الفصل السادس

تمويل وسائل الدمار

من العراق إلى روسيا

يمتد المصنع في إيجيفسك على مساحة شاسعة على مد البصر؛ إذ أصبح ضجيج النشاط في هذه المدينة صوتًا مألوفًا منذ أوائل القرن التاسع عشر. هنا يتولَّى العمال تجميعَ وتجريب البنادق العسكرية وبنادق الصيد. ربما يكون آباؤهم قد أدَّوا وظائفَ مماثلة من قبل؛ فالقواعد صارمة جدًّا في الاتحاد السوفيتي فيما يتعلق بتحديد عدد الأسلحة التي ستُصنع بالضبط — وكيفية صنعها — لتناسب المتطلبات العسكرية. لم يَعُد هذا هو الحال — في الواقع — فالمصانع مثل هذه قد أصبحت أكثرَ إنتاجًا من أي وقت مضى، وهي الآن أصبحت مفتوحةً بسبب مطالبَ مُحدَّدة ليست من الكرملين، ولكن مطالب يفرضها الدولار.

من خلال استغلال الأصول الروسية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن مالك الشركة المصنِّعة للأسلحة لدينا — دعنا نُسمِّه ديمتري سوكولوف — هو في الأصل مالكُ جزءٍ من شركةٍ تتولى تصنيع المعدَّات التي اشتهرت بها روسيا. إنه بالطبع شخصيةٌ من وحي الخيال، ولكن لإيصال قصتنا فإنه يمثِّل أولئك الذين يستخدمون أصولَ البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. في هذا المجال، لا شيءَ يستعصي على تجار الأسلحة الروس؛ إذ يمكنهم توفيرُ كل شيء من المدافع المضادة للطائرات إلى الدبابات إلى مقاتلات ميج. في هذه المرحلة، في عملية التبادل بين النفط والأسلحة، يلعب الدولار دورًا مهمًّا في كلا المجالين الأكثر إثارةً للجدل في الاقتصاد العالمي. في عام ٢٠١٢، أنفق العراق ٤,٢ مليارات دولار على الأسلحة من روسيا، وذلك لإعادة بناء جيشه، منها ٢٨ طائرة هليكوبتر هجومية من طراز إم أي–٣٥ و١٥ مروحية هجومية من طراز إم أي–٢٨ إن إي. سُلِّمَت الدفعة الأولى من المروحيات عام ٢٠١٣، التي نُقِلت في الخطوط الأمامية في غضون عامين في معركة لاستعادة مدينة الفلوجة من داعش، هذا إلى جانب الأسلحة العسكرية الأخرى المطلوبة.

التنازل عن هذه المكاسب النفطية المربحة ليس بالأمر الهيِّن بالنسبة إلى العراق، ولكن في حالة الصراع المستمر، يمكن أن يكون شراء الأسلحة أكثرَ أهمية من الإنفاق على البنية التحتية أو الرفاهية. لقد وعدت الأسلحة الروسية بتوفير قدرٍ أكبر من الدفاع والأمن للعراق وشعبه، وقد وفَّرت ذلك بالفعل.

بالنسبة إلى روسيا، كان هذا العَقْد مساهمةً رئيسية في صناعة الأسلحة التي تضاعفت أرباحها من الصادرات خمسة أضعافٍ منذ مطلع الألفية. إنه جزءٌ من استراتيجية لزيادة قاعدة القوة الجيوسياسية لروسيا وكذلك مرونتها الاقتصادية. يُمكننا القول إن روسيا دولة كبيرة وقوية، لكن اقتصادها ضعيف نسبيًّا؛ فقد ظلَّت تكافح من أجل أن ترفع مكانتها وسط الدول الكبرى، وقد أثبت الدولار، حتى الآن، أنه خَصم لدود لا يُقهَر. إن روسيا في القرن الحادي والعشرين بمثابة الدُّب الكبير، ولكن الضعيف، في الاقتصاد العالمي، الدُّب الذي أعاقه تاريخه ويعاني اعتمادًا غيرَ سهل على الدولار. إذا أرادت روسيا الحصولَ على دولارات، فعليها أن تتخلى عن أسلحتها.

•••

غالبًا ما يُنظر إلى نهاية الحرب الباردة في عام ١٩٩١ على أنها انتصارٌ لليبرالية. لقد ساعدت بالتأكيد في تعزيز مركز الدولار ومكانته. لكن سقوط الشيوعية كان في الواقع يرتبط أكثر بالمشكلات الاقتصادية في الوطن.

في عام ١٩٥٥، وُقِّع على حلف وارسو، وهو اتفاقية دفاعية جماعية للدول الشيوعية ذات التفكير المتماثل في الكتلة الشرقية. دُقَّ ناقوس الخطر في جميع أنحاء الغرب الرأسمالي وأدَّى إلى تراكم هائل للأسلحة — والتسابق في مجال الفضاء — على كلا الجانبين. ومع ذلك، بحلول ثمانينيات القرن العشرين، كان الاتحاد السوفيتي ينفق الكثيرَ من الأموال لدفع ثَمن أسلحته. وأدَّى ذلك إلى فشل التخطيط المركزي، وإنهاك الاقتصاد، واضطراب الشعب وتعاسته، ومن ثَم انهيار الاتحاد السوفيتي. ولهذا كانت الحرب الباردة هي التي شَكَّلت صناعة الأسلحة كما نعرفها اليوم.

إن دولار العراق هو مجرد واحد من مليارات الدولارات التي تحصل عليها روسيا الآن من مبيعات الصناعات الدفاعية في الخارج. فروسيا تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة فيما يتعلَّق ببيع الأسلحة. ومثل العديد من السلع، تُسعَّر الأسلحة في أغلب الأحيان بعملة التجارة الدولية؛ أي الدولار. لم يكن سباق التسلُّح في الحرب الباردة يتعلق بالأسلحة التقليدية والقنابل اليدوية فقط: كان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية يستثمر أيضًا بكثافة في الأسلحة النووية والأسلحة الكيماوية وغازات الأعصاب. في نهاية تلك الفترة، كانت روسيا تمتلك أكبرَ مخزون من الأسلحة في العالَم. كان هناك أيضًا قدْر هائل من المعرفة؛ كانت روسيا في طليعة البحث والتطوير. وقد حان الوقت لجني الأموال. فقد تمكَّنَت الشركات الروسية من تصميم الأسلحة وصنْعها وبيعها. وكانت هذه الشركات مملوكةً إما للدولة أو ذات ملكية مشتركة بين الشركات الحكومية ومستثمري القطاع الخاص مثل ديمتري سوكولوف. حتى ذلك الحين، كانت روسيا تُصنِّع بشكل أساسي لتلائم احتياجاتها الخاصة؛ والآن حان الوقت للتوسُّع.

لم يكن من الصعب تحديدُ العملاء المحتملين. حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، عرفت روسيا مَن هم حلفاؤها: كانوا أساسًا أولئك الذين لم تكن أمريكا مستعِدة لبيع الأسلحة لهم. كانت الولايات المتحدة، التي تمتلك أكبرَ صناعة أسلحة على هذا الكوكب، تزوِّد بقيةَ دولِ الناتو وحلفاءها في الشرق الأوسط، مثل المملكة العربية السعودية، بالأسلحة. لكن رغم هذا فقد كانت روسيا قادرةً على استهداف عمالقةٍ ناشئين آخرين مثل الصين والهند وبعض دول الشرق الأوسط وجزء كبير من جنوب شرق آسيا. ثمة حالة من الحذر تكتنف كلًّا من المشترين والبائعين حيال الجانب الآخر؛ كان هناك تداخل بسيط نسبيًّا في قواعد العملاء. لم يكن العراق معتادًا ذلك تمامًا، فقد كان يمكنه بسهولة إنفاقُ دولاراته على الأسلحة من الولايات المتحدة بدلًا من ذلك؛ ولهذا فمن المرجَّح أن يشتريَ من الأمريكيين. هذا على الرغم من أن العراق أحد البلدان القلائل التي تُعَد دولًا صديقة وحليفة لكلا الجانبين، لكن هذا يعني أنه يتعيَّن على روسيا أن تعمل بجهدٍ أكبر للحفاظ على علاقتها التجارية مع العراق.

