الفصل الخامس

الثَّمن القاتم للذهب الأسود

من الهند إلى العراق

قد يكون الفضاء مكانًا موحِشًا، كما غنَّى إلتون جون ذات مرة، ولكن كل مساء في الساعة السادسة بتوقيت دلهي يُكافأ رواد الفضاء في محطة الفضاء الدولية بتذكيرهم بالوطن من خلال مشهدٍ مذهل من المحطة. تتوهَّج الأضواء في جميع أنحاء الهند، باعثةً هالاتٍ نورانية هائلة حول مُدُنها، ومضيئةً ملايين القرى الصغيرة.

قد ترى مشهدًا مشابهًا إذا كنت مسافرًا على إحدى الرحلات العديدة التي تربط شبه القارة الهندية بجميع البقاع الأخرى. ترسم خريطة الطيران هذه، ذات الآلاف من الخطوط المتقاطعة، مساراتِ الأفراد والأفكار والتجارة. إذا تمكَّنا من رؤية مسارهم، فقد نتخيَّل خريطةً مماثلة تتعقَّب المعاملات التي لا حصر لها والتي تدعَم التجارة المزدهرة الناشئة من شبه القارة الهندية، من شراء «وول مارت» لخدمات دعم تكنولوجيا المعلومات في الهند إلى سريلانكا التي تبيع الشاي إلى أستراليا. تمثِّل طرق التجارة هذه مليارات الدولارات، مما يعزِّز العلاقات وينعش النشاط الاقتصادي.

من بين أكثرِ المسارات شيوعًا، سواء بالنسبة إلى الرحلات الجوية أو الأموال، تلك التي تؤدي إلى الشرق الأوسط. لا تنتشر الصناعات، إلا القليل منها، في بلدان تلك المنطقة، كما أنها ليست وجهات سياحية رئيسية، باستثناء القليل من المناطق. إذا نظرنا إليها من محطة الفضاء، فسنجد أنها لا تزال غير مُضاءة، ولا تزال تنعم بضوء الشمس الباهت بينما تومض المصابيح في الهند. ومع ذلك، فهي مسئولة إلى حدٍّ كبير عن إبقاء شبه القارة مُضاءة. إن النفط، وليس رحلات السفاري على الجِمال أو التمور، هو عامل الجذب الرئيسي في الشرق الأوسط.

لربط قراها التي يبلغ عددها ٦٥٠ ألفًا، يتعيَّن على الهند أن تمهِّد طرقها الجديدة بالذهب، الذهب الأسود. تقع حقول نفط ميسان على بُعد مئات الأميال شمال مدينة البصرة جنوب العراق، باتجاه الحدود مع إيران. إنها تبدو مثل أي صحراء أخرى: مملة وقاحلة. ظلَّت هذه الأرض سنواتٍ عديدة حِكرًا على الفلاحين الذين يكسبون عيشَهم من التضاريس الترابية. تغيَّر كلُّ ذلك عندما اكتُشف الينبوع المتدفِّق من الوقود السائل تحت سطحها عام ١٩٧٥. سيطرت العراق على الحقول النفطية ودَعت الشركات الأجنبية الكبرى لتشغيلها. ربما لا تزال الأبقار ترعى في الأراضي المجاورة، لكن أُبعد العديد من المزارعين، وحلَّ محلَّهم مديرو شركات النفط من الصين وتركيا. كان التهجير واسعَ الانتشار لدرجةِ أن شركة نفط ميسان شكَّلت لجنةً خاصة بالتعويضات. في إحدى حملات العلاقات العامة، عُرض على بعض السكان المحليين وظائفُ، على سبيل المثال، حراسة حقول النفط. فلا يُستخفَّ بالأمن؛ فهذه الأرض المربِحة تقع في النهاية بالقرب من حدودٍ متنازَع عليها مع دولة مجاورة منقسمة على نفسها.

بالنسبة إلى أي دولة، فإن اكتشاف حقول النفط يَعِد بمكاسبَ غير متوقَّعة ليس فقط من الدولارات، ولكن أيضًا من السلطة. ومن هنا جاءت تسميةُ النفط ﺑ «الذهب الأسود». يمكن أن يؤديَ وجود موارد على مقربة منك أيضًا إلى حدوث اضطرابات وتقلُّبات. قد يكون الذهب الأسود نعمةً كبيرة؛ ولكنه يمكن أن يتحول أيضًا إلى نِقمة.

هذا لا ينطبق فقط على أباطرة النفط ومواطنيهم. فالقليل منَّا يستطيع ممارسةَ حياته اليومية من دون استهلاك النفط، لكن هذا الاعتماد على النفط يمكن أن يثقل كاهلنا أيضًا. قد نتساءل لماذا يمكن أن يرتفع سعر البنزين بهذه السرعة، ولكن لا ينخفض أبدًا بالسرعة نفسها. أو لماذا تحرص حكومتنا على شن الحروب في بعض الدول وتتجاهل النزاعات الأخرى؟ غالبًا ما تكمُن الإجابات في طريقة عمل قِطاع النفط. والأمر ليس بسيطًا. فالتنقيب والإنتاج والتكرير والتسويق وأجهزة الحفر والرافعات … حتى اللغة المُستخدَمة في هذه الصناعة تبدو مصمَّمة لإرباكنا. لكن الأمر يستحق أن نحاول فهْمه. نحن على وشْك أن نصل في رحلتنا إلى أحدِ أكثر الجوانب روعةً، تلك المتعلِّقة بالطريقة التي يعمل بها عالمنا.

•••

للتنقيب في قصة النفط، حان وقت البحث عن الحفريات. يعتبر النفط الخام مكونًا رئيسيًّا لأسطح الطرق السريعة بالإضافة إلى عددٍ لا يُحصى من العناصر الأخرى التي نستخدمها يوميًّا، من المواد الكيميائية إلى الزجاجات البلاستيكية. هذا المرق الغني الفاسد، المُكَوَّن من مزيج من المواد الحيوانية والنباتية المتعفنة المغطاة بالطين التي ظلَّت تتكوَّن لآلاف السنين في الزوايا بين الصخور الرسوبية، هو الوقود الذي يحافظ على سير المركبات على الطرق في جميع أنحاء العالم. جنبًا إلى جنب مع الدولار، فإنه يحافظ أيضًا على استمرار العديد من الاقتصادات.

إن القدرة على إنفاق الدولارات على النفط هي طريق للازدهار، كما تعلم الهند جيدًا. ولتلبية الطلب المتزايد، يحتاج بناة الطرق في الهند إلى البيتومين، الذي يحتاجون إلى طلبه من أحد الموردين الذي يحصل عليه من مصنع معالجة، مما يعني طرْقَ باب شركة هندوستان للبترول التي تسيطر عليها الحكومة. تقوم شركة هندوستان للبترول بتكرير أكثرَ من ١٦ مليون طن متري من النفط سنويًّا، الذي يُنقَل عبْر البلاد بواسطة خطوط الأنابيب لمسافة تزيد على ٣٠٠ كيلومتر. استبدل بائع الأرز بالجملة الروبية بدولارنا في أحد البنوك. ويمكن للبنك بعد ذلك إعطاءُ الدولار إلى شركة هندوستان للبترول. وستستخدم إحدى مصافيها الدولارات التي لديها لتتمكَّن من شراء برميل نفط من العراق.

عُرفَت استخدامات النفط المختلفة لقرون عديدة. فقد عُثر على آثار للنفط في أهرامات مصر القديمة وفي القطران المُستخدم في ختْم أغلفة المومياوات المدفونة هناك. ظهرت الكلمة اللاتينية «بتروليوم» التي تعني حرفيًّا «النفط الصخري» للمرة الأولى في القرن السادس عشر. كان هذا وصفًا مناسبًا: حتى القرن التاسع عشر، كان النفط الخام يُستخرج في أغلب الأحيان من تسرُّبات الصخور أو من البقع النفطية. اعتمدت المصابيح في القرن التاسع عشر اعتمادًا أساسيًّا على زيت الحوت، لكن ذلك تغيَّر قُرابة عام ١٨٥٠ عندما أجرى الجيولوجي الكندي أبراهام جيسنر عمليةَ تقطير لوقود جديد، هو الكيروسين، من البترول. وقد ثبَت أنه أرخص وأنظف من زيت الحوت؛ وساعد اكتشافه في إنقاذ الحيتان.

