الفصل الرابع

إضفاء نكهة على خلطة النجاح

من نيجيريا إلى الهند

في الهند، يُنْفَق دولارنا على أحد الأعشاب، وهو عشبٌ يحافظ على بقاءِ عددٍ أكبر من البشَر مدةً أطول من أي محصول آخرَ: هذا العشب يُدعى أوريزا ساتيفا. ويُقصَد به الأرز. يُعتقد أن زراعة الأرز نشأت في الصين القديمة، ومنذ ذلك الحين انتقلت إلى أماكنَ أخرى. واليوم، فإن الهند هي مصدرُ طبق واحد من كل خمسة أطباق أرز تُتناوَل حول العالم.

مع وجود ٧,٦ مليارات فمٍ على هذا الكوكب، هذه كمية كبيرة من الأرز. لا يعتبر مجال الزراعة من المجالات الحديثة، ولكنه ضروري لبقاء الإنسان. صحيحٌ أن مساحة الأراضي الصالحة لزراعة المحاصيل أو لرعي الماشية هي بالطبع ثابتة، لكن عدد السكان ليس كذلك بالتأكيد؛ ومن المتوقَّع خلال هذا القرن أن يتضاعف عدد السكان ثلاث مرات. حتى عند زيادة كفاءة مجال الزراعة، فإن تَضَاعُف عدد السكان سيظل يُشكِّل تحديًا كبيرًا.

في الحقيقة، يعاني واحدٌ تقريبًا من كل ثمانية من سكان العالم نقصَ التغذية. هل هذا لأننا غير قادرين على إنتاجِ ما يكفي من الغذاء، أم إننا لا نستطيع إيصاله إلى الأماكن المناسبة، بما يتوافق مع العرْض والطلب؟ نحن جميعًا بحاجة لتناول الطعام؛ ولكن، هل نحن قادرون على تحمُّل تكلفته فتلك قضية أخرى. فأصحاب الوزن الزائد هم أيضًا الأغنى على هذا الكوكب — الأمريكيون والأوروبيون — أما مَن يأكلون كمياتٍ قليلة من الطعام فهم الموجودون في أكثرِ المناطق فقرًا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. تنفق لورين ميلر في تكساس نحو ٢٠ في المائة من دخْلها على الطعام؛ وينفق النيجيريون ٥٦ في المائة من دخلهم.

وتختلف نوعية الأكل أيضًا. فكلما كنت أكثرَ فقرًا، زادت احتمالية اعتمادك اعتمادًا أساسيًّا على النشويات مثل الأرز، بينما سمحت زيادةُ الثروات للصينيين، على سبيل المثال، باستهلاك اللحوم ومنتجات الألبان والخضراوات في كثير من الأحيان. قد يكون وصول مطاعم «ماكدونالدز» دليلًا على أن إحدى الدول النامية قد «نجحت اقتصاديًّا» على الرغم من أنه يُنظر بحذرٍ إلى الأقواس الذهبية في أمريكا — التي أصابت التُّخمةُ سكَّانَها — على أنها نذيرٌ للسُّمنة. وعلى الصعيد العالمي، فإنَّ تزايُد عدد السكان — زيادة غير متناسبة في البلدان الأكثر فقرًا في آسيا وأفريقيا — مع ارتفاع الدخل، يعني أن الأسعار آخذةٌ في الارتفاع أيضًا. تقدِّر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن إمداداتنا الغذائية يجب أن ترتفع بنسبة ٧٠ في المائة بحلول عام ٢٠٥٠. وقد يكون هناك نقصٌ أكبرُ في المستقبل. قد يعني الغذاء — والقدرة على زراعته أو تحمُّل تكاليفه — القوة.

عادةً ما يُزرَع الأرز عن طريق غمر الحقول في الوقت نفسِه أو بعد وقت قصير من زراعة الشتلات الصغيرة. وللمحصول النهائي أشكالٌ عديدة: قصير، لزج، طويل الحبة. ولعل أشهر ما يُستورَد من الهند هو الأرز البسمتي — «عبق» باللغة الهندية. ولكن، كما يعلم أيُّ طاهٍ ماهر من غرب أفريقيا، من أجل طهي طبق الجولوف التقليدي، نحتاج إلى أرز طويل الحبة مسلوق، وليس الأرز البسمتي. والأرز طويل الحبة هو ما يشكِّل الجزء الأكبر من أكثر من مليون طن من الأوريزا ساتيفا التي الذي يُشحَن من الهند إلى نيجيريا.

تشترك الهند ونيجيريا في الكثير من الأمور: الماضي الاستعماري؛ والتركيبة السكانية الشديدة التنوُّع من الناحية العِرقية والدينية — غالبية السكان من الشباب؛ وبطبيعة الحال الحُب المشترك للأرز. وهذا أحدُ الأسباب التي جعلت البلدين شريكين تجاريين رئيسيين. وبالإضافة إلى الأرز، فإن المنتجات الهندية الصُّنع، من الدرَّاجات النارية — التي تُستخدَم على نطاقٍ واسعٍ سياراتِ أجرة في لاجوس — إلى الأدوية، تُرسَل إلى نيجيريا. وثلث الأدوية في نيجيريا مصدرها الهند. وأما بالنسبة إلى الواردات النيجيرية إلى الهند، وربما هي الأهم، فالهند هي الزَّبون الأكبر لنفط نيجيريا. فليس من المُستغرَب أن تسعى البلدان إلى رعاية هذه العلاقة التجارية الثنائية. من الزيارات الرسمية إلى المعارض التجارية والمناقشات حول تبادُل المهارات والاستثمار في البنية التحتية، يبذل كلا الجانبين جهودًا مضنية لبناء علاقة تحقِّق الرخاء.

إن البلدين يستخدمان التركةَ الموروثة من الغرب بطرقٍ جديدة. وعلى الرغم من أن هذا الدولار يمر عبْر أيدي الوسطاء، فإنه جزءٌ مهم من العلاقة الوثيقة بين البلدين.

يتَّبع الدولار مسارًا مألوفًا. إذ يشتري تجار الجملة في نيجيريا الأرزَ من التجار في جميع أنحاء العالم — الذين يشترون جميع أنواع المواد الغذائية الخام ويبيعونها وينقلونها، من الدهون إلى القمح. هذه الشركات ليست أسماءً مألوفة لكنها تُملي وجَباتنا الغذائية. يُطلِق على أكبر هذه الشركات شركات «إيه بي سي دي» وهي الأحرف الأولى من: «إيه دي إم» و«بانج» و«كارجيل» و«لويس دريفوس». ولدى هذه الشركات شبكاتٌ متطورة من مرافق التخزين والنقل، ونطاق عملها يشمل الأنشطةَ من الزراعة إلى معالجة الأغذية.

وهذا يمثِّل ثلثَ الغذاء الذي يعبُر الحدودَ حول العالم، ونحو ٧٥ في المائة من تجارة الحبوب. هذا يعني أنه من المحتمل أن تجِد منتجات «إيه بي سي دي» في الصحن الخاص بك في وقتٍ ما خلال اليوم. وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكنك الشراء من هذه الشركات؛ فهي تبيع للحكومات، ومصانع معالجة الأغذية والمنتجين المتعددي الجنسيات مثل «يونيليفر». ثمة تركيزٌ هائل للقوة الاقتصادية في أيدي القلة. وقد زعمت المؤسسات الخيرية مثل «أوكسفام» أن هذه القوة تُستخدم لاستغلال أولئك الموجودين في أسفل سلسلة معالجة الأغذية — أي المزارعين والعمال — مع إبقاء الأسعار مرتفعة. قد تجادِل شركات «إيه بي سي دي» بأنها في طليعة السعي وراء أشكال أكثر إنتاجية واستدامة من الزراعة، وتأمين إمداداتنا الغذائية في المستقبل.

يعني التواجد متعدد الجنسيات لهذه الشركات استخدامَ الدولار في التجارة، عملة أسواق السلع، وليس النيرة ولا حتى الروبية الهندية. يُسلِّم التجار النقود، بعد أخذ حصتهم، إلى تجار الجملة الهنود. ويقوم هؤلاء التجار بدورهم بتحويل هذه النقود إلى الروبية، ومن ثَم يعطونها للمزارعين مثل أرجون كومار من ولاية كارناتاكا في جنوب الهند. في عام ٢٠١٦، اشتُري ما يزيد قليلًا عن كيلوجرام من الأرز بدولار، لكن أرجون لن يحمل هذا الدولار أبدًا. في الواقع، لن يحصل على ما يُقارب قيمته بالروبية.

•••

عندما نسمع عن الاقتصادات النامية، والتجارة العادلة، وأخلاقيات التجارة، فإن الكثير من النقاش يدور حول إعداد هذه الاقتصادات لتكون قائمةً بذاتها. الفكرة هي تقليل الاعتماد على المساعدات، والحد من الفقر، وإيجاد سبل تُمكِّن الأفرادَ من إعالة أنفسهم داخل الاقتصاد العالمي؛ لأن وضعهم ليس بأفضل من وضعنا.

تُعَد الهند مثالًا رائعًا على مدى تعقيد مسار التنمية. وهي أيضًا عملاق نائم، وقوة مستقبلية سنسمع عنها جميعًا — في الغرب وفي الصين — الكثير.

أولًا وقبل كل شيء، مهما كان البلد يتطور ويحاول إثراء نفسه، فإنه يحتاج إلى ضمان إطعام شعبه. كل شيء يبدأ بالزراعة. إن زراعة الطعام تبدو أمرًا بسيطًا: ازرع البذور، واسقِها، وانتظر، واحصُد ما زرعت. يُشار إلى الزراعة على أنها الصناعة الأوليَّة، ولكن هذا مصطلح بسيط بشكل مُضَلِّل لعملية معقَّدة.

أرجون هو واحد من ملايين المزارعين الذين يطعمون العالَم. على نطاق ضيق، يتعيَّن عليه وعلى عائلته مواجهةُ التحديات اليومية للزراعة، لزرع محصوله وحصاده. وعلى المستوى الوطني، تجلِب الزراعة تحدياتٍ للدولة لزراعةِ ما يكفي لإطعام شعبها. وهذا ما يُعرَف بالأمن الغذائي.

