من حدة الأزمة، بشكلٍ طفيف. لكن الفوضى تصاعدت، وفي يونيو ٢٠١٦، كان من المفترض أن الحكومة قد أوقفت القيود. انخفض سعر الصرف على الفور انخفاضًا حادًّا ليقترب من سعر السوق السوداء، مما عكس على نحوٍ أفضلَ الطلبَ على المعروض الشحيح من الدولارات. ومن المفارقات أن الإصرار على تعزيز قيمة النيرة جعل من المرجَّح أن يكون الدولار هو العملة الموثوق فيها لنيجيريا مدةً أطول. فقوَّته باقية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن أزمة العملة نفسها لم تُقنع النيجيريين بشراء السلع النيجيرية. يمكن وصف أرز الجولوف بأنه الطبق الوطني لنيجيريا (على الرغم من أن البعض يزعم أن منشأه كان في السنغال)؛ فلا يكتمل أيُّ حفلٍ من دونه. يتكون هذا الطبق من صلصة الطماطم والفلفل والبصل وبالطبع الأرز. هذه هي شعبية الأرز، حيث يُستبدَل بأكياسه هدايا عيد الميلاد. في أي سوق، من المحتمل ألَّا يكون معظم الأرز المعروض للبيع نيجيريًّا. فنحو نصف الكمية البالغة ٥ ملايين طن التي تُستهلَك في نيجيريا تأتي من الخارج. هذا على الرغم من مضاعفة سعر الحقيبة المستوردة، بسبب الرسوم الجمركية بنسبة ٦٠ في المائة وتأثير أزمة النيرة.

واجهت صناعة الأرز في نيجيريا صعوباتٍ لتلبية احتياجات البلاد. فهي محاطة بالعقبات، مثل نقص البنية التحتية، من الطرق إلى المستودعات وأنظمة التوزيع. غالبًا ما تكون المزارع صغيرة نسبيًّا، ويفتقر المزارعون إلى الحصول على القروض الرخيصة اللازمة للتوسُّع وشراء الآلات وزيادة غلة المحاصيل، الأمر الذي أدَّى بدوره إلى عرقلة الإنتاج. جعل الرئيس بوهاري إنتاجَ الأرز أولوية، وادَّعى أنه بحلول نهاية عام ٢٠١٧، ستكون البلاد مكتفية ذاتيًّا. لقد كان هذا هدفًا طموحًا للغاية.

في الوقت الحالي، إذن، من المحتمل أن يكون كيس الأرز هذا قد أتى من الهند أو تايلاند. سيدفع العملاء في نيجيريا بالنيرة، لكن بائع التجزئة الذي يشترون منه الأرز سيكون قد اشتراه بالجملة من مُوَرِّد أجنبي ودفع ثمنه بالدولار.

على أي حال، لم تستطِع حتى أزمة العملة إقناع النيجيريين بشراء الأرز النيجيري. فقد كان يُنظَر إلى الأرز الأجنبي إلى حد كبير على أنه أفضل جودة، بل وأنه صحي أكثر من المحاصيل المحلية. إن النيجيريين الميسوري الحال على استعداد لدفع ثَمن الأرز المستورد، حتى لو ارتفعت التكلفة. بينما ركَّزت لورين ميلر أثناء تجولها في «وول مارت» على الأسعار، يرى أحد العملاء النيجيريين عمليةَ الشراء هذه دليلًا على المكانة.

لا يزال الأرز المستورد جزءًا من الحياة اليومية في لاجوس. يستطيع المستوردون إقناعَ البنك المركزي بالتخلي عن القليل من دولاراته لإنفاقها على مكوِّنات الطبق الوطني لنيجيريا. فيُرسل البنك المركزي النيجيري هذا الدولار إلى وسيطٍ يمثِّل مزارعي الأرز على بُعد آلاف الأميال. إذن الرغبة في أرز الجولوف الجيد تعني أن الدولار يتجه شرقًا من جديد، هذه المرة إلى الهند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