ولهذا فقد كان من المرجَّح أن يجد أولئك الذين يواجهون تنظيمَ الدولة الإسلامية (داعش) في العراق بأسلحة روسية أنفسَهم محدقين في فوَّهة بندقية مكتوبٍ عليها «صُنع في روسيا» أو «صُنع في الولايات المتحدة». وأرجعت منظمة العفو الدولية الخيرية لحقوق الإنسان انتشارَ الأسلحة هذا إلى مبيعات الأسلحة «غير المسئولة» من جانب كلٍّ من القوى العظمى في الحرب الباردة في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته. عندما دخلت إيران والعراق في الحرب، كان الاتحاد السوفيتي محايدًا في البداية بشكلٍ علني. لكن بحلول نهاية الصراع في عام ١٩٨٨، أصبحت روسيا أكبرَ مورِّد للأسلحة للعراق. وبعد مرور ثلاثة عقود، كان هذا يعني أن متطرفي داعش كانوا «مثل الأطفال في محال الحلوى» وفقًا لمنظمة العفو الدولية. فقد كانوا أحرارًا في جمْع الأسلحة المخزَّنة مثل أنظمة الدفاع الجوي أو البنادق الهجومية الروسية الصُّنع من طراز إي كيه. ربما بيع العديدُ من هذه الأسلحة عبْر التدفُّقات الرسمية ولكنها كانت تحت حراسة سيئة بعد ذلك، أو وقعت في الأيدي الخطأ بسبب الفساد وتغيير النظام الفوضوي في العراق.

ربما لم يصدِّق مقاتلو داعش في العراق حظَّهم الوافر. فمعظم المتطرفين الآخرين — مثل بوكو حرام في نيجيريا، على سبيل المثال، أو تنظيم القاعدة — يضطرون إلى الحصول على أسلحتهم من خلال وسائلَ غير مشروعة. إذا كان السعر مناسبًا، يمكنهم الحصول على ما يريدون بشكلٍ سري من البائعين العديمي الضمير، الذين يبيعون أسلحةً صغيرة محمولة مثل البنادق الهجومية والقنابل اليدوية ومدافع الهاون والألغام الأرضية، التي يسهُل تهريبها دون أن تُكتشَف. بحكم طبيعة هذه الأسلحة، من الصعب تحديدُ ثَمن تجارة الأسلحة الصغيرة غير المشروعة، لكن تشير التقديرات إلى أن ثَمنها يفوق مليار دولار سنويًّا، وهي تهدُف في الغالب إلى إثارة الذعر وإلحاق البؤس ببعض الأشخاص الأكثرِ ضعفًا في العالم. فقد أصبح تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، المترجِمُ العسكري السابق، معروفًا باسم «تاجر الموت» بعد دوره في تجارة الأسلحة غير القانونية في الكونغو ودول أخرى في التسعينيات. وقد أُلقي القبض عليه أخيرًا في عام ٢٠٠٨ عن طريق نصبِ كمين له، وذلك بتهمة محاولة بيع أسلحة بقيمة ١٥ مليون دولار أمريكي للقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك)، المشهورة بارتكاب أعمال إرهابية. وحكمت عليه محكمة في نيويورك بالسجن ٢٥ عامًا.

على الرغم من أن هذا يمثِّل الجانب المظلم من الاقتصاد العالمي ويمكن أن يتحوَّل بسهولة إلى أساليبَ غيرِ شرعية، فإن معظم مبيعات الأسلحة قانوني تمامًا. في السنوات الأخيرة، وفي ظل مناخ من التوتر العالمي المتزايد والإنفاق العسكري المتزايد، ازدهرت مبيعات الأسلحة الروسية وأصبحت روسيا تستحوذ الآن على ربع السوق العالمية. فهي تجارة مربحة جدًّا؛ إذ تحقِّق لروسيا قرابة ١٥ مليار دولار سنويًّا من الصادرات. وقد اشتملت الأسلحة الأكثر مبيعًا على صاروخ أرض-جو بعيد المدى من طراز إس-٣٠٠، وطائرة ميج-٣٥ المقاتلة، وطائرات الهليكوبتر المتجهة إلى العراق، ودبابة تي-٩٠ الفائقة. الأمر لا يتعلق بامتلاك المزيد من الأسلحة في ترسانتك؛ بل يتعلَّق بتطوير القدرة العسكرية. كانت روسيا في يوم من الأيام حذرةً من بيع معدَّاتها العسكرية الأكثر فاعلية وحداثة في الخارج، ولكنها الآن تنتهز هذه الفرصة. فيمكن أن تكون هذه الأسلحة رموزَ مكانة شديدة الإغراء للاقتصادات المزدهرة حديثًا؛ فعلى سبيل المثال، تضاعَف إنفاق فيتنام على المعدَّات العسكرية ثلاث مرات بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٦ مقارنةً بالسنوات الخمس السابقة.

لا يزال سباق التسليح مُستمرًّا، وأصبحت الصراعات فرصةً لروسيا لتسويق قوةِ أسلحتها واختبارها. مع تصاعُد التوتر في منطقة الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، تضاعفَ الإنفاق على التسليح في المنطقة، وتحتفظ روسيا بنصيب الأسد من إجمالي مبيعات الأسلحة. ففي عام ٢٠١٥، تدخَّلت روسيا في الحرب الأهلية السورية لدعم الرئيس بشار الأسد. أصبحت الحرب، كما وُصفت في أحد العناوين الرئيسية، «صالةَ عرض لمبيعات الأسلحة الروسية»؛ إذ أظهرت قواتُ الأسد تلك قوةَ الأسلحة النارية. وقد كلَّفت هذه الحملة روسيا نحو ٥٠٠ مليون دولار، لكن من المقدَّر أنها ربحت نحو ١٠ أضعاف زيادة المبيعات دوليًّا. لا يستطيع ديمتري سوكولوف الاستثمارَ في الإعلانات التقليدية — اللوحات الإعلانية والإعلانات التلفزيونية — لكنه لا يحتاج إلى ذلك. فأينما كان هناك مصنعُ أسلحة ناجح في العالم، فإن حكومتهم الوطنية ستقدِّم دعمًا تسويقيًّا كاملًا.

الأمر لا يتعلَّق فقط بالعوائد المالية. فالحكومات الوطنية — ومنها فرنسا والمملكة المتحدة — تميل إلى استغلال شركاتٍ مثل شركة ديمتري لتحقيق أهدافها الخاصة بالسياسة الخارجية. روسيا، على سبيل المثال، تُعَد سوريا نقطةَ نفوذها الرئيسية في المنطقة. فقد وُصف تدخُّلها في الحرب الأهلية ﺑ «تغيير قواعد اللعبة»، لكن روسيا كانت بالفعل مصدرَ نصف الأسلحة المبيعة إلى سوريا، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن روسيا كانت تتطلع إلى زيادةِ عدد حلفائها في الشرق الأوسط في أعقاب الربيع العربي. بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت روسيا قَلِقة من زيادة خطر وصول التطرف الإسلامي إلى أراضيها.

ومع ذلك، فهي لعبةٌ متقلِّبة. فقد صرَّحت روسيا بأنها ربما تغيِّر دعمها للنظام السوري إذا بدت علامات سقوط نظام الأسد واضحة. تعني التحولات السريعة في التحالفات الجيوسياسية أن هناك دائمًا خطرًا في أن تُوجَّه بنادق ديمتري في نهاية المطاف إلى وطنه الأم.

على الصعيد الدولي، سرعان ما تُثار الدهشة إذا بِيعت الأسلحةُ لأنظمةٍ تستخدمها لإرهاب شعوبها أو بالفعل لارتكاب إبادة جماعية. فقد أثار دعمُ روسيا للنظام السوري، المُتَّهم بنشرِ أسلحة كيماوية، غضبَ الغرب. لكن الكرملين اتَّهم للتو تلك الدولَ، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بازدواجية المعايير، قائلًا إنها مذنبة بنفس القدْر في تسليحها لأنظمة قمعية.

على سبيل المثال، ذهب معظمُ صادرات الأسلحة البريطانية إلى المملكة العربية السعودية في عام ٢٠١٥، في حين زوَّد السعوديون المملكةَ المتحدة بالنفط في المقابل. في انتهاك للقانون الإنساني الدولي، كانت السعودية تشنُّ قصفًا على اليمن، مما أدَّى إلى مقتل الآلاف. وبعد انتفاضات الربيع العربي في شمال أفريقيا، خلَص تقرير صادر عن البرلمان البريطاني إلى أن الحكومات المتعاقبة قد أساءت تقديرَ مخاطرِ استخدامِ الأسلحة التي تمَّت الموافقة على تصديرها إلى دول استبدادية معينة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط في القمع الداخلي.

