الفصل العاشر

معارك حول التأويل

كان كتاب «الحقيقة والمنهج» منعطفًا هامًّا في تطور الهرمنيوطيقا، وقد أثار هذا الكتاب العُمدة فور صدوره أصداءً هائلة لدى الباحثين في المجال اللغوي والفلسفي واللاهوتي سواء داخل أوروبا أو في الولايات المتحدة، وقد تنوعت الاستجابات ما بين تأييدٍ حارٍّ وتفهمٍ متعاطف من جهة، وبين استنكارٍ شديدٍ وهوجٍ ضارٍّ من جهة أخرى، ولا نعدم من المفكرين من اتخذ موقفًا وسطًا وآثر أن يتناول فكر جادامر بحيطةٍ وحصافةٍ ويأخذ منه صفوته الإبداعية الحقة التي تتمثل في الانفتاح الأصيل على النص، ويتلافى ما به من غلوٍّ وشطط يقترب به من مظان التميع ومزالق الذاتية.

لم يمضِ عام أو عامان حتى تعرض هذا الكتاب لهجوم شديد من جانب الناقد الإيطالي إميليو بِتي E. Betti الذي أعلن أن الألمان يناقضون أنفسهم ولا يفهمون معنى الموضوعية في تناولهم للتأويل، وتعرض جادامر للهجوم على مدى الستينيات، من التفكيكيين وغيرهم من الدارسين خارج ألمانيا، ففي الولايات المتحدة هاجمه إ. د. هيرش E. D. Hirsch في كتاب أصدره عام ١٩٦٧م بعنوان «صحة التأويل» ويقترح فيه مواصلة تقاليد الهرمنيوطيقا المنهجية التي تستهدف وضع تأويلاتٍ موضوعيةٍ للنصوص.
ولكن الاتجاه الديني الذي قويت شوكته بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا وجد في هيدجر وجادامر بعض العناصر الإيجابية التي تساعد الباحثين على التصالح مع النصوص المقدسة، فاتجه ثلاثة من علماء اللاهوت الألمانيين إلى تبني «منهج» جادامر (وهم ر. بُلتمان، ج. إيبلينج، أ. فوكس)، كما اتجه بعض علماء اللاهوت الأمريكيين إلى اعتبار كتاب جادامر المذكور بابًا يمكنهم الدخول من خلاله إلى لونٍ من التأويل المقنع على أسسٍ فلسفية للنصوص المقدسة، ومنهم ج. روبنسون وج. كوب.١
ولعل أهم المعارك الفكرية التي أضرم جادامر أُوارها بفكره التأويلي الجديد هي معركته مع يورجين هابرماس Jurgen Habermas (١٩٢٩م–؟) الذي يمثل الجيل الثاني من مدرسة فرنكفورت النقدية، والذي أفاد من جادامر بقدر ما خاصمه وأثخنه في سجالٍ طويلٍ مثمر، وقدم هرمنيوطيقا نقديةً تستحق أن نفرد لها فصلًا خاصًّا يحمل اسمها واسمه.