دفعت مسيرة التصنيع السريعة إلى تعطُّش الدول الكبرى للنفط. في الوقت نفسه تقريبًا، اكتُشفت احتياطيات كبيرة من النفط الخام في تيتوسفيل في ولاية بنسلفانيا الأمريكية. بدأ تشغيل أول حقل نفط تجاري واسع النطاق، «سبيندليتوب» في عام ١٩٠١، في الوقت الذي بدأ فيه استخدام محرِّك الاحتراق، الذي أدَّى إلى ظهور الطائرات والسيارات، على نطاق أوسع. كان النفط عنصرًا حاسمًا لبداية العصر الحديث، وقد سيطر على العالم منذ ذلك الحين.

«النفط الخام» هو كلمةٌ عامة تشمل مجموعة متنوِّعة من درجات النفط المُستخرَج من الأرض أو من أسفل قاع البحر. وهو يختلف في الكثافة والاتساق والسُّمِّية. على الرغم من اسم «الذهب الأسود» فإن له العديد من درجات الألوان، من الأسود الداكن إلى الأصفر الباهت. يتدفَّق الزيت الأخف جيدًا، ويسهُل إخراجه من الأرض، ويتبخر بسرعة. كلما كان النفط أخفَّ وزنًا، زاد احتمال أن يكون أقلَّ ضررًا. وعادةً ما يكون أثقلُ أنواع النفط هو الأكثر شبهًا بالحَمْأة والأصعب في الضخ؛ إنه الأكثر سُمِّية على البيئة ومن المحتمل أن يكسوَ ريش الطيور البحرية عند انسكابه.

واليوم، يأتي البنزين الذي تمتصه السيارات والنفاثات العطشى من أكثر أنواع النفط نقاءً: نواتج التقطير الخفيفة. قد تشير كلمة «خفيف» ضمنًا، كما هي الحال عندما تُكتَب كلمة «خفيف» على علامات تجارية معيَّنة للمشروبات، إلى منتجٍ ذي جودة أقلَّ من المنتج الأصلي. عند تطبيقه على الزيت، يشير مصطلح «خفيف» إلى مادةٍ أكثرَ نقاءً. تُستخدم الدرجات المتوسطة الأقل نقاءً في صناعة المواد البلاستيكية والكيميائية، وسفن الوقود ومحطات الطاقة، وتدفئة المنازل. يُعتبر الزيتُ الأكثر كثافة مثاليًّا لصنع البيتومين؛ ومن هنا تأتي مصلحة الحكومة الهندية.

يلاحق دولار الهند خامَ البصرة الثقيل، وهو نفط خام منخفض التكلفة يُباع للمشترين الذين يريدون بديلًا أرخصَ لخام البصرة الخفيف الممتاز. على الرغم من وجود احتياطيات نفطية في خليج البنغال وولاية راجستان، فإنه يتعيَّن على الهند أن تتطلع إلى الخارج للحفاظ على سير مَركباتها. عادةً ما يبيع العراق ما يصل إلى مليون برميل من النفط يوميًّا للهند، واحد من كل خمسة من هذه البراميل هو خام البصرة الثقيل.

هذه صفقة عادية تحدُث يوميًّا في الاقتصاد العالمي. يُستهلك حاليًّا ما يقرُب من ١٠٠ مليون برميل من النفط المتوسط الدرجة في جميع أنحاء العالم يوميًّا. وهذا يعادل أكثرَ من لترين من النفط الخام يوميًّا لكل رجل وامرأة وطفل، دون احتساب الأشكال الأخرى للطاقة.

يختلف الاستخدام اختلافًا كبيرًا. فمما لا يثير الدهشة، تأتي الولايات المتحدة في المقدمة من حيث إجمالي استهلاك النفط: يستهلك المواطن الأمريكي العادي نحو ١٠ لترات من النفط أو المنتجات النفطية يوميًّا. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى استخدام المركبات التي تستهلك الكثيرَ من الوقود لمسافات طويلة — إذ يصل إجمالي استخدام الطاقة إلى ذروته خلال موسم القيادة الصيفي — وكذلك إلى فصول الشتاء القاسية فيها؛ إذ يؤدي البرد القارس إلى زيادة استخدام سكان الشمال الشرقي لأنظمة التدفئة. بعد ذلك تأتي الصين بمصانعها التي تستهلك الكثيرَ من الطاقة. تتنافس الهند واليابان على المركز الثالث، بينما تحتل روسيا المركزَ الخامس. فيما بينها، تستخدم هذه البلدان ٤٠ مليون برميل يوميًّا وفقًا لإدارة معلومات الطاقة. (ومع ذلك، لا يوجد في أيٍّ منها أعلى استهلاك للنفط لكل فرد. تميل الجزر الصغيرة مثل سنغافورة إلى كونها الأعلى من حيث استهلاك النفط للفرد الواحد: فعدد السكان قليل، وصناعة الشحن ضخمة.)

يُعَد شراء الكثير من النفط علامةً على نمو الاقتصاد، وتُمسِك الهند وبلدان نامية أخرى بزمام الأمور: فقد زاد الاستهلاك العالمي في المتوسط بنحو ١-٢ في المائة، أو مليون برميل يوميًّا، منذ عام ٢٠١٠، مع انتعاش النشاط الصناعي في بلدان مثل الصين التي ينفق سكانها ثرواتهم المكتسبة حديثًا على السيارات. أدَّت الأزمة المالية العالمية وتباطؤ الصين إلى «نقص» الطلب على النفط. وهذا لا يعني أن الطلب يتراجع، ولكن يعني أن وتيرة النمو أصبحت أبطأ.

بينما تشهد الصين تباطؤًا، تشهد بلدانٌ أخرى ازدهارًا. تقدِّم الهند نموذجًا لإمكانية زيادة الطلب في المستقبل. حتى مع وجود كل برامجها الطموحة لبناء الطرق، لا يزال استهلاك النفط يعادِل نحو نصف لتر في اليوم للفرد: أي واحد على ٢٠ من متوسط استهلاك الأمريكيين. يمكن أن يتغيَّر ذلك بسرعة كبيرة بمجرد الانتهاء من تلك الطرق، وإذا بدأت الهند في تحقيق المزيد من أهدافها الاقتصادية. تتوقَّع وكالة الطاقة الدولية أن الهند ستكون أسرع مستهلك للنفط نموًّا خلال العَقدين المقبلين. أما إمكان تلبية احتياجاتها، فهو موضوع آخر.

يختلف ترتيب أكبر خمسة منتجين للنفط كلَّ عام، لكن عادةً ما تظهر روسيا والولايات المتحدة في القائمة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى السعودية وإيران والعراق. هناك فرْق بين مَن يقوم بالتوريد ومَن يشتري. إن بعض البلدان تبحث عن موارد الآخرين. وهذا يعني أن التعطُّش للنفط قد أدَّى إلى تكوين علاقات خاصة، وتكتلات، ومنافسات، وحتى سفك للدماء. إن ثَمن النفط ليس مالًا فقط.

•••

يعود أصل الوحدة التي يُقاس بها النفط إلى إنجلترا في العصور الوسطى. يشير «البرميل»، الذي يعادل ٤٢ جالونًا أو ١٥٩ لترًا، إلى وعاء إنجليزي قديم لحمل النبيذ. يوضع النفط هذه الأيام في صهاريجَ وليس في براميل فعلية، تمامًا كما يُباع النبيذ الآن في زجاجات. وفي القرن الحادي والعشرين، لا يشتري الدولار برميلًا كاملًا.

إن وضْع السعر على «برميل» النفط أصعبُ مما يبدو. وهذه مشكلة رئيسية. إذا كانت الهند تشتري مليون برميل يوميًّا وتُنشئ ٢٠ كيلومترًا من الطرق يوميًّا، فإن بضعة دولارات تُحدِث فرقًا هائلًا بطريقة أو بأخرى. فكيف يُباع النفط وما تكلفته؟ هنا تظهر بعض الآليات الغريبة والمعقَّدة للاقتصاد العالمي.