يبيع أرجون أرزه لتصديره، ولكن الهنود أيضًا بحاجة إلى الغذاء. لقد صار تقليل «الأميال الغذائية» والتوريد محليًّا أمرًا شائعًا في المناطق الحضرية في الغرب، لكنَّ هناك سببًا أكثر أهمية وراء تحقيق الاكتفاء الذاتي: فهو يعني أن البلدان تتجنَّب خطر حدوث اضطراب خارجي يؤثِّر على إمداداتها الغذائية. فالسكان الذين يحصلون على تغذية جيدة هم أشخاص منتجون.

تأخذ معظم البلدان الأمنَ الغذائي على محمل الجِد؛ فقد أصبح الأمن الغذائي مألوفًا للغاية في الهند خلال ستينيات القرن العشرين. فبينما كان العالَم يراقب، كان المزارعون الهنود يشهدون لحظةَ التحوُّل الخاصة بهم: لقد جلبت الثورة الخضراء أنواعًا عالية الغلة من المحاصيل، وأساليب زراعة جديدة، بالإضافة إلى استخدام التكنولوجيا. ومثل نظرائهم الأمريكيين، فقد كان المزارعون الهنود يركِّزون على زيادة الإنتاج، لكن التركيز كان على إطعام شعبهم، بدلًا من التصدير للخارج. حتى إنهم توقَّفوا عن تصدير الأرز في ظل النقص العالمي، وكانت هناك سياسة وطنية لدعم الغذاء. ومع ذلك، فإن جاذبية الدولار قوية بالطبع، ويُصدِّر العديد من المزارعين الهنود بالفعل منتجاتهم الزراعية، مما يجلِب دخلًا لا يُستهان به بالعملة الصعبة.

في ظاهر الأمر، تبدو الهند في وضعٍ جيد. فلديها أكبر مساحة مزروعة بالقمح والأرز في العالم، وحقول الأرز مشهد مألوف في جميع أنحاء البلاد. وهي أيضًا أكبرُ منتج للحليب والبقول والتوابل.

إذن، هل افتراض أن سكان بلد ينتج هذا الكم من الغذاء يعيشون في رغد من العيش ويتغذون بشكل جيد يُعد افتراضًا معقولًا؟ أخبِر أيَّ هندي أنه يبدو «ميسور الحال»، وسيستدل من هذا أنه مُمتلِئ الجسم قليلًا … وهذا لا يُعد تحقيرًا. فبلا شك الآلهةُ الهندوسية غالبًا ما تكون مُمتلِئة الجسم، وهذه علامة على اهتمام الهنود بتناول الكثير من الطعام. فهل هذه إذن أرضٌ تفيض لبنًا وعسلًا، ولديها كميات فائضة من الطعام؟ للأسف، كما سنرى، هي أبعدُ ما تكون عن ذلك.

قد يكون حصاد أرجون كومار من الأرز هو ما جلب الدولار إلى سواحل الهند، لكن نشاط أرجون التجاري هذا ليس مربحًا. يعتمد دخل نصف سكان الهند على الزراعة. وهي نسبة هائلة باعتبار الهند اقتصادًا حديثًا. لكن الزراعة تُسهم بدولار واحد فقط من كل ستة دولارات من إنتاج الهند، أي ناتجها المحلي الإجمالي، في العام الواحد. ونظرًا لأن نصف القوى العاملة في الهند تعمل مقابل سُدس دخل البلاد، فإن هذا يعني عملًا مضنيًا مقابل عائد ضئيل للغاية.

إن الزراعة أيضًا مهنةٌ متقلِّبة وغير مستقرة، مما يعني أنه من الخطر أن يعتمد أرجون على الزراعة لكسب قوت يومه من الروبية. هذا ليس لأن الطلب متزعزع. فالجميع يحتاج إلى الطعام، ومع نمو عدد السكان، أصبح هناك المزيد من الأفواه التي يجب إطعامها. فالطلب على الغذاء ليس فقط مؤكدًا؛ بل زيادته مضمونة. وهذا الطلب لن ينهار بالكامل — بل من المستبعَد أن ينهار بالكامل — إذا ارتفع سعر الأرز أو القمح. يحتاج الناس إلى الطعام، يحتاجون إليه يوميًّا. بعبارة أخرى، إن الطلب على الطعام «غير مرن» إلى حدٍّ ما، أو غير حسَّاس لتحركات الأسعار. وعلى النقيض، إذا ارتفع سعر جهاز تلفزيون، فإن الناس سيحتفظون بأجهزتهم القديمة مدةً أطول ولن يشتروا أجهزةً جديدة. إن الطلب على الكماليات يكون أكثرَ «مرونة» فيما يتصل بالسعر.

هذه حقيقة عالمية، سواء كنت تعيش في دلهي أو ديلاوير أو دبي. إن الأشخاص ذوي الدخل المنخفض ينفقون نسبةً أكبر من دخولهم على الغذاء، ومن ثَم قد يكونون أكثر عرضة لتقليل نفقاتهم إذا ارتفعت الأسعار. بعبارة أخرى، قد يكون طلبهم أكثر مرونة بعض الشيء.

إن مشكلة أرجون وملايين المزارعين أمثاله في جميع أنحاء العالم تتمحور حول ما إذا كان بمقدورهم الاعتماد على الزراعة للحصول على دخل مرتفع بما يكفي، وما إذا كان بإمكانهم كسب قوتِهم بتوفيرِ ما يكفي من المحاصيل بسعر تنافسي.

تتطلب زراعة الأرز مساحاتٍ واسعةً من الأراضي وعددًا لا بأس به من الأيدي العاملة — والهند لديها وفرة في كلتيهما — ولكن، بالإضافة إلى ذلك، فإن الأرز محصول يحتاج إلى قدْر كبير من المياه. في بلدٍ أنظمةُ الري فيه باهظة الثمن، يعيش أكثرُ من نصف مزارعي الأرز تحت رحمة الأمطار: إنها الرياح الموسمية الجنوبية الغربية التي يجب أن يقلق أرجون بشأنها، وهو ليس وحدَه. يُعَدُّ ثلثَا أراضي البلاد عرضةً للجفاف، وفي الهند تهطل ثلاثة أرباع الأمطار السنوية فيما بين شهري يونيو وسبتمبر. وبالطبع، يحدُث العكس أيضًا. ففي عام ٢٠١٦، كانت أعنف الرياح الموسمية منذ ثلاث سنوات مفيدةً ليس فقط بالنسبة إلى بائعي المظلات؛ فقد أنعشت الرياح أيضًا سبل عيشِ المزارعين. في جميع أنحاء الهند، ينتظر السكان توقُّعات الطقس — وأول أمطار غزيرة في العام — على أحر من الجمر، وكأنها أحدث عروض بوليوود.

يُعَد إمداد العالم بالغذاء عملًا مُعقدًا. وكما لو أن المحصول لا يعاني تفاوتًا بالفعل في الهند، يواجه المزارعون هناك العديدَ من العقبات الأخرى. فعادةً ما تكون مزارعهم صغيرة الحجم، أقل من هكتارين في المتوسط. لا عجب إذن أن أرجون كومار قد لا يكون قادرًا على تحمُّل تكاليف أنظمة الري أو الاستثمار في الآلات التي تجعل الأرضَ أكثر إنتاجية. إذا تمكَّن من زيادة حجم مزرعته أو ضمِّ مزرعته إلى المزرعة المجاورة، فسيستفيد من «اقتصادات الحجم» وشراء جرار زراعي سيكون مجديًا جدًّا من الناحية الاقتصادية. وهذا يعني ربحًا أكبرَ على كل كيلو من الأرز.

لجذب المزيد من الدولارات، لماذا لا يستطيع أرجون كومار التركيزَ على توسعة مزرعته ليصبح حجمها أكثرَ فاعليةً؟ تبلغ أراضي الهند قُرابة ٢٠٠٠ ميل طولًا، ومن ثَم ذلك البلد لا يعاني ضآلةً في حجمه. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فالروتين — البيروقراطية — آفةُ الأعمال في جميع أنحاء العالم، تتجلَّى واضحةً في الهند. يبدو أن ثقافة ملء النماذج والعمليات والإجراءات التي لا تنتهي أبدًا تعود إلى حقبة الراج البريطاني. إن حقوق الملكية مُعَقَّدة ومُرْبِكة؛ وسجلات الملكية من الصعب الحصول عليها. كانت هناك إصلاحاتٌ لا نهاية لها فيما يتعلق بالأراضي، ولكن معظم هذه الإصلاحات عملٌ ضد مصالح صغار المزارعين.

إذا نجح أرجون في التغلُّب على هذه العقبات، فمن المحتمل أن يظل يعاني سوء نظامَ التخزين والتوزيع في الهند. فنحو واحد من كل ثلاثة أطنان من الغذاء الذي تنتجه المزارع يتعفن قبل بيعه. فالمستودعات والطرق دون المستوى المطلوب ببساطة لا تضمن وصولَ الأرز إلى أجزاءٍ أخرى من البلاد.

وإذا وصلت الشحنات إلى موانئ الهند في حالة جيدة، فإن عدد الموانئ محدود للغاية ولا يكفي لاستيعاب الكميات الهائلة من السلع المنتَجة في هذا البلد الكادح. أضف إلى ذلك المعاملات الورقية والبيروقراطية، وقد يستغرق الأمر أيامًا لتخليص سلعة في هذه الموانئ، على النقيض من الموانئ الأمريكية، التي يستغرق الأمر فيها ساعات. قد تحصل الهند على الدولار، لكن توفير رطل الأرز مقابل هذا الدولار عملٌ مضنٍ.

يُمكن رصد بعضٍ من هذه المشكلات في الهند على وجه الخصوص، لكنها تُسلط الضوء على كفاح صغار المزارعين في الاقتصادات النامية.