(١) رودلف بلتمان

نزع الأسطورية Demythologizing
يعد رودلف بُلتمان واحدًا من كبار اللاهوتيين البروتستانت في القرن العشرين، ورغم أن اسمه يقترن غالبًا بمشروع «نزع الطابع الأسطوري أو الصبغة الأسطورية من الكتاب المقدس» Demythologzing، والذي كان وما يزال محل خلاف، فإن شهرته كباحثٍ كبير في «العهد الجديد» New Testament كانت راسخة قبل أن يصدر مقاله الشهير «يسوع المسيح والميثولوجيا» عام ١٩٤١م، والحق أنه خطا خطواته الأولى في اتجاه النزعة الوجودية في اللاهوت في زمنٍ مبكرٍ يعود إلى عام ١٩٢٦م حين أصدر كتابه «يسوع»، ومنذ ذلك الحين جعلت الخطوط الرئيسية لفكره تتحدد تباعًا وتشكل محاولةً جادةً لمواجهةٍ أكثر معقوليةً لمشكلة تأويل العهد الجديد تأويلًا ملائمًا لإنسان القرن العشرين.
قلنا إن اسم بُلتمان يقترن عادةً بمشروع «نزع الأسطورية»، وهو مصطلح غير موفق لأنه يولِّد تصورًا خاطئًا عن عمل بُلتمان؛ إذ يوحي بأن «العهد الجديد» بالوضع الذي هو عليه يُعتبر خرافيًّا أو أسطوريًّا أو غير حقيقي ويلزمه من ثم تكييف وتعديل لكي يلائم نظرتنا الحالية للعالم، ويتعجل برسم صورة للاهوتي عبقري متهيئ لإقصاء العناصر الأسطورية من الأناجيل بوصفها خاليةً من المعنى، وتقديم إنجيلٍ مختزلٍ لا يبقي إلا على العناصر المقنعة التي يقبلها العقل. هذا التصور عن عمل بلتمان هو تصورٌ خاطئٌ فاحش الخطأ، فنزع الأسطورة لا يفترض مطلقًا حذف العناصر الأسطورية من الأناجيل أو تجاوزها وغض الطرف عنها، بل يؤكد فيها المعنى الأصلي والمكنون، إن نزع الأسطورة لا يعني بحالٍ تطويع الأناجيل لكي تلائم طرائق الرؤية الحديثة، إنما هو موجهٌ ضد نزعة الفهم الحرفية السطحية الثاوية في الأسلوب الحديث في النظر إلى الأمور، ضد ميل عامة الناس (وحتى اللاهوتيين) إلى اعتبار اللغةٍ مجرد معلوماتٍ بدلًا من النظر إليها كوسيطٍ من خلاله يواجه الله الإنسان بإمكانية فهمٍ ذاتي جديدٍ تمامًا، فهمٍ غير الفهم الإغريقي وغير الفهم الطبيعي وغير الفهم الحديث، و«نزع الأسطورية» ليس أداةً في يد النزعة العقلية لفضح التزييف وتحطيم الأوثان على طريقة فرويد ونيتشه وماركس (فهناك فرقٌ بين «نزع الأسطورية» Demythologizing و«نزع التزييف» Demystification كما أوضح ريكور)، ذلك أن «نزع الأسطورية» لا يرمي إلى الإطاحة بالرمز الأسطوري وتحطيمه، بل يعتبر الرمز الأسطوري نافذةً لنا على «المُقدس»، فأن نؤول الرمز يعني أن «نتذكر» معناه الأصلي الحقيقي وإن توارى الآن واحتجب.

من الوضح أن «نزع الأسطورة» عند بلتمان يرمي إلى إحداث تحولٍ في الفهم الذاتي للمرء، ومن الواضح أن بلتمان، في مسألة الفهم الذاتي الوجودي، مدينٌ بالشيء الكثير لهيدجر الذي كان على صلةٍ وثيقة به في أواسط العشرينيات في جامعة ماربورج حيث كان هيدجر يُدَبِّج كتابه «الوجود والزمان»، ودون تورط في المبالغة في تأثير هيدجر على بلتمان (الذي جعل البعض، مثل ماكوري، يضاهي بين مفاهيم بلتمان ومفاهيم هيدجر مضاهاة نقطةٍ لنقطة) فلا شك أن هيدجر كان من المؤثرات الحاسمة في فكر بلتمان حول المشكلة التأويلية، وأن هذا التأثير يتجلى بوضوح في مفهوم «نزع الأسطورية» الذي يعد في صميمه مشروعًا هرمنيوطيقيًّا في التأويل الوجودي.