مثلما يشير النفط الخام إلى مجموعة من المنتجات، لا يوجد «سعر نفط» مُوَحَّد، على الرغم مما قد يشير إليه كُتَّاب العناوين الرئيسية. فلكل درجة من النفط تُستخرج من كل منطقة سعرٌ خاص بها. عندما يتحدَّث الصحفيون عن سعر النفط، فإنهم يقصدون عادةً مقياسًا رئيسيًّا واحدًا: مزيج برنت، النفط الخفيف المُستخرج من حقول نفط بحر الشمال. يحظى مزيج برنت باهتمام كبير لأنه النوع الأكثر رواجًا: إذ يُكرَّر بسهولة ويُحوَّل إلى بنزين، وعندما يُضخُّ من البحر، فإنه يُنقل بسهولة إلى الجانب الآخر من العالم. يُستخدم سعرُ خام برنت بوصفه نوعًا من الاختزال لسعر النفط العام؛ لأن ذلك أبسط من حساب متوسط سعر جميع أنواع النفط المختلفة على مستوى العالم، خاصة أن تلك الأسعار تتغيَّر باستمرار.

تُحدَّد الأسعار من خلال عملية التداول والشراء والبيع. بغض النظر عن الشكل الذي تتخذه الأسواق، من غرف التداول البرَّاقة في البنوك الأمريكية إلى الأزقة المترَبة للأسواق العراقية، فإنها تعمل جميعًا بالمبدأ نفسه: الجمع بين المشترين والبائعين وتحديد السعر الذي يتناسب مع العرض والطلب. التقِطْ ثمرةَ رمان في سوق بغداد، وسيعكس سعرها ليس فقط تكلفةَ إنتاجها — تأثير الطقس على الحصاد، وسعر النقل والمبيدات، وما إلى ذلك — ولكن أيضًا رغبةَ المشترين فيها. إذا كان الطلب مرتفعًا، فقد يتمكَّن المُنْتِج من زيادة السعر وتحقيق ربحٍ أكبر. وعلى النقيض، إذا كان المحصول وفيرًا، وكان يومًا هادئًا في السوق، فقد تنخفض الأسعار بينما يحاول البائع بيْعَ منتجاته. الهدف هو بيع جميع المنتجات بحلول نهاية اليوم والحصول على أكبر قدْر ممكن من النقود.

وبالمثل، يريد منتجو النفط تعظيمَ أرباحهم، لكن عملية الاتفاق على السعر معهم تتطلب أكثرَ بكثير من مجرد الذهاب إلى حقل النفط بحَفنة من الدولارات لجلسة مقايضة سريعة. إن المشترين والبائعين منتشرون في جميع أنحاء العالم، كما أن احتياجاتهم متنوِّعة؛ مثل درجات النفط المعروضة. يؤدي تعقيد استخراج النفط ومعالجته إلى تعقيدات لكلٍّ من البائع والمشتري. إن الحاجة تقتدي نقل النفط دوليًّا عبْر شبكة من الناقلات وخطوط الأنابيب. والمشتري عادةً ما يرغب في الحصول على عدد من البراميل، ويحتاج إلى مستودعات للتخزين.

تتضمَّن عمليةُ شراء النفط توافر بنية تحتية، بالإضافة إلى التخطيط المسبق. بشكل عام، يتضمن التخطيط معرفةَ كمية النفط المزمع شراؤها لشهور قادمة، وكذلك التكلفة. لقد توصَّل المشترون والبائعون إلى طريقةٍ بارعة للتخطيط للمستقبل: «العَقد الآجل»، وهو في الأساس وعدٌ بتداول كمية معينة من النفط بسعر معيَّن في وقت معيَّن مستقبلًا. ويعني هذا العَقد أن المشتري — في هذه الحالة، شركة هندوستان للبترول — مُلزَم بشراء برميل النفط بسعر ثابت في تاريخ آجل (عادةً بعد ثلاثة أشهر)، وأن البائع — ويكون عادةً مُنتِجًا للنفط — مُلزَم ببيعه بهذا السعر في ذلك التاريخ الآجل.

بوجه عام، فإن الشراء المباشر في عصر العولمة لم يَعُد موجودًا. فالسوق المركزية، التي يعمل بها تجار محترفون، هو القاعدة. وتجار السلع، على بُعد آلاف الأميال، هم الذين يتوسطون في الصفقة ويحدِّدون قيمةَ الدولارات التي يتعيَّن على الهند التخلي عنها لشراء برميل النفط لتمهيد الطرق لديها. إن العَقد نفسه هو مجرد قطعة من الورق، وقد تشتريه شركة هندوستان للبترول، عن طريق تاجر، من عميل آخر. عندئذٍ، سيكون لشركة هندوستان للبترول الحقُّ في شراء النفط بالسعر المُتَّفَق عليه في ذلك العَقد بعد بضعة أشهر.

وكأن مشكلة العرْض والطلب لم تكن كافية حتى أضيف عنصران آخران: المعنويات والتكهنات. يرجع الكثير من ذلك إلى دور الوسطاء. فتجار السلع هم تجارٌ في سوق المنتجات العالية الثمن، ولهذا يُشار إليهم أحيانًا باسم «الباعة المتجوِّلين». فهم يتاجرون في أي شيء يجري التنقيب عنه أو استخراجه أو زراعته، مثل الطاقة والمعادن والمواد الغذائية. وتجار السلع قديمون قِدَم الحضارة نفسِها. ففي البداية، كانوا يتاجرون بالماشية، وكانت مُسعَّرة بالذهب أو الفضة. ومع تَوسُّع الأسواق دوليًّا وازدياد تعقيد المنتجات، ازدادت الطريقة التي يعمل بها هؤلاء التجار تعقيدًا هي الأخرى. تطوَّرت بورصة أمستردام لتصبح أولَ بورصة تتحول إلى سوقٍ للسلع، ولكن غالبًا ما يُشار إلى مجلس شيكاغو للتجارة بأنه أول بورصة «رسمية» آجلة رئيسية. كان انطلاق المجلس في عام ١٨٦٤، قبل استخراج النفط على نطاق واسع، وتداول القمح، والذرة، والماشية، والخنازير. عادةً ما كان يجري تداول السلع من خلال «المزايدة العلنية» — المساومة في مناطق التداول المختلِفة في قاعة التداول — وكان يُمكن التعرُّف على التجار على الفور من خلال ستراتهم المبهرجة. لقد أنهت التكنولوجيا ذلك، وأصبحت المعاملات تُنفَّذ الآن إلكترونيًّا؛ إذ يجري إدخال الطلبات عن بُعد ومطابقتها بواسطة أجهزة الكمبيوتر.

لا يزال المحلِّلون والتجار بحاجة إلى معرفة جميع التفاصيل المتعلقة بمنتجهم وبالسوق. فقراراتهم وأفعالهم تحافظ على سير المركبات وعلى عمل المصانع. إنهم يطَّلِعون على التقارير الأسبوعية من هيئات الطاقة المختلفة في جميع أنحاء العالم لمعرفة عدد البراميل الموجودة — أي المخزون — وتكوين فكرة عن مدى مطابقة العرْض والطلب بشكل جيد. هم سيراجعون الإنتاجَ ويُلقون نظرةً أيضًا على الأحداث والاتجاهات الحالية التي قد تؤثِّر على العرض في الأشهر المقبلة؛ على سبيل المثال، ما إذا كانت الشركات في نيجيريا تتعرَّض للضغط بسبب حركات التمرُّد في البلاد. من ناحية الطلب، على سبيل المثال، هل المصانع الصينية تتباطأ وتستهلك أقل؟ هذه أمثلة على «الأساسيات» التي تساعد في تحديد عدد الدولارات التي يجب أن يكلِّفها برميل النفط، بناءً على جميع الأدلة المُتاحة.

يستخدم التجار أيضًا حسَّهم البديهي بشأن المخاطر المستقبلية. هل هم قلقون بشأن انقطاع الإمدادات في نيجيريا؟ أو اندلاع اضطرابات في منطقة الخليج؟ هل هناك خطرٌ من وقف المصانع الصينية لإنتاجها؟ قد تستند فطرتهم على الحَدْس أو الإشاعات أو الثرثرة. كل هذا يأتي تحت عنوان معنويات السوق. سواء كانت كئيبة أو متفائلة، فإنه يمكن لهذه المعنويات أن تُحدِث فرقًا كبيرًا في تكلفة برميل النفط — بالدولارات — الذي تسعى الهند لشرائه.

