الفصل السابع

تحدياتٌ أسرية

من روسيا إلى ألمانيا

يُلمِّح الكتيب الخاص بمبنى ميتزي السكني ذي اللون الكريمي، بتجهيزاته المصنوعة من الكروم وأرضياته من خشب البلوط والمروج المشذَّبة، إلى نمطِ حياةٍ حضري يثير الإعجاب الشديد: «أسلوب عيشٍ عصري ومثير ومحوري». ذاك وصفٌ فضفاض لمساحة ضيقة. فهذه في الواقع شققٌ صغيرة بمساحةٍ تتراوح بين ٢٤ و٤٨ مترًا مربعًا. فتَكَدُّس حتى عائلة صغيرة في شقةٍ مثل هذه أمرٌ صعب، لكن هذا لا يزعج ديمتري سوكولوف؛ لأنه لا ينتوي الانتقال إلى هناك.

هذه هي برلين، واحدة من أكثر المدن نبضًا بالحياة وتنوعًا في العالم. إنها عامل جذب يستقطب الناس من بقية ألمانيا وبقية أوروبا ومن بلدانٍ أخرى. ومثل العديد من البلدان الأوروبية، فهي أيضًا نقطةُ جذب للاستثمار، من روسيا وأماكن أخرى. سيتطلع المستثمرون من سنغافورة والصين وحتى إسرائيل إلى هذه الشقق. فهم يمثِّلون سلالة جديدة من المستثمرين الأثرياء وهم يغيِّرون الخريطة العقارية العالمية. ولهذا بمقدورنا القول إن دولارات ديمتري، ولو بطريقة بسيطة، تساعد في بناء برلين. من أجل شراء حصته الصغيرة من الازدهار، استعاض عن دولاراته باليورو لدى أكبر بنك في ألمانيا، «دويتشه بنك». يجب أن يحتل الدولار مقعدًا خلفيًّا — مؤقتًا — عند دخولنا منطقةَ اليورو واستكشاف قصة اقتصادية رائعة أخرى في عصرنا.

لقد تدفَّقت الأموال إلى المدن في جميع أنحاء أوروبا في السنوات الأخيرة، وليس فقط في منطقة اليورو. ومن المرجَّح أن سكان لندن المحظوظين بما يكفي ليكونوا قادرين على شراء شقة في أحد الأبنية الجديدة في وسط المدينة سيتنافسون على الأرجح مع مشترين من جميع أنحاء العالم. تشير التقديرات إلى أن المنازل والشقق والمباني الإدارية والأراضي في العاصمة البريطانية جذبت أكثرَ من ١٥٠ مليار دولار من الأموال الأجنبية خلال الفترة بين عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٦. يحتاج المستثمرون إلى التأكد من أنهم يشترون في مكانٍ يتمتَّع بنهجٍ وديٍّ تجاه الاستثمار الأجنبي. وعلى العكس من كندا أو سويسرا، فإن لندن لا تفرض قيودًا أو عقوبات شديدة على الملكية الأجنبية. ولكن مع ازدياد شعبيتها، فقد ازدادت أيضًا الأسعار واشتدت المنافسة فيها. وقد جعل هذا من برلين خيارًا جذابًا على نحوٍ متزايد.

تُعَد برلين أكبرَ سوق في أوروبا لشراء العقارات السكنية التي تُشترى بهدف التأجير. فقد أدَّى رواج الإيجار هناك إلى أحد أدنى معدَّلات ملكية المنازل في العالم. فنحو نصف الألمان يمتلكون منازلهم — أقل بكثير من إسبانيا، على سبيل المثال — ومعدَّل ملكية المنازل في برلين أقلُّ من نصف المعدَّل الوطني. ينتقل نحو ٤٠ ألف شخص إلى برلين كل عام، ومع تزايد الطلب على المساكن العالية الجودة بشكلٍ أسرعَ مما يمكن تلبيته، فإنهم يتوقَّعون دفْع مبالغَ ضخمة. إن سوق العقارات هنا، في واحدة من أكثر مدن العالم حيوية وشعبية، هي سوق جذابة، وقد فتحت شبكة الإنترنت المجال أمام المستثمرين الدوليين الذين يتطلعون إلى وضعِ أموالهم في مكان آمن، مما يوفر عائدًا جيدًا.

لماذا لا تمانع هذه المدن الأوروبية مطلقًا في السماح لأصحاب العقارات في العالم بامتلاك عقاراتٍ بها؟ يجادل البعض بأن هذا الاستثمار الأجنبي يحفِّز البناء، ولا سيما بناء المنازل، مما يساعد على تلبية الطلب المتزايد على المنازل من جانب عددٍ متزايد من السكان. قد يكون المستثمرون على نطاقٍ واسع على استعداد أيضًا لدعم أكثر الأبنية إذهالًا ورُقيًّا: على سبيل المثال، مُوِّل برج «شارْد» الشاهق في لندن بأموال قطرية. قد يستثمر الأثرياء أيضًا على نطاقٍ أوسعَ في بلدٍ ما، أو يجلبون معهم مهاراتهم في تنظيم المشروعات. باختصار، يمكنهم زيادة ثراء الدول.

وكما هي الحال مع جميع الاستثمارات الأجنبية، ثمة إيجابيات وسلبيات. يشعر البعض أن المالكين الجددَ قد لا يعطون الأولويةَ لاحتياجات السكان المحليين. ففي برلين، اشتعلت موجة من الغضب عندما خُصِّص مبنًى سكنيٌّ للبيع لشركة استثمارية من لوكسمبورج كانت تنوي بيعه. وقد كان هذا الغضب مفهومًا. ارتفعت الإيجارات بنسبة ٥٠ في المائة على مدى عَقد من الزمان، وبدأ ذلك ببيع أكثرَ من ١٠٠ ألف شقة تابعة للبلدية لجهاتٍ خاصة وأجنبية في كثير من الأحيان خلال الفترة بين عامي ٢٠٠٢ و٢٠٠٧. أصبح هذا المبنى ملكيةً عامة، بعد أن مارست الحكومة المحلية حقَّها في الشراء بنجاح.

انتقد رئيس بلدية لندن، صادق خان، المستثمرين الأجانب لاستخدامهم منازلَ المدينة باعتبارها مجرد «لبنات ذهبية للاستثمار». إنه شعور يشترك فيه بعض المقيمين. يحصل المالكون الأجانب الذين يؤجرون ممتلكاتهم على الأموال من الدولة، لكن التأثير يكون أسوأ عندما يتركون تلك الممتلكات فارغة، إما لاستخدامهم الخاص أو لإعادة البيع. وقد صُنِّف هؤلاء المستثمرون على أنهم قلقون من أن كل هذه المنافسة الأجنبية ربما تدفع ببساطة أسعارَ المنازل بعيدًا عن متناول السكان المحليين. في جميع أنحاء لندن، وجدت إحدى الدراسات أن المشترين الأجانب يشترون ٧ في المائة من العقارات المتاحة. وكانت هذه العقارات تتركَّز أساسًا في أغنى المناطق في المدينة؛ إذ شكلوا ما يقرُب من نصف أولئك الذين يشترون العقارات التي يزيد سعرها على مليون جنيه إسترليني في وسط لندن. لكن هل يهم ذلك عموم السكان؟ قد يكون كذلك إذا كانت النتيجة إجبارهم على الخروج إلى الضواحي أو أبعد من ذلك.

يبدو أن شيوع الملكية من الخارج، وكذلك الاستفادة من ثروةِ بلدٍ آخرَ ودخله، سوف يزدهر مع ظهور أصحاب الملايين الجدد في جميع أنحاء العالم. فدائمًا هناك وفرة من المال أثناء التنقُّل والتحرُّك خارج الحدود. وتمامًا مثلما يتطلع المستثمرون الكبار والحكومات إلى تحقيقِ أقصى استفادة من أموالهم من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، تزداد كذلك استثمارات الأفراد في الخارج لتحقيقِ مكاسبَ ماليةٍ وسعيًا وراء المكانة أيضًا. لكن مع ارتفاع الأسعار في برلين، سيبدأ المستثمرون في التحول إلى مواقعَ جديدة أرخص ثمنًا، ومنها المدن الصاعدة مثل وارسو. فالعولمة تعني أنه لا شيء يظل في مكانه طويلًا.

•••

تُعد ألمانيا نقطةَ جذب لجميع أنواع الاستثمار بمدنها المزدهرة، ولأسباب أخرى عديدة، ومن المرجَّح أن تظل كذلك في المستقبل القريب. فهو الاقتصاد القوي الموجود في قلب أوروبا، الذي يشتهر بقوة تصنيعه وبيع منتجاته في جميع أنحاء العالَم.