هناك على سبيل المثال تصور بلتمان للإنسان على أنه كائنٌ مستقبلي التوجه وتاريخي الوجود، وهو تصورٌ جد قريبٍ من تصور هيدجر الذي صرح به في «الوجود والزمان»، بل إن هناك ثلاثة جوانب محددةٍ أخرى على أقل تقدير في لاهوت بلتمان يقتفي فيها أثر هيدجر: (١) هناك التمييز بين اللغة المستخدمة كمجرد معلومة ينبغي تفسيرها موضوعيًّا على أنها حقيقة واقعة وبين اللغة المفعمة بالمغزى الشخصي والسلطة الجديرة بالسمع والطاعة، والتي توازي مفهوم هيدجر عن الطابع الاشتقاقي لعبارات التقرير (وبخاصة المنطق). (٢) وهناك فكرة أن الإله (الموجود) يواجه الإنسان ﮐ «كلمة» Word، كلغة، وهي توازي الفكرة التي ألحَّ عليها هيدجر حول الطبيعة اللغوية للوجود كما يعرض نفسه للإنسان. (٣) وهناك أيضًا مفهوم «الرسالة المبلَّغة» Kerygma حيث «الإنجيل/كلمة الله» يتحدث في كلماتٍ إلى الفهم الذاتي الوجودي، يقول بلتمان إن العهد الجديد نفسه يتجه نحو فهمٍ ذاتي أصيلٍ جديد، والغاية من إعلان «العهد الجديد» هي غرس هذا الفهم الجديد في الإنسان الحديث الذي يخاطبه اليوم، «كلمة» العهد الجديد إذن هي شيءٌ شبيهٌ بتحقيق «نداء الضمير» الذي تحدث عنه هيدجر في «الوجود والزمان».

من المؤكد أن الدعوة إلى فهم ذاتي جديد هي تحدٍّ لطريقة المرء في «الوجود في العالم» في العصر الحاضر، إن بلتمان لا يود أن يمحو «فضائح» العهد الجديد بل أن يسلك «الفاضح» في نصابه ويضعه موضعه، وهو يفعل ذلك لا بالتوكيد الإيماني على أساطير تُؤخذ بمعناها الحرفي، ولا بالاعتقاد في معلومات كوزمولوجية واضحة البطلان، بل بالإهابة بالطاعة المطلقة والانفتاح على النعمة والغبطة والحرية في الإيمان. تشير أطروحات بلتمان في مشكلة الهرمنيوطيقا بشكلٍ واضحٍ ومحددٍ إلى أنه يُعرِّفها دائمًا على أنها نظريةٌ في الفهم بما هو كذلك.

وفي كتابه «مشكلة الهرمنيوطيقا» (١٩٥٠م) يعيد بلتمان التوكيد على المبدأ البروتستانتي القائل بالحرية التامة في البحث، ويمضي إلى حد القول مرة ثانية بأن الإنجيل يخضع لشروط الفهم نفسها وللمبادئ الفيولوجية والتاريخية نفسها التي تُطَبَّق على أي كتاب آخر، ومن ثم فإن «مشكلة الهرمنيوطيقا» ليست وقفًا على اللاهوت بل هي قائمةٌ في كل تفسيرٍ سواء كان تفسير وثائق قانونية أو تفسير أعمال تاريخية أو أدبية أو تفسير الكتاب المقدس، وبطبيعة الحال يبقى لب المشكلة هو تحديد مكونات الفهم التاريخي بالنسبة لنص من النصوص، يرى بلتمان أن السؤال الهرمنيوطيقي هو: «كيف نفهم الوثائق التاريخية المنحدرة إلينا في التراث؟» وهو بدوره يقوم على سؤال: «ما هي طبيعة المعرفة التاريخية؟» لهذه المشكلة كرس بلتمان نصف «محاضرات جيفورد» (١٩٥٥م)، وإلى ذلك التحليل الذي قدمه في هذه المحاضرات على وجه التحديد وجه إميليو بِتي فيما بعد اعتراضًا عنيفًا.