قد يواجه البعض الآخر من المزارعين عقباتٍ أكثر خطورةً أمام زراعة الغذاء، من التضاريس غير الصالحة للزراعة والظروف المناخية غير المواتية إلى نقص الأيدي العاملة. يكافح العديد من المزارعين لإنتاجِ ما يكفي لتجاوز مستوى الكَفاف، وحتى عندما يفعلون ذلك، فإن حجم أعمالهم يجعلهم عرضةً للخطر. فهم تحت رحمة الأسواق العالمية، حيث تُملى الأسعار من قِبل اللاعبين الأكبر الذين يبيعون منتجاتهم بتكلفةٍ أقل. وحتى في الداخل، قد يضطر هؤلاء المزارعون إلى التنافس مع الواردات الرخيصة. في أفريقيا، على سبيل المثال، يواجه صغار المزارعين «إغراق» المواد الغذائية من أوروبا، تلك المواد الغذائية التي تتلقى دعمًا كبيرًا. يؤمِّن الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، أسعارَ السُّكر لمزارعيه، لكنه يقيِّد الواردات من أفريقيا.

نشأت حركة التجارة العادلة، التي تهدُف إلى منح المزارعين مستوًى عادلًا ومُستدامًا من الدخل مقابل منتجاتهم، استجابةً لهذه الاختلالات في جميع أنحاء العالم النامي. في الهند، تشمل حركة التجارة العادلة عددًا كبيرًا من المنتجات وأكثر من مليون من صغار المزارعين والعاملين، لكنهم يمثِّلون الأقلية.

تُعَد مطاردة الدولار الذي تحصل عليه الهند مقابلَ صادراتها أمرًا جذابًا للحكومة — ولأرجون — ولكن هذا معناه أنه قد لا يكون هناك ما يكفي لإطعام الشعب الهندي. تعني الطبيعة المتقلِّبة للزراعة أن العمال الزراعيين، على سبيل المثال، قد لا يملكون القدرةَ المادية على شراء ما يزرعونه. لدى الحكومة برنامج لدعم الغذاء، ولكن الفساد وعدم الكفاءة قد يؤديان إلى رفع الأسعار بدلًا من ذلك.

الزراعة نشاط قديم للغاية، وبالنسبة إلى الكثيرين، فإنها ما زالت مرادفًا للفقر. يُضطَر صغار المزارعين المستقلين إلى أن يكونوا جزءًا من الاقتصاد العالمي الحديث، وذلك من أجل البقاء على قيد الحياة. هناك طلب كبير على منتجاتهم، ولكن ليس من السهل تلبيةُ هذا الطلب. تعني الطريقة التي تعمل بها تجارة الأغذية العالمية أن المزارعين لا يرون من الغنائم سوى القليل. إن حياة أرجون كومار لعبةُ مخاطرة، وحتى إذا كان قادرًا ماديًّا على إطعام أسرته، فقد لا يتمكن أيٌّ من العمال المؤقتين الذين يعملون معه من فِعل ذلك. ومع حقيقة أن نصف السكان هم تحت سن الخامسة والعشرين، فإن لديهم الكثيرَ من الأفواه لإطعامها. قد تكون الهند واحدةً من أكبر منتجي الأرز والحليب في العالم، لكنها أيضًا موطن لربع المصابين بسوء التغذية في العالم.

نظرًا لكونها كثيفةَ العمالة، فإن الزراعة تستوعب نسبةً كبيرة من القوى العاملة. لكنها نادرًا ما تجلِب الرخاء. فأرجون لا يصبح ثريًّا بحصته من هذا الدولار.

•••

والآن بما أن الصين قد توقَّفت مؤقتًا للتفكير والبدء من جديد، وعلى الرغم من المشكلات التي تواجه أرجون، فإن الهند في الواقع هي أسرع الاقتصادات الكبيرة نموًّا في العالم. فقد ارتفع ناتجها المحلي الإجمالي، أي دخل الدولة، بنسبة ٧ في المائة في عام ٢٠١٧، على الرغم من وجود المحاذير المعتادة بشأن فصل البيانات الحقيقية عن تلك المُلفَّقة في الإحصاءات الوطنية، خاصةً في بلدٍ مساحته كبيرة مثل الهند.

إلى حدٍّ ما، يُمكن للهند بالتأكيد أن تهنئ نفسَها، ولا يتعلق الأمر فحسب بالأموال الإضافية التي تحققها عامًا بعد عام. فقد زادت احتمالية أن يبقى الأطفال على قيد الحياة في مرحلة الطفولة، وأن يشهدوا عيدَ ميلادهم الخامس والستين. وأيضًا زادت احتمالية أن يكونوا قادرين على القراءة: أكثر من سبعة من كل ١٠ هنود الآن يعرفون القراءة والكتابة.

خلال القرن التاسع عشر، كانت الهند ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لكنها تَعثَّرت بعد ذلك. أدَّت لعبة اللَّحاق بالرَّكب إلى تَتبُّع الهند مسارًا غيرَ تقليدي له نتائجُ غير تقليدية. هذا جزئيًّا نتيجة للإرث الذي خلَّفته الإمبراطورية البريطانية، التي ركَّزت على استخراج الموارد الطبيعية والاتجار بها، ومنها الشاي والتوابل، لسد احتياجات الدولة الحاكمة. كان هناك استثمارٌ كبير في الخدمات اللازمة لدعم تلك التجارة، بدءًا من السكك الحديدية إلى الخدمات المدنية الضخمة. لكن أُهملت قطاعاتٌ أخرى، ومنها التصنيع. كشف الاستقلال عن اقتصادٍ جرى تطويره جزئيًّا فقط، وكانت قد نُهِبَت كمياتٌ هائلة من ثرواته. يرجع المسار الاقتصادي المختلِف الذي سلكته الدولة آنذاك جزئيًّا إلى طبيعة الهند المتنوِّعة وأيضًا، كما وجبت الإشارة، إلى افتقارها إلى التخطيط والسياسات الحكومية. يُمكن القول إن نهج الهند الفريد كان من قبيل المصادفة، كما كان أيضًا ارتجالًا.

لقد أعدَّ الغرب ما يُعتَبر الوصفةَ النهائية للنجاح، وهي سلسلة واضحة من الخطوات التي تهدُف إلى التحديث والازدهار. اتَّبع نفس مسار التركة الموروثة، ويمكن أن يتضاعف كل دولار يتيسَّر كسْبه عدة مرات. إنها وصفة خالدة، ويمكن تعديلها بسهولة لتتناسب مع الدول في جميع أنحاء العالم. إنها تكمُن وراء التحوُّل الذي حدث في الصين في العقود الأخيرة، وحتى في الآونة الأخيرة، في دولٍ أمثال فيتنام.

تعود الوصفة إلى القرن الثامن عشر، عندما قلبت الثورةُ الصناعية طرقَ العمل القديمة أو، على وجه الدقة، الزراعة، رأسًا على عقِب في المملكة المتحدة. في عام ١٩٦٠، حدَّد اقتصادي أمريكي يُدعى والتر روستو المراحلَ المختلفة التي يمرُّ بها الاقتصاد عادةً خلال تطوُّره؛ أي تحويل المكونات الخام إلى منتج نهائي. المراحل التي حدَّدها والتر روستو هي:

  • (١)

    مرحلة المجتمع التقليدي: اقتصاد زراعي قائم على زراعة الكفاف مع القليل من التجارة. هناك عددٌ محدود من الأدوات والآلات البدائية، مما يعني أن العمال ليسوا فعَّالين للغاية ولا يوجد فائضٌ كبير منتج يمكن بيعه في مكان آخر.

  • (٢)

    مرحلة الشروط المسبقة للانطلاق: تدخل الآلات أكثرَ في الزراعة ويجري تبادل المزيد من الإنتاج. هناك استثمار في البيئة المادية، على سبيل المثال نُظُم الري. تزداد المدخرات والاستثمار الإجمالي، وإن كان ذلك على نطاقٍ ضيق. هناك مزيدٌ من التركيز على الحَراك الاجتماعي، وتنمية الهوية الوطنية والمصالح الاقتصادية المشتركة. قد يلعب بعض التمويل الخارجي دورًا، على سبيل المثال عن طريق المساعدات أو العاملين في الخارج.

  • (٣)

    مرحلة الانطلاق: تضطلع الصناعة التحويلية بدورٍ أكبرَ، ولكن مع وجود عدد قليل من الصناعات (غالبًا ما تكون صناعة المنسوجات والملابس هي الأهم). تتراجع أهميةُ الزراعة. وبينما يستمر غالبية الناس في العمل في الزراعة، يتدفَّق الكثيرون إلى المدن بحثًا عن الثروات النسبية التي يقدِّمها التصنيع. تبدأ المؤسسات السياسية والاجتماعية في التطور، وقد تكون هناك حاجة لمزيدٍ من مصادر التمويل من الخارج. تزداد المدخرات والاستثمار.

  • (٤)

    مرحلة السير نحو النضوج: تنمو الصناعة وتصبح أكثرَ تنوعًا، وتركِّز أكثرَ على إنتاج السلع للمستهلكين وكذلك للآلات. يحدث تطوُّر سريع في وسائل النقل والبنية التحتية الاجتماعية (مثل المدارس والمستشفيات). مع تقدُّم التكنولوجيا واستخدامها، ينتشر النمو والدخل المرتفع في جميع أنحاء البلاد.

  • (٥)

    عصر الاستهلاك الضخم: تهيمن الصناعة على الاقتصاد. تنمو مستويات الإنتاج، مما يتيح زيادةَ الإنفاق الاستهلاكي، حتى على الكماليات. تفتح الأهميةُ المتزايدة للطبقة الوسطى البابَ أمام نمو القطاعات الخدمية، من المطاعم إلى مصفِّفي الشَّعر وأكثر من ذلك.