ربما واجه «دويتشه بنك» مشكلاتٍ في تعاملاته مع روسيا، لكن دولارات ديمتري سوكولوف دخلت الآن أحدَ أكثر الأنظمة المصرفية استقرارًا — بل في الواقع، وبالنسبة إلى البعض، أكثرها مللًا — في العالم. لقد ارتبطت البنوك الألمانية الكبرى، مثل «دويتشه بنك» بالثروات المتقلِّبة لأغنى اقتصاد في أوروبا منذ ١٥٠ عامًا. تأسَّس «دويتشه بنك» في عام ١٨٧٠ وفي سنواته الأولى لعب دورًا رائدًا في إنشاء بعض الشركات الصناعية الألمانية العملاقة التي لا تزال مزدهرةً حتى يومنا هذا: شركة الأدوية باير على سبيل المثال، أو شركة دايملر-بنز المتخصصة في صناعة المركبات.

في سعيها لتحقيق النمو والازدهار، اتَّبعت ألمانيا خطواتِ خطةِ التنمية التي وضعها والتر روستو بدقة، على عكس الهند (انظر الفصل الرابع)، وفي وقتٍ مبكر نسبيًّا. بحلول وقت الحرب العالمية الأولى، كانت ألمانيا بالفعل متطورة تطورًا كبيرًا، وكانت تتمتع بالكثير من القدرات الصناعية، وفي ذلك إنتاجُ الأسلحة. لطالما كانت هناك صلةٌ وثيقة بين كلٍّ من التمويل والصناعة والتسلُّح العسكري؛ إذ إن المال والدراية اللازمة لتطوير الأسلحة تعود بالنفع على التنمية الصناعية، والعكس صحيح. فقد أعلن عصر الآلة عن عصر جديد من الحرب الآلية.

غَيَّرت الحرب العالمية الأولى مصيرَ ألمانيا. فبعد أن تَكَبَّدَت الخسائر المادية والمالية، اضطُرت حكومتها إلى دفع ٣٣ مليار دولار (أو ٤٥٠ مليار دولار من أموال اليوم) إلى بلدانٍ أخرى كتعويضاتٍ عن الأضرار التي لحِقت بالمدنيين. ولهذا فقد احتاجت إلى الحصول على بعض القروض الخارجية الكبيرة، وجاء أكبرها من أمريكا وبالطبع بالدولار. كانت ألمانيا تطبع النقودَ خلال الحرب لدفع تكاليف عملياتها العسكرية. وبعد تَوَقُّف الأعمال العدائية، كافحت الدولة الجريحة لإنتاج السلع التي يحتاج إليها مواطنوها بشدة. كان هناك الكثير من المال مقابل القليل من البضائع. عندها فقدَت العملة الألمانية قيمتَها بسرعة مع ارتفاع الأسعار. تُروى حكايات أسطورية عن العمال الذين اضطروا إلى تحصيل أجورهم على عربات اليد، أو عن رغيف خبز يساوي ملايين الماركات الألمانية. ولهذا فقد انخفض سعر الصرف مع تبخُّر الثقة في ألمانيا. في عام ١٩١٤، كان سعر الصرف ٤,٢ ماركات ألمانية مقابل الدولار؛ وفي غضون عَقد من الزمان وصل إلى ٤,٢ تريليونات مارك.

في عام ١٩٢٤، عاد الاستقرار أخيرًا من خلال مزيج جمع بين حكومةٍ ائتلافية، وبنك الرايخ الجديد، وعملة الرايخ مارك الجديدة. وحُرقت الأموال القديمة. بعد ذلك في عام ١٩٢٩، عندما بدأت ألمانيا تتمتع بأوقاتٍ أفضل، جاء انهيار «وول ستريت». سارعت البنوك الأمريكية بطلبِ قروضها. لم يكن لدى البنوك الألمانية ما يكفي من الدولارات (أو بالأحرى العملة لشرائها)؛ حتى إنه قد انهارت بعض المؤسسات الصغيرة. تراجع الاقتصاد وارتفعت معدَّلات البطالة ارتفاعًا ملحوظًا، ما أدَّى إلى الاحتجاجات والاضطرابات. على خلفية خيبةِ الأمل هذه، حقَّقت الاشتراكية القومية — النازيون — مكاسب.

خلال الحِقبة النازية، لعِب «دويتشه بنك» دورًا نشطًا في تمويل نظام هتلر، وفي ذلك مصادرة الشركات اليهودية. فقد كانت فترةً مظلمة تعامَل معها البنك بأمانة. فبعد الحرب العالمية الثانية، حيث فقدَت الدولة غالبيةَ مساكنها وثلث طاقتها الزراعية، كرَّس «دويتشه بنك» جهودَه لضمان حصول ألمانيا الغربية على الأموال من أجل ما يُسمى ﺑ «المعجزة الاقتصادية». بحلول هذه المرحلة، قُسِّمت الأمةُ المهزومة إلى مناطق، تسيطر عليها القوى العظمى الغربية والسوفيتية. وقد أدَّى هذا التقسيم الجغرافي والسياسي في النهاية إلى انقسامِ البلاد إلى ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، وإقامة جدار برلين.

يمكن القول إن أحد الدروس المستفادة من الانهيار الاقتصادي في ألمانيا هو أنه مع القوة العالمية للدولار تأتي المسئولية: المسئولية عن الاستقرار الاقتصادي والمالي. لذلك بدأت الولايات المتحدة خطةَ مارشال التي تبلغ تكلفتها عدة مليارات من الدولارات لإعادة بناء ديمقراطيات أوروبا الغربية. إنه الاستثمار الأجنبي المباشر، ولكن نسخة الأربعينيات من القرن العشرين. أظهرت ألمانيا الغربية، التي تمتلك بالفعل أسسَ الاقتصاد الصناعي، نجاحًا مضمونًا ورهانًا أكيدًا. وبالطبع زوَّدت الولايات المتحدة بحليف قوي ضد الشيوعية.

ساعدت تلك الدولارات الأجنبية ألمانيا الغربية على استعادة مكانتها بوصفها أقوى دولة في أوروبا، لتصبح رائدةَ التميز الصناعي في القرن العشرين وفي القطاع المصرفي، فضلًا عن كونها أقوى اقتصاد في أوروبا. بعد الحرب العالمية الثانية، حُظر إنتاج الأسلحة في جميع أنحاء ألمانيا في البداية، لكن رغم ذلك، يمكن أن تستفيد البلاد إلى أقصى حدٍّ من قوَّتها وخبرتها السابقة. فقد وجَّهت جهودها نحو اقتصاد صناعي مستقر، مدعومة ببنوك قوية واستراتيجيات استثمار طويلة الأجل، ومدفوعة بصادراتٍ إلى أنحاء العالم.

تردَّد صدى «المعجزة الاقتصادية الألمانية» في اليابان — التي كانت أيضًا موقعًا لجهود إعادة البناء الضخمة في فترة ما بعد الحرب. وبدعمٍ من المال والنوايا الحسنة، تمكَّن كلا البلدين من تحقيق بداية جديدة وقوية في عالمٍ يتحوَّل إلى الصناعة تحولًا سريعًا. فقد ركَّزا على التصنيع ورفع مستوى معيشة السكان. وقد كانا بمثابة منارات للاقتصاد الصناعي الحديث، وأصبحت العلامات التجارية الخاصة بهما شائعة ومعروفة للجميع، كما أصبحت مرادفًا للجودة والكفاءة والتكنولوجيا الحديثة. (بالنسبة إلى أولئك الذين عانوا القوة العسكرية اليابانية أو الألمانية أثناء الحرب، كان الوضع محيِّرًا، بل وأحيانًا مُسيئًا). تكمُن جذور الانتعاش الألماني والياباني في التقاء المال والآلات، وأولئك الذين دعموا إعادةَ تأهيلهما وجدوا أنفسهم متخبطين اقتصاديًّا في أعقابهم. فالمنتصرون لم يحصلوا على كل الغنائم.

هذه الصيغة قد آتت أُكُلَها قطعًا لكلٍّ من ألمانيا واليابان. فبحلول تسعينيات القرن العشرين، كان مستوى المعيشة في كلا البلدين من بين الأفضل في العالم، ولم تتفوَّق عليهما اقتصاديًّا سوى الولايات المتحدة. وبعد ٥٠ عامًا من الهزيمة العسكرية الساحقة للبلدين، كانت المنتجات الألمانية واليابانية في كل مكان، تجتذب الجنيهات والدولارات والين من جميع أنحاء العالم.

تقدِّم تجربة ألمانيا بعد الحرب تناقضًا صارخًا مع تجربة بعض جيرانها الأوروبيين. فاليونان، على سبيل المثال، استفادت أيضًا من ضخٍّ نقديٍّ كبير لإنعاش قِطاعها الصناعي بعد الحرب العالمية الثانية، وشهدت بعض النمو الأشبه بالمعجزة. ومع ذلك، لم يكن ليستمر هذا النمو. فقد كان هناك اختلافان رئيسيان بين اليونان ونظيرتها الشمالية. أولًا لم تخرج اليونان من حربٍ أهلية مؤلمة حتى عام ١٩٥٠، وحينذاك فقط بدأت عملية التنظيف الاقتصادي. ثانيًا، هي بدأت من قاعدةٍ أقلَّ بكثير. بعد الحرب، كان متوسط دخل الفرد اليوناني أقلَّ من نصف دخل الفرد الألماني العادي. كان قِطاعها المصرفي وقاعدتها الصناعية أقلَّ تطورًا بكثير.