وتوجد أيضًا التكهنات. تجمع المعنويات بين القلب والعقل عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرار مستنير بشأن الاتجاه المستقبلي لسوق النفط. أما التكهنات فهي تعمل بناءً على المعنويات، ليس من منطلق الرغبة في شراء النفط أو بيعه، ولكن من أجل جنْي الأموال من الصفقة. فالمضاربون لا يتسلَّمون أو يرسلون براميل النفط؛ إنهم ببساطة يراهنون على ما إذا كانوا يتوقَّعون ارتفاع أو انخفاض أسعار النفط عن طريق شراء وبيع تلك العقود الآجلة. عندما يشعر المضاربون بالتفاؤل بشأن السعر، فإنهم يشترون المزيدَ من النفط، حتى لو لم يكونوا في الواقع ينوون امتلاكه. يمكنهم بيع هذا العَقد لشخص آخرَ وتحقيق ربح. توقَّع بشكل صحيح، واحصل على النقود. لا يختلف الأمر عن الطريقة التي يتعامل بها العديد من المستثمرين مع الأسهم في سوق الأسهم.

إن قِطاع النفط هو قِطاع ضخم. فوفقًا لإحدى بورصات السلع، يجري تداول براميل النفط الفعلية في أقل من خمسة في المائة من آلاف المعاملات التي يرى التجار تدفُّقها في الأنظمة المحوسبة كل دقيقة. قد يكون مصدرُ قطعة الورق التي تشتريها شركةُ هندوستان للبترول شخصًا لم ينوِ شراء النفط فعليًّا؛ لقد أراد فقط بيعَ تلك القطعة من الورق إلى شركة هندوستان للبترول وتحقيق ربح. يقدم التجار عقودًا لكل نوع من أنواع النفط. إذا رأوا أن الطلب هائل، فسوف يرفعون السعر. يحدُث العكس عندما يكون الطلب ضعيفًا أو عند حدوث إغراق للسوق. يمكن أن تتسبب المضاربة في رفع سعر السوق رفعًا لا يعكس العرْض والطلب الحقيقيَّين. إنهم المقامرون الذين يحاولون الرهانَ على السلعة الأكثر رواجًا، وتشويهَ سعر السوق.

يمكن أن تؤثِّر المضاربة بشدة على سعر النفط. في الواقع، يمكن أن تسبِّب تقلبات كبيرة في السعر وأن تخلق حالةً من عدم اليقين إلى حدٍّ بعيد. فالمضاربون على الجانب الآخر من الكرة الأرضية هم مَن يحدِّد المبلغ الذي تدفعه الهند مقابل البيتومين، أو ما إذا كان بإمكانها حتى بناء طرقها. إنهم يحددون مقدارَ ما ينفقه الأمريكيون على البنزين. في النهاية، يؤثِّر المضاربون على الثروات وعلى نمط السلطة حول العالم.

قد يبدو هذا جنونًا، أو على الأقل غيرَ عادل بشكل فادح، لكن المضاربة هي جزءٌ مربِح من صناعة التمويل الحديثة فلا يوجد حافز كبير لقمعها. فليس من مصلحة أصحاب الأموال أن يفعلوا ذلك. قد تشعر الحكومات بالإحباط، ولكن في عصر الأسواق العالمية المترابطة، فإنها عاجزة عن التصرف بمفردها. كذا فإن التخلُّص من العقود الآجلة لن يساعد أيضًا. فهي شريان الحياة للمصانع وشركات الشحن وشركات الطيران وموردي البنزين؛ والدول في نهاية المطاف.

من المعقول أن نتساءل عما إذا كانت هناك طريقة أخرى للتحكم في سعر النفط. هنا يأتي دَور منظمة أوبك، أو منظمة البلدان المصدِّرة للنفط. تأسَّست منظمة أوبك في عام ١٩٦٠ في بغداد، على بُعد ٣٠٠ ميل فقط من البصرة، وتتألف من ١٢ بلدًا فقط: من أباطرة النفط في الخليج العربي وهي المملكة العربية السعودية والعراق وإيران والكويت، إلى كبار المنتجين الأفارقة مثل نيجيريا وأنجولا، إلى صغار المنتجين نسبيًّا بما في ذلك الإكوادور وغينيا الاستوائية. معًا، ينتجون حوالي أربعة من كل ١٠ براميل نفط في العالم، وستة من كل ١٠ براميل يجري تصديرها بعد ذلك.

إن منظمة أوبك هي أكثر من مجرد شبكة دعم مريحة للبلدان ذات التفكير المماثل. فهي موجودة من أجل «تنسيق وتوحيد السياسات البترولية لدولها الأعضاء وضمان استقرار أسواق النفط، من أجل توفير إمدادات نفطية فعَّالة واقتصادية ومنتظمة للمستهلكين، ودخل ثابت للمنتجين، وعائد عادل على رأس المال لأولئك الذين يستثمرون في صناعة البترول». أو على حدِّ تعبير منتقديها، فهي كارتل، أي مجموعة موجودة للتأثير على أسعار النفط لحماية أرباحها ومصالحها.

من المفترض أن تجتمع منظمةُ أوبك بانتظام لتنسيق الإنتاج، ومن ثَم الحفاظ على استقرار سعر النفط وضمان حالة من اليقين والاستقرار لأعضائها. وهي تفعل ذلك بشكل أساسي من خلال محاولة الحفاظ على ثبات الإمدادات؛ إذ تؤدي قلة الإمدادات إلى زيادة السعر. وهي تحدِّد «أهداف الإنتاج» مما قد يعني إصدارَ أوامر للأعضاء بخفض تدفُّق النفط لتدعيم الأسعار عندما تكون منخفضة، ويجب على الأعضاء الموافقة على الحصص والقيود. لكن هذا لا ينجح دائمًا. فمن الناحية النظرية، المملكة العربية السعودية هي المهيمنة، بصفتها أكبر الأعضاء، وحريٌّ بها أن تسيطر على منظمة أوبك، لكن البلدان الأخرى عامة، كلٌّ منها له أهمية بما يكفي لإحداثِ أثر. قد يقرِّر أيُّ عضو فرديًّا أن يكون أنانيًّا ويتجاهل تعهدًا بخفض الإنتاج، وهو أمرٌ تزداد احتماليةُ حدوثه إذا اشتبه عضو في أن عضوًا آخرَ يفعل الشيء نفسَه. منذ عام ١٩٨٠، انتُهكت الغالبية العظمى من حصص إنتاج أوبك. في مثل هذه المجموعة المتنوِّعة والممتدة جغرافيًّا، تزداد الشكوك والتوترات والدوافع للغش.

ضعُفت سلطة منظمة أوبك مع نمو عمليات إنتاج النفط في الولايات المتحدة وروسيا. ومع ذلك تظل أوبك فاعِلًا أساسيًّا؛ بل إن لها أسعار نفط خاصة بها، سلة أوبك. ينتج أعضاؤها معًا نحو أربعة أضعاف كمية النفط الخام التي تنتجها الولايات المتحدة كل عام. سيظل التجار يأخذون في الحسبان ما تقوله أو تفعله أوبك عندما يحاولون تحديدَ قيمة برميل النفط.

إن عملية تحديد سعر أحد أهم المنتجات وأكثرها رواجًا في العالم هو أمرٌ معقَّد ومتقلب. وهذا ليس بجديد؛ فقد شهد سعر النفط، لعدة أسباب، ارتفاعاتٍ وانخفاضات حادة منذ أن شاع استخدامه. وفي أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، كانت الحرب الأهلية الأمريكية سببًا في ارتفاع أسعار النفط ارتفاعًا حادًّا. ومنذ ذلك الحين، أصبح من السهل أن نرى كيف تسبَّبت الأحداث المهمة — مثل الزيادة السريعة في ملكية السيارات الأمريكية في عشرينيات القرن الماضي، أو أزمة قناة السويس، أو الكساد الكبير — في حدوث ارتفاعات وانخفاضات طوال الوقت. لكن بالنسبة إلى الجزء الأكبر، من عام ١٩٦٠ إلى أوائل سبعينيات القرن العشرين، كان سعر النفط يتراوح بين ما يعادل ٢٠ دولارًا و٤٠ دولارًا للبرميل فيما يعادل قيمة النقود اليوم. لو كانت الهند قد بدأت برنامج إنشاء الطرق الخاص بها منذ ١٠٠ عام، لأصبحت حينئذٍ واثقة تمامًا من سعر النفط المطلوب لإكمال هذا المشروع. ولكن مع بداية سبعينيات القرن العشرين، أحدثت التغيرات — التي طرأت على الصعيد الجيوسياسي، وعلى طريقة عمل السوق — تقلبات هائلة في سعر النفط، حتى أصبح سوق النفط أشبهَ بركوب الأفعوانية التي تصيب بالدُّوار. منذ ذلك الحين، انخفض سعر البرميل إلى أقل من أربعة دولارات وارتفع أيضًا إلى ما فوق ١٢٠ دولارًا أمريكيًّا. في ظاهر الأمر، هذه زيادة بمقدار ٣٠ ضعفًا. بالطبع، ارتفعت التكلفة القياسية للمعيشة بمرور الوقت أيضًا، لكن استبْعِد ذلك وسيصبح الارتفاع بمقدارٍ يعدل ستة أضعاف، وهو ما لا يزال ارتفاعًا دراماتيكيًّا. وهذا يؤثِّر على كل الدول — والأفراد — على هذا الكوكب.