بالنسبة إلى روستو، توقَّفت الوصفة عند هذا الحد. وقد اشتملت على الثورة الصناعية «الأولى» التي أدخلت الماء والبخار إلى ميكنة الإنتاج، و«الثورة الصناعية الثانية» التي أدخلت الكهرباء لتكثيف هذا الإنتاج. ولكن لكي يصبح الاقتصاد عالميًّا «متطورًا» متكاملًا في القرن الحادي والعشرين، يمكن إضافة بضع مراحل أخرى.

وتشمل هذه المراحل توسُّع قطاع الخدمات استجابةً للأهمية المتزايدة للمستهلكين، حتى يشكِّل هذا القطاع الجزء الأكبر من الاقتصاد. ثم تأتي بعد ذلك الاستفادةُ من الدولارات الإضافية المُكتسبة لصالح بلدك: استثمار أرباح الصادرات وأرباح الشركة — المُكتسَبة في الشركات والأرباح القادمة من الخارج — لزيادة الانتشار والتأثير إلى أقصى حدٍّ. في العصر الحديث، يُعَد التواصل ضروريًّا أيضًا؛ لذلك نلاحظ تركيزًا أكبرَ على التكنولوجيا والابتكار. «اقتصاد المعرفة»، العصر الرقمي، الثورة الصناعية «الثالثة»؛ أطلِق عليها ما شئت، فقد أصبحت التكنولوجيا العنصرَ الأكثرَ حداثةً الذي لا يُمكن الاستغناء عنه. فأن تكون في طليعة التطور العلمي والتكنولوجي يعني جنيَ أقصى قدْر من المكاسب، خاصة أن الروبوتات تهدِّد بأن تحل محلَّ الوظائف الأساسية. وهذا يعني أن تكون مستعدًّا للثورة الصناعية «الرابعة»؛ إذ سيؤدي اندماج التقنيات إلى طمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية.

التطوير عمليةٌ شاقة، وتتمثل أهدافها النهائية في جعل الاقتصاد أكثرَ قيمةً وفي تحقيق الازدهار، على الرغم من احتمالية أن يحدُث ذلك على حساب المساواة. والسبب هو أن النتيجة النهائية يجب أن تكون كميةً من النقود أكبر من التي بدأت بها. خلال القرن التاسع عشر، تضاعف الدخل في المملكة المتحدة (بمجرد أخذ التضخم في الاعتبار) بفضل عصر الآلة.

وهكذا، من السهل أن نفهم لماذا، مثلًا، يجلس المواطن الأمريكي العادي على كومةٍ من الدولارات أكبرَ بكثير من الشخص العادي في بوركينا فاسو. وهذا البلد، وهو واحد من أفقرِ بلدان العالم، قد بدأ من توِّه: ٦٧ في المائة من سكانه يعملون في الزراعة.

ماذا الذي يخبِرنا به هذا عن الهند وعن كيفية كسْبها للدولار الأمريكي؟ وإلى أي مدًى يمثِّل أرجون نموذجًا لنمطٍ معتاد؟ إلى أيِّ مرحلة وصلت الهند في الوصفة؟ لقد جنى العديد من منافسي الهند الآسيويين السريعي النمو دولاراتِهم من خلال الاعتماد على العمالة الرخيصة والاستثمار الأجنبي لصنْع المنتجات وبيعها للغرب. لم تسلُك الهند هذا المسلك. فلم يمرَّ الاقتصاد الرئيسي الأسرع نموًّا بعملية إنشاء صناعة تحويلية واسعة النطاق. لقد أحجمت الهند عن الاقتداء بالمثال الذي وضعه أسيادها الاستعماريون السابقون. في الواقع، لم تُعِر الهندُ سوى القليل من الاهتمام لإنشاء الصناعات التحويلية، أو ريادة الأعمال، خلال الحِقبة الاستعمارية. ولم يختلف الأمر في الأيام التي أعقبت الاستقلال، عندما كان التركيز على ما بعد التقسيم، وجعل هذا البلد المتنوِّع الذي قُطِّعَت أوصاله يؤدي مهامه. ولم تتحول الأنظار صوبَ تشغيل المصانع الهندية على نطاق عالمي إلا مؤخرًا.

لا تزال الهند تُظهِر القليل من الاهتمام ببسط سطوتها إلى الخارج. فمقابل كل دولار تستثمره الهند في الخارج، تنفق الصين ٣٦ دولارًا. الهند ببساطة لا تملِك سيولةً فائضة، ولا القدْر نفسَه من عائدات التصدير ولا تراكم الاحتياطيات. كما أنها قد تكون أقلَّ ميلًا إلى استعراض قوَّتها المالية بهذه الطريقة. تخلَّت الهند بشكل فعَّال عن الوصفة التقليدية وغرَّدت خارجَ السرب. وقد حقَّقت نجاحًا كبيرًا.

•••

ربما تَضاعف دخْل المواطن الهندي العادي ثلاث مرات تقريبًا منذ عام ٢٠٠٠، ولكن هذا لا يعني يُسْر حال جميع الهنود. فلا يزال أرجون يقضي أيامَه ولياليه في الصلاة من أجل أن تهطِل الأمطار، وأن يظل جرَّاره الصدئ يعمل طوال العام وألا يضاعف المالك الإيجار. يعيش واحدٌ من كل خمسة هنود، كثيرٌ منهم من المزارعين، على أقل من دولارين في اليوم. على الرغم من التقدُّم العام في مستويات المعيشة والتعليم، فإن أطفالهم قد لا يتمُّون حتى تعليمَهم الابتدائي.

مَن يستمتع بالمكاسب؟ مِن أين تأتي هذه الطفرةُ في الدَّخل؟ جغرافيًّا، الجواب ليس ببعيد. فهو يوجد في الممرات اللامعة الهادئة لمعابد الشركات الجديدة في الهند، والتي يَأهُلها مهندسون عندما تقرأ مؤهلاتهم تجدها أشبهَ بالنشرات الجامعية.

مدينة بنجالور هي أكبرُ موطن لشركات تكنولوجيا المعلومات. فهي مركز ثورة تكنولوجيا المعلومات في الهند. تقع مدينة بنجالور على بُعد ١٠٠ ميل من مزرعة أرجون، ولكنها تبدو وكأنها على كوكبٍ آخرَ. تقع مراكز الاتصال أمام أقسام التكنولوجيا الخارجية ومصانع معالجة البيانات. وهي تقدِّم خدماتها للبنوك والشركات الكبرى والعملاء على الجانب الآخر من العالم في جميع الأمور التقنية، من توفير مكاتب مساعدة تكنولوجيا المعلومات إلى تطوير أحدث الروبوتات، وهذه المراكز تجد حلولًا افتراضية لقضايا قد لا يعرف العالَم حتى الآن أنه يواجهها. مرحبًا بك في قطاع التكنولوجيا، الذي يُعَد موطنًا لأرقى الناس في الهند، وأغناهم. كانت الانطلاقة الكبيرة لهذا القطاع سببًا رئيسيًّا في ثراء الهند. وعند المقارنة بين الهند والصين، يبدو النمو الصناعي في الصين أشبهَ بالحلزون في بطئه.

على سبيل المثال، تعاقدت شركةُ «تاتا» للخدمات الاستشارية مع أول عميل خارجي لها في عام ١٩٧٤. وبحلول عام ٢٠٠٥، بلغ عددُ العاملين بها ٤٥ ألف شخص. وفي عام ٢٠١٧، وصل العدد إلى أكثر من ٣٠٠ ألف، وهي واحدة من أكبر الشركات في الهند. هناك العديد من الشركات مثل «تاتا» التي تقدِّم خدمات تكنولوجيا المعلومات، والاستشارات وحلول الأعمال، والتي تتضمَّن معالجة البيانات، بأسعارٍ أرخصَ بكثير من الشركات في الغرب. وتسبَّب تعهيدُ أقسام تكنولوجيا المعلومات ومراكز الاتصال إلى الهند، وتحويلُ التصنيع إلى الصين للسببِ نفسه، في حالة غضب مماثلة.

كان تأثير ذلك غير عادي. فقد رسَّخت الهند مكانتها باعتبارها مركزًا للخدمات التقنية في العالم؛ إذ تحصل على دولارات من الشركات في عشرات البلدان. إنه قِطاع تتخطى قيمته الآن ١٠٠ مليار دولار، مقارنةً بملياري دولار فقط قبل ٢٥ عامًا. تباين النمو في قطاع الخدمات بين ٧ و١٠ في المائة سنويًّا على مدى العَقد الماضي، أي عدة أضعاف النمو في قطاع الزراعة.

في عام ٢٠١٦، شَكَّلت شركات التكنولوجيا العالية ما يَقرُب من ٨ في المائة من اقتصاد الهند، وحوَّلت بعض الأفراد إلى أثرياء. يمتلك ١ في المائة فقط من سكان الهند أكثرَ من نصف الثروة فيها. وبشكل عام، يعتبر اقتصاد الهند أكثرَ تفاوتًا من اقتصاد الولايات المتحدة وروسيا وحتى الصين، وفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي.

ربما لم يحدُث أن رأى أولئك الذين يعملون في هذه المكاتب دولارًا قط، ولم يُعاينوا السلعَ في ممرات «وول مارت». لكنَّ المهندسين في «وول مارت لابز» في بنجالور يقضُون أيام عملهم قلقين بشأن كيفية إقناع لورين ميلر الموجودة على بُعد آلاف الأميال بإنفاق دولارها. فهم يعملون على تحليل الأرقام والمعلومات لمعرفة كيفية جعْل رحلة التسوق الخاصة بها أكثرَ سلاسة وتفاعلية ومن ثَم أكثرَ ربحية لشركة «وول مارت». فعلى حد تعبير مسئولي الشركة التي تبيع بالتجزئة، «يعكف علماء بيانات «وول مارت» على إعداد نسيج بيانات عالمي يحوِّل البيانات الضخمة إلى رؤًى كبيرة». سيركزون على جميع مراحل «تجربة» التسوق، بدءًا من الخدمات اللوجيستية لطلب الطعام وجلبه إلى المتاجر وصولًا إلى المكان الذي يجب وضعه فيه في المتجر لتشجيع المتسوِّق على إجراء عملية شراء اندفاعية. إذا كانت هناك موجة حرارة مفاجئة، فسيحسبون عدد الضلوع التي يجب أن تكون في المبرِّد لحفلة شواء مفاجئة. لقد مكَّن تحليل الأرقام المتاجر من اكتشاف أن الآباء الجدد لا يُخزِّنون الحفاضات فحسب، بل يُخزِّنون البيرة أيضًا: فوصول طفل جديد معناه قضاء المزيد من الليالي في المنزل. لذا أقدموا على تغيير أماكن ثلاجات البيرة. البيانات الضخمة تعني دولارات كثيرة. والمهندسون الهنود عازمون على السعي وراء الدولار، لكن هذه الدولارات تُنفَق على الجانب الآخر من العالم.