عندما وصل المال، دبَّت الحياة في اليونان بالتأكيد. مع ازدهار قطاع التصنيع، تمتَّعت بواحد من أسرعِ معدَّلات النمو في أوروبا خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فقد أوشكت على أن تلحق بالرَّكْب، حتى تضررت بشدة من ارتفاع أسعار النفط في أوائل سبعينيات القرن العشرين. عانى العديد من الدول، ولكن في اليونان تزامن ارتفاعُ أسعار الوقود مع انهيار الديكتاتورية العسكرية. ترك ذلك الاقتصادَ في حالة من الشلل وفشل دخول اليونانيين العاديين في النمو فشلًا ذريعًا خلال الفترة بين عامي ١٩٧٩ و١٩٨٧. كانت بلادهم تتخلف مرةً أخرى؛ إذ تناضل الصناعة التحويلية من أجل المنافسة، وكانت البنوك أقلَّ قدرة على المحافظة على تدفُّق السيولة.

قرَّرت الحكومة اليونانية معالجةَ الوضع من خلال إنفاق المزيد من الأموال. لقد أوجدت أعدادًا كبيرة من الوظائف في قِطاعها العام المتضخم بالفعل. ولدفع ثَمن هذه الاستراتيجية، كان عليها الاقتراض من أسواق المال، لكنَّ حذرَ المستثمرين كان يعني أن أسعار الفائدة كانت مرتفعة واقتراض اليونانيين كان أكثرَ كُلفة. وأدَّى فقدان الثقة إلى انخفاض قيمة العملة اليونانية، الدراخما.

وبعد ذلك، في تسعينيات القرن العشرين، قدَّم جيرانها طوقَ النجاة لها، مما يعني أن مصائر ألمانيا واليونان أصبحت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا. لقد كان تتويجًا لرحلةِ زيادة التكامل والتجارة والازدهار عبْر أوروبا، التي بدأت كلُّها مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتَدَفُّق الدولارات الذي كانت وراءه خطة مارشال.

•••

بعد الحرب، اجتمعت مجموعةٌ من الدول ذات التفكير المماثل — بلجيكا وفرنسا وألمانيا الغربية وإيطاليا ولوكسمبورج وهولندا — سياسيًّا واقتصاديًّا لتشكيل وحدة «عائلية» تحت الاسم المُعَقَّد المجموعة الأوروبية للفحم والصلب. كان هدف هذه المجموعة هو تأمينَ سلامٍ دائم من خلال روابطَ أوثقَ ومن خلال مصلحة مشتركة ألا وهي التجارة. ومع نمو سنداتهم، سرعان ما اتفقوا على التوقُّف عن فرض رسوم فيما بينهم على التجارة، وكذلك اشتراكهم في السيطرة على إنتاج الغذاء. قادهم هذا النهج الجماعي والتعاوني إلى اتخاذ المجموعة الاقتصادية الأوروبية أو السوق المشتركة اسمًا لهم.

رحَّبت عائلة المجموعة الاقتصادية الأوروبية ببعض الوافدين الجدد في أوائل سبعينيات القرن العشرين — المملكة المتحدة والدنمارك وأيرلندا. ففي أعقاب الارتفاع الحاد في أسعار النفط، غيَّرت قواعدها حتى تتمكَّن الدول الأكثر ثراءً من مساعدة الأعضاء الأفقر. وتوسَّعت المجموعة مرةً أخرى بانضمام البرتغال وإسبانيا واليونان إليها في ثمانينيات القرن العشرين. في عام ١٩٩٣، غيَّرت المجموعة الاقتصادية الأوروبية اسمها إلى الاتحاد الأوروبي.

حدَثت الهِزة الأعنف عندما سقط جدار برلين في عام ١٩٩٠، وبين عشية وضحاها، أرادت دولٌ أوروبية أخرى الخروجَ من العزلة والانضمام للمجموعة. استغرق الأمر بعضَ الوقت، ولكن بحلول عام ٢٠٠٧، انضم ١١ عضوًا جديدًا من الكتلة الشرقية القديمة، ما يُسمى بدول الانضمام. خلال تلك الفترة، انضمَّت أيضًا السويد والنمسا وفنلندا. وبحلول عام ٢٠١٣، فإن الأسرة التي ضمَّت في البداية ٦ أفراد صارت تضم ٢٨ فردًا. بحلول عام ٢٠١٦، كان أكثر من ٥٠٠ مليون شخص يعيشون داخل حدود الاتحاد الأوروبي.

ومثل جميع العائلات المختلطة، كانت هذه المجموعة متنوِّعة تنوُّعًا لا يصدَّق. اختلفت تركيبة أعضائها وثرواتهم واحتياجاتهم وخبراتهم اختلافًا كبيرًا. على سبيل المثال، يبلغ حجمُ اقتصاد الأب المؤسِّس (ألمانيا)١٥٠ ضِعف حجم اقتصاد إستونيا التي انضمت حديثًا، ومن ثَم كانت البلاد قادرةً على ممارسة السلطة السياسية التي جاءت مع كونها واحدةً من أكبر الاقتصادات في المجموعة. لطالما كانت العلاقات الفرنسية الألمانية في قلب الاتحاد الأوروبي، وهي صلة وثيقة بين أغنى اقتصادَين في أوروبا. فلماذا كان الأعضاء الجدد الأصغر متحمسين جدًّا للانضمام؟ وما النفع الذي سيعود عليهم عند الانضمام؟

أراد الاتحاد الأوروبي إنشاءَ كتلةٍ أو مجموعة تجارية، أي سوق لشراء وبيع المنتجات لمنافسة الولايات المتحدة، وكذلك مواجهة المنافسة من البلدان النامية. بهدف العيش السلمي والمريح، وُقِّع على القانون الأوروبي المُوحَّد في عام ١٩٨٦ للسماح بالتجارة الحرة عبْر الحدود مع حركة الأشخاص والأموال والخدمات والسلع: «الحريات الأربع».

تعني الحركة الحرة للبضائع أنه يمكن بيعُ السلع من دولة أوروبية إلى أخرى دون إضافة تعريفات جمركية إلى سعر الشراء. ليس من الضروري أن تخضع البضائع المستوردة لتفتيشٍ جمركي مُطول على الحدود، وتطبَّق القواعد واللوائح نفسُها في جميع أنحاء المنطقة. تقدِّم دول الاتحاد الأوروبي أيضًا جبهةً موحَّدة ضد الأجانب — اتحاد جمركي — لذا أيًّا كانت دولة الاتحاد الأوروبي التي تبيع لها الصين، على سبيل المثال، فإن السلع ستخضع للنوع نفسِه من التعريفات أو التفتيش الجمركي. قد يتفوَّق المصنِّعون الصينيون على منافسيهم الأوروبيين بسبب انخفاض الأجور في الصين، لكن حواجز الاتحاد الأوروبي تبطئ البضائع القادمة من الصين، وقد تمنح المصنعين الأوروبيين ميزةً تنافسية فيما يخصُّ البيع إلى بقيةِ دول أوروبا. وينطبق الشيء نفسُه على دول الاتحاد الأوروبي الأصغر، وقد تكون هذه الميزة أكثرَ أهميةً بالنسبة إليها: ما يصل إلى ٨٠ في المائة من تجارة المجر، على سبيل المثال، يكون مع بقية دول الاتحاد الأوروبي.

هذه القواعد ساريةٌ إلى الآن منذ ربع قرن. لقد وُضعت بهدفِ جعلِ السلع الأوروبية أرخصَ ثمنًا، وفتح المزيد من الأسواق لمصنعيها. من الصعب معرفةُ حجم الإسهام الذي حقَّقه إنشاء سوق أوروبية موحَّدة، ولكن الإحصاءات تقدِّم بعضَ الإرشادات المفيدة بشأن ذلك. تقدِّر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن التجارة بين دول الاتحاد الأوروبي أعلى بنسبة ٧٠ في المائة مما كانت ستصبح عليه من دون السوق الموحَّدة. هذا مهمٌّ للشركات الأوروبية كما أنه يمكِّن أوروبا من الحفاظ على دَورها في السوق العالمية المزدهرة. وتزعم منظمة التجارة العالمية أن التجارة العالمية تضاعفت تسع مرات في الفترةِ بين عامي ١٩٨٠ و٢٠١١، وبحلول نهاية تلك الفترة، شكَّلت البلدان النامية نصف هذه الصادرات. بعبارة أخرى، كان من الممكن أن يكون الاتحاد الأوروبي منطقةً أقلَّ إنتاجية وازدهارًا بكثير من دون السوق الموحَّدة. وكانت الدول الأعضاء فيها لتصير أقلَّ قدرة على الصمود أمام السلع الأرخص ثمنًا.

بدا أن السوق الموحدة تعمل جيدًا حتى إن الاتحاد الأوروبي قرَّر المضي قُدمًا في تطوير عُملته الخاصة: اليورو. ففي عام ١٩٩٢، وَقَّع ١٢ عضوًا في الاتحاد الأوروبي على المزيد من التكامل الذي يرمز إليه اليورو. كانت الفكرة هي إنشاءَ عملة أساسية للتجارة واحتياطيات البنوك لمنافسة الدولار، وكي تحل محلَّ العملة المحلية للدول الأعضاء.