يُبيِّن بلتمان أن كل تفسيرٍ للتاريخ أو لأي وثيقةٍ تاريخيةٍ يحدوه اهتمامٌ معين وتُوجهه مصلحةٌ معينة، هذا الاهتمام بدوره يرتكز على فهمٍ مبدئي معين للموضوع، من هذا الاهتمام وهذا الفهم يتشكل «السؤال» المطروح على النص، وبدون هذين الشرطين لن يمكن لسؤالٍ أن يطرح ولن يكون هناك أي تفسير، ومن ثم فما من تأويل إلا وهو مسترشدٌ ﺑ «الفهم المسبق» Pre-Understanding للمؤوِّل (مما يذكِّر مرة أخرى بتحديدات هيدجر عن البُنى المسبقة للفهم في «الوجود والزمان» بوصفها الشروط المسبقة للتأويل)، فإذا طبقنا ذلك على التاريخ فهو يعني أن المؤرخ يتخير دائمًا زاوية معينة للرؤية أو وجهةً معينةً من النظر، مما يعني بدوره أنه منفتح بالدرجة الأولى على ذلك الجانب من العملية التاريخية الذي ينكشف للأسئلة التي تُطرح من هذه الوجهة من الرؤية، ومهما تذرع المؤرخ بالموضوعية في استقصاء موضوعه فما هو بقادرٍ على أن يهرب من فهمه الخاص، يقول بلتمان: «بمجرد اختيار زاوية معينة للرؤية يكون قد بدأ عمله، ما يمكن أن أسميه التلاقي الوجودي مع التاريخ، فالتاريخ لا يتحلى بالمعنى إلا عندما يقف المؤرخ نفسه داخل التاريخ ويشارك في التاريخ.» ثم يستشهد بلتمان بكولنجوود في قوله بأن الأحداث يجب أن يُعاد تمثيلها في عقل المؤرخ، وهكذا لا تغدو موضوعيةً ومعروفة له إلا لأنها أيضًا ذاتية،٢ وما دام المعنى لا يبزغ إلا من علاقة المؤوِّل بالمستقبل، فإنه يغدو مستحيلًا الحديث عن معنى موضوعي، أي بلا وجهة رأي، وما دمنا لم نعد نزعم معرفة نهاية التاريخ وغايته فإن «السؤال عن المعنى في التاريخ (ككل) قد أصبح سؤالًا بلا معنى».

والحق أن «مبدأ هيزنبرج» قد يسري هنا في صورةٍ أكثر جذريةً، أي إن الموضوع الملاحظ نفسه يتغير بعض الشيء بفعل حالة كونه يُلاحَظ. إن المؤرخ هو جزء من المجال نفسه الذي يلاحظه، والمعرفة التاريخية هي نفسها حدثٌ تاريخي، ومن ثم فإن الذات والموضوع في علم التاريخ لا ينفصلان ولا يوجد الواحد منهما بمعزل عن الآخر، ولهذه الحقيقة، في رأي بلتمان، متضمناتٌ تخص الإيمان المسيحي، وخاصة من حيث إن المسيحي خلال اللحظة الأخروية يرتفع فوق التاريخ ويعود فيدخله بمستقبل جديد ومن ثم بمعنى جديد يضفيه على التاريخ، وقد يقول قائل هنا إن بلتمان في فكرة الأخرويات هذه يريد أن يمضي خطوة أبعد من كولنجوود ليستخدم مدخلًا (تناولًا) لاهوتيًّا (أخرويًّا) للسؤال عن المعنى في التاريخ، إلا أن الفكرة المحورية التي يرتكز عليها بلتمان واضحة وصريحة (وهي نفس الفكرة التي هاجمها بِتي): وهي أننا لا يمكن أن نتحدث عن معنى موضوعي في التاريخ؛ وذلك لأن التاريخ لا يمكن أن يُعرف إلا من خلال «ذاتية» المؤرخ نفسه!