تُنفَّذ مشاريعُ مُماثلة بشكل متزايد أيضًا في المتاجر الموجودة في أنحاء بنجالور، ومدن أخرى.

ربما تكون الهند في القرن العشرين قد أهملت بعضَ الخطوات في الوصفة الخاصة بالتحديث، بتخطي مرحلة التصنيع على نطاقٍ واسع لاحتضان الثورة التكنولوجية، لكنها تلاعبت بالوصفة لتناسب احتياجاتها وأذواقها، مما أدَّى إلى ظهور النسخة الاقتصادية من الموجة الجديدة لمزيج المأكولات، المأكولات التي تجمع بين التقاليد والابتكار الموجودة في المقاهي العصرية التي تلبي احتياجات المهندسين الأثرياء الجدد في بنجالور.

كيف فعلت الهند ذلك؟ لا يوجد نقصٌ في العِمالة الشابة في البلاد؛ صحيحٌ أن الغالبية العظمى منها غيرُ ماهرة، لكن التركيز على تدريب المهندسين منذ عهدِ الإمبراطورية البريطانية، وتطوُّر السكك الحديدية في الهند، يعني أن هناك مجموعةً من العمال في وضعٍ جيد يؤهلهم لاستخدام الكمبيوتر في الثورة الرقمية. إن حدوث هذه الثورة في بنجالور، التي تقع على بُعد ١٣٥٠ ميلًا من العاصمة دلهي، ليس من قبيل المصادفة أيضًا: فقد تمكَّنت الصناعة الجديدة من الهروب من عين الحكومة اليَقِظة والضوابط التنظيمية المرهقة. مقارنةً بمعظم المدن الهندية الأخرى، فإن بنجالور تتمتَّع أيضًا ببنية تحتية متطورة نسبيًّا، مما سمح للعمالقة مثل خدمات استشارات «تاتا» و«ويبرو» و«إنفوسيس» بالازدهار.

اشتهرت الهند أيضًا بأنها مُصدِّر لأفضل المهندسين. وعلى الرغم من رغبةِ جميع سكان الولايات المتحدة في العمل لدى شركتَي «جوجل» و«مايكروسوفت» اللتين خرجتا من رحم وادي السيليكون عن رؤساء لهما في الهند. وُلِد ساتيا ناديلا، الرئيسُ التنفيذي لشركة «مايكروسوفت» في حيدر آباد ودرسَ الهندسة الكهربائية في «مانيبال»، وهي حاضنة تقنية متخصِّصة. نشأ سوندار بيتشاي، الرئيسُ التنفيذي لشركة «جوجل»، في شقة من غرفتين في تاميل نادو قبل إتمام دراسته في هندسة المعادن في جامعة متخصِّصة في ولاية البنغال الغربية.

على نحوٍ متزايد، تتضاءل الأسباب التي تدفع الأشخاصَ الأكثر طموحًا إلى مغادرة الهند. فقد أصبحت بنجالور، على وجهِ الخصوص، هي وادي السيليكون في الهند، وهي سوقٌ جاهزة يمكن فيها للمهندسين المغامرين مقابلةُ المموِّلين الحريصين على المشاركة في النهضة التكنولوجية في الهند. إنها واحدةٌ من أفضل الوجهات الموجودة خارج الولايات المتحدة لأصحاب رءوس الأموال الذين يبحثون عن التطوُّر الرقمي الضخم التالي. ومع ذلك، لا يزال يتعيَّن على الهند أن ترقى بشكل كامل إلى مستوى هذا التحدي. فعلى مدى العَقد الماضي، على سبيل المثال، شهد نموُّ التجارة الإلكترونية ظهورَ بائع التجزئة المحلي عبْر الإنترنت في الهند، «فليبكارت»، لكن قيمته تظل ضئيلة أمام «أمازون» و«علي بابا»، وكلاهما شدَّد قبضتَه على السوق الهندية.

في الوقت الحالي، تظل الاستعانة بمصادرَ خارجيةٍ للتكنولوجيا والخدمات الروتينية مكانًا مناسبًا للهند. فهذه الصناعة تتحرَّك بسرعة النطاق العريض للألياف الضوئية. وتعمل الحوسبة السحابية والخدمات الرقمية على تغيير الطريقة التي ترى بها الشركات دورَ تكنولوجيا المعلومات في تنمية أعمالها: فهي تريد خدماتٍ ذاتَ قيمةٍ أعلى وأكثر ابتكارًا. وتستثمر الشركاتُ الاستشارية الكبرى بكثافة، لكن مثل هذه الخدمات تحتاج إلى عددٍ أقلَّ من الموظفين المتخصصين. والهند بحاجة إلى مواكبة ذلك.

في الوقت نفسه، تزامنت الحاجة لخفض التكاليف مع ارتفاع الرواتب. فلا يُمكن إعداد المهندسين بين عشيةٍ وضحاها، كما أن أعدادهم محدودة، ومن ثَم بدأ الموظفون في المطالبة بأجورٍ أعلى. لم تَعُد الهند رخيصةً كما كانت من قبل. إنها قصةُ رواتبِ مجال التصنيع نفسُها في الصين، وهي الضريبة المعتادة لعملية التطوير.

من الوارد أن يبدوَ مستقبل التكنولوجيا في الهند مختلفًا كليًّا وأن يصبح أكثرَ تطورًا وتعقيدًا. بادئ ذي بدء، لم يكن هذا المجال كثيفَ العمالة، ولكن يمكن أن يبدأ في توظيف عددٍ أقلَّ من الأشخاص. وهذا قد يؤدي إلى زيادة عدم المساواة في أحدِ أكثرِ اقتصادات العالَم تفاوتًا. ويمثِّل قِطاع تكنولوجيا المعلومات ٨ في المائة من قيمة الاقتصاد، ولكن أولئك الذين يخلقون هذه القيمةَ يتحملون فوق طاقتهم. فوفقًا للأرقام الرسمية، توظِّف التكنولوجيا أقلَّ من ١ في المائة من القوة العاملة البالغة ٤٦٠ مليونًا. ويبلغ عدد سكان الهند ١,٣ مليار نسمة. ويعيش هناك واحد من كل خمسة أشخاص في سن العمل في العالم، وهذه النسبة آخذةٌ في الارتفاع. تحتاج البلاد إلى إيجادِ مليون وظيفة إضافية شهريًّا لمجرد مواكبة النمو السكاني. ومع ذلك، منذ عام ٢٠١٦، كبَح عمالقة التكنولوجيا جِماح خطط التوظيف الخاصة بهم. وقد تكون هناك حاجة إلى تعديل إضافي لوصفة الهند.

تجلب التكنولوجيا الرخاءَ للهند بمعدل شديد التسارع، ولكنها لا تحقق ذلك الرخاء لجميع الهنود. فقد أفرزت طبقةً وسطى جديدة صغيرة وفائقة الثراء نسبيًّا، في بلدٍ نامٍ ضخم. ومع ذلك، هذا لا يكفي لانتشال أرجون من الفقر والنهوض الكبير باقتصاد الهند. فلا تستطيع التكنولوجيا بمفردها توفيرَ احتياجات الجماهير. تطارد الهند الدولارات، وهي بالفعل تتدفَّق، لكنها تحتاج إلى جذبِ الدولارات إلى الصناعات التي توفِّر الوظائفَ لقطاعٍ عريض من المجتمع.

في بعض الأحيان يوجد سببٌ يجعل الوصفات التقليدية تصبح كلاسيكيات خالدة. فهي قد تستفيد من التعديلات الغريبة لكن نتائجها أكثرُ قابلية للتنبؤ. تجلِب الوصفة القياسية معها عدمَ المساواة، لكن النسخة الهندية قد تزيد فقط من الطَّعم المر لعدم المساواة. فهي لا تزال بحاجة إلى مزيد من العمل، وكما سنرى، فإن هذا العمل جارٍ الآن.

•••

يُظهر نجاح صناعة التكنولوجيا الانقسامَ الغريب في شخصية اقتصاد الهند. فقد تكون بنجالور في طليعة التكنولوجيا، لكنها لا تُمثل الحال في بقية البلاد.

وفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي فإن ١٥ في المائة فقط من الأسر في الهند تستخدم الإنترنت. ويستطيع أربعة من كل خمسة من تلك الأسرِ استخدامَ الإنترنت عن طريق الهاتف المحمول. يُعَد الاتصال بالإنترنت إلى حدٍّ كبير حكرًا على النُّخبة التي تعيش في الحَضَر والتي يمكنها شراء هواتف ذكية. لكن بعيدًا عن تلك المناطق الحضرية، فإن استخدام الإنترنت نادر أو غير موجود. يجعل هذا الهندَ متماشية مع جيرانها في شبه القارة الهندية، لكنها متخلفة عن المتوسط بالنسبة إلى البلدان النامية، حيث يستخدم اثنان من كل خمسة الإنترنت. لماذا يهمُّ ذلك؟ يقدِّر البنك الدولي أن مضاعفة استخدام الإنترنت إلى ٧٥ في المائة في البلدان الفقيرة يمكن أن يضيف تريليوني دولار إلى الدخل العالمي، مما يخلق أكثر من ١٠٠ مليون وظيفة. يَعِد استخدام الإنترنت بأكثرَ من مجرد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي أو القليل من التسوق الخفيف.