قبل تعميم اليورو، كان من المقدَّر أنه إذا سافر السائح عبْر جميع دول الاتحاد الأوروبي، وأجرى تغييرًا لدولار واحد إلى العملة المحلية أثناء ذهابه، فسيخسر ما يقرُب من ٥٠ سنتًا على العمولة بنهاية رحلته. ستُمكِّن العملة الموحَّدة الأفراد والشركات من مقارنة الأسعار في مناطقَ مختلِفة. وهذا من شأنه أن يسهِّل على الشركات التخطيطَ لإنفاقها على السلع من الخارج، ومع زيادة اليقين، فمن المرجَّح أن تستثمر وتخلق فرص عمل. كان الهدف من وجود عملة موحَّدة هو تسهيل التجارة.

إن منطقة اليورو، كما أصبحت معروفة، سوف يُنظر إليها على أنها رهانٌ أكثرُ نجاحًا واستقرارًا للاستثمار، وقادرة على جذبِ المزيد من الدولارات مثل دولارات ديمتري سوكولوف. ستحصُل البلدان الأصغر والأفقر على شهرةٍ وروابطَ تجاريةٍ تأتي من كونها جزءًا من فريق كبير. فاليونان، على سبيل المثال، ستفقد عُملتها الوطنية، لكنها ستكسب عملةً من شأنها أن تدُل على قدْر أكبرَ من المصداقية والاستقرار، مستفيدة من المؤهلات الاقتصادية الأكثر قوةً لألمانيا وفرنسا. ستتخلى ألمانيا عن العملة التي دفعتها إلى الازدهار بعد الحرب، لكنها في المقابل ستصبح الزعيمَ القوي لمجموعة متنامية. ولأنها عازمة على الحفاظ على صادراتها الدولية، فقد تجد تلك الصادرات تزداد وتتعزَّز. قد تعني مشاركة عملة مع جيرانٍ أضعفَ أن العملة ستكون أضعفَ على الأرجح مما لو كانت ألمانيا ستعمل بمفردها، ولكن نتيجةً لذلك ستصبح الصادرات الألمانية أرخصَ وأكثرَ جاذبية عندما يتعلق الأمر بمحاولة البيع إلى بلدان آسيا أو الولايات المتحدة.

تبدو هذه خطةً رائعة. لكن تبديل العملات ليس بالأمر الهيِّن؛ فلا توجد خطةٌ واحدة تناسب الجميع. للتحضير لهذه الخطوة الكبيرة، كان على دول منطقة اليورو القيام بالإصلاحات الضرورية. فقد كانوا بحاجة إلى تلبيةِ الشروطِ المنصوصِ عليها في كتاب القواعد المسمى «معاهدة ماستريخت» لضمان توافُق اقتصاداتهم، أو تقارُبها، مما يسمح بالاستقرار.

كما هو واضح من مجرد النظر إلى مثالين فقط لألمانيا واليونان، فإن الاقتصادات الفردية في أوروبا تختلف اختلافًا كبيرًا. فلا تقدِّم الأرقام الاقتصادية الرئيسية القصةَ الكاملة للتاريخ الغني والشعوب المتنوِّعة والصناعات المحلية التي تطوَّرت على مدى مئات السنين.

وفقًا للقواعد والقوانين، كان من المفترَض أن تقترض حكومات منطقة اليورو أقلَّ من ٣ في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي سنويًّا. يمثِّل هذا الرقم الفجوة بين إنفاقهم وأرباحهم الضريبية، وكان الهدف منه إثباتَ قدرتهم على الوفاء بالديون وعلى مدى استقرارهم. فلا تزال الحكومات الفردية تتحكَّم في ضرائبها وإنفاقها، لكن درجة حريتها كانت مقيَّدة بهذا المطلب — على نطاق واسع — لموازنة دفاترها. عندما تقترض الحكومة، فإن ذلك يضيف إلى رصيد الدَّين العام الذي ربما يكون قد تراكم على مدى عدة، بل مئات، السنين. مرة أخرى، من أجل الملاءة المالية، كان من المفترض أن يكون لدى أعضاء منطقة اليورو ديون على نحوٍ يحقِّق توافقًا واتساقًا فيما بينهم، بنسبةٍ لا تزيد عن ٦٠ في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي.

كان عليهم أيضًا إثبات أن أسعار الفائدة ومعدَّلات التضخم لديهم متشابهة. فأسعار الفائدة هي الأداة الأساسية المستخدَمة للتحكم في الإنفاق والادخار في الاقتصاد، ومن ثَم فهي تؤثِّر على النمو والتضخم. ووجود معدلات فائدة ومعدلات تضخم متماثلة يعني أن اقتصاداتها كانت تسير في الاتجاه نفسِه وتتقارب وأنها في مرحلة متماثلة في دوراتها. كان هذا مهمًّا لأنه في المستقبل، ستُحدَّد أسعار الفائدة لجميع أعضاء منطقة اليورو عند مستوًى واحد من جانب البنك المركزي الأوروبي للتحكُّم في النمو والتضخم. فالعملة المُوَحَّدة تتطلب سعرَ فائدة مُوَحَّدًا.

عمليًّا، كانت القواعد غيرَ واضحة إلى حدٍّ ما: فقد أقدمت كلٌّ من الدول القوية كألمانيا والدول الأقل رسوخًا كاليونان على التلاعب بتلك القواعد تماشيًا مع مصالحها. اعتقد العديد من منتقدي تجربة اليورو في ذلك الوقت أن هذا أمرٌ شنيع. لكنَّ القادة السياسيين والاقتصاديين القائمين على صياغة تلك التجربة كانوا يميلون إلى إخفاء كل ذلك والتلاعب بالأرقام لبدء خططهم. ربما تفاقمت بعض المشكلات الصغيرة التي لم تُحل لتصبح مشكلاتٍ كبيرة بعد عَقد من الزمن.

كانت المملكة المتحدة من بين المتشككين الأوائل. فقد وضعت حكومتُها اختباراتها الخاصة للانضمام إلى اليورو، بالنظر إلى التأثير على الأسعار والوظائف (في الخدمات المالية، على سبيل المثال)، وما إذا كان اقتصادها يتماشى بالفعل مع أوروبا، وما قد يحدُث إذا حدثت أزمة اقتصادية. في النهاية، كانت تتساءل عما إذا كان هذا «الزي الموحَّد» الذي صمَّمه الاتحاد الأوروبي — أي اليورو وسعر الفائدة الموحَّد الذي يصاحبه — يمكن أن يناسب جميعَ أفراد الأسرة دون أن تنهار عند أول مشكلة. أصبحت القائمةُ المرجعية دراسةً من ١٩ مجلدًا وحلَّلت كل شيء من البلدان التي تتاجر معها المملكة المتحدة إلى أسعار ألواح الشوكولاتة في جميع أنحاء القارة. وفي حين أن السعر المختلِف لقالب شوكولاتة «مارس» لم يكن هو السببَ الوحيد، فقد خلَصت المملكة المتحدة إلى أن اقتصادها لم يتقارب تقاربًا كافيًا مع بقيةِ دول منطقة اليورو. في الواقع، استنتجت أنها كانت أكثرَ انسجامًا مع ابن عمِّها الاستعماري القديم، الولايات المتحدة. ولهذا قالت بطريقةٍ مُهذبة «لا، شكرًا»، واحتفظت بالجنيه الإسترليني.

بعد القليل من المحاسبة غيرِ التقليدية، ظهرت عملة اليورو لأول مرة في عام ١٩٩٩، واستُعيض عن العملات الوطنية لأعضائها الاثني عشر المؤسِّسين بعملات اليورو الورقية والعملات المعدنية في عام ٢٠٠٢. وبحلول عام ٢٠١٦، كان اليورو هو العملةَ الوطنية لتسع عشرة دولة، مع كل الاختلافات في الحجم والثروة. وقد أصبح إجمالي الناتج المحلي لكل هذه الدول مجتمعةً ينافس الصين (على الرغم من وجود عدد أقل بكثير من السكان في منطقة اليورو، فإن دخل الفرد أعلى بكثير). ومع ذلك، فهي عملة أكثر من ٣٤٠ مليون شخص، وهو أكبر من عدد سكان أمريكا.

كان مسئولو البنك المركزي في الولايات المتحدة يخشون في البداية أن يطيح اليورو بالدولار من المركز الأول باعتباره العملةَ العالمية الرئيسية. لكن سرعان ما بدأت الشقوق في الظهور. فالبلدان التي حُكم على عملاتها في السابق بِناءً على مزاياها الخاصة — مع الحظ الجيد أو السيئ — أصبحت الآن عرضةً لقوة هذه العملة الجديدة القوية، التي كانت تنافس الدولار والين واليوان والجنيه الإسترليني. لم يكن لثرواتها علاقةٌ كبيرة بالواقع الاقتصادي في كل بلد؛ بدلًا من ذلك، فقد عكست المناخ الأوروبي العام.