لقد أصبحت السياسة الخارجية — والتعطُّش للدولارات العائدة من التصدير — يتفوقان على حقوق الإنسان والسلام الدولي. والفائزون دائمًا هم شركات مثل شركات ديمتري والبلدان التي يمثِّلونها. قد يتقلب النمو الاقتصادي والدولارات التي يكسبها بلدٌ ما من سنة إلى أخرى، لكن ثروات تجَّار السلاح أكثرُ أمانًا بكثير. تتمتَّع صناعة الدفاع بحماية خاصة بها ضد التقلبات في المناخ الاقتصادي الأوسع. يمكن اعتبار الأسلحة ضروريةً مثل الطعام تمامًا. فالطلب على السلع العسكرية «غير مرن» إلى حدٍّ ما، أو شبه ثابت: فالإنفاق للدفاع عن الحدود هو أحدُ آخرِ الأشياء التي خفَّضتها الحكومات.

بالنسبة إلى روسيا، العائدات التجارية هائلة: في عام ٢٠١٥، دولارٌ من كل ٢٠ دولارًا من دخل صادرات البضائع كان مصدره بيع الأسلحة. لكن هذا لا يعني أن أرباحها العسكرية المستقبلية مضمونة. فالطلب يتزايد في جميع أنحاء العالم، لكن الصين تتولَّى الآن صناعةَ الدفاع الراسخة. يعني الافتقار إلى الاستثمار والعلماء المهرة أن روسيا لم تَعُد في طليعة البحث والتطوير في مجال صناعة الأسلحة.

يأتي ما يقرُب من ٧٠ في المائة من أسلحة العالم حاليًّا من الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا: القوى العظمى التقليدية. ولكن مع تغيُّر قوة تلك الدول، تتغيَّر كذلك قبضتُها على صناعة الأسلحة. ففي المستقبل غير البعيد، ربما يرسِل العراق دولاره إلى الصين بدلًا من ذلك. لا تزال الهند حتى الآن عميلًا مخلِصًا، ولكن هذا أيضًا قد يتغيَّر. يمكن لروسيا أن تجد نفسَها محرومة من كلٍّ من عائدات التصدير والنفوذ والقوة.

•••

لم تكن محاولةُ روسيا الاندماجَ في الاقتصاد العالمي — لتأكيد القوة الاقتصادية التي تحتاج إليها لمواكبة قوَّتها السياسية — سهلةً. إنها بحاجة إلى مبيعات الأسلحة هذه؛ إذ يتعثَّر بقيةُ اقتصادها.

في أراضي روسيا الشاسعة، هناك ثروةٌ من الموارد الطبيعية، من بينها النفط والغاز. يمكن لروسيا أن تتعاطف مع العراق بسبب مفارقة الوفرة. يسمح لها النفط والغاز الموجودان فيها بممارسة قدْرٍ كبير من النفوذ، على سبيل المثال اتخاذُ قرارٍ بشأنِ ما إذا كانت الأضواء ستظل مضاءة خلال فصول الشتاء القارسة في أوروبا الغربية. يُمكن أن يتوقَّف هذا الإمداد بضغطة زر. ولكن من الصحيح كذلك أن النفط يسيطر على روسيا، وتعرف الدولة ومنافسوها والأسواق ذلك.

تنتج روسيا ما يقرُب من ١١ مليون برميل من النفط يوميًّا، وهي تأتي في المرتبة الثانية من حيث المتوسط بعد المملكة العربية السعودية (وفي بعض الأحيان، عُرف أن روسيا تحل محلَّ المملكة العربية السعودية في هذا الصدد). توفِّر الصناعة ما يزيد قليلًا عن نصف أرباح الحكومة الروسية وتمثِّل ٧٠ في المائة من عائدات الصادرات الروسية. وروسيا إلى حدٍّ ما أقلُّ اعتمادًا على هذه الإيرادات من السعودية، لكنها لا تزال كافيةً لاستمرار الحقيقة القائلة بأن النفط حيوي لاستقرار روسيا. فتشير التقديرات إلى أن كل ١٠ دولارات من سعر البرميل يقلِّل إجمالي الناتج المحلي لروسيا بنحو ١,٥ في المائة. لموازنة حساباتها، تحتاج الحكومة الروسية إلى النفط بما لا يقل عن ١٠٠ دولار أمريكي للبرميل. علاوة على ذلك، تتطلب متاجرتها في النفط دولاراتٍ أمريكية، وهذا يعني أن عملتها تعاني.

كيف انتهى الأمر بروسيا، بكل حجمها وبراعتها العسكرية، في هذا الموقف، وهي معتمِدة بهذا الشكل على النفط وعلى عملة بلدٍ يعتبره البعض خَصمًا لها؟ في الحِقبة السوفيتية، كانت سياسات التخطيط المركزي التي تنتقل من موسكو تتحكَّم فيما يجب تصنيعُه وكميته. قلَّ التركيزُ على صنْع الآلات والأدوات اللازمة لاستمرار القطاع الصناعي، وزاد التركيزُ على الأسلحة. يعني الانغلاق عن الاقتصاد العالمي الذي يقوده الغرب أنه لم يكن هناك الكثير من الضغط لإنتاج سلع للتصدير. كان هناك عددٌ قليل نسبيًّا من الشركات، وتركَّزت القوةُ في أيدي عدد قليل من اللاعبين، وكانوا يتحكمون في العديد من جوانب الحياة الاقتصادية لعمالهم؛ إذ يوفِّرون كل شيء من الإسكان إلى الأثاث وحتى الطعام.

مع القليل من التركيز على إنتاج الأشياء التي يحتاج إليها الناس أو يريدونها، كان هناك نقصٌ في المنتجات الأساسية على أرفف المتاجر وكانت قوائم الانتظار طويلة. اشتُريت البضائع بسرعة عندما كانت متوافرة ومخزَّنة بكميات كبيرة. نشأ الاقتصاد غير الرسمي الواسع، الذي يصل إلى عُشر الاقتصاد الرسمي لروسيا، من أجل تزويد أولئك الذين كان بحوزتهم النقد. فقد أدَّت الحرب الباردة والهوس بالتخطيط المركزي إلى الإضرار باقتصاد روسيا.

في عام ١٩٨٥، أدرك الرئيس الجديد ميخائيل جورباتشوف أن النظام قد تعثَّر. فكان حلُّه متمثلًا في إعادة الهيكلة والانفتاح. لقد شَجَّع على الابتكار وتنفيذ المشاريع، لكن سياساته كانت مجزأة وغيرَ كافية لسد الفجوة في الصناعة الروسية أو الفجوات الموجودة على رفوف المتاجر، في واقع الأمر. إن نوع الصناعة التحويلية الحديثة الواسعة النطاق التي تحتاج إليها روسيا ظلَّت غيرَ موجودة.

بتشجيع من التوقُّعات الجديدة، منحت البنوك في الغرب، وخاصة في ألمانيا، الاتحادَ السوفيتي دعمًا حذرًا من خلال القروض. وأدَّى، بعد ذلك، انخفاض أسعار النفط الخام إلى انهيار اقتصاد الاتحاد السوفيتي المعتَمِد على الطاقة. انتاب المقرضين الخوفُ واستعادوا قروضَهم. وجد الاتحاد السوفيتي، حصنُ الشيوعية، نفسَه متعثرًا بسبب الأسواق الرأسمالية، واضطُر إلى بيع الذهب لإطعام سكانه. وفي غضون بضع سنوات، تفكَّك الاتحاد السوفيتي.

كان الاتحاد السوفيتي العظيم قابعًا في حالةٍ يرثى لها، ولكن بالنسبة إلى أولئك الذين لديهم الطموح والنفوذ للاستمرار في ظل هذه الظروف، كان هناك كنزٌ يمكن العثور عليه. بشَّرت نهاية الاتحاد السوفيتي باندلاع شرس، ولكن غير متكافئ للرأسمالية الجشِعة. كان الأوليغارشيون — تجار السجاد الروس — هم أولئك الذين استفادوا أكثرَ من الروح الجديدة لريادة الأعمال في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وكانوا على استعداد لكسبِ مال وفير في وقت قصير. كانت الحكومة التي تعاني ضائقةً مالية تبيع الأصول، وكانت تحرص بالأخص على خصخصة الطاقة والصناعات المالية، في صفقاتٍ عادت بالفائدة على السياسيين أصحابِ النفوذ وأصدقائهم المقرَّبين. لقد بنَوا بسرعة ثروةً مذهلة ومعها قدْرًا هائلًا من النفوذ على الاقتصاد والنظام السياسي.

وكان من بين هؤلاء رومان أبراموفيتش، الذي يُعرف بكونه مالك نادي تشيلسي لكرة القدم، وكذلك اليخوت والفيلات الجذابة بشكلٍ استثنائي. استفاد أبراموفيتش، الذي وُلد لعائلة متواضعة وصار يتيمًا في سن الثانية، من عصرِ إعادة الهيكلة من خلال إنشاء شركة لإنتاج لُعَب الأطفال بينما كان لا يزال طالبًا. وقد منحته تلك الشركة نقطةَ الانطلاق التي يحتاج إليها. وبصفته صانعَ صفقات ماهرًا، تمكَّن لاحقًا من الاستحواذ على جزء من عملاق الطاقة، شركة سيبنفت.