يكافح مستخدمو الإنترنت للبقاء متصلين بالإنترنت. فسرعاتُ الإنترنت في حالةٍ يُرثى لها، وذلك بسبب البنية التحتية الرقمية الضعيفة. وقد اشترك ٥ في المائة فقط من العائلات في تقنية النطاق العريض. تمتلك الهند ثانيَ أكبر سوق للهواتف الذكية في العالم، لكن الأشخاص الذين يمكنهم استخدام هذه الهواتف فعليًّا هم الأقلية. إجمالًا، يمتلك مليار هندي هواتفَ محمولة، لكن انقطاع المكالمات وتغطية الشبكة غير المكتملة يمكن أن تجعل هذه الهواتف تكاد تكون عديمةَ الفائدة؛ إنها رمزٌ للمكانة الاجتماعية أكثر من كونها أداة اتصال.

إن إدخال التكنولوجيا المنخفضة التكلفة، وخاصةً الهواتف الذكية الرخيصة، يعني أن البلدان النامية تقفز بهدوء إلى العصر الحديث. من التطبيقات المخصَّصة للمزارعين إلى الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، فإن التكنولوجيا هي العامل الحفَّاز الذي لديه القدرة على تسريع وصفة النجاح. يمكن فتحُ أسواق جديدة وتسهيل المُعامَلات بطرقٍ لم يكن من الممكن تصوُّرها في السابق.

بالنسبة إلى أرجون كومار في مزرعته الريفية، يمكن للتكنولوجيا أن تصنع الفارقَ بين الازدهار أو الخسارة الماديَّة. ويمكن أن تعنيَ التغلب على المناخ أو التحديات اللوجيستية وتوصيل المنتجات الزراعية للعملاء. بالطبع، هذه التكنولوجيا تكلِّف مالًا، وأحيانًا مبالغَ تفوق قدرةَ أرجون. لكن هذا بلدٌ طوَّر هاتفًا ذكيًّا بقيمة خمسة دولارات؛ وهناك الكثير من الرغبة والمعرفة داخل الهند للتعرُّف إلى احتياجات سكانها وتلبيتها. فقد طوَّرت الشركات الناشئة في بنجالور، على سبيل المثال، أدواتٍ لمساعدة المزارعين في التنبؤ بتغيُّرات الطقس، والتنبؤ بغلَّة المحاصيل وجودتها، واتخاذ الاحتياطات اللازمة. لقد صمَّموا المزيدَ من مبيدات الآفات الصديقة للبيئة والمواد المضافة للتربة والآلات الأكثر تطورًا لقياس مستويات الري والتحكم فيها.

تحتاج فقط هذه الشركات طريقًا ممهدًا أمامها. تحاول حكومة الهند التحديث، للاستفادة من التكنولوجيا من أجل جميع الهنود، وليس فقط للقلة. في عام ٢٠١٥، بعد اجتماعه مباشرةً بقادة وادي السيليكون، كشف رئيس الوزراء ناريندرا مودي النقابَ عن قائمةٍ من تسعة أهداف، تشمل تغطيةً أوسع لشبكة اﻟ «واي فاي» وتصنيع الإلكترونيات. ربما يكون مديرو «جوجل» و«مايكروسوفت» قد أخذوا في الحِسْبان أن الهند هي المكان الذي انحدروا منه؛ لذا أتاحوا، على الترتيب، خدمةَ اﻟ «واي فاي» لعدد ٥٠٠ محطة من محطات السكك الحديدية في الهند، وكذلك تقنية نطاق عريض رخيص لنحو ٥٠٠ ألف قروي. وقد حظي ذلك بترحيب من البعض؛ أما البعض الآخر فقد راودهم الشكُّ في أن ذلك سيجعل من الهند مستعمرةً للغرب مرة أخرى؛ أي مستعمرة رقمية. في كلتا الحالتين، من المحتمل أن يكون تنفيذ هذه المبادرات مفتاح نجاح الهند مستقبليًّا.

تتيح المنصات عبْر الإنترنت الآن للمزارعين وتجار الجملة مقارنةَ الأسعار وتحديدها على الصعيد الوطني. ويتزايد استخدامُ المحافظ الرقمية وأنظمة الدفع تزايدًا كبيرًا، وتريد الحكومة المساعدة؛ يمكن أن تفيد المُعامَلات الأكثر كفاءة بشكل كبير المزارعين مثل أرجون. ومع ذلك، فإن الهند لا تحاول فقط تسهيل الحياة أمام ١,٣ مليار هندي. إنها تحاول أيضًا تسليطَ الضوء على أشد أركان الاقتصاد قتامةً، وكشف أساليب عمله، وجمع المزيد من الأموال لنفسها.

ولكي تحصل الحكومة الهندية على الأموال التي تحتاج إليها لمساعدة البلاد على النمو، يتعيَّن عليها أن تعرف على ماذا أو مَن تفرض الضرائب، وأن تتأكد من حصولها على هذه الأموال. وعلى الرغم من تاريخها المليء بالبيروقراطية والمُعامَلات الورقية، كافحت الهند للتوصُّل إلى الممولين وحمْلهم على الدفع. ففي مقابل كل دولار من إجمالي الناتج المحلي، يُجنى في الهند من خلال الأجور أو الأرباح، يُدفَع ١٧ سنتًا فقط ضريبةً. ويحدُث الشيء نفسه في معظم البلدان النامية، لكنه لا يمثِّل سوى نصف المعدَّل في معظم البلدان الغنية التي تهدُف الهند إلى التنافس معها. دفع ما يقرُب من ٥٠ في المائة من الأمريكيين ضريبةَ الدخل في عام ٢٠١٣، مقارنةً بأقل من ثلاثة في المائة في الهند. إن الدخل بالنسبة إلى الكثيرين، لا سيما المزارعين، منخفضٌ جدًّا في الهند لدرجةِ أنهم غير مؤهلين لدفع الضرائب، ولكن هذه لا تزال نسبة ضئيلة.

تكمُن المشكلة في النقود السائلة. ونحن لا نتحدث هنا على الدولار، بل الروبية. فحتى وقت قريب جدًّا، كان أكثر من ٩ من كل ١٠ روبيات يجري تداولها في الهند على شكل نقود سائلة. هذا لا ينطبق فقط على عمليات الشراء الصغيرة، ولكن على الكبيرة منها أيضًا؛ إذ تُستخدَم رِزَمٌ من الأوراق النقدية بقيمة ١٠٠٠ روبية لدفع ثَمن المُعامَلات العقارية. إن نصف الشعب الهندي ليس لديه حسابات بنكية و٨٥ في المائة يتسلَّمون رواتبهم نقدًا. وبالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون في القرى النائية، قد يكون أقربُ بنك على بُعد ساعات. على أي حال، لم يجرِ إعداد معظم الأنشطة التجارية لقبول المدفوعات بأي وسيلة سوى الأوراق النقدية والعملات المعدنية. ولا يوجد سوى ٢٥ مليون بطاقة ائتمان في الهند، واحدة لكل ٥٠ شخصًا، وصراف آلي واحد فقط لكل ٥٠٠٠ شخص. من الطبيعي أن يدفع أرجون ثَمن بذوره نقدًا، من الأموال التي يحتفظ بها في منزله.

النقود موجودة وشائعة لسببٍ وجيه. فهي تُتسلَّم بسهولة ويمكن الوصول إليها بيسرٍ، خاصةً إذا احتُفظ بها في دُرج قريب. هذا يعني أنها أكثر الأصول «سيولة». فمن الصعب الوصول إلى الثروة المُحتفَظ بها في أشكال أخرى — من الحسابات البنكية إلى الممتلكات — وإنفاقها.

تختلف الهند كثيرًا عن منافسيها الدوليين، من بينهم الصين والولايات المتحدة، في اعتمادها على النقود. وهذه ليست بالضرورة أخبارًا سيئة: يقول البعض إن ذلك يعني أن الهند كانت في مأمن من تداعيات الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨. في بلدانٍ أخرى، قدَّمت البنوك قروضًا مفرطة لم يتمكن المقترِضون من سدادها ما أدَّى إلى تدهور اقتصاد تلك البلدان. كان هذا النوع من الاقتراض أقلَّ شيوعًا في الهند، بنظامها البنكي المتأخر.

يرجع اعتماد الهند على النقد — من بين أسباب أخرى — إلى وجود العمال الريفيين ذوي الأجور المنخفضة مثل أرجون الذين لا يستطيعون التعاملَ مع البنوك، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الطرق الملتوية التي يتبعها أصحابُ الدخول الأعلى لتجنُّب كشف السلطات الضريبية عن المُعامَلات المالية التي تتم. نتيجة لذلك، قد يكون ما يصل إلى ثلاثة أرباع اقتصاد الهند اقتصادًا سريًّا. إنه الاقتصاد الأسود: بعبارة أخرى، اقتصادٌ غير موجود. وقد يتضمَّن الصفقات المشبوهة، ومنها الرشوة، التي لا يمكن فرضُ ضرائب عليها.

كيف يمكن للسلطات تضييقُ الخناق على النشاط غيرِ القانوني المحتمل، والتأكُّد من أن الاقتصاد علني، والتمكُّن من جمع الضرائب بكفاءة؟ بالنسبة إلى رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، فإن الوقت قد حان لاستخدام أسلوب الصدمة والترويع.

في خطابٍ طارِئ إلى الأمة في ٨ نوفمبر ٢٠١٦، أبلغ رئيس الوزراء الهندي شعبَه بقرارِ وقفِ تداول الأوراق النقدية فئة ٥٠٠ و١٠٠٠ روبية (التي تبلغ قيمتها نحو ٧,٥٠ دولارات و١٥ دولارًا)؛ أي إن هذه الأوراق النقدية ستكون بلا قيمة. كان أمام أي شخص يحمل أوراقًا نقدية من هذه الفئات أقل من شهرين لإيداعها في أحد البنوك أو مكاتب البريد. إذا كان هناك دليل على كيفية كسْب هذه الأموال، فيمكن استبدال ما يصل إلى ٤٠٠٠ روبية بأوراق نقدية من فئات أخرى. وسيجري إصدار أوراق نقدية جديدة من فئة ٥٠٠ و٢٠٠٠ روبية. جعلت هذه الخطوة أكثرَ من أربع من كل خمس أوراق نقدية متداولة في الهند غير صالحة — بإجمالي نحو ٢٢٠ مليار دولار. كانت هذه خطوة هائلة.