على الرغم من فلسفتهم المشتركة، كانت هذه البلدان مختلفة حقًّا، ولم تتحدَّث بصوت واحد. وتشكِّل إيطاليا وألمانيا وفرنسا معًا أكثرَ من نصف إجمالي الناتج المحلي لمنطقة اليورو. وعندما يتعلَّق الأمر بتحديد أسعار الفائدة، فإن احتياجاتهم هي ما تتحكَّم في الأمر، وأسعار الفائدة هي التي تسبَّبت في العديد من المشكلات.

عادةً ما تحدِّد البنوك المركزية أسعارَ الفائدة بهدف ضبط الاقتصاد. في بداية تجربة اليورو، حدَّد البنك المركزي الأوروبي أسعارَ الفائدة من أجل مساعدة أكبر اقتصاد، والمتمثل في اقتصاد ألمانيا، التي كانت بحاجة إلى دفعة؛ إذ كانت تعاني ارتفاعَ معدَّل البطالة. خفَّض سعر الفائدة تكاليفَ الاقتراض الألمانية، ووضع المزيدَ من الأموال في جيب المواطن الألماني العادي، وجعل الألمان يميلون إلى الإنفاق أكثرَ من الادخار. ومع ذلك، كانت المعدَّلات منخفضةً للغاية بالنسبة إلى الاقتصاد الأيرلندي، الذي كان بحاجة إلى الهدوء. شجَّع خفضُ سعر الفائدة هناك الناسَ على الحصول على المزيد من الائتمان وإنفاق المزيد. كان الاقتراض في أيرلندا ينمو بأسرعِ معدَّلٍ في منطقة اليورو، مما أدَّى إلى طفرة في النمو. كان يُطلق على البلاد اسم النَّمر السلتي. كانت الشوارع الرئيسية غارقةً في الأموال؛ شعر تجار التجزئة بالثقة في رفع الأسعار بوتيرةٍ أسرع. ولهذا ارتفع التضخم. كانت أسعار الرهون العقارية معقولةً أكثر. وتلا ذلك ازدهارٌ في العقارات في دبلن. لكن دائمًا يميل الازدهار إلى أن يتبعه الانهيار والركود، حينما بدأ الطلب ينفد؛ تصرَّفت أيرلندا بالطريقة المُتوقَّعة في مثل هذه المواقف. فبعد ١٥ عامًا، كانت البطالة في أيرلندا أعلى مما كانت عليه عندما انضمت إلى منطقة اليورو.

كانت أيرلندا على وجهِ الخصوص تعاني تحدياتٍ عند انضمامها لمنطقة اليورو، ولكن حتى أزمة عام ٢٠٠٨، كانت معظم الاقتصادات الأخرى تعمل جيدًا، مع وجود بعض الأزمات البسيطة. وكان لدى اليونان — التي تُعَد بمثابة الطفل الأكثر مشاغبةً في الأسرة — مستوياتٌ أعلى من الدَّين العام مقارنةً ببقية الدول. لقد كانت تنفِق أموالها بطريقةٍ تفوق إمكانيات المموِّلين. كان المستثمرون الذين أقرضوا اليونان أموالًا على استعدادٍ للاستمرار في ذلك، على الرغم من الإنفاق المفرط للدولة، طالما ظلت الأمور على ما يرام. ولو أن هذه الأوقات الجيدة استمرت، لربما كانت اقتصادات منطقة اليورو ستتكامل تكاملًا أوثق، الأمر الذي كان سيجعلها قادرةً على مواجهة الأزمات في المستقبل. ولكن، عندما حلَّت الأوقات العصيبة في عام ٢٠٠٨، كُشف عن نقاط ضعف المجموعة وكذلك الاختلافات بين أعضائها.

كما سنرى في الفصل الثامن، فقد وضعت البنوك الأمريكية نهايةً لتلك الأوقات الجيدة. إذ تلقَّت البنوك الأوروبية والأمريكية ضربةً من القروض التي لم تُسدَّد في أمريكا. عندها توقَّف الإقراض وتأثَّرت الوظائف والنمو سلبًا. وجدت الحكومات أن اقتراضها يزداد بسرعةٍ مع انخفاض الجباية الضريبية واضطرارها إلى دفع المزيد في مجال الرعاية الاجتماعية. فجأة، بدا الدَّين العام اليوناني والإيطالي مرتفعًا ارتفاعًا مثيرًا للقلق، وأصبحت بنوكهما في ورطة. وبدت آفاقُ النمو للبلدين قاتمة.

يعكس معدَّل الفائدة التي تدفعها الحكومة على سنداتها (أي عندما تقترض) التصورات المتعلِّقة بقدرةِ تلك الحكومة على سداد ديونها وثروتها ومصداقيتها. كان تفاوت أسعار الفائدة على السندات الحكومية كثيرًا عبْر منطقة اليورو علامةً أخرى على عدم تقارُب الاقتصادات الفردية، بغض النظر عن التشارك في عملة واحدة. حاول المستثمرون بيعَ سنداتهم اليونانية، خائفين من احتمال إفلاس الحكومة. ولهذا كان على اليونانيين أن يدفعوا أكثرَ إذا أرادوا الاقتراض.

وعلى النقيض من ذلك، ونظرًا لأن سعر الفائدة الأساسي داخل كل دولة يحدِّده البنك المركزي الأوروبي لمنطقة اليورو بأكملها، فإن البلدان الأكثر تضررًا لم يكن لديها الحريةُ في خفض أسعار الفائدة الخاصة بها، الأمر الذي ربما شجَّع شعوبها على الإنفاق أكثر، وأدَّى إلى تعزيز اقتصاداتها المتعثرة. فالاقتصادات الأكثر تضررًا — البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا (التي لسوء الحظ كان الاختصار الذي يجمع الأحرف الأولى من أسماء تلك الدول بالإنجليزية هو PIGS أي خنازير) — قد شكَّلت فقط خُمس اقتصاد منطقة اليورو، ومن ثَم لم تكن في وضعٍ يُمَكِّنها من إملاء معدَّل السعر على بقية الأعضاء.

ربما سعَت تلك الدول للحصول على الدعم من الأعضاء الآخرين في هذه المرحلة، لكن ألمانيا أوضحت أنه ليس من مسئولية مموليها إنقاذُ أقاربها المتعثرين في منطقة اليورو. فلم تدعَم دولُ منطقة اليورو أقاربَها المتعثرين في مواجهة تحدياتهم، وهم الذين لا تربطهم سوى عملة مشتركة.

كان حرَّاس التمويل العالمي، بعد أن خرجوا من أزمتهم، حذرين من الدخول في أزمةٍ أخرى. لذا فقد تنازل صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي عن بعضِ ديون اليونان وسلَّموها بعضَ الأموال النقدية الطارئة. وكما هي الحال مع الآباء الذين ينقذون مراهقًا متمردًا، جاءت خطة الإنقاذ بشروط. قيل لليونان إنه يتعيَّن عليها خفضُ إنفاقها وضبط أمورها. تضمَّنت إجراءات خفض الإنفاق تخفيضاتٍ كبيرة في المعاشات التقاعدية والوظائف العامة وزيادة الضرائب. غضب اليونانيون الذين كانوا يعانون حالةً من الفقر بالفعل. لماذا لا تدفع ألمانيا وجيرانها الأغنى جزءًا كبيرًا من الفاتورة، وأن يكونوا أكثرَ صدقًا وتفهمًا؟ لماذا يجب أن يعني الانضمام لنادي الكبار اللعبَ وفقًا لقواعدهم الصارمة؟ ولهذا اعترضت اليونان على ما اعتبرته قسوةً شديدةً من ألمانيا. علاوة على ذلك، كان من المثير للقلق أن نظراءها الأكثر ثراءً ربما فُضِّلوا بشكلٍ غير عادل من جانب سياسة الاتحاد الأوروبي. انتخبت اليونان — تمردًا على خفض التكاليف الذي كان يصرُّ عليه دائنوها — حكومةَ مناهضة التقشُّف. واستمر الجدل والمساومات حول التخفيضات والمساعدات.

بعد مرور خمس سنوات، خُفضت المعاشات اليونانية عشرات المرات، مما أدَّى إلى انخفاض قيمتها بنسبة ٤٠ في المائة. لقد تحمَّلت العائلات المصاعب. فلا يزال الاقتصاد متذبذبًا والمستثمرون متوترين. وأصبحت مسألةُ ما إذا كانت اليونان ستكون أفضل حالًا إذا خرجت من منطقة اليورو غيرَ محسومة. فقد يعني ذلك إعادةَ تأكيد سيطرتها على أسعار الفائدة الخاصة بها، ومن ثَم السيطرة أكثر على ثرواتها. ومن ناحية أخرى، ستفقد اليونان «مصداقية» الانتماء إلى منطقة اليورو وعليها مواجهة التعديل الهائل للعودة إلى عملتها الخاصة. قد يؤدي هذا التحول إلى حدوث أزمة ثقة في الاقتصاد اليوناني، وفي اقتصاد منطقة اليورو ككل.