تحوَّلت قاعدة القوة للاقتصاد العالمي على نحوٍ ملحوظ في منتصف القرن العشرين، مع زيادة تملك السيارات باطراد وصعود منظمة أوبك. وجد أكبر منتجي النفط، مثل المملكة العربية السعودية، أنفسَهم محطَّ أنظار الغرب المتعطِّش للطاقة، مع دراسةٍ متأنِّية من جانب التجار لأقوال مسئولي أكبر الدول المنتجة للنفط مع ارتفاع الأسعار منذ ستينيات القرن العشرين فصاعدًا. ثم في عام ١٩٧٣، قاطعَ منتجو النفط العربُ أمريكا وعاقبوا الغربَ ردًّا على دعمه لإسرائيل في حرب يوم الغفران ضد مصر. وقد أدَّى ذلك إلى تضاعف سعر النفط أربع مرات في عامي ١٩٧٣ و١٩٧٤. لقد منح ذلك سلطةً هائلة لمنظمة أوبك، كما أعطى وزنًا كبيرًا لكلِّ ما يقوله أعضاؤها. وجعل ذلك مَلِك المملكة العربية السعودية ثريًّا للغاية.

في ذلك الوقت، عقب اتفاقية «بريتون وودز» التي تهدُف إلى ضمان الاستقرار المالي العالمي من خلال جعل الدولار العمود الفقري للاقتصاد العالمي، كانت العملة الأمريكية هي وحدةَ التجارة الدولية، والمتاحة على نطاق واسع، والمدعومة بالذهب. لكن لم يكن هناك ما يكفي من الذهب المُستخرج لمواكبة عدد الدولارات المتداولة. فانهارت اتفاقية «بريتون وودز» وكان وضع الدولار وسُمعته في خطر.

للمساعدة في استعادة موثوقية الدولار العالمية، أبرمت الولايات المتحدة صفقةً مع المملكة العربية السعودية في عام ١٩٧٣ لتسعير جميع المنتجات البترولية وتداولها بالدولار. وقد أدَّى هذا إلى احتفاظ الدولار بدوره الريادي في التجارة، وكانت قيمته مدعومةً بالعطش الذي لا يُروى للهيدروكربونات. نظرًا لأن العالَم كلَّه يحتاج إلى النفط، فقد كان الطلب على الدولار مرتفعًا. وفي المقابل، حصل السعوديون على تأييدِ أمريكا ونفوذها للحفاظ على الأمن، لا سيما فيما يتعلَّق بكبح جِماح كلٍّ من إيران والعراق؛ وهو تطوُّر مهم بالنسبة إليهم في مثل هذه المنطقة المضطربة.

إن الاعتماد على هذه الدولارات يعني أن منتجي النفط يجب أن يكونوا أكثرَ ميلًا للامتثال للسياسة الخارجية للولايات المتحدة؛ أو على الأقل أن تقلَّ احتمالية الرد عند حدوث أي خلاف. وكما أظهرت الصراعات مع منتجي النفط، فإن هذا لم يكن دائمًا صحيحًا، لكنَّ مصدِّري النفط يحتاجون في النهاية إلى الدولارات ليظلوا أقوياء. كان الوضع برُمَّته في صالح الولايات المتحدة.

مع الارتفاع الحاد لأسعار النفط، زادت الأرباح التي جنَتها الدول المنتجة للنفط بشكل سريع. وسرعان ما أصبحت هذه الثروة تُعرف باسم «البترودولارات» وتعني الدولارات العائدة من تصدير النفط. بمرور الوقت، زاد استثمارُ حكومات تلك البلدان للدولارات العائدة من تصدير النفط بطرقٍ معقَّدة. وشمِل ذلك إعادةَ الدولارات إلى الولايات المتحدة، عن طريق شراء السندات وما شابه ذلك، تمامًا كما فعلت الصين مؤخرًا بالدولارات التي بحوزتها.

أدركت الحكومات في جميع أنحاء العالم أنها ستحتاج إلى إمدادات ثابتة من الدولارات إذا أرادت شراء النفط. لذلك كانت الحكومات أكثرَ ميلًا إلى محاولة مواءمة عملاتها مع قيمة الدولار، لمحاولة تجنُّب التكاليف الضخمة وغير المتوقعة. ولم ترغب في أن تجد فاتورة الكمية نفسها من النفط تتضاعف بين عشيةٍ وضحاها مع ارتفاع قيمة الدولار.

بالنسبة إلى بلدانٍ مثل العراق والهند، وهي البلدان التي امتدَّت صداقتها وعلاقاتها التجارية لقرون، فإن تسعير النفط بالدولار يجعل العمليةَ برُمَّتها مرهقة. بينما تشتري شركة هندوستان للبترول براميلَ من نفط البصرة الثقيل، يستورد العراق الأرز والجرارات والأدوية من الهند. من دون تدخُّل النفط والقدرة المطلقة للدولار، يمكن أن تكون التجارة بين البلدين حول مبادلة الدينار بالروبية. إن كل دولار إضافي يُضاف إلى سعر برميل النفط له تأثيرٌ كبيرٌ وبعيد المدى.

ليس مُستغربًا أن هذا الوضع قد أحبط العديدَ من منتجي النفط ومشتريه، الذين استاءوا من استعراض الولايات المتحدة لقوَّتها بهذه الطريقة. وتطلَّع البعض، مثل فنزويلا وإيران، إلى توقيع صفقات لتجارة النفط بعملاتهم الخاصة. في كثير من الأحيان، هناك احتجاجٌ لا يهدأ بشأن تسعير النفط بطرقٍ أخرى. لكن بالنسبة إلى الجزء الأكبر، يحافظ الدولار على سيطرته الخانقة على سوق النفط، لأسبابٍ أهمها أنه يحظى بدعم الفاعلين الرئيسيين ويجعل التداول أسهلَ بالنسبة إلى أسواق النفط.

تلك التغيُّرات الجيوسياسية في أعقاب حرب أكتوبر تلاها تحرير أسواق المال في فترتي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وهو التحرير الذي شجَّع البنوك الكبرى والمستثمرين الآخرين على التفكير في جعلِ سعر النفط مادةً للمقامرة. أعطى ظهور سوق العقود الآجلة للطاقة في عام ١٩٧٨ هؤلاء المضاربين فرصةً أكبر لتحقيق مكاسب. وجرى تداول هذه العقود في — بورصة نيويورك التجارية — التي تأسَّست في الأصل لتجارة الزبدة والجبن قبل قرن من الزمان. كان الغرض من ذلك وقتها هو تحقيق بعض الوحدة والاستقرار في أسعار منتجات الألبان. وقد أصبحت الآن بمثابة منصة تسمح للشركات بالتأمين ضد التقلبات الشديدة في أسعار النفط، من خلال الشراء مقدَّمًا. لكنها أعطت أيضًا المضاربين فرصةً لتحقيق ربح سريع. لذلك، لم يكن فقط العالَم كله يعتمد على قيمة الدولار للحصول على الطاقة الأساسية، بل كان سعر النفط نفسه شديد التقلب. وهذا قدْر هائل من عدم اليقين الذي يجب إدارته، وليس مستغربًا أن معظم البلدان تريد أن يكون لديها أكبر قدْر ممكن من السيطرة على إمدادات الطاقة لديها.