أصبح فلاديمير بوتين رئيسًا في عام ١٩٩٩، وتعهَّد بالاستيلاء على سلطة الأوليغارشية، وتبِع ذلك بعض المعارك الفوضوية. ربما كانت روسيا ما بعد الشيوعية في عهد بوتين «منفتحة» على العالم، لكنه واجه محنةً مشتركة مع أسلافه: واصلت شعبيته وكذلك الدخل الروسي، الارتفاعَ والانخفاض تبعًا لسعر برميل النفط الخام.

بحلول عام ٢٠٠٦، تضاعف الدخل الذي يحصل عليه المواطن الروسي العادي منذ الحِقبة السوفيتية، مع ارتفاع دخل النفط وتخفيض الضرائب على بعض الشركات. وبعد ذلك، حلَّت الأزمة المالية العالمية ومع انخفاض سعر النفط في عام ٢٠١٤، ظهرت علامات الانهيار في الاقتصاد الروسي مجددًا.

بحلول عام ٢٠١٥، كان الاقتصاد الروسي ينكمش وكان المستثمرون خائفين. ارتفعت الأسعار في المحال التجارية. واضطُر الروس إلى إنفاقِ ما يصل إلى نصف دخولهم على الطعام وحدَه. قدَّمت صحيفة «موسكو تايمز» عرضًا تخيليًّا لمدى معاناة السكان؛ إذ ذَكَرَت أن المواطن الروسي العادي يشتري الآن زوجين فقط من الأحذية كلَّ عام، بينما كان نظيره الأمريكي يشتري ما يقرُب من ثمانية. ففي حين كانت لورين ميلر تنفق الكثير، كانت النساء في روسيا يخفضن نفقاتهن، ويَقُمْن بإصلاح وإعادة استخدام ما لديهن من أشياء بدلًا من شراء أشياء جديدة.

في مارس ٢٠١٤، ضمَّت روسيا شبهَ جزيرة القرم ومارست تدخلًا عسكريًّا في أوكرانيا؛ لذلك قرَّر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفاؤهما ضرْبَ روسيا في اقتصادها، وفرضوا عقوباتٍ اقتصادية: قيود على الواردات مثل الأسلحة أو المعدَّات اللازمة لصناعة النفط، وتجميد الحسابات المصرفية والأصول الروسية الأخرى في الخارج، وحظر السفر للأفراد المهمين، على سبيل المثال لا الحصر. كانت الفكرة هي حرمان روسيا من الدولارات. وفي المقابل، فرضت روسيا قيودًا مماثلة، وفي ذلك حظرُ بعض المواد الغذائية. وحدَث جمودٌ اقتصادي. تشير التقديرات إلى أن هذا الإجراء ربما كلَّف أوروبا ما يصل إلى ١٠٠ مليار دولار، لكن التكلفة على روسيا، التي كانت تواجه ركودًا بالفعل، كانت أكبر. بالنسبة إلى الروس العاديين، زادت القيودُ من أضرار انخفاض أسعار النفط. وقد أدى حظر الأطعمة المستوردة من الغرب إلى ارتفاع الأسعار في موسكو. تباطأ النمو ردًّا على ما أسماه بوتين «الخطوات غير الودية». ومع ذلك، بحلول عام ٢٠١٧، رفضت روسيا اقتراح وقف إطلاق النار.

وها نحن أولاء الآن نصل إلى الأزمة. فقد ضاعف كلُّ هذا انخفاضَ قيمة العملة الروسية. فقد أدَّت المخاوف في أسواق العملات العالمية — تلك الموجات الكبيرة من التكهنات والأمزجة المتقلبة — إلى انخفاض قيمة الروبل بأكثر من النصف مقابل الدولار. فقد كان يُعتقد أن روسيا كانت تعتمد اعتمادًا كبيرًا على النفط وتتَّجه صوب المشكلات؛ لذلك بدأ المضاربون، مثل القطيع، جميعًا في الهروب من عملتها. فانهار الروبل. في عام ٢٠١٤، كانت ثمَّة حاجة إلى ٣٠ روبلًا لشراء دولار واحد؛ أما في أوائل عام ٢٠١٦ فقد زاد الأمر سوءًا فقد بلغ الدولار ٨٥ روبلًا.

ما أهمية هذا؟ لأنه أدَّى إلى ارتفاع أسعار الواردات، مما أحدَث تراجعًا في القدرة الشرائية للروس. ومما زاد المشكلات الاقتصادية بوجه عام تعقيدًا أن نهاية الحِقبة السوفيتية أدَّت إلى إنهاء الزراعة المدعومة حكوميًّا، فحلَّ الخراب على الزراعة الروسية. والآن أصبح يتعيَّن شحن نسبة كبيرة من الضروريات مثل الحليب والبيض واللحوم من جانب تاجر جملة ودفْع ثَمنها بعملة التجارة العالمية، الدولار. وأدَّى ذلك إلى زيادة الطلب على الدولار، مما أسفر عن مزيدٍ من الانخفاض في قيمة الروبل، وترتَّب على ذلك ارتفاعٌ حادٌّ في الأسعار للمتسوقين الروس.

إضافةً إلى ذلك، كانت قطاعات كبيرة من الديون الروسية مقوَّمة بالدولار. فأصبح سدادُ هذه الديون مكلِّفًا بالنسبة إلى روسيا. لم تكن هذه مشكلةً كبيرة لدى الحكومة التي لديها احتياطياتٌ كبيرة من العملات الأجنبية، لكنها مثَّلت مشكلة كبيرة لدى الشركات التي تَدين بمئات المليارات من الدولارات في الخارج. في الواقع، تخاطِر الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم بمواجهة سيناريو مماثلٍ إذا كان لديها ديون بالدولار. إذ يؤثر انخفاضُ قيمة عملتها مقابل الدولار على قدرتِها على السداد — مما يؤدي إلى الإضرار بالأرباح والنمو وحتى الوظائف. ونظرًا لانتشار الاقتراض بالدولار في كل مكان في الأسواق الدولية، خلَص البنك المركزي البريطاني إلى أن ارتفاع الدولار يضرُّ عمومًا بالنمو العالمي.

في الوقت نفسِه الذي كان فيه الروبل ينخفض، انخفض سعر النفط هو الآخر، مما هدَّد دخْل الصادرات. كان الجانب الجيد في ضَعف سعر الصرف هو أنه ساعد في تعويض هذا الانخفاض؛ إذ يُسعَّر النفط بالدولار ومن ثَم أصبحت روسيا تحصُل على المزيد من الروبلات مقابل كل دولار. لكن فوائد ضَعف الروبل لم تذهب أبعدَ من ذلك بكثير في مساعدة الاقتصاد الروسي. في بلدٍ آخر، يمكن لضَعف العملة أن يجعل الصادرات أرخصَ ومن ثَم يسهُل بيعُها في الخارج. وبعد ذلك، يريد الأشخاص في الخارج المزيدَ من منتجات الدولة، مما يؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على العملة، التي تزداد قوة بعد ذلك … من الناحية النظرية على الأقل، كل شيء يتوازن. المشكلة هي أنه، باستثناء الأسلحة، فإن روسيا لا تصنع الكثيرَ كي تصدِّره. والاعتماد على النفط لسد الفجوة أمرٌ محفوف بالمخاطر.

كانت روسيا في مأزق؛ كانت ضحيةَ قوة الدولار وضَعف الروبل.

تاريخيًّا، كانت العملة الروسية ضعيفةً ضعفًا ملحوظًا. يأتي اسمها، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر، من الكلمة الروسية التي تعني «القطع» أو «الاختراق». لا بد أن ذلك بدا مناسبًا جدًّا في الأيام المضطربة لعام ٢٠١٤، وبالتأكيد خلال ثورة ١٩١٧، عندما انخفضت قيمتُها بمقدار الثلث تقريبًا، مما تسبَّب في ارتفاع كبير في الأسعار وإشعال فتيل الثورة. وبغض النظر عن الأحداث التاريخية الكبرى، كان أحد أسباب ضعف الروبل هو الافتقار إلى الثقة. فالعوامل هنا نفسية.