(٢) تأويلية إميليبو بتي E. Betti

في عام ١٩٦٢م، أي بعد عامين من صدور «الحقيقة والمنهج»، أصدر المفكر والناقد والمؤرخ القانوني الإيطالي إميليو بِتي Emilio Betti (١٨٩٠–١٩٦٨م) كتابًا صغيرًا يحمل عنوان «الهرمنيوطيقا بوصفها المنهج العام للعلوم الإنسانية»، يحمل هذا الكتاب احتجاجًا صريحًا وواضحًا ضد تناول جادامر (وكذلك بلتمان وإيبلنج) لموضوع الهرمنيوطيقا، يتمثل اعتراض بِتي في أن هرمنيوطيقا جادامر أولًا لا تقوم مقام المنهج ولا تخدم أي منهج للدراسات الإنسانية، وأنها ثانيًا تُعَرِّض للخطر مشروعية الإشارة إلى الوضع الموضوعي لموضوعات التأويل، ومن ثم تثير الشكوك حول موضوعية التأويل نفسه.
يبدأ كتيب بتي بهذه الفقرة الشهيرة التي يتحسر فيها على ما صار إليه أمر الهرمنيوطيقا في عهده: «إن الهرمنيوطيقا باعتبارها الإشكالية العامة للتأويل، ذلك المبحث العام العظيم الذي فاض وتدفق ببهاءٍ وسخاءٍ إبان الحقبة الرومانسية (أي مع شلايرماخر ودلتاي) بوصفه الاهتمام المشترك لجميع الدراسات الإنسانية، الهرمنيوطيقا التي استأثرت بانتباه العديد من عظماء الفكر في القرن التاسع عشر — أمثال همبولت في فلسفة اللغة، وأوغست فيلهلم فون شليجل المؤرخ الأدبي العظيم، وبوك الفيلولوجي والموسوعي، وسافيني رجل القانون، ومؤرخين كبار مثل نيبور ورانكه ودرويسن — هذا الشكل العريق الجليل من الهرمنيوطيقا يبدو أن ضياءه آخذٌ في الخفوت والانطفاء في الوعي الألماني الحديث.»٣

كان بِتي يسعى إلى تجديد هذا التراث الألماني الأقدم عهدًا والأثري دلالة في عمله الموسوعي الأسبق «النظرية العامة للتأويل» (١٩٥٥م) الذي كان نتاج أكثر من سبع سنوات من العمل الدءوب، يقول بِتي: إنه رغم كل جهوده فإن نفوذ هيدجر ظل يمتد حتى بسط سلطانه على الفلسفة وعلى اللاهوت البروتستانتي، وحتى بزغت ثم سادت صيغةٌ للهرمنيوطيقا مختلفةٌ تمام الاختلاف عن الهرمنيوطيقا التي عرفناها وسعينا إلى ترسيخها والتي ترمي إلى تحديد القواعد الميثودولوجية العامة لعملية التأويل، كانت الصيغة الجديدة التي استأثرت بالساحة هي ثمرة الفينومينولوجيا الناشئة والأنطولوجيا الهيدجرية والاهتمام الجديد الطاغي بفلسفة اللغة، أما في مجال اللاهوت فكان تطور الهرمنيوطيقا مرتبطًا بمشروع «نزع الأسطورة» كوسيلةٍ لمواجهة المشكلة الكبرى وهي: كيف نجعل الأناجيل موصولةً بحياة القارئ المعاصر ومقبولةً لعقل الإنسان الحديث.

كان إميليو بِتي مؤرخًا للقانون، ومن ثم لم يكن اهتمامه مُنصبًّا على تأصيلٍ فلسفي للعمل الفني (كما هو الحال بالنسبة لجادامر)، ولا على بلوغ فهم أعمق لطبيعة الوجود (هيدجر)، ولا على إيجاد حلٍّ عاجلٍ لمشكلة المعنى المعاصر لرسالة الإنجيل (بلتمان وإيبلنج)، كان اهتمام بِتي، بوصفه مؤرخًا للقانون، منصبًّا في حقيقة الأمر على التمييز بين الحالات المختلفة للتأويل في الدراسات الإنسانية وعلى صياغة مجموعة من المبادئ الأساسية التي نفسر بها أفعال الإنسان وموضوعاته، فإذا ما لزمت التفرقة بين لحظة فهم موضوع ما بحد ذاته وبين رؤية المعنى الوجودي لهذا الموضوع بالنسبة لحياة المرء نفسه ومستقبله، عندئذٍ يمكننا القول بأن هذه اللحظة الوجودية هي ما يشغل جادامر وبلتمان وإيبلنج، بينما انصرف بِتي إلى التركيز على طبيعة التفسير «الموضوعي» والإحكام المنهجي لهذا التفسير.