أثارت هذه السياسة تدافعًا على البنوك. وزعمَ وزير المالية الهندي أنه قد أُودع أكثرُ من ٤٠ مليار دولار في بنوك البلاد في الأيام الأربعة الأولى. كانت الطوابير طويلةً ونشبت الشجارات. ولم تتمكَّن الحكومة من طباعة الأوراق النقدية الجديدة وتوزيعها بالسرعة الكافية. خيَّمت حالةٌ من الجمود على النشاط المالي في جميع أنحاء الهند. وللتعامل مع نقصِ السيولة، فرضت الحكومة قيودًا على المبالغ التي يمكن سحْبُها، ثم غيَّرت هذه القيود مرارًا وتكرارًا. فعمَّت البلادَ حالةٌ من الارتباك والفوضى.

انتشرت الروايات عن المصاعب الناتجة والتي قصَّها الآباء الذين لم يتمكنوا من سداد الفواتير الطبية لأطفالهم، الأمر الذي أفضى أحيانًا إلى نتائجَ كارثية لأولئك الذين لم يَعُد لديهم القدرة على شراء الطعام لأسرهم. تعثَّرت خطوط الإنتاج بالمصانع؛ إذ لم يتمكَّن مالكوها من شراء المواد الخام التي يحتاجون إليها لتصنيع منتجاتهم، أو بالطبع لدفع رواتب عمالهم. وتَزَامَن هذا الإعلان مع ذروة موسم الأعراس، الوقت الذي ينفق فيه والدا العروسين السعيدين المدخرات التي جمعاها طَوال حياتهما. تعرَّضت الاحتفالات العائلية لخطر الإلغاء، وساد الغضبُ البلاد. اضطُرت الحكومة الهندية إلى إجراء التعديلات بشأن قيود السَّحب الخاصة — على وجه التحديد — بدفع تكاليف حفلات الزفاف إلى مبلغٍ يصل إلى ٢٥٠ ألف روبية؛ أي نحو ٣٦٠٠ دولار.

لم يؤدِّ إلغاء معظم الأموال النقدية في جميع أنحاء البلاد إلى التخلُّص من المتهربين من الضرائب والمجرمين فحسب. لقد وحَّد الألم جميعَ سكان الهند، من نُخبة بنجالور إلى المزارعين أمثال أرجون كومار، وربما بالأخص زوجته. فعادةً ما تخبِّئ ملايين النساء في الهند مبالغَ ضئيلة من النقود، في الخزائن أو تحت مراتب السرير. ففي هذا البلد، تراجعَ التمكين الاقتصادي للمرأة في السنوات الأخيرة: تزعم الأمم المتحدة أن أكثرَ من ثلث النساء الهنديات كن جزءًا من القوة العاملة قبل عَقد من الزمن — وقد انخفض هذا الرقم منذ ذلك الحين إلى الربع. ثمانية من كل ١٠ نساء ليس لديهن حسابٌ مصرفي. وقد هدَّدت تصرفاتُ مودي بحرمانهن من السيطرة الضئيلة التي كنَّ يتمتعن بها على مواردهن المالية، مما جعل مدخراتهن بلا معنًى، وترك العديد منهن في وضعٍ يائس ما لم يكن بمقدورهن إيداع أو استبدال أوراقهن النقدية بحلول الموعد النهائي. ولكنهن احتجن، لفعلِ ذلك، إلى أوراقٍ قانونية وإثباتات تتعلق بكيفية حصولهن على هذه الأموال.

هل كان الثَّمن الذي دفعه الملايين جرَّاء هذه الخطوة يستحق؟ هل تخلَّصت هذه الخطوة من المتهربين؟ بحسبِ ما ورد، كان أصحاب متاجر الحلي يعملون بجِدٍّ في الساعات التي أعقبت خطاب رئيس الوزراء لتلبية الطلب المتزايد على الذهب، حيث سارع المتهربون من الضرائب بتحويل أموالهم إلى أفضلِ صورة. ووجدوا أن سعر الذهب يرتفع. ولكن، بشكل عام، المجرمون المنظَّمون منظَّمون كما توحي صفتُهم. فقد كانوا بالفعل يدَّخرون مكاسبهم على هيئة مجوهرات أو عقارات أو غيرها من أشكال الثروة. يُدَّعى أن الفاسدين قدَّموا رِشًا إلى مسئولي البنوك لإنشاء حسابات مصرفية وهمية. فقد كانوا أكثرَ جاهزية للتعامل مع القيود المفروضة على النقود مقارنةً بربَّات البيوت في المناطق الريفية. اعتبرت الحكومة الهندية أن واحدةً من كل خمس أوراق نقدية مُلغاة لن تكون مؤهلة للتبادل أو الإيداع، مما يعني حملةً تُقدر ﺑ ٤٥ مليار دولار على الفساد. في هذه الحالة، كان المبلغ المحتجَز جزءًا صغيرًا من ذلك المبلغ.

لكن كان لهذه الخطوة بعضُ التأثير. إذ يزعم المسئولون الهنود أن عائدات الضرائب قد ارتفعت، وهو ما يُعطي دفعةً قوية لخزائن الحكومة. وتقريبًا بالسرعة نفسها التي اختفت بها الأوراق النقدية القديمة، ظهرت المدفوعات الرقمية. ارتفعت عمليات التسجيل في تطبيقات المحافظ الإلكترونية. من أجور العاملين إلى أجرةِ عربات الريكشا، أصبحت المدفوعات التي تُنفَّذ عبْر الإنترنت شائعة شيوعًا متزايدًا. ربما لم تتخلَّص تجربة المال العظيمة لمودي من الفساد الموجود في الاقتصاد الهندي، لكنها دفعته أسرع قليلًا نحو نظام مالي أكثرَ حداثة.

قد لا تكون عملية إلغاء أوراق النقد مجردَ وسيلة لجلب المال؛ فقد ثبَت أيضًا أنها طريقة جذرية لدفعِ هذا البلد الذي لا يزال في طور النمو إلى التقدم. فهي تفرض الاندماجَ في العالَم المالي الحديث، وهو شيء يتعيَّن على جميع البلدان تحقيقُه إذا أرادت ممارسةَ اللعبة العالمية. أن تكون جزءًا من النظام، وتحصل على المزيد من الدولارات، يعني تغيير سلوكك.

•••

إن التمدُّن هو عنصر مشترك في التنمية. ففي جميع أنحاء العالم النامي، يهجر السكان الذين ازدهرت حياتهم الريفَ الفقيرَ متجهين إلى المدن. والتحدي هو توفيرُ العمل لجميع هؤلاء السكان عند وصولهم إلى المدن.

ونظرًا للصعوبات التي يواجهها السكان في الريف الهندي، فليس من الصعب معرفة أسباب هجرة الكثيرين منه — بمجرد أن يتخلصوا من القوانين المُعقَّدة لملكية الأراضي — والتوجه إلى المدن بحثًا عن حياةٍ أفضل.

إن شوارع مدن الهند غيرُ مرصوفة بالذهب. إذ تضم المساكن العشوائية، التي تُصنَّف في التعداد السكاني الهندي على أنها «مساكن غير صالحة للسكن» واحدًا من كل ستة من سكان المدن الهندية. وهو ما يساوي ٦٥ مليون نسمة؛ أي أكثر من عدد سكان المملكة المتحدة. من المؤكَّد أن هذه الأحياء الفقيرة غير صالحة للحياة؛ فهي مؤقتة وتعاني نقص إمدادات المياه، وسوء الصرف الصحي. هذا بالإضافة إلى الأمراض والحشرات والجريمة المنظَّمة المنتشرة في المقاطعات. في السنوات الخمس عشرة الماضية، ضاعف أولئك الذين فروا من بؤس زراعة الكَفاف عدد سكان الأحياء الفقيرة.

هؤلاء الأشخاص البالغ عددهم ٦٥ مليون شخص هم الآن أقلُّ عُرضة للاستفادة من الدولارات الأجنبية مما كانوا عليه عندما كانوا يعملون في الأرض. عندما يكون لديهم عمل، يميل سكان الأحياء الفقيرة إلى العمل في وظائفَ غير رسمية وغير منتظمة مثل جمْع القمامة أو الخياطة. قد يكون وجودُ الأحياء الفقيرة أمرًا محرجًا بالنسبة إلى السلطات، لكن الأشخاص الذين يعيشون هناك هم إلى حدٍّ كبير بعيدون عن أعين السلطات الرسمية.

بما أن مدن الهند قد ازدهرت، فقد ازدهرت الصناعات التحويلية هي الأخرى، في صمت إلى حدٍّ كبير. وكما هو واضح من التجربة الصينية، يمكن أن يكون التصنيع فرصةً جيدة مع توافر الكثير من العمالة الرخيصة. في الواقع، وفقًا للإحصاءات الوطنية، يعمل ٣٠ مليون نسمة بالهند في التصنيع. وهذا أكثرُ من ضِعف العدد في الولايات المتحدة، لكنَّ العمال الهنديين أقلُّ إنتاجية بكثير من نظرائهم الأمريكيين. بصرف النظر عن أولئك الذين يعملون لدى عدد قليل من الشركات الكبيرة، فإن الأغلبية يعملون في ورشٍ أو مصانعَ صغيرة غير متطورة نسبيًّا، بها سلاسل إمداد رديئة.