يشترك الروبل الروسي في شيء واحد مع الدولار: كلاهما ليس له قيمة في حد ذاته. فكل النقود هي بالأساس وعدٌ، سواء كان دَينًا أو ائتمانًا. في الأصل، كان الدولار بمثابة وعدٍ بأن يُدفَع لحامله الذهب. فورقة الدولار هي ضمانٌ لهذا الوعد؛ حتى عام ١٩٣٤، كانت كل ورقة مكتوبًا عليها عبارة «ستُدفع لحاملها عند الطلب». ومع ذلك، بمجرد انتهاء علاقة الدولار بالذهب، بعد إنهاء اتفاقية بريتون وودز في عام ١٩٧١، لم يَعُد للدولار قيمةٌ خاصة به (أصبح ما يُعرف بالعملة «الإلزامية»). فدولار لورين ميلر هو وعدٌ لها من الحكومة الفيدرالية؛ ورصيدُ بنك الودائع الخاص بها هو بالأساس وعدٌ من البنك لها. والآن، هذا الدولار هو وعد من الحكومة العراقية مقابل بعض الأسلحة. ومع ذلك، فإن هذا الوعد قائم في هذه الأيام على إيماننا المشترك بقيمته؛ وليس على شيء ملموس.

ومن ثَم، فإن قيمة الدولار وقدرته، تستند إلى الثقة، الثقة في قبوله كمقابل للسلع والخدمات التي تبلغ قيمتها دولارًا واحدًا؛ والثقة من أنه سيحمل هذه القيمة؛ والثقة في أن الحكومة يمكن أن تضمنَ أنها ستفعل ذلك. والشيء نفسُه ينطبق على الروبل.

إن النقود — العملات — لها ثلاثة أغراض. أولًا، يجب أن تكون وسيلةً مقبولة عمومًا للتبادل المالي وسداد الديون. من الجيد جدًّا استبدال القمح بالماعز في مقايضة، ولكن ماذا لو كان الراعي لا يحتاج إلى القمح ويريد بدلًا منه زيتًا؟ يجب أن يكون لدى المزارع عملة يقبلها بائع الزيت أيضًا. ثانيًا، يجب أن تكون مخزنًا للقيمة: إذا خصصت دولارًا واحدًا في يوم السداد، يجب أن تُشترى به الكمية نفسها من القمح بعد أسبوع (على الرغم من أن التضخم يمكن أن يقلِّل من ذلك قليلًا). وثالثًا، العملة وحدة حساب، مما يعني أنه يمكننا استخدامُها لقياس قيمة هذا الماعز. إن جميع العملات البالغ عددها ١٥١ في العالم تخدم هذه الأغراض بدرجات متفاوتة، لكن الدولار، وهو عملة الفواتير التجارية والديون الدولية وأكثر أنواع الاحتياطيات أمانًا، هو الأفضل في خدمة هذه الأغراض.

ومع ذلك، سواء كانت مدعومةً بالذهب أو الثقة، إذا لم تكن موثوقًا فيها، يمكن أن تصبح العملة عديمةَ الفائدة.

في الاتحاد السوفيتي السابق، ظهر نوعٌ غريب من النظام التجاري الموازي. غالبًا ما كان هناك نقصٌ في الأساسيات، ووجد المواطنون الروس العاديون أنفسَهم أمام طوابيرَ طويلةٍ وأسعارٍ متزايدة للحصول على الحليب أو البَيض. على النقيض من ذلك، فإن أولئك الذين يمتلكون دولارات لإنفاقها دخلوا متاجرَ العملات الصعبة المجهَّزة جيدًا. هؤلاء القلائل المحظوظون هم أولئك الذين سافروا أو تمكَّنوا من إقامة روابط تجارية في الخارج أو كانوا يتعاملون مع زوَّار أجانب. شاعت الحكايات عن الدولارات التي يجري تداولها بسعر السوق السوداء المتضخم إلى حدٍّ كبير من قِبل بائعات الهوى في موسكو اللواتي كنَّ يتعاملن مع الأجانب. كما هي الحال في كثير من دول العالم الأقل تقدمًا، فإن الفنادق الأكثر نموًّا في المدن الكبرى تقدِّم الأسعار بالدولار. كان الدولار، وهو علامة على الاستقرار المالي والقيمة، مرغوبًا فيه إلى حدٍّ كبير. وبخيبة أمل من قدرة الاتحاد السوفيتي على تنمية الاقتصاد وتحسين سبل العيش، بدأ العديد من الروس العاديين على مضضٍ في النظر إلى الدولارات على أنها طريقٌ إلى حياة أفضل. لقد عانت روسيا طوال فترة الحرب الباردة من مهانة الوجود القوي للدولار على أراضيها.

في عام ٢٠١٤، عانى الروبل أزمةَ ثقةٍ أخرى؛ إذ فقدَ المستهلكون والمستثمرون الروس الثقةَ في قيمة عملتهم واشتروا أجهزةً مثل التلفزيون والمجوهرات والعقارات. ونظرًا لأن المال ليس مجرَّد وسيلة لشراءِ ما هو مطلوب أو مرغوب فيه، ولكنه أيضًا مخزن للقيمة، فقد كان الروس ينفقون على سلع باهظة الثَّمن لم يحتاجوها لمجرد أنهم اعتقدوا أنهم سيحتفظون بقيمتها أفضل من الروبل في جيوبهم. أو كانوا يُخفون صناديقَ ودائعَ آمنة في البنوك، لإخفاء أي عملة أجنبية تمكَّنوا من الحصول عليها.

ومما زاد من الضغوط أنه كان من المقرَّر أن تسدِّد البنوك وشركات النفط الروسية مدفوعاتٍ تبلغ قيمتها عشرات المليارات من ديونها الخارجية، وتحتاج إلى الحصول على الدولارات لفعلِ ذلك. المشكلة تكمُن في أن لا أحد يريد الروبل؛ الكل يريد دولارات. بمجرد زوال الثقة، يزداد الوضع سوءًا. إنها دوامة هبوط متعاقب.

انهار الروبل مرةً أخرى عام ١٩٩٨. وعندها لم تستطِع روسيا سداد ديونها، وكانت بحاجة إلى إنقاذٍ من صندوق النقد الدولي واضطُرت إلى رفع أسعار الفائدة إلى ١٠٠ في المائة، وهو ما كان أمرًا صادمًا. بعبارة أخرى، حتى أبسط قرض سيكلف الشخص ضِعف المبلغ المُقترَض عند السداد. في عام ٢٠١٤، كان بمقدور الغالبية تذكُّر تلك الأوقات وقليل منهم أراد أن يعيش هذه المصاعب مرةً أخرى.

نقدِّم الآن إلفيرا نابيولينا، محافظ البنك المركزي الروسي منذ ٢٠١٣. فقد أصبحت ابنةُ السائق وعاملِ المصنع التي ترتدي نظارة طبية «اليدَ اليمنى لبوتين». وارتدت قفازات الملاكمة وشاركت في القتال، واتخذت عددًا من الإجراءات المحفوفة بالمخاطر في محاولةٍ لاستعادة الروبل ومعه ثقة روسيا.

لقد طرحت أسعار الفائدة، مما يعني أنه كان من الأكثر ربحية للمستثمرين الروس الاحتفاظ بأموالهم بالروبل بدلًا من حسابات الدولار. كما حدَّت من قدرة البنوك التجارية على المضاربة مقابل قيمة الروبل. ثم فعلت شيئًا جذريًّا تمامًا: لقد أطلقت العِنان للروبل ليلقى مصيره. على مدى عَقدين من الزمان، حاولت روسيا إدارةَ عملتها بنفس طريقةِ الصين أو نيجيريا. كان الهدف هو تحقيق الاستقرار، ولكن كان له ثَمن. سيستغل البنك المركزي احتياطياته القيمة لشراء الروبل في سوق الصرف الأجنبي بينما كانت قيمة العملة تنخفض، ومن ثَم رفْع الطلب ودعم قيمتها. قالت السيدة نابيولينا «كفى» وبجرعة من الحب القاسي أطلقت العِنان له بشكلٍ كبير، تاركةً إياه لإيجاد قيمته الخاصة. كان ردُّ فعل السوق هو معاقبة الروبل أكثرَ على مدى عدة أيام.

ربما كان يُنظر إليها على أنها خطوة غير حكيمة، ولكن في بداية عام ٢٠١٥، بدأ الروبل بالفعل في الاستقرار. كان البنك المركزي قادرًا على استخدام الاحتياطيات التي كان سيخصِّصها لإنقاذ العملة في تقديم قروض بالعملة الأجنبية للبنوك التجارية. وهذا يعني أن الروس يمكنهم الحصولُ على الدولارات من بنوكهم الخاصة؛ لم يكونوا مضطرين إلى الحصول عليها من مكانٍ آخر. ليعاود الروبل الارتفاعَ مرة أخرى. لقد كان نهجًا غير تقليدي، لكن يبدو أن نابيولينا قد نجحت في تحقيق غرضها بطريقة ذكية. وفي الوقت الذي أثارت فيه سياسة رئيسها غضبَ الساسة في أوروبا، كانت نابيولينا محطَّ إعجاب الدوريات المالية التي اعتبرتها المصرفي المركزي لهذا العام. تغلَّبت نابيولينا على معارضيها في هذه الجولة فقط. ولكن، في المعركة الطويلة الأمد، لا يزال الدولار يُمسك بزمام الأمور.