كان لهذا القلق تأثيرٌ على السياسات الخارجية والدبلوماسية في جميع أنحاء العالم. وبينما كانت الصين تتودَّد إلى نيجيريا من أجل نفطها، كان يتعيَّن على الولايات المتحدة وحلفائها الحفاظُ على علاقة وثيقة مع السعوديين. وقد أدَّى ذلك إلى تصوُّر أن الغرب قد غضَّ الطرْف عن سجلِ المملكة العربية السعودية المثير للجدل في مجال حقوق الإنسان. كونه من نوع السجلات التي تتعرَّض لانتقادات قاسية في أي مكان آخر، فإن هذا يعني أيضًا اتهامات للغرب بالنفاق.

منذ نهاية الحرب الباردة مع روسيا، شاركت الولايات المتحدة أيضًا في حربين في العراق، وحرب في أفغانستان، وأخرى في ليبيا. ظهرت حقول النفط المحترِقة في الكويت عبْر شاشات التلفزيون في عام ١٩٩١؛ بعد أكثر من عَقد بقليل، عادت البلدان المتحالفة، التي كان هدفها ظاهريًّا البحث عن مخزون صدام حسين من أسلحة الدمار الشامل، لكن لم يكن من قبيل المصادفة أن القتال دار وسط احتياطيات النفط الهائلة في المنطقة. ربما كانت الحرب في أفغانستان ردًّا على فظائع القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر، لكنها كانت أيضًا تتعلق بتأمين خط أنابيب مهم.

منحت هذه الصراعات الولايات المتحدة فرصةً لتثبت للعالم أنها بمثابة الشرطي في منطقة الدول المنتجة للنفط. وقد كانت أيضًا تحمي مصالحها الخاصة. ووجود شركاء في الشرق الأوسط على استعداد وبإمكانهم تزويدُ شركاتها بالنفط وعقود الإنتاج كان أمرًا أساسيًّا لاستمرار هيمنة أمريكا — والدولار — على الاقتصاد العالمي. لقد ساعد النفط في إمداد المنازل بالطاقة، وتوفير فرص عمل لعمال النفط الأمريكيين، وتعزيز الطلب على الدولار. بالنسبة إلى جميع المعنيين، يعتبر النفط نعمةً ونِقمة في الوقت نفسه. فإلى حدٍّ ما، نحن جميعًا تحت رحمة التغيُّرات في سعر صرف الدولار وسعر البرميل على النحو الذي تحدِّده الأسواق العالمية. إن التغييرات التي تُجرى على أيٍّ منهما لها تأثيرٌ غير مباشر على الاقتصاد، وهو أمرٌ يؤثِّر علينا جميعًا.

يساعد النفط في تنشيط اقتصادات المستوردين المتعطِّشة للنفط مثل الهند، لكنه يجعلهم أيضًا معرَّضين للخطر. عندما يرتفع سعر النفط، يتعيَّن على شركة هندوستان للبترول أن تدفع المزيدَ من الدولارات لكل ميل من الطرق السريعة التي تريد الهند بناءها. وهذا يعني أن الحكومة يجب أن تجد المزيدَ من الأموال، وتجمع المزيد من الأموال من الممولين إذا كانت تريد أن تحافظ على مشروعها. سيتعيَّن على الهنود دفعُ المزيد للقيادة على تلك الطرق لأن سعر البنزين سيرتفع هو الآخر. وستعاني الأسر الأشد فقرًا أكثرَ من غيرها لأنها تنفق نسبةً أكبر من دخولها على الوقود. وستشعر المطاعم والمحال التجارية بالضيق لأن العملاء الأكثر ثراءً في جميع أنحاء البلاد سيكون لديهم نقودٌ إضافية أقل. ولمضاعفة التحدي، سترتفع تكاليف الوقود في المصانع والمكاتب والمتاجر؛ لذلك قد يُضطر أصحابها إلى رفع أسعار السلع والخدمات التي يبيعونها. وعلى الرغم من التخطيط الدقيق للحكومة، فإن التغييرات فيما هو خارج عن سيطرتها — سعر النفط أو قيمة الدولار — يمكن أن تترك بصمةً دائمة على ازدهار الهند. وينطبق الشيء نفسُه على جميع بلدان العالم.

ومع ذلك، ففي العديد من البلدان، أصبحت التغييرات المتطرفة في أسعار النفط الآن أقل تأثيرًا مما كانت عليه في السابق. ففي الغرب، أدَّى تضاعُف أسعار النفط أربع مرات في أوائل سبعينيات القرن العشرين إلى النقص الشديد في الموارد المالية للعملاء. وامتدَّت طوابير الانتظار في محطات البنزين مع ارتفاع أسعار النفط. وقفزت أسعار السلع اليومية أكثرَ من الخُمس في بعض البلدان، منها المملكة المتحدة. وطالبت النقابات العمالية برفع الأجور بما يتناسب مع هذا الارتفاع؛ لم تستطِع المصانع مواصلةَ الإنتاج. وقد تلا ذلك ركودٌ عالمي.

أدَّت أيضًا القفزة الإضافية في أسعار النفط في عام ١٩٧٩، بالتزامن مع الحرب الإيرانية العراقية، إلى عرقلة النمو فجأةً في جميع أنحاء العالم، مثلما فعل ارتفاعُ أسعار النفط كردة فعل على حرب الخليج الأولى. ما كان واضحًا هو تأثُّر الأسعار والنشاط الاقتصادي المُرتبط بها في البلدان الأكثر استهلاكًا للنفط تأثُّرًا كبيرًا وسريعًا تجاه القفزات في أسعار النفط وليس تجاه انخفاضها. بالنسبة إلى معظمنا، فإن تعاملنا الرئيسي مع سوق النفط يكون من خلال خزانات البنزين في سياراتنا، وتكلفة النفط ليست سوى عنصر واحد من تكلفة البنزين. يذهب القِسم الأكبر من النقود التي ندفعها مقابل لتر البنزين إلى الحكومات في شكل ضرائب؛ ويذهب قسمٌ آخرُ إلى تكاليف التكرير، وما إلى ذلك. يذهب فقط سنتان لكل لتر إلى محطة البنزين نفسِها. ويعني انخفاض أسعار النفط أرباحًا أقلَّ لشركات النفط ومصافي التكرير؛ لذا فهم يحاولون التمسُّك بكل سنت أخير أطولَ فترة ممكنة، مما يؤدي إلى ميل الأسعار للانخفاض ببطء أكثر من ميلها للارتفاع. وبأخذ جميع العوامل ذات الصلة في الحسبان، فإن السعر الذي ندفعه مقابل البنزين لا يعكس بدقة التقلُّبات في أسعار النفط.

لكن مع ارتفاع الأسعار مرةً أخرى في بداية العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى مستويات معادِلة لأسعار سبعينيات القرن العشرين، كان ردُّ الفعل بشكل عام أكثرَ صمتًا. فقد فرضت الصدمات النفطية في سبعينيات القرن العشرين تغييرًا في السلوك تَمَثَّل في اكتساب المزيد من المرونة. أعادت الدول الغربية النظر مليًّا في كيفية استخدامها للنفط. فلم تَعُد العديد من الدول الغربية دولًا صناعية تستهلك الطاقة كما كانت في السابق. وأصبحت المصانع والسيارات أكثرَ كفاءة في استخدام الطاقة، مما أدَّى إلى حماية الشركات والسائقين من بعض الزيادات في أسعار النفط. ومن المرجَّح الآن أن تعتمد أكبر الاقتصادات على الخدمات لإدرار الدخل؛ فالبنوك، على سبيل المثال، لا تحتاج إلى النفط كما تحتاج إليه الصناعة. وفي حين أن المصانع رهينةٌ لارتفاع أسعار النفط، وليس أمامها أي شيء تفعله سوى انتظار حدوث ارتفاع في التكاليف، فإن المضاربين في قاعات التداول المالي قادرون على جني الأموال من تقلُّب أسعار الوقود. وفي المقابل، لا تزال المخاوف بشأن تأثير ارتفاع أسعار النفط الخام على النمو في الهند أو الصين كبيرة، بسبب اعتمادهما على الصناعات التحويلية.