وفي هذه الأثناء، وعلى بُعد بضع مئات الأميال شمالًا، عاد أشقاؤها الأغنى في منطقة اليورو إلى الحياة. سارعت صحيفة «فايننشال تايمز» إلى الإشادةِ بمنطقة اليورو باعتبارها «القصة الاقتصادية المفاجئة لعام ٢٠١٧». منذ عام ٢٠١٥، تجاوز النمو في المنطقة مثيلَه في الولايات المتحدة. حتى البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا كانت تؤدي دَورها، وتتوسع توسُّعًا سريعًا ومتوازنًا. في وقتٍ ما في أواخر عام ٢٠١٧، كان الاقتصاد اليوناني ينمو بوتيرةٍ أسرعَ من اقتصاد المملكة المتحدة. لكن الأرقام الإجمالية كانت تُخفي الوضعَ الحقيقي. فقد كانت اليونان تكافح مع مشكلاتها الخاصة. كذا كان لا يزال استقرار البنوك الإيطالية يزعج المستثمرين. فقد كان شكل منطقة اليورو من الخارج، يخفي حقيقةَ الدول فيها من الداخل. فالاقتصادات لم تتقارب. فعند مقارنة الأسعار في نيويورك وريف فيرجينيا، على سبيل المثال، نجد أن تكلفةَ المعيشة تختلف دائمًا من مكانٍ إلى آخرَ بسبب الاختلافات في العرْض والطلب. ومع ذلك، في منطقة اليورو، يمكن أن يشيرَ التباين في سعر شوكولاتة «مارس» إلى أن الاقتصادات تنمو بمعدَّلات مختلفة، وتعاني مصائرَ مختلفة، وتتفاعل مع الصدمات بطرق مختلفة.

على الصعيد العالمي، تعثَّرت خطوات اليورو الوليد. فلم يصبح المنافس للدولار كما كان متوقعًا له في البداية. كانت هناك اختلافاتٌ جوهرية فيما تمثِّله هاتان العملتان. إذ يوحِّد كلٌّ من الدولار واليورو منطقةً جغرافية كبيرة بها سكان متنوِّعون للغاية، وإن كانت الولايات المتحدة يجمعها لغةٌ واحدة. وكلاهما يتحكَّم بنكٌ مركزي موحَّد في أسعار فائدته، وأيضًا بإصدار الأموال؛ أي إن لديهما اتحادٌ نقدي. وكلاهما لديه سوق واحدة، مع قدرة السلع والأفراد والأموال (وإن كان هناك عددٌ من الاستثناءات) في التنقُّل بحرية في جميع أنحاء المنطقة. في الولايات المتحدة، يُجمع الجزء الأكبر من أموال الضرائب وتُنفق مركزيًّا، من جانب الاتحاد الفيدرالي، ولكن في منطقة اليورو، كل دولة مسئولة عن الضرائب والإنفاق الحكومي الخاص بها، والتحكُّم في مواردها المالية الخاصة، ولا يوجد تجميعٌ للموارد (إلا في بعض الجوانب المحدودة). يختار كلُّ عضو في منطقة اليورو حكومتَه الخاصة، التي لها الحرية في تقرير كيفية إنفاق ميزانيتها الخاصة، وإلى حدٍّ كبير، كيفية إدارة بلدها. فلا يوجد اتحادٌ مالي، ولا يوجد اتحادٌ سياسي. إذا كانت شئون أمريكا تسير على ما يُرام بوجه عام، يمكن مساعدةُ الدولة الفردية المتعثرة من خلال فرضِ ضرائب مركزية وتوزيع الثروة. لكن هذا لا يحدُث في منطقة اليورو، على الرغم من أن الدول الأعضاء ليس لديها سيطرة كاملة على مواردها المالية.

وقد أدَّى ذلك بالبعض إلى القول بأن هناك حاجةً إلى مزيدٍ من التكامل المركزي لإنجاح منطقة اليورو. ومع ذلك، لا يرغب الكثيرون في هذا؛ لأنه سيعني مزيدًا من فقدان السيادة.

ما الذي قدَّمته تجربة اليورو؟ لقد أظهرت قوة ألمانيا في أوروبا؛ إذ يتمتع أقوى اقتصاد بأكبر نفوذ مالي وسياسي. ربما استفاد هؤلاء القادرون على شراء شقة في برلين، أكثرَ بكثير من العائلات المتعثرة في أثينا. وأظهرت أيضًا قوةُ مشاركة العملة، وكيف يمكن إخضاع الأعضاء الأصغر والأفقر. إنها تعيد إلى الأذهان حقيقةَ أن العملة يمكن أن تكون أكثرَ بكثيرٍ من مجردِ ما ننفقه في المتاجر كلَّ يوم.

•••

كان ديمتري سوكولوف حريصًا على استبدال اليورو بدولاره، ليحصُل على نصيبه من ثروة ألمانيا. إنه محظوظ لامتلاكه الوسائلَ للقيام بذلك. فهناك العديد من الأشخاص، في جميع أنحاء العالم، الذين يرغبون أيضًا في المشاركة في ثروات ألمانيا — وسوف يبذلون جهودًا متفاوتة، باستخدام طرق مختلفة، لتحقيق ذلك.

تتباين ثروات دول الاتحاد الأوروبي تباينًا كبيرًا، وتميل الإيرادات والدخول في الدول التي وصلت حديثًا من كتلة أوروبا الشرقية السابقة على وجه الخصوص إلى أن تكون أقلَّ بكثير. فعلى سبيل المثال، يكسب عامل الكهرباء في ألمانيا ستة أضعاف ما يكسبه عامل الكهرباء في رومانيا. أيضًا، تكلفة المعيشة في برلين أعلى منها في بوخارست، لكنها أعلى مرتين فقط. يمثِّل مستوى المعيشة الفرقَ بين المكاسب والتكاليف. قد تكون إمكانية وجود مستوًى أعلى في برلين كافية لإغراء كهربائي روماني بحزْمِ أمتعته وحمْل شهادته والتوجُّه غربًا. سيكون واحدًا من العديد من المهاجرين الاقتصاديين الأوروبيين الذين ينجذبون نحو ثروات ألمانيا: في عام ٢٠١٥، كان عدد المهاجرين الاقتصاديين ٦٨٥ ألف شخص. وعلى الرغم من أن الكثيرين يرسلون نسبةً من ثرواتهم المكتسبة حديثًا إلى بلدانهم الأصلية، فإن هجرة العقول هذه خلقت أيضًا نقصًا في المهارات في الوطن.

الأهم من ذلك، أن الزائرين مثل الكهربائي الروماني الذي نتحدَّث عنه يتمتَّعون بالمهارات. ولهذا تسعى ألمانيا منذ مدة طويلة إلى ضمان وجود عددٍ كافٍ من العمال المؤهلين. في الفترة بين عامي ١٩٥٥ و١٩٧٣، دعت «العمال الضيوف» من تركيا ودول البحر الأبيض المتوسط الأخرى لسدِّ هذه الفجوة. واليوم، قد يكون السباكون البولنديون أو الكهربائيون الرومانيون هم مَن يبنون شقةَ ديمتري. ومع ذلك، فإن الطلب الأكبر يتركَّز على العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات والمهندسين، للحفاظ على التفوُّق في مجال التصنيع. لذلك، كان على ألمانيا أن تنظر إلى أبعدَ من ذلك، فهي تجذب العمال المناسبين من بقية العالم: ما دام لديهم مهارةٌ مرغوب فيها، يمكنهم التقدُّم للحصول على تأشيرة.

لا يُرَحَّب كثيرًا بالضيوف الأوروبيين الذين لا يتمتَّعون بمهارة معينة عالية الجودة: مثل النوادلِ ومساعدي المتاجر والعمال اليدويين الذين يديرون المقاهي ومتاجر التجزئة ومواقع البناء في ألمانيا. يستمر تدفُّق العمال الراغبين في إبقاء الأجور منخفضةً لأصحاب العمل، لكن يخشى البعض أن يؤديَ ذلك أيضًا إلى إبعاد الألمان عن الوظائف، ويقلل من دخولهم؛ لأن الوافدين الجدد على استعداد للعمل بأجورٍ أقل، وربما أداء وظائفَ لا يكون الآخرون على استعداد لأدائها.

ومع ذلك، تحتاج ألمانيا إلى الحفاظ على نمو قوَّتها العاملة لأن ألمانيا، مثلها مثل كثير من الدول الغنية، تتقدَّم في السن.

ولعل المصطلح الذي يصف الطريقةَ التي يتطور بها السكان مع تحوُّل البلد إلى الحداثة هو «التحول الوبائي». ففي مرحلة مبكرة من التطور، تميل العائلات إلى إنجاب الكثير من الأطفال. قد يعني سوءُ توفير الخدمات الطبية والصرف الصحي أن البعض قد يُتوفى في مرحلة الطفولة، وفي ظل غياب نظام الرعاية الاجتماعية، يحتاج الآباء إلى ضمان الاعتناء بهم مع تقدُّمهم في السن. ومع تطوُّر الاقتصاد، تتحسَّن مستويات المعيشة. فالمزيد من النساء يعملن خارج المنزل ويؤدي تنظيم الأسرة دورَه؛ فهم لديهم عدد أقل من الأطفال. قد يعيش الناس مدةً أطول، لكن الحياة الأطول والأكثر ثراءً تجلب معها خطرًا أكبرَ للإصابة بمرض السكري وأمراض القلب والسرطان.