إن العدد ٣٠ مليون لا يشمل النساء — والأطفال — الذين يُتعاقد معهم من الباطن، على سبيل المثال، في مهنة الخياطة، والذين يتسلَّمون أجورهم يدًا بيد، هذه الأجور تحول دون وقوعهم فريسةً للفقر المدقع. والتطريز اليدوي الذي تشتهر به صناعةُ الملابس الهندية هو مهنةٌ تناسب بصفة خاصة العمالَ الأصغر سنًّا ذوي الأنامل الماهرة. وبالاستعانة في بعض الأحيان بالعمال الذين يعملون من منازلهم، تصعُب حتى على أكثر تجار التجزئة مراعاةً للأخلاقيات مراقبةُ عمالة الأطفال.

تحاول الهند تغييرَ كل هذا. وهي تحاول، على نطاق أوسعَ بكثير، توظيفَ سكانها من خلال إحداث ثورة التصنيع الخاصة بها، مع التركيز على جذب الدولارات بطريقة أخرى أكثر موثوقية.

أطلق رئيس الوزراء مودي مبادرة «صُنِع في الهند» في عام ٢٠١٤. وصل مودي إلى السلطة بعد وعوده بتحسين الاقتصاد، وهو رجلٌ وطني هندوسي ذو شخصية مثيرة للانقسام. ظلت الشركات المصنِّعة الأجنبية الكبرى — وحتى الشركات المحلية — سنواتٍ مترددةً في الاستقرار في الهند بسبب القوانين والقيود المعقَّدة. وقد وعد مودي بالتعامل مع اللوائح، مما يجعل الهندَ مكانًا تزدهر فيه أشياءُ أخرى إلى جانب القمح والأرز.

كانت هناك بعض علامات النجاح الواضحة. وزاد الاستثمار الأجنبي بنسبة ٤٠ في المائة في الأشهر الستة التي أعقبت الإعلان. تعد بوينج وفورد وكوكاكولا وإيسوزو أمثلة على العلامات التجارية العالمية التي أُنشئت في الهند أو توسَّعت فيها. في ولاية هاريانا الشمالية، ستصنع باناسونيك ثلاجات، بينما تتعاون في بنجالور مع شركة تاتا لاستكشاف عالَم الروبوتات. الأهم من ذلك كلِّه أن فوكسكون، التي تُصنِّع الآيفون وأجهزة أخرى، قد بدأت في الاهتمام بكلِّ ما هو هندي. يجري العمل على خطط للمصانع لتصنيع هواتف محمولة، بينما تستثمر أيضًا في تطبيقات مثل خدمة المراسلات «هايك». تفتخر شركة «شاومي» الصينية، التي لديها مصنعان بالفعل، بإمكانية إنتاجها هاتفًا في الثانية في الهند. من بين العوامل التي تجتذب هذه الشركات العمالة الرخيصة والقرب من الطبقة الوسطى المزدهرة.

هل يعني هذا أن الهند قد تحل محلَّ الصين قريبًا فيما يتعلق بأعمال «وول مارت»؟ ليس تمامًا؛ فلا يزال أمام البلاد طريقٌ لتقطعه للخروج من هذه المرحلة من وصفة النمو. إذ ينقصها بعض المكونات الرئيسية.

تفتقر الهند إلى البنية التحتية الضرورية: المباني العادية، من المستودعات إلى الطرق والمدارس. يمكن أن يؤديَ غياب هذه البنية التحتية إلى إعاقة وصول الدولارات التي يمكن أن تكسبها الهند، سواء كان ذلك في حقول الأرز في ولاية كارناتاكا أو ورش العمل في هاريانا. يحتاج أرجون كومار إلى استخدام وسائل النقل ومرافق التخزين المناسبة لضمان الحفاظ على محاصيله في حالة صالحة للأكل عند وصولها إلى السوق.

إن نصف طرق البلاد غير مُمهَّدة على الإطلاق ويمكن أن تتضرر بسهولة بسبب المركبات الثقيلة. وكثيرًا ما يتأخر التصنيع بسبب عدم القدرة على الحصول على المواد اللازمة. تشير بعض التقديرات إلى سرعات مرور تصل إلى ٤٠ كم/ساعة حدًّا أقصى على الطرق السريعة في الهند. هذا على الطرق السريعة «العالية السرعة»، وليس داخل المدن. أما في الولايات المتحدة، فإن اقترابَ سرعات السيارات من ١٠٠ كم/ساعة هي القاعدة. يُنقل اثنان من كل ثلاثة أطنان من البضائع بالشاحنات، إما لأن السكك الحديدية غيرُ موجودة أو أنها موجودة، ولكنها لا تفي بالمهمة. هل هذا يبدو مألوفًا؟ ليست التجارة وحدَها هي العامل المشترك بين نيجيريا والهند.

مع تدفُّق المزيد والمزيد من الناس إلى المدن، أصبح الازدحامُ أسلوب حياة. يحتاج سكان الحضر الذين تزداد أعدادهم إلى مساكنَ ميسورةِ التكلفة وطرق فعَّالة للسفر وإمدادات مياه وكهرباء موثوق فيها في المنزل والعمل. يعتمد العديد من كبار المصنِّعين الآن على مولِّداتهم الخاصة، بدلًا من المخاطرة بساعاتٍ من انقطاع التيار الكهربائي يوميًّا. لكنه حلٌّ مُكلِّف.

تتَّسع الفجوات اتساعًا هائلًا. إذا كان مستقبل الهند هو شعبها، فهم بحاجةٍ إلى رعاية صحية لائقة ومدارس لأطفالهم لضمان إعداد قوة عاملة ماهرة. لا تصنع البنية التحتية اقتصادات، ولكنها يمكن أن تجعل عملها أسرع وأكثر سلاسة. سيؤدي ذلك بدوره إلى زيادة الكميات التي يمكن للهنود إنتاجها؛ ومن ثَم كسْبها.

كل هذا لا يحمل شيئًا جديدًا للسياسيين أو لقادة الأعمال في الهند. فقد تعهَّدت الحكومة الهندية بربط جميع قراها البالغِ عددها ٦٥٠ ألفًا عن طريق البَر، ومع ذلك فقد تراجعت أكثرَ فأكثر عن هدفها المتمثل في بناء ٢٥ ميلًا في اليوم. كشف رئيس الوزراء مودي النقابَ عن خطط لضخ تريليون دولار في الطرق والسكك الحديدية والمطارات. ثلثا هذا الرقم من مصادر خاصة — فمَن يمكنه مقاومةُ الحصول على شريحةٍ من أسرع الاقتصادات الكبيرة نموًّا في العالم؟!

يمكن للعديد من المستثمرين الأجانب مقاومةُ ذلك، على ما يبدو، ولديهم أسبابهم. قد يستغرق الأمر سنواتٍ قبل أن يُعرف ما إذا كان يمكن إكمالُ مشروع للبنية التحتية وجمْع أرباحه. إن إصلاح السكك الحديدية في الهند، على سبيل المثال، عمليةٌ شاقة. لا يتعلق الأمر فقط بالبيروقراطية الشائعة في الحصول على العقود وتنفيذ الأعمال، ولكن بالاحتمال الكبير بوجود فساد. فيمكن أن تكون مشاريعُ الطاقة أو الأراضي معقَّدة ومبهمة وطويلة، وفي النهاية قد تفوق المصالحُ الخاصة كلَّ شيء آخر. لا تمتلك الهند الموارد الطبيعية — وبالأخص النفط — التي تمتلكها بلدانٌ مثل نيجيريا. هذه الاحتياطيات النيجيرية هي نقطة جذب للأموال الأجنبية، وتتغلب على جميع المخاوف الأخرى.

يمكن أن يمثِّل الفساد، الحقيقي أو المتصوَّر، مشكلةً كبيرة للبلدان النامية. وفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي، فإن الفساد هو العقبة الكبرى أمام الحصول على أموال المستثمرين لتحديث الهند. يمكن أن يشمل العَقد المربِح رِشًا ووسطاء. إن الحصول على تمويلٍ من البنوك أمرٌ صعب أيضًا. وقد خفَّفت الحكومة القواعدَ لتسهيل استثمار الشركات الأجنبية، لكن اللوائح لا تزال مُربكة. وتوجد أيضًا مشكلاتُ حلِّ النزاعات ودعم العقود. فالشلل يهدِّد أكثرَ الأفكار الواعدة.

ومع ذلك، فهناك إرادةٌ سياسية لتغيير هذا الوضع، وهي تُمارس بطرقٍ أكثرَ إبداعًا من أي وقت مضى. على سبيل المثال، عرَضت الحكومة تأمينَ الشركات الأجنبية ضد المخاطر إذا وافقت على التعامل مع الطرق السريعة في الهند. يُستثمَر المزيد من الأموال الأجنبية بتأنٍّ، لكن الحكومة نفسها لا تزال تسهِم على مضضٍ بثلث التريليون دولار الذي تريد تخصيصه للمباني والموانئ والسكك الحديدية وما إلى ذلك. فمبلغ ٣٥٠ مليار دولار يعني ما يساوي نحو ٣٠٠ دولار للفرد. ويمكن للحكومة الآن أن تدفع المزيدَ بعد أن أصبح لديها سيطرةٌ أكبر على الموارد المالية في الهند.

لتطوير بنيتها التحتية، ومن ثَم تعزيز النمو والوظائف والدخل، تحتاج الحكومة الهندية إلى النفط. تتطلَّب خطَّتها الطموحة لبناء الطرق كمياتٍ هائلة من البيتومين (المعروف أيضًا باسم الأسفلت)، المصنوع من النفط الخام الثقيل. لا تستطيع نيجيريا بأي حالٍ من الأحوال توفيرَ ما يكفي من النفط لهذا الغرض؛ على الأقل ليس من النوع المناسب، ولا بالسعر المناسب. ومع استعداد المنتجين العراقيين لبيع النفط بسعرٍ مُخفَّض، أصبح العراق المصدرَ الأكثر شعبيةً في الهند. حيثما يوجد النفط، توجد الدولارات. فلم يكَد تاجرُ بيع الأرز بالجملة يُودِع دولاره أحدَ البنوك حتى جرى تمريره إلى شركة هندوستان للبترول، التي ترسل هذا الدولار إلى حقول النفط في العراق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