وقد أصبح أيضًا للنفط الآن نفوذٌ أقل في سوق الطاقة. ربما أدَّت التكاليف المرتفعة، وليس المخاوف بشأن التغيُّر المناخي والتلوث، إلى توجيه الأبحاث والاستثمارات نحو العثور على مصادرِ الطاقة البديلة الأسهل. الآن، توفِّر مصادر الطاقة الكهرومائية — السدود، بشكل أساسي — ما يكفي من الطاقة لتزويد الاقتصادات التي يعادِل حجمُها حجمَ اقتصادات اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة مجتمعةً.

الطاقة المتجدِّدة لا تخص فقط البلدانَ الغنية. فحتى الهند، التي تمضي قُدمًا في طريقها السريع الطموح نحو الازدهار، تتطلع إلى جعلِ جميع السيارات الجديدة تعمل بالكهرباء بحلول عام ٢٠٣٠. من المُسلَّم به أن الكثير من هذه الكهرباء سيأتي من الوقود الأحفوري، لكن وكالة الطاقة الدولية تُقدِّر أن ٢٣ في المائة من الكهرباء تأتي الآن من مصادرَ متجددة. عمومًا، يأتي نحو ١٣ في المائة من إجمالي الطاقة لدينا من مثل هذه المصادر؛ ومن المتوقَّع أن تتضاعف هذه الكمية ثلاث مرات بحلول عام ٢٠٤٠. على الرغم من أن هذا يعني أن أكثر من ٦٠ في المائة لا يزال يأتي من الوقود الأحفوري «القديم»، فإن ذلك يُمثل تقدُّمًا رائعًا. إنه تغيير هائل حدَث خلال فترة لا تتجاوز عقودًا قليلة، وهناك تغييرٌ أكبرُ قادم. مع زيادة طلب بلدان العالم النامي للوقود، لا يمكن أن يكون التغيير قريبًا بما فيه الكفاية.

نظرًا لارتفاع أسعار النفط، كان من المنطقي أيضًا بالنسبة إلى بعضِ البلدان الاستفادةُ من احتياطيات النفط التي كانت مكلِّفة للغاية لاستغلالها من قبل، مثل حقول نفط بحر الشمال في المملكة المتحدة، أو النفط الموجود تحت أراضي راجستان أو احتياطيات النفط الصخري في تكساس. أصبحت الاستفادة من حقول النفط القريبة خيارًا أكثرَ جاذبية وقابلية للتطبيق. وأصبح استخراج النفط من الصخر الزيتي مربِحًا — ومن ثَم ممكنًا — فقط عندما تجاوزت أسعار النفط ٩٥ دولارًا للبرميل في الولايات المتحدة. وبعد أن كان النفط يتدفَّق بقلة من هذا المصدر، أصبح تدفُّقه ثابتًا في السنوات الأخيرة. بحلول عام ٢٠١٥، كانت الولايات المتحدة تنتج خمسة ملايين برميل يوميًّا من الصخر الزيتي، مما يعني أنه يُشكِّل أكثرَ من نصف إنتاج أمريكا من النفط. وابتكار تكنولوجيا أفضل ووسائل أكثرَ كفاءة لاستخراج النفط يعني أن تكلفة استغلال احتياطيات الصخر الزيتي قد انخفضت. ولأول مرة منذ سنوات، أنتجت الولايات المتحدة لفترة وجيزة نفطًا أكثرَ مما استوردته في عام ٢٠١٦. إن سعيَ الولايات المتحدة لتقليل اعتمادها على الطاقة الأجنبية يؤتي ثماره. فبعض التقديرات الآن تضع احتياطيات النفط الأمريكية قبل المملكة العربية السعودية وروسيا.

يكمُن جوهر الأمر في أمن الطاقة، وهو حماية الاقتصاد من الصدمات التي تلحَق بسوق الطاقة فيما يتعلق بالسعر أو العرض. وهذا يعني أيضًا التركيزَ على سلاسل إمداد الوقود، ومنها توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها. والهدف النهائي هو ألا يشعر موطن الدولار بعد الآن بأنه يمكن أن يصير تحت رحمة أباطرة النفط في الشرق الأوسط. وقد وصفت مجلة «إيكونوميست» هذا الموقف ﺑ «الشيخ مقابل الصخر الزيتي». قد يؤدي التحول في احتياطيات النفط إلى تحوُّل في الدولار والقوة، وإعادة صياغة الخريطة الجيوسياسية لصالح أمريكا. في النهاية، عندما يصبح العالم أقل اعتمادًا على النفط، فإن هيمنة الدولار ستتعرَّض للتهديد. لكن تطوُّر الصخر الزيتي، إلى حدٍّ ما، قد جعل ذلك اليوم بعيدًا نوعًا ما.

يمكن أن يصبح العرْض في المستقبل مشكلةً أكبر بكثير. فلا يوجد سوى مقدار محدَّد من النفط في باطن الأرض، وتُكتشَف أعدادٌ أقلُّ من حقول النفط الجديدة، معظمها صغير جدًّا. تختلف آراء الخبراء، لكن البعض يزعم أن معدل الإنتاج قد يصل إلى مستوًى مرتفع — «ذروة النفط» — خلال العَقدين المقبلين. يعتقد المحلِّلون في «إتش إس بي سي» أنه بحلول عام ٢٠٤٠، قد يحدُث نقص بمقدار بضعة ملايين برميل يوميًّا عما يحتاج إليه العالَم، ما لم يتحقَّق إنتاج المزيد. وهذا يعدِل أربعة أضعاف ثروة المملكة العربية السعودية. فقط تخيَّل ماذا سيفعل ذلك بسعر النفط. قد لا يكون الارتفاع في مصادر الطاقة المتجددة قادرًا على التعويض بالسرعة الكافية. إنه سباق مع الزمن لإبقاء أضواء العالم مضاءة وفواتيرها منخفضة.

•••

بالطبع لا يزال النفط يَعِد بثرواتٍ هائلة. إنه يفيد بشدةٍ شركةَ أرامكو السعودية المملوكة للدولة، والتي يُعتقد أن قيمتها تبلغ قُرابة تريليونَي دولار. وهذا من شأنه أن يجعلها شركةً أكثرَ قيمة من شركة «أبل» أو شركة «ألفابت» الشركة الأم لشركة «جوجل». حتى مع التقلبات في أسعار النفط، لا تزال الصناعة القديمة تتفوق على الصناعة الجديدة.

تَعِد الاحتياطيات النفطية الوفيرة بثروة كبيرة بالتأكيد، لكنها من الممكن أن تُعرِّض البلد للخطر، ويمكن أن يكون انخفاض أسعار النفط مؤلمًا للغاية بالنسبة إلى كبار المنتفعين من النفط. يأتي ما يقرُب من نصف إجمالي الناتج المحلي السنوي للمملكة العربية السعودية من النفط. لعقود من الزمان، شرعت السعودية، الغارقةُ في الدولارات النفطية، في برامج إنفاق عام باهظة. والآن، لموازنة الحسابات، تحتاج الحكومة السعودية أن يظل سعر النفط مرتفعًا.

في عام ٢٠١٤، انخفض سعر النفط العالمي بسبب الكميات الهائلة التي تنتجها المملكة العربية السعودية مقارنةً بتراجع الطلب في الصين، والمخاوف من أن هذا الطلب قد يتراجع أكثرَ. مع انخفاض سعر النفط، كان لا بدَّ من تقليص الإنفاق الحكومي في السعودية لأول مرة منذ قرابة ١٥ عامًا. وافقت المملكة العربية السعودية مع زملائها في منظمة أوبك على خفض الإنتاج بنحو واحد من كل ٢٠ برميلًا أنتجتها في عام ٢٠١٧. كانت هذه خطوةً غير عادية، لكنها أكَّدت اليأس الذي شعرت به المملكة العربية السعودية من هذه المعضِلة المالية.

يحتاج العراق هو الآخر إلى السيطرة بقوةٍ على كل دولار يجنيه من بيع النفط. ففي عام ٢٠١٤، جاءت جميع عائدات صادراته تقريبًا من النفط. ويُعرف البلد الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على سلعة واحدة بهذه الطريقة بأنه ذو ثقافة اقتصادية أحادية. شَكَّل قطاع النفط ما يقرُب من نصف إجمالي الناتج المحلي للبلاد، كما مَوَّل الكثير من النشاطات في نواحٍ أخرى من الاقتصاد. من الممكن أن يتسبَّب انخفاض سعر النفط في صعوبات من جميع النواحي.