•••

تستخدم العديد من الدول الدولار باعتباره عملةً موازية، كما فعل الاتحاد السوفيتي، وما زالت روسيا تستخدمه إلى حدٍّ ما. حتى في عام ٢٠١٧، يوجد أكثرُ من نصف عملات الدولار في العالم خارج الولايات المتحدة، وعلى الأرجح في دول أمريكا اللاتينية، أو بعض الأعضاء السابقين في الاتحاد السوفيتي.

لماذا يحظى الدولار بشعبيةٍ كبيرة في أمريكا اللاتينية؟ أحدُ الأسباب هو التجارة. فليس لدى الإكوادور والسلفادور عملات خاصة بهما. في عام ٢٠٠٠، أقدَمت الدولتان رسميًّا على «التحول الكامل إلى الدولار»، مما يعني أنهما اعتمدتا العملة الأمريكية عملةً خاصةً بهما، معتبرتَين أنها أبسط وأفضل من الناحية العملية نظرًا لاتفاقيات التجارة الحرة التي تشاركتاها مع الولايات المتحدة. كما ارتأتا أنَّ استقرار قيمة الدولار من المرجَّح أن تجعلهما أقلَّ عرضة للتقلبات الاقتصادية. فامتلاك عملةٍ أكثرَ جدارةً بالثقة يمكن أن يجعل البلد وجهةً أكثرَ استقطابًا للاستثمار الأجنبي. ففي بنما، على سبيل المثال، ظل الدولار عملةً قانونية لأكثر من قرن بفضل قناة بنما. أدَّى بناء القناة إلى حجم هائل من التجارة الدولية، لذا فإن قبول عملة تلك التجارة كان منطقيًّا بالنسبة إلى بنما.

إن التحوُّل الكامل للدولار رسميًّا — أي تسليم بعض القوة الاقتصادية إلى الولايات المتحدة — له ثَمن كبير جدًّا. أن تكونَ جزءًا من نادي الدولار يعني اللعبَ وفقًا لقواعده. يجب على أي دولة تعتمد الدولار عملةً رسمية لها أن توافق على أن تخضع لأسعار الفائدة الأمريكية، التي يمكن أن يكون لها تأثير على سعر الصرف. يمكن أن تكون أسعار الفائدة الأمريكية منخفضةً للغاية بالنسبة إلى اقتصادٍ آخرَ، مما يشجع على الاقتراض المفرط، أو مرتفعًا للغاية، مما يضرُّ بالمستهلكين والشركات نظرًا لتكاليف الاقتراض المعيقة.

يمكن للدول أن تتجاوز هذا عن طريق التحول الكامل للدولار «بشكل غير رسمي»، باستخدام الدولار عملة موازية لعملتها الخاصة. يحدُث هذا في معظم الأحيان عندما يكون هناك نقصٌ في المعروض من العملة الرسمية أو عندما تعاني العملة أزمةَ ثقة. كان هذا هو الحال في الأرجنتين، حيث كان البيزو في حالة انخفاض خلال الأزمة الاقتصادية في بداية هذه الألفية ومرة أخرى في عام ٢٠١٤. سارعت العديد من الشركات — الفنادق والمطاعم، على سبيل المثال — في قبول الدولار بدلًا من البيزو، فقد خمَّنوا أنه سيحتفظ بقيمته بشكلٍ أفضل. منذ عام ٢٠١٠ تقريبًا، عُرض في كثير من الأحيان على الراغبين في الدفع بالدولار سعر الصرف «الأزرق» وهو أكثر سخاءً بكثير من السعر الرسمي. أدَّى استخدام العملة الموازية في الأرجنتين إلى تكوين اقتصادٍ موازٍ. وحدث انقسامٌ بين أولئك الذين يمكنهم الحصول على الدولارات والذين لا يمكنهم ذلك. كانت الأسعار ترتفع وكانت قيمة البيزو تنخفض — بنسبة ١٧ في المائة خلال يومين في عام ٢٠١٤. الأشخاص الوحيدون الذين يمكنهم حمايةُ قيمة مدخراتهم وشراء السلع التي يريدونها بسعر معقول هم أولئك الذين يمكنهم الحصول على الدولارات. في كل مرة، أدَّى ذلك إلى ظهور طلبٍ نَهِمٍ على الدولارات، استمرَّ إلى ما بعد الأزمة الاقتصادية نفسِها وأدَّى إلى بيئة مُهيأة للفساد.

استُخدم الدولار باعتباره عملةً موازية بعيدًا عن شواطئ أمريكا؛ في كمبوديا، على سبيل المثال. يجد الكثير من الناس أن التداول بالدولار مطمئن، بنفس الطريقة التي تلجأ بها حكوماتهم إلى امتلاك سندات الحكومة الأمريكية. ومع ذلك، فإن إنفاق الدولارات يمكن أن يكون له تداعيات مقلقة. فأينما تُستخدَم الدولارات في العالم، فإنها تكون مصحوبة بسلطات قانونية استثنائية للولايات المتحدة.

كانت هذه السلطات واضحةً مؤخرًا خلال فضيحة الفيفا. فالفيفا هي المسئولة عن الترويج لفعاليات كرة القدم وتنظيمها في جميع أنحاء العالم. في عام ٢٠١٥، هزَّت جنباتِ العالم الرياضي فضيحةُ فساد ورشوة وصلت إلى الدرجة الأولى في الفيفا عندما أُلقي القبض على سبعة مسئولين رفيعي المستوى في مداهمةٍ لفندقٍ فخمٍ في زيورخ في الساعات الأولى من النهار، وهو نوعٌ من العمليات المخصَّصة عادةً للمشتبه فيهم بالإرهاب أو زعماء العصابات في الموتيلات أو «البيوت الآمنة» في الضواحي السيئة السُّمعة. أعقب ذلك المزيد من الاعتقالات؛ اتُّهم الرجال بتلقي رِشًا أثَّرت على منح حقوق البث التلفزيوني ومكان البطولات المرموقة. وكان التحقيق قد بدأ بالقرار المثير للجدل بإقامة كأس العالم لعام ٢٠١٨ في روسيا، ولعام ٢٠٢٢ في قطر. لتهوي بذلك سُمعة رياضة كرة القدم إلى الحضيض.

كان من أكثر الأشياء إثارةً للدهشة هو كيف ظهرت هذه الفضيحة. نفَّذت الشرطة السويسرية المداهمات الأوليَّة على الأراضي السويسرية، لكن كان الأمريكيون هم مَن حثُّوها على فِعل ذلك. أجرى مكتب التحقيقات الفيدرالي تحقيقًا زعم أنه كشف الستار عن ابتزاز واحتيال امتدَّ مدة ٢٤ عامًا، ووجَّه اتهامات جنائية ضد العديد من المديرين التنفيذيين في الفيفا. واتهمتهم المدَّعية العامة الأمريكية، لوريتا لينش، ﺑ «الفساد المتفشي والمنهجي والعميق الجذور».

لماذا اهتمَّت الولايات المتحدة بهذا الأمر لهذه الدرجة؟ ففي النهاية، كرة القدم، كما هي معروفة هناك، لا تزال جديدة إلى حدٍّ ما، مع تخلُّف أرقام المشاهدة كثيرًا عن تلك الخاصة بكرة القدم الأمريكية وكرة السلة والبيسبول. لكن هذا مهم لأن العمولات كانت بالدولار، والولايات المتحدة لا تحب أن تتَّسخ عملتها الأمريكية. تتمتَّع الولايات المتحدة بسلطة قانونية على أي معاملة تمسُّ البلاد؛ أي إذا كانت تتضمن دولارات مرَّت في مرحلةٍ ما عبر البنوك الأمريكية أو «مسَّت» نظامها المالي. تعني قوانين غسيل الأموال الصارمة أنه يتعين على البنوك وموظفيها الاحتفاظُ بسجلاتٍ دقيقة عن مصدر الأموال وأين تذهب.