لا يريد بِتي بأية حال أن يلغي اللحظة الذاتية من التأويل، أو حتى ينكر ضرورتها في كل تأويل إنساني، غير أنه يود التوكيد على أنه أيًّا ما كان الدور الذاتي في التأويل فإن الموضوع يبقى موضوعًا ويبقى حقيقًا بالبحث عن تأويلٍ صائبٍ صوابًا موضوعيًّا، إن «الموضوع» Object ليتحدث، وقد يسمعه السامع بطريقة صائبة أو خاطئة بالضبط؛ لأن هناك معنًى قابلًا للتحقق الموضوعي، وإذا لم يكن الموضوع شيئًا مختلفًا عن الملاحظ، وإذا لم يكن الموضوع يتحدث بنفسه عن نفسه … فلماذا الإصغاء وفيم الاستماع؟!
يقول بتي: إن الهرمنيوطيقا الألمانية الحديثة شغلت نفسها رغم ذلك بظاهرة «الفهم» Sinngebung (أي وظيفة المفسِّر الخاصة بإضفاء معنًى على الموضوع) بحيث غدا هذا مساويًا للتأويل، في مستهل كتاب «الهرمنيوطيقا بوصفها المنهج العام للعلوم الإنسانية» (١٩٦٢م) يؤكد بِتي أن غرضه الأساسي هو توضيح الفرق الأساسي بين «التأويل» Auslegung و«الفهم» Sinngebung، وأن إغفال هذا الفرق هو بالتحديد ما يهدد الدراسات الإنسانية وينال من قدرتها على استخلاص نتائج صائبة صوابًا موضوعيًّا.
ولنتناول الآن بضعة أمثلة من قوانين بتي التأويلية واعتراضاته على جادامر، من شأن هذه الأمثلة أن تلقي مزيدًا من الضوء على موقف بتي ودفاعه عن الموضوعية، إن الموضوع التأويلي عند بتي هو «موضعةٌ» Objectification  لروح الإنسان Geist معبرٌ عنها في شكلٍ ذي معنى، التأويل إذن هو بالضرورة تمييزٌ وإعادة بناءٍ للمعنى الذي تمكن المؤلف، باستخدام نوعٍ معين من المادة، من أن يجسده، ويعني ذلك بطبيعة الحال أن الملاحظ يتوجب عليه أن يتحول إلى ذاتيةٍ مغايرة، ويرتد، خلال قلبٍ للعملية الإبداعية، إلى الفكرة أو «التأويل» الذي يتجسد في الموضوع، هكذا يتبين، كما يلاحظ بِتي، أن الحديث عن موضوعيةٍ لا تشتمل على ذاتية المؤوِّل هو حديثٌ واضح البطلان، غير أن ذاتية المؤول يجب أن تنفذ إلى «غيرية» الموضوع و«آخريته»، وإلا فهو لن ينجح إلا في إسقاط ذاتيته على موضوع التأويل، هكذا يتجلى القانون الأساسي والأول لكل تأويل، والذي يؤكد على استقلالية الموضوع، غيرية الغير، آخرية الآخر.
وهناك قانونٌ ثانٍ يتعلق بسياق المعنى أو الكل الذي تُؤَوَّل الأجزاء المفردة في داخله، ثمة علاقة ترابطٍ داخلي بين أجزاء أي حديثٍ يضفيه المعنى الكلي المحيط المشيد من الأجزاء المفردة، وفي قانون ثالث يعترف بِتي ﺑ «موضعية/محلية المعنى» Topicality of Meaning، أي الارتباط بموقف المؤوِّل نفسه واهتماماته في الحاضر والذي يدخل في كل فهمٍ وفي كل تأويل، فالذي يقوم بتفسير حدثٍ في الأزمنة القديمة لا حيلة له إلا أن يفسره وفقًا لما خبره هو نفسه في حياته، ولا فكاك له من طريقته الخاصة في الفهم ومن مخزونه الخاص من الخبرة، هنا يتبين لنا أن بِتي بعيد كل البُعد عن تخيل الفهم كمسألة تلقٍّ سلبي، إنه على العكس يرى الفهم دائمًا عملية إعادة تشييد تتضمن خبرة المؤوِّل نفسه في العالم، بل لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن بِتي يؤكد مرة ثانية «من حيث المبدأ» فكرة الفهم المسبق التي صرح بها بلتمان.