ليست هذه هي المشكلةَ الوحيدة التي يواجهها العراق. فقد أصبحت لعنةُ الذهب الأسود منتشرةً على نطاق واسع لدرجةِ أنه أصبح لها أسماءٌ أخرى: «مفارقة الوفرة» أو «لعنة الموارد». إن الحقيقة المُحزنة هي أن البلدان التي لديها وفرة في بعض الموارد الطبيعية، مثل النفط، تميل إلى تحقيق نموٍّ اقتصادي أقل، وتتمتع بديمقراطية أقل، وتحسُّن أقل في مستويات المعيشة مقارنةً بالبلدان ذات الموارد الأقل.

كما تواجه هذه البلدان عدمَ الاستقرار الاقتصادي والسياسي. فالبلدان التي تعتمد بشدة على النفط موردًا وحيدًا لِدخلها تواجه عواقبَ وخيمة: فمصالح شركات النفط تميل إلى أن تكون ممثلة تمثيلًا زائدًا، من حيث حقوق الملكية واللوائح والسلطة. ومن المحتمل أن يكون غيابُ المساواة صارخًا؛ إذ توجد فجوةٌ حتمية في الدخل بين الذين يعملون في مجال النفط وبقية الشعب. ويمكن أن تؤديَ التقلبات في الأسعار إلى تغييراتٍ حادة في الدخل والبطالة والاضطرابات المدنية. ففي فنزويلا، أدَّى انخفاض أسعار النفط في عام ٢٠١٤ إلى التقنين والفوضى الاقتصادية وأعمال الشغب الناجمة عن الجوع وقلة الغذاء.

من الممكن أيضًا أن يكون لاكتشاف النفط أو الغاز تبعاتٌ اقتصادية في المناطق البعيدة عن أماكن اكتشافه. إن «المرض الهولندي» ليس فيروسًا يصيب الماشية أو النباتات. بل يُشير إلى ما حدَث في هولندا بعد اكتشاف احتياطيات الغاز هناك عام ١٩٥٩. فمع ارتفاعِ عائدات الصادرات بالدولار في أوائل سبعينيات القرن العشرين، ارتفع الطلب على الجلدر الهولندي، عملة هولندا في ذلك الوقت، إلى جانب قيمته. وعلى عكس الصين ونيجيريا، فقد سمحت هولندا لعملتها بالاستجابة بحُرية للطلب المتغير، ودفع المزارعون الهولنديون وأصحاب المصانع الثَّمن؛ فقد أصبحت صادراتهم باهظةَ الثمن لدرجةٍ لا تسمح لهم بالمنافسة في الخارج. وتضاعف معدَّل البطالة في البلاد أكثرَ من أربع مرات بين عامي ١٩٧١ و١٩٧٧. وانخفض الاستثمار، مما تسبَّب في أضرارٍ دائمة في أجزاء من البلاد لم تكن مرتبطة بإنتاج النفط أو الغاز.

مع مطاردة الجميع للسلعة المفضَّلة في العالم (النفط)، تكون هذه البلدان أيضًا أكثرَ عُرضة للصراع. فيمكن لدولة غنية بالموارد الطبيعية أن تصبح هدفًا للغزو. فالسعي إلى السيطرة على نفط الكويت هو ما دفع صدام حسين إلى غزوها في عام ١٩٩٠. كما أن اهتمامَ الولايات المتحدة بالعراق يتجاوز الجانب الإنساني؛ إذ استفادت الشركات الأمريكية، وفيها شركة «هاليبرتون» العملاقة، من عقود النفط في العراق. وفي عام ٢٠١٤ وجد العراق نفسَه مرةً أخرى هدفًا للأطراف التي تُخطِّط للسيطرة على احتياطيَّاته؛ وذلك عن طريق محاصرته بخفض أسعار النفط، وبالهجوم عليه من جانب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

من دون النفط، ستكون الآفاق الاقتصادية للعراق أضيقَ بكثير؛ فصناعته الإنتاجية الرئيسية الأخرى الوحيدة هي الأسمنت. حتى مع وجود الهيدروكربونات، فإن متوسط دخل الفرد في العراق أقلُّ من عُشر متوسط دخل الفرد في أمريكا. ويبلغ متوسط عمر الفرد العراقي ١٩ عامًا فقط، ولم يتمكَّن نصف البالغين من الوصول إلى المدرسة الثانوية. وهذا يؤكِّد فقط حالة الاضطراب التي شهدتها البلاد، بالنظر إلى أنه قبل عام ١٩٩٠ كان نظام التعليم في العراق من الطراز العالمي. صحيحٌ أن مساحاتٍ شاسعة من الأراضي خُصِّصت للزراعة، لكن لا بد من استيراد المواد الغذائية بكميات كبيرة. لقد أعاق الصراع العراق؛ فقد كان هدفًا سهلًا بعد أن أصبح ضعيفًا بالفعل، وقد عرف تنظيم الدولة الإسلامية ذلك.

اجتاحت الجماعة الإرهابية شمالَ البلاد وغربها، واستولت على حقول النفط العراقية، بطاقةٍ إجمالية تقارب ٦٠ ألف برميل يوميًّا. وعلى الرغم من عدم تمكُّنها من الوصول إلى حقول البصرة في الجنوب، فإن التأثير كان لا يزال هائلًا. فتشير بعضُ التقديرات إلى أن داعش كانت قادرة على جني ٧٠٠ ألف دولار يوميًّا من بيع النفط الذي استولت عليه إلى سوريا أو إيران أو إلى مصافي التكرير المؤقتة. أدَّت هذه الأموال — إلى جانب الدخل من بيع الآثار والممتلكات التي نهبتها والفديات من عمليات الخطف — إلى جلب السُّمعة السيئة لتنظيم الدولة باعتباره الجماعةَ الإرهابية الأكثر تمويلًا في العالم. سمحت الأموال لها بتجنيد المقاتلين وتسليحهم ودفْع رواتبهم في المنطقة وفي الأماكن الأخرى.

لم يكن الثَّمن الذي دفعه العراق هو خسارةَ أموال النفط فحسب، بل أزمة إنسانية واسعة النطاق. اقترنت مكاسب داعش الإقليمية بجرائم حرب، منها القتل الجماعي والاغتصاب والاختطاف. ونزح ما يقرُب من ثلاثة ملايين عراقي واعتبرت الأمم المتحدة أن ١٠ ملايين بحاجة إلى المساعدة. دفع المواطنون الجائعون في مدينة الفلوجة المحاصرة، الذين تعرَّضوا لفظائع مروِّعة، وشاهدوا دمارَ منازلهم وطرقهم، ثمنًا باهظًا لتعطُّش داعش للذهب الأسود.

شنَّ التحالف بقيادة الولايات المتحدة غاراتٍ جوية على أهدافٍ داعشية، منها عملياته النفطية، وخُفِّفت قبضة المتطرفين على حقول النفط؛ إذ أُجبروا على التراجع. وبحلول منتصف عام ٢٠١٧، كان التركيز العسكري على استعادة آخر معقل لداعش: مدينة الموصل. لتجهيز أولئك الذين يقاتلون داعشًا على الأرض — القوات العراقية وميليشيا البيشمركة الكردية — تعيَّن على الحكومة العراقية الاعتمادُ على أموالها النفطية. فللدفاع عن شعبها وصناعتها النفطية، يتعيَّن عليها أن تنفِق دولاراتها التي حصَلت عليها من شركة هندوستان للبترول. وتسلِّم شركة هندوستان للبترول الدولارات لشركة النفط العراقية التي تديرها الدولة. ومن هناك تدخُل الدولارات خزائنَ الحكومة، حيث تُستخدم لدفع تكاليف الدفاع.

كان للعراق علاقةٌ طويلة الأمد مع روسيا، وفي عام ٢٠١٤ أعلنت روسيا أنها على استعداد لتزويد العراق بالأسلحة لمحاربة الإرهاب. هذا هو المكان الذي يلجأ إليه العراق في وقت الحاجة؛ ويرسل دولاراته إليه. يُنفَق الدولار الآن على شراء الأسلحة بدلًا من النفط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