إن سطوة القانون الأمريكي واسعة النطاق بحقٍّ، والحدود الوطنية ليست عائقًا. فالقانون الأمريكي لا يخشى استعراض قوَّته في جميع أنحاء العالم: وخاصةً حيث يُستخدَم الدولار باستمرار، في أمريكا اللاتينية. شركة «أودربرشت» التي يقع مقرُّها في البرازيل هي أكبر تكتُّل إنشاءات في المنطقة. إنها غير معروفة فعليًّا في الولايات المتحدة، لكنها تحمل تمييزًا مشكوكًا فيه وهو التوقيع على أكبرِ «صفقة تساهل» في العالم، بقيمة ٢,٦ مليار دولار، مع السلطات في الولايات المتحدة والبرازيل وسويسرا، بعد الاعتراف بالفساد على نطاق واسع؛ على وجه التحديد دفعت رِشًا كبيرة في مقابل إبرام عقود في أمريكا اللاتينية.

إنها ليست مجرد تعاملاتٍ مخادعة. تتمتَّع الولايات المتحدة بولاية قضائية متساوية على أي معاملة في أي مكان يتعلق بنظامها المالي؛ على سبيل المثال، دَفْع ثَمن فندق أو طعام بالعملة الصعبة في موسكو. فالأمريكيون، في الواقع، مفوَّضون بالدولار للعمل كشرطة العالَم. إن القوى الأمريكية الواسعة النطاق ليست مالية فقط، إذ يمكنها أيضًا، على سبيل المثال، مقاضاةُ رسائل البريد الإلكتروني التي نُقلت بواسطة خادم إنترنت أمريكي، وهو الأمر الذي تحدَّاه عمالقة الإنترنت مثل «ميكروسوفت» و«جوجل».

العديد من الدول تستاء من ذلك؛ وبالأخص روسيا. لماذا تملك أمريكا سلطةَ تشويه سُمعة قرار إقامة كأس العالم في موسكو؟ من المؤكد أن روسيا نفسَها لن توافق على طلب تسليم أمريكي، لكن في هذه الحالة، هذا لا يهم حقًّا. فالعلاقات العامة هي كل شيء في عالَم الرياضة والأعمال. والعلامات التجارية مثل «سوني» والخطوط الجوية الإماراتية التي كانت تحرص بشدة على لصق شعاراتها في نهائيات كأس العالم السابقة قد ابتعدت عن هذه النسخة من البطولة. لقد جعلت الفضيحة علامةَ فيفا التجارية سامة. إنه الدليل المؤكَّد أكثر من غيره إلى الآن على التأثير الخبيث للدولار. لهذا السبب ولأسباب أخرى، تكاتفت روسيا مع بعض زملائها غير المتوقعين للتعامل مع تَفَوُّق الدولار.

ترسَّخت مكانة العملة الأمريكية على القمة في تلك القمة المنعقدة في «بريتون وودز» عام ١٩٤٤. وفي الاجتماع نفسه، أُنشئ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فقد كُلِّفا بضمان الاستقرار المالي والحدِّ من الفقر وتشجيع النمو الاقتصادي. ويقول النقاد إنهم حريصون أيضًا على الحفاظ على وضع الدولار من خلال ضمان أن يظل «العملة الاحتياطية» الأساسية. وهذا يعني أنه ليس العملة الرئيسية للتجارة فحسب، بل هو أيضًا الوسيط الذي تخزِّن فيه البلدان نقودَها، وهي الاحتياطيات الأجنبية التي يحتفظ بها البنك المركزي. فهذا يحافظ على الطلب على الدولار، ويضمن قوَّته، ويمنح الولايات المتحدة نفوذًا لا تستحقه. فعلى مرِّ السنين، انضم إلى الدولار نظراؤه من الدرجة الأولى، وهم اليورو والجنيه الإسترليني والين، وكلها تُعَد طُرقًا آمنة نسبيًّا للاحتفاظ بالنقد بسبب اقتصاداتها القوية الناشئة. إن نحو ٨٥ في المائة من الأموال المُودَعة على شكل احتياطيات أجنبية تتم بإحدى هذه العملات الأربع. ومع ذلك، لا تمثِّل أمريكا ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة واليابان ٨٥ في المائة من النشاط الاقتصادي العالمي أو عدد السكان أو كتلة الأرض.

فلماذا لا تحاول كسْرَ قبضة الكبار؟ في يوليو ٢٠١٤، عُقدت قمَّة في فورتاليزا بالبرازيل بقيادةِ ما أصبح يُعرف باسم دول البريكس: صُنِّفت البرازيل وروسيا والهند والصين في بداية القرن على أنها الاقتصادات الكبيرة القادمة. فالبلدان الأربعة مجتمعةً تمثِّل ما يقرُب من ربع النشاط الاقتصادي العالمي. يوجد في روسيا أصغرُ عدد من السكان من بين البلدان الأربعة، لكن الروس بشكلٍ فردي هم عادةً أكثرُ ثراء من سكان بقية مجتمع البريكس، مما يمنح روسيا الأفضلية.

وظهر وزراء خارجية دول البريكس في الصور الرسمية وهم يمسكون بعضهم بأيدي بعض، لكنَّ القمةَ كانت أكثرَ من مجرد تجمُّع لدولٍ من الدرجة الثانية. فمن بين عدد لا يُحصى من الصفقات التجارية، قد أقاموا منافسَهم الخاص للبنك الدولي، وهو بنك التنمية الجديد، وأنشئوا صندوقًا احتياطيًّا نفطيًّا مشتركًا، ووضعوا خططًا لإنشاء عُملتهم الاحتياطية الخاصة بهم. قادت الصين هذه المهمة. فإذا أصبح اليوان عملةً احتياطية، فسيكون أكثرَ استقرارًا، وسيتعيَّن على الصين الاحتفاظُ باحتياطياتٍ أقل من العملات الأخرى. مع أن الصين ستكون الرابح الرئيسي، فقد ارتأت دول مجموعة البريكس طريقةً لتحدي هيمنة الغرب، حتى لو كانت تنطوي على بعض المخاطر السياسي ألا وهي الاتحاد معًا.

ومع ذلك، تعرقلت محاولةُ دول البريكس، بوجه عام. ويعود ذلك جزئيًّا إلى فشلهم في تحقيق النمو الاستثنائي الذي توقَّعه الكثيرون في هذا القرن. اكتسبت العملة الصينية مزيدًا من الموثوقية، وقد يقول البعض إن تفوُّق الدولار في خطر. ومع ذلك، لا يزال اليوان بعيدًا عن اعتباره على نفس المستوى. حاولت الصين وروسيا تجاوُز الدولار بالموافقة على مقايضة العملات مباشرة، باستخدام الروبل واليوان من أجل دفعِ ثَمن البضائع المُشتراة لبعضهما من بعض بدلًا من ذلك. ومع ذلك، ما حدث هو أن الصين استخدمت كميةً من الروبل أقلَّ بكثير مما كان مأمولًا: كان النفط الذي اشترته من روسيا أرخصَ بكثير في عام ٢٠١٤ ولم تُعوَّض التكلفة المنخفضة عن طريق زيادة الطلب.

كانت مفارقة الوفرة، لعنةَ النفط الأسود، تهاجم روسيا من كل حدَبٍ وصوب. وللحماية من آثارها، تحتاج روسيا إلى تنويع صادراتها وتنميتها. إذا حقَّقت روسيا اكتفاءً ذاتيًّا أكبرَ من خلال تنويع منتجاتها، فإنها ستصبح أقلَّ اعتمادًا على الواردات، وأقلَّ عُرضة لتقلبات الروبل، ومن ثَم أقل عرضة لقوة الدولار.

•••

قد يبدو بيع الأسلحة خطوةً مشكوكًا فيها، مما يؤجِّج الدمار في جميع أنحاء العالم. لكن بالنسبة إلى روسيا والبلدان الأخرى المُصدِّرة للأسلحة، في منطق المحاسبة الاقتصادية المبني على الأرقام، فإن هذا يمثل تدفقًا مُدرًّا للأرباح. تمتلك روسيا خياراتٍ أخرى بالفعل: فبصرف النظر عن النفط، تنعم روسيا بمواردَ طبيعية من الألماس إلى الحديد. في الواقع، لقد ربحت من تصدير المواد الغذائية مثل الحبوب في عام ٢٠١٥ أكثرَ مما ربحته من بيع المروحيات العسكرية وما شابه ذلك. يمكن أن تكون أسعار الحبوب، مثل أسعار النفط، غير متوقَّعة ومتفاوتة بشكلٍ كبير. سيكون بيع الأسلحة عملًا أكثرَ موثوقية؛ إذا تمكَّنت روسيا من فِعل ذلك على النحو الصحيح. ستكون هذه خطوة مهمة في تنويع السلع بعيدًا عن النفط. فهو مجال تجاري متنامٍ سيتعين على روسيا التمسُّك به، من أجل ديمتري سوكولوف والسكان الروس ككل.