يتقدَّم سكان ألمانيا في السن، وهناك بالفعل أكثرُ من واحد من كل خمسة ألمان فوق سن الخامسة والستين. يمثِّل هؤلاء ١٦ مليون شخص، ربما لا يعودون قادرين على الكسب أو دفع الضرائب، ولكنهم يحتاجون إلى معاشاتٍ تقاعدية ورعاية صحية باهظة الثمن. إن واحدًا من كل أربعة يوروات تنفقه الحكومة الألمانية يموِّل عملية رعاية كبار السن. تبلغ تكلفة المحافظة على صحة شخص يبلغ من العمر ٧٠ عامًا أربعة أضعاف تكلفة رعاية شخص يبلغ من العمر ٣٠ عامًا. بحلول عام ٢٠٤٠، سيتجاوز أكثرُ من اثنين من كل خمسة ألمان سنَّ الخامسة والستين. وسترتفع أعباء الخزينة العامة أسرعَ مما يمكن للنمو الاقتصادي مسايرته. فالبلد بحاجة إلى المزيد من الممولين لتغطية التكاليف. صحيحٌ أن الناس يُغرَون بالعمل مدةً أطول، لكن لا يزال يتقاعد نصف مليون شخص كل عام، ويُولد عددٌ أقل من الأطفال في مستشفيات برلين.

إنَّ تجاوُز واحدٍ من كل خمسة من سكانها سنَّ التقاعد لا يعني تصنيف ألمانيا على أنها مجرد بلدٍ يعاني الشيخوخة؛ فقد «كبُرت في السن» رسميًّا، وفقًا للأمم المتحدة. وهي ليست وحدَها؛ إذ تحمل اليابان وإيطاليا واليونان وفنلندا أيضًا شارةَ الأقدمية هذه. هناك حاجةٌ ملحَّة للتفكير في كيفية ضمان وجود عدد كافٍ من العمال لتمويل غير العاملين. قد لا تكمُن الإجابة في ضم أعضاء آخرين إلى الاتحاد الأوروبي. كما أن السكان الأقل ثراءً في أوروبا يتقدَّمون في السن أيضًا، وإن كان بمعدَّل أبطأ. والقوى الاقتصادية الناشئة الأخرى — البرازيل والصين، على سبيل المثال — ليست بعيدةً عن الرَّكب. فسياسة الطفل الواحد أعاقت الصين، التي كانت تهدُف إلى كبح جِماح الزيادة السكانية، ولكن كان لها أيضًا تأثيرٌ على عدد الأشخاص الذين هم في سن العمل في البلاد. وفي الوقت نفسه، ينجب البرازيليون أطفالًا أقل عددًا ويعيشون مدةً أطول.

وبالنظر إلى هذا الضغط الاقتصادي المتزايد، ترحِّب الحكومة الألمانية ليس فقط بمهارات الوافدين الجدد من أوروبا الشرقية، ولكن أيضًا بضرائبهم. فألمانيا تحتاج إلى ما يزيد عن ٢٥٠ ألفًا من الوافدين سنويًّا، وذلك فقط لمواصلة العمل. إنها بحاجة إلى هؤلاء العمال للحفاظ على نمو الاقتصاد، ودعم المتقاعدين. وتواجه اقتصادات أخرى شديدة التقدم في السن التحديَ نفسَه. بالطبع، في نهاية المطاف، حتى الوافدون الجدد يتقاعدون، وستكون هناك حاجةٌ لمزيد من الشباب لدعمهم. إنها معضلة هائلة.

إذن، أين يمكن لألمانيا أن تجد عمالًا إضافيين لزيادة أعداد القوى العاملة لديها؟ يمكن أن تلجأ للدول الأصغر سنًّا في أفريقيا، نيجيريا على سبيل المثال، أو دول الخليج، ومنها قطر والبحرين؛ أو إلى دول جنوب آسيا المكتظة بالسكان، ومنها الهند وباكستان. فألمانيا ترحِّب بعددٍ قليل من الأفراد من هذه الدول النامية، ما دام لديهم مهارات.

ثم هناك ضيوف ألمانيا غير المدعوين. ففي عام ٢٠١٥، اتَّخذت المستشارة أنجيلا ميركل خطوةً غير عادية بفتح حدود ألمانيا. كانت نسبة صغيرة من سكان العالم — وإن كانت تمثل عددًا كبيرًا — في حالةِ تنقُّل، ولا سيما للفِرار من الحرب الأهلية في سوريا. كان الآلاف يُقدِمون على رحلةٍ محفوفة بالمخاطر إلى تركيا، ثم عبْر بحر إيجة إلى اليونان. عرَضت عليهم المستشارة ميركل اللجوء. انضم إليهم أشخاصٌ هربوا من القمع أو الصراع في أماكنَ مثل العراق أو أفغانستان. وفي عام ٢٠١٥، زاد عددُ سكان ألمانيا بمقدار ١,١ مليون طالبِ لجوءٍ، ثلثهم من السوريين. فأصبحت البلاد نقطةَ جذب لمن يعانون البؤس والمحرومين في العالم. لقد كانت خطوةً عطوفة وفَّرت ملاذًا لمن هم في وضعٍ بائس.

في الوقت الذي تحرس فيه الدول والكتل التجارية حدودَها وثرواتها عن كثَب، كانت فكرة توفيرِ أكثرَ من مجرد سرير لليلة واحدة لأولئك الذين يعيشون في أماكنَ بعيدة قرارًا مثيرًا للجدل. فلم يقتنع الجميع. وصف السياسي البريطاني المناهض للاتحاد الأوروبي نايجل فاراج سياسةَ ميركل بأنها «أكبر خطأ في السياسة الخارجية يرتكبه أيُّ زعيم غربي منذ عام ١٩٤٥»، ويخشى المعارضون في أماكنَ أخرى في أوروبا احتماليةَ أن تشجِّع هذه البادرة مزيدًا من الأشخاص، وليس فقط اللاجئين، على الشروع في رحلةٍ إلى أوروبا من دون أن تُوجَّه لهم الدعوة. وأعرب المعترضون عن قلقهم من أن المهاجرين لأسبابٍ اقتصادية — أولئك الذين ليسوا بالضرورة مضطهدين، ولكنهم يبحثون ببساطة عن حياةٍ أفضل — سوف يتسللون أيضًا دون دعوة.

هذا النمط من الهجرة ليس بالأمر الجديد بالطبع؛ فقد استولى الأشخاص الذين فرُّوا من الاضطهاد الديني في بريطانيا في القرن السابع عشر على بلد الدولارات، الولايات المتحدة. الفرق هو أن هناك الآن عددًا أكبرَ بكثير من الأشخاص في العالم الذين يطالبون بحقِّهم في مستوًى معيشي لائق. وقد اشتد الصراع على الموارد مع نمو السكان. وما دامت بعض البلدان متخلِّفة عن بلدانٍ أخرى في التنمية، فمن المرجَّح أن يستمر النزوح الجماعي من البلدان الفقيرة إلى تلك الغنية. إنه سببٌ آخرُ لدعم البلدان الفقيرة أو الاستثمار بها.

في ألمانيا، رفع المهاجرون معدَّل النمو السكاني السنوي إلى أكثرَ من ١ في المائة لأول مرة منذ أكثر من ٥٠ عامًا. في ظل إغراق الوافدين الجدد، ناضل المسئولون الألمان لمعالجة الطلبات بسرعة، وفرزوا أولئك الذين وصلوا من البلدان «غير الآمنة» — سوريا، على سبيل المثال — في مقابل تلك التي تعتبر «آمنة»، ومنها ألبانيا وباكستان. كانوا يرفضون طلبات اللجوء من هذه الدول (التي تعتبر آمنة)، لكن التأخير يعني أنه كان من الأسهل على بعض الناس أن يختفوا ببساطة ويصبحوا مهاجرين غير شرعيين، ويؤدوا وظائفَ تُدفع الرواتب فيها نقدًا دون اقتطاع الضرائب منها.

بدا وصولُ أكثرَ من مليون شخص إلى حدودها إنذارًا ضد «خطر الغرباء» بالنسبة إلى العديد من الألمان، وبما أن الحصول على الجنسية الألمانية يعني الحقَّ في التنقُّل في أرجاء الاتحاد الأوروبي، فإن بعض جيران ألمانيا كانوا قلقين بالقدْر نفسِه بشأن الوضع. ثم كان هناك الجانب الاقتصادي. فقد ساور البعض في ألمانيا القلق من أن الوافدين الجدد، الذين ليس لديهم الحق في الاستمتاع بثروات ألمانيا، سيعيشون «عالة» على الشعب الألماني، وسيستمتعون بالمزايا ويستفيدون من الخدمات العامة، دون أن يقدموا شيئًا في المقابل.