يكسب العامل العادي في روسيا ٣٠٠ دولار شهريًّا؛ في شهر جيد، يمكن لرجالٍ مثل ديمتري أن يكسبوا ١٠٠٠ ضعف. إنه تفاوتٌ أكثرُ تطرفًا مما هو موجود في الغرب. فالمنازل الأجنبية واليخوت وحتى نوادي كرة القدم في متناول هؤلاء القلة. ومع ذلك، رغم كل ثرواته، يتعامل ديمتري مع كل دولار بعناية. فمن يدري إلى متى ستستمر الأوقات الجيدة قبل أن يلحق الصينيون بالرَّكب؟ فقد يبحث عن بنكٍ لإيداع أمواله، لكن يُنظر إلى البنوك الروسية على أنها غير متطورة نسبيًّا وتعمل في ظل قواعدَ غيرِ متسقة ومقيدة. الأهم من ذلك، أنه يُنظَر إليها على أنها محفوفة بالمخاطر، على الرغم من عدم وجود أحدٍ متأكد تمامًا من مدى خطورة ذلك. فالطريقة الغامضة التي تدير بها الدولة البنوكَ الروسية وتشرف عليها تجعل من الصعب مراقبتها، وهذا يجعل العملاء المحتملين متوترين؛ وبالأخص ديمتري، الذي يُودِع الملايين فيه.

لا تحظى البنوك الروسية بشعبيةٍ أكبرَ بعد العقوبات والقيود التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لا يُسمح لبعض البنوك الروسية بالانخراط في الأسواق الدولية، أو شراء السندات أو الأسهم هناك، على سبيل المثال، أو الحصول على القروض، وهو الأمر الذي أعاق قدرتها على تقديم قروضٍ للشركات في روسيا. مُنعت شركات الطاقة من استيراد الآلات المتطورة اللازمة لتحديد مواقع النفط واستخراجه. فبعد إسقاط الرحلة إم إتش-١٧ في أوكرانيا، وُضع صانع صواريخ بوك، العملاق الدفاعي «ألماز-أنتي» المملوك للدولة، على القائمة المحظورة. والصواريخ «ألماز-أنتي» إلى جانب الأسلحة التي صنعتها ١٢ شركة روسية أخرى حُظِر بيعها في الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. ورفض الغرب الاستمرارَ في مشاركة التكنولوجيا التي يمكن استخدامها لبناء أنظمة دفاعية. ووجد العديد من أصدقاء ديمتري سوكولوف وخصومه أن حساباتهم المصرفية الأجنبية وأصولهم صُودرت وجُمِّدت.

في ظل هذه الخلفية، في أي مجال يستثمر ديمتري دولاراته؟ عندما بدأت قبرص في تقديم الجنسية مقابل الاستثمار، أصبحت وجهة شهيرة للأموال الروسية. وعدَت جوازات السفر هذه بحياة مشمِسة في ليماسول، ويمكنها أيضًا السماح للروس في مكانٍ ما بإخفاء المكاسب غيرِ المشروعة؛ أو «غسيل» الأموال. ليس كل دولار يُحصَل عليه في روسيا — أو في أي مكان آخر — فوق مستوى الشبهات. حرصًا على الإفلات من التدقيق ومطالبِ حكومتهم، بحلول عام ٢٠١٧، حصل أكثر من ١٠٠٠ ثريٍّ روسي على جوازات سفر قبرصية.

كانت إدارة الثروة الروسية الجديدة أمرًا مهمًّا بالنسبة إلى البنوك في جميع أنحاء أوروبا، ولكن إذا لم يُتعامَل معها على نحوٍ صحيح، فقد تكون العواقب وخيمة. فقط اسأل «دويتشه بنك»، أكبر بنك في ألمانيا. أُنشئ فرعُ هذا البنك في موسكو عام ١٩٩٨، عندما كانت البنوك الدولية تتزاحم فيما بينها لتأخذ فرصتها بعد الجلاسنوست. لقد رأوا طريقةً سهلة لكسب المال في اقتصادِ ما بعد الاتحاد السوفيتي المتخلف سابقًا والمزدهر بسرعة مُدهشة.

في عام ٢٠١٧، اضطُر «دويتشه بنك» إلى دفعِ غرامات قياسية لهيئات الرقابة المالية الأمريكية والبريطانية عندما أُدين بالمساعدة والتحريض على غسيل الأموال، وهي عملية تُخفَى من خلالها الأموال «القذرة» التي أمكن الحصول عليها من خلال وسائل غير قانونية — على سبيل المثال، الابتزاز أو الرشوة أو تهريب الأسلحة — بحيث يبدو كما لو أن تلك الأموال كُسبت بشكل قانوني.

أنشأ «دويتشه» نظامًا، يُعرف باسم «التداول بالمحاكاة»، يمكن للروس الأثرياء من خلاله مقايضةُ عملة أخرى بروبلهم. سيُقدَّم طلب نيابةً عن أحد العملاء لشراء أسهم روسية باستخدام الروبل، وعادةً ما تكون قيمتها بضعة ملايين من الدولارات. وفي الوقت نفسه، قُدِّم طلبٌ آخر لبيع الكمية نفسها من الأسهم في مكانٍ آخر مقابل دولارات أو جنيهات. وسيُقدَّم الطلب الثاني نيابةً عن شركة خارجية مختلفة. جُلبت العائدات في أكثر الأماكن غير المُتوقعة: سداد المصروفات المدرسية لأطفال الأوليغارشية في لندن، على سبيل المثال.

على مدى عامين ونصف العام، نفَّذ دويتشه بنك أكثرَ من ٢٠٠٠ من هذه الصفقات، التي تشتمل على مليارات الدولارات. وصفت الصحف — ومنها صحيفة «الجارديان» — مثلَ هذه الأنشطة بأنها «أكبرُ أعمال روسيا»، وأصبحت الصفقات المراوغة شائعةً في التدافع على الثروة والسلطة بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي. حتى إن التداول بالمحاكاة له لقبٌ روسي خاص به: «كونفرت» Knovert.

يواجه المصرفيون ومؤسساتهم عقوباتٍ شديدة — قد تصل إلى السَّجن — إذا لم يقمعوا غسيلَ الأموال. ومع ذلك، في هذه الحالة، يبدو أنه غُضَّ الطرْف عن ذلك. ونظرًا لأن الدولارات كانت متضمنةً في هذه الصفقات الدنيئة، فقد أثاروا حالةً من الغضب الشديد لدى السلطات الأمريكية. ومن جديدٍ، سُمح للولايات المتحدة بالعمل شرطيًّا ماليًّا خارجَ حدودها. واجه «دويتشه بنك» عناوينَ صحف مدمِّرة. في ألمانيا، زعمت مجلة «دير شبيجل» الرائدةُ أن «المؤسسة الفخورة أصبحت بمثابة بوفيه خدمة ذاتية لعدد قليل من الأشخاص الذين أصبحوا فاحشي الثراء» ناعتةً البنكَ باتهاماتٍ مثل «الأنانية … وعدم الكفاءة والكذب … والانحطاط والغطرسة». فالمقال المُطوَّل، الذي يشرح بالتفصيل العديدَ من الفضائح الأخرى التي تورَّطت فيها المؤسسة، منها سوء البيع وسوء الإدارة، كان بعنوان «كيف ضلَّ أحد أعمدة البنوك الألمانية طريقه». وفي عام ٢٠١٧، خفض «دويتشه» نطاقَ عملياته في موسكو.

لا تزال ألمانيا نفسُها نقطةَ جذب للأثرياء الروس. فقد كانت أغنى دولة في أوروبا أيضًا الأكثر ترددًا في أن تمنح مباركتها للعقوبات، ربما لأن ٤٠ في المائة من الغاز الذي يستخدمه سكانها البالغ عددهم ٨٢ مليون نسمة يأتي من روسيا. إذا توغَّلت ألمانيا كثيرًا، فإنها تخشى أن تغلق روسيا خط أنابيب الغاز وتترك سكانها في البرد. ومن الجدير بالذكر أن صناعة الغاز الروسية أفلتت من العقوبات، وعارضت ألمانيا بغضبٍ أيَّ توسيع للعقوبات قد يؤثِّر على تلك الصناعة. في هذا المناخ الغامض، لا تزال روسيا تشعر أن لديها بعضَ النفوذ على ألمانيا.

تواجه هذه الحسابات المصرفية الألمانية الآن قواعدَ أكثرَ صرامة ومزيدًا من التدقيق. ربما سيصبحون أقلَّ جاذبية. لكن ديمتري لا يزال يريد أن يُودِع دولاراته في مكانٍ آمن، وبعائدٍ جيد. لا يزال يتطلع إلى ألمانيا، وماذا، حرفيًّا، يُمْكن أن يكون أكثرَ أمانًا من الاستثمار في العقارات؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