على أرض الواقع، تُظهِر العديد من الدراسات في ألمانيا وأماكنَ أخرى أن المهاجرين عامة، يكونون في المتوسط، مؤهلين مثل السكان الأصليين أو أفضل تأهيلًا منهم. فقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجراها مركزُ البحوث الاقتصادية الأوروبية أنه في عام ٢٠١٢، دفع ٦,٦ ملايين شخص يعيشون في ألمانيا بجوازات سفر أجنبية ٤١٢٧ دولارًا ضرائبَ وضمانًا اجتماعيًّا في المتوسط، وهذا المبلغ يفوق المزايا الاجتماعية التي يحصلون عليها، مما أدَّى إلى تحقيق فائض قدرُه ٢٢ مليار يورو في ذلك العام. لذا في النهاية، فإنهم، في أغلب الأحيان، يقدِّمون للنظام أكثرَ مما يحصلون عليه.

«في النهاية» هي العبارة المحورية في هذه القضية. يستغرق المهاجرون وقتًا، ربما بضع سنوات، ليصبحوا جزءًا من النظام، اجتماعيًّا وفي سوق العمل. فالوفود الأخيرة كانت مختلِفة. تاريخيًّا، اختير معظم الأشخاص المدعوين إلى ألمانيا وفقًا لمهاراتهم. لكن السوق الموحدة واتساع الاتحاد الأوروبي كانا يجتذبان عددًا أقلَّ من العمال المهرة من جميع أنحاء أوروبا. فقد كان اللاجئون الذين دخلوا ألمانيا من أماكنَ أبعدَ منذ عام ٢٠١٥، في المتوسط، أقلَّ مهارةً من المهاجرين الذين سبقوهم.

هل سيتعيَّن على الشعب الألماني، الذي يُضطَر بالفعل إلى بذل المزيد من الجهد لرعاية أقربائه المسنين، أن يدفع أيضًا لرعاية هؤلاء الوافدين الجدد؟ وفقًا للحكومة الألمانية، فإن نحو نصف مليون لاجئ يصلون في عام ٢٠١٥ سيصبحون مؤهلين للحصول على إعاناتٍ حكومية. وتقدَّر تكلفة الخزانة العامة، بنحو ١٠ مليارات يورو في عام ٢٠١٦. هذا مبلغ صغير لاقتصادٍ يضخ تريليونات من الدخل كلَّ عام، لكنه ليس تافهًا.

وماذا عن الآثار الاقتصادية؟ إن العاملين بأدنى مستويات الأجور والمهارات هم الذين قد يشعرون بالقدْر الأكبر من خطر الوافدين الجدد. فقد أظهرت الأبحاث التي أجْرتها جامعة أكسفورد أن أجورهم قد تنخفض بمعدَّل متواضع بنسبة ٢ في المائة. ويشير آخرون إلى أن البطالة في ألمانيا، على الرغم من ازدياد عدد السكان، لا ترتفع ارتفاعًا كبيرًا؛ في الواقع، أصبح الاقتصاد في عام ٢٠١٧ نورًا ساطعًا في الغرب. كانت لعبةُ ميركل الطويلةُ الأمدِ تؤتي ثمارها، ولكن السبب الوحيد وراء ذلك أن اقتصادها كان ينمو بمعدَّل كبير بما يكفي لمواجهة ذلك. هذا صحيح بالنسبة إلى جميع الدول: يمكن للهجرة الجماعية أن تنجح من الناحية المالية فقط عندما يكون الاقتصاد مزدهرًا بما يكفي ليحتاج إلى المزيد من العمال. خلافًا لذلك، يمكن أن تهيمن القضايا الاجتماعية التي تصاحب التدفُّق الكبير.

حتى مع ازدهار الاقتصاد، يخشى العديد من الألمان أن يُتحكَّم في ضرورياتهم. فهم قلقون ألا يكون هذا هو الحل لسكانهم المتقدمين في السن؛ في الواقع، قد يزداد عبء رعايتهم مع الحاجة إلى توفير الخدمات العامة — الصحة والتعليم (والمزايا الإضافية، في واقع الأمر) — للوافدين الجدد. حتى أولئك الذين لديهم نهجٌ سخي تجاه اللاجئين الفارين من البؤس ومن خطر الموت لم يشعروا بالارتياح.

إن الانفتاح على قوًى اقتصادية جديدة، أو على الوافدين الجدد الذين قد يحتاجون إلى الاندماج، ليس بالأمر السهل. ومع ذلك، قد يكون الحل أمام اقتصاداتنا للحفاظ على نموها وازدهارها. بالنسبة إلى الألمان والمهاجرين، قد يصعُب في بعض الأحيان التوفيق بين حياتنا اليومية وتغيُّر الأحداث من حولنا. وتتباين تلك التجارب الشخصية تباينًا كبيرًا، كما هو الحال مع جميع جوانب العولمة.

•••

تزدهر بوتقةُ برلين العالمية. فمثل هذه السوق العقارية المزدهرة تعني أن الأمور تسير على ما يُرام لمطوِّر مبنى «ميتسي» السكني. تزدهر الأعمال ما دامت سوق الإسكان مزدهرة. لن تكون الشركة مسئولة فقط عن أجور موظفيها، ولكن أيضًا عن بعض الضرائب والمدفوعات لصناديق المعاشات التقاعدية الخاصة بهم. وكما يعلم اليونانيون، يمكن لهذه الصناديق، مهما بدت مجرَّدة، أن تصنع أو تدمِّر الاقتصادات وكذلك حالات التقاعد الفردية. يأمُل ديمتري سوكولوف في تأمين موارده المالية للسنوات المقبلة من خلال المقامرة في سوق العقارات في ألمانيا. سيتم استخدام دولاراته أيضًا، التي تبادلها عبْر «دويتشه بنك»، من قِبل شخصٍ يركِّز على الحياة بعد التقاعد مثله، وفي النهاية يموِّل خطط التقاعد للعامل في برلين. سواء كان مهندسَ بناء في «ميتزي»، أو مشرفًا في متجر متعدِّد الأقسام، فمن المؤكد تقريبًا أن العامل في المدينة (مع صاحب العمل) سيدفع في صندوق تقاعد.

فصندوق المعاشات التقاعدية هذا يديره أمناءُ، ويتولى مديرو الصناديق في فرانكفورت إدارةَ المبالغ الضخمة من الأموال. وسيتعين عليهم أن يقرروا كيفيةَ تنمية هذا الصندوق على مدى عدة عقود حتى يتمكَّن المهندس من الاستمتاع بتقاعد مريح. يتعيَّن على مدير الصندوق، هانز فيشر، مثلما يفعل مع جميع الاستثمارات، أن يحقِّق توازنًا بين الحصول على أفضل العوائد — زيادة الأموال — وضمان الأمان. يصعُب عليه الاختيار، وفي الأسواق المالية السريعة الحركة، تتغيَّر جاذبية الاستثمارات طوال الوقت. فلديه رفاهيةُ استثمار الأموال النقدية المدفوعة في الصندوق سنواتٍ عديدة. ومع ذلك، فهو قلِقٌ الآن بشأن انخفاض قيمة اليورو؛ لذلك حوَّل بعض يوروات الصندوق إلى دولارات، مما قد يساعد في الحماية من هذه المخاطر. إذا استخدم بعد ذلك بعضَ هذه الدولارات لشراء استثمارات أمريكية، فسوف تجلِب عوائدَ للصندوق — بالدولار. هذا يعني أنه ليس «مؤمَّنًا» فقط مقابل ضَعف اليورو، ولكن من المحتمل أيضًا أن يحصُل على عائدٍ أعلى مما لو كان يحتفظ بالدولار نقدًا فحسب. إذن، ماذا يختار من هذه الاستثمارات الأمريكية، وممن يطلب المشورة؟

إن هانز غيرُ مقيَّد بالحدود الوطنية في طلب المساعدة. بالنسبة إلى قطاعٍ مربح للغاية، أحدثت الروابط الوثيقة داخل أوروبا فارقًا كبيرًا. فإذا كان لدى بنك أو مؤسسة مالية أخرى مكتب في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، فيمكنه التداول بحريةٍ مع الآخرين. في مصطلحات الاتحاد الأوروبي، يُعرف هذا باسم «جواز السفر». هذا يعني أن بنكًا أمريكيًّا له قاعدة في لندن يمكنه العمل في بودابست أو برلين. ولندن هي المستفيد الأكبر من جواز السفر. إنه يعني اختيارات، ورسومًا أقلَّ، وأرباحًا أكبرَ بالطبع.

يقال إن نابليون بونابرت أطلق على إنجلترا اسم «أمة أصحاب المتاجر». بعد قرنين من الزمان، لا يزال هذا صحيحًا في عاصمة المملكة المتحدة. فبعد كل شيء، المصرفيون هم في الأساس تجارٌ متعطشون للاستثمارات، فهم يبيعون المالَ لكسب المال. ولتحويل دولاراته إلى ثروةٍ أكبر، رفع هانز السماعةَ واتَّصل بلندن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