غير أن بِتي لا يوافق بلتمان فيما خلص إليه من أنه استنادًا إلى تاريخية الفهم المسبق فإن فكرة إمكان الحصول على معرفة تاريخية موضوعية هي مجرد وهمٍ يقع فيه التفكير الساعي إلى الموضعة، يقول بِتي:

«إن النص الذي يتناوله الفهم المسبق ويضفي عليه المعنى لم يوجد لمجرد أن يدعم لنا رأينا الذي نعتقده سلفًا، وإنما ينبغي أن نفترض أن لدى النص شيئًا يريد أن يقوله لنا، شيئًا لا نعرفه منذ البداية من تلقاء أنفسنا، شيئًا يوجد بمعزلٍ عن عملية الفهم التي نقوم بها، ها هنا بالتحديد يتسلط الضوء على عبثية النظرة الذاتية، تلك التي تأثرت بوضوح بالفلسفة الوجودية المعاصرة والتي تريد أن تضم معًا كلًّا من «التفسير/الشرح/التأويل» Auslegung، و«الفهم» Sinngebung دون تفرقة، فينتهي الأمر إلى أن تصبح موضوعية النتائج المستخلصة من عملية التأويل في الدراسات الإنسانية ككل محل شك وموضع ارتياب.»٤

هكذا مثلت انتقادات بِتي لجادامر اعتراضًا عنيفًا ضد «الذاتية» الوجودية وضد تاريخية الفهم، وزعمت أن جادامر قد فشل في تقديم مناهج معيارية لتمييز التأويل الصحيح من التأويل الخطأ، وأنه كَوَّمَ معًا ومن غير تمييز حالات متباينةً من التأويل، فالمؤرخ مثلًا، كما يقول بِتي، لا تهمه الصلة العملية بالحاضر بقدر ما يهمه أن يغمر نفسه، متأملًا، في النص الذي يدرسه، بينما يقلب رجل القانون النص وفي ذهنه تطبيقٌ عملي يعتزم اجتراحه في الحاضر، يترتب على ذلك أن عمليتَي التأويل هنا مختلفتان في الطابع، ومن ثم فإن ما زعمه جادامر من أن كل تأويل يتضمن تطبيقًا على الحاضر لا يصدق بحق إلا على التأويل القانوني دون التأويل التاريخي.

وقد قام جادامر بالرد على هذه الاعتراضات في خطاب بِتي قائلًا إنه، في «الحقيقة والمنهج» لا يقترح منهجًا بل يحاول أن يصف ما هو كائن في عملية الفهم، يقول جادامر إنه يحاول أن يفكر خارج التصور العلمي الحديث عن «المنهج» وأن يتأمل في عموميةٍ صريحةٍ ما يجري دائمًا في عملية الفهم، غير أن هذا الرد لم يقنع بِتي الذي أكد أن جادامر قد ضل في ذاتيةٍ وجوديةٍ بلا معايير، وفي مقدمة طبعة ١٩٦٥م من «الحقيقة والمنهج» رد جادامر على بِتي مرة ثانية مؤكدًا هذه المرة على الصبغة غير الذاتية للفهم، ذلك أن المنعطف الأنطولوجي الذي خلقه كتابه (والذي استنكره بِتي) أفضى بجادامر إلى أن ينظر إلى وظيفة «الوعي العامل تاريخيًّا» لا كعمليةٍ ذاتية بل كعمليةٍ أنطولوجية:

«لم أقصد ببحثي على الإطلاق أن أقدم نظرية عامة في التأويل تشتمل على تمييزاتٍ تفسر المناهج المختلفة للأفرع البحثية الخاصة، كما فعل إميليو بتي بإجادة عظيمة، وإنما قصدت أن أستخلص ما هو قائم في جميع طرائق الفهم وأن أبين أن الفهم ليس بأية حال إجراءً ذاتيًّا بإزاء «موضوع» معطى، بل الفهم ينتمي إلى «التاريخ العامل» Wirkungsgeschichte للشيء الموجود، وبالتالي لوجوده.»
نخلص مما سبق أننا أمام تصورين مختلفين غاية الاختلاف حول مجال الهرمنيوطيقا وغرضها، وحول الطابع الجوهري لهذا المبحث كحقلٍ من حقول الدراسة، فالحق أن كلًّا من هذين المفكرين يتبنى تعريفًا مختلفًا للهرمنيوطيقا يرتكز على أساسٍ فلسفي مختلفٍ ويشيد الهرمنيوطيقا لكي تؤدي غرضًا مختلفًا، أما بِتي Betti فهو يبحث (مقتفيًا أثر دلتاي في بحثه عن منهجٍ مؤسسٍ للعلوم الروحية) عما هو عملي ومفيد للمؤوِّل، إنه يريد معايير لتمييز التأويل الصحيح من الخاطئ، وتمييز أصناف التأويل الواحد من الآخر، وأما جادامر فهو يسأل، متقفيًا أثر هيدجر، أسئلةً من قبيل: ما هي الطبيعة الأنطولوجية للفهم؟ أي صنف من اللقاء بالوجود تنطوي عليه العملية التأويلية؟ كيف يدخل التراث، أي الماضي المنقول، في عملية فهم النص التاريخي ويشكل هذه العملية؟ والآن ماذا بوسع المرء أن يقول بصدد هذا الصراع في التعريفات؟

الحق أن هذين الموقفَين ليسا متناقضين تناقضًا تامًّا كما يبدوان للنظرة العجلى! وإنما وَجْهُ الأمر أن كلًّا من المفكرَيْن، جادامر وبِتي، يقوم بعمله على جانب مختلف من جوانب مشكلة التأويل، صحيح أن على المرء في نهاية المطاف أن يتخير أحد المنظورين، فإما المنظور الواقعي وإما المنظور الفينومينولوجي، غير أن بوسعنا أن نعترف أن كلًّا من الموقفين الفلسفيين يسدي للهرمنيوطيقا ككلٍّ خدمةً جليلة ويقدم من زاويته مدخلًا هامًّا إلى المشكلة الهرمنيوطيقية.

(٣) إ. د. هيرش E. D. Hirsch

الهرمنيوطيقا بوصفها منطقًا للتحقق
في عام ١٩٦٧م أصدر هيرش أول رسالة مستفيضة ومكتملة عن الهرمنيوطيقا العامة باللغة الإنجليزية، بعنوان «صحة التفسير» Validity of Interpretation، في عرضٍ منهجيٍّ منظمٍ وقوي الحجة ناهض هيرش بعضًا من الافتراضات الأثيرة لدى النقاد والتي وَجَّهَت التفسير الأدبي نحوًا من أربعة عقود من الزمن، يذهب هيرش على سبيل المثال إلى أن مقصد المؤلف يجب أن يكون المعيار الذي تُقاس به صحة أي «تفسير» (أي شرح وتبيان المعنى اللفظي للفقرة)، هذا المقصد هو كيانٌ محددٌ يمكن أن تُحشد له بينةٌ موضوعية، وبالإمكان حين تتوافر هذه البينة تحديد المعنى، وسوف يكون هذا المعنى مقبولًا على نحوٍ عموميٍّ شاملٍ وسوف يدركه الجميع على أنه معنًى صحيح، هكذا بدا أن حلم دلتاي بتأويلٍ صائبٍ موضوعيًّا هو بصدد التحقيق.
ومن البديهي أن «المعنى اللفظي» للفقرة، كما يحدده التحليل الفيلولوجي المكثف (لكل من العمل وأي بينة خارجية تتعلق بمقاصد الكاتب) و«الدلالة» التي يحملها العمل نفسه في وقتنا الحاضر هما مسألتان مختلفتان تمامًا، بل إن الدعوى الرئيسية التي يطرحها هيرش هي بالتحديد أن ضَمَّ «المعنى الحرفي» و«الدلالة» (المعنى بالنسبة لنا) معًا وبلا تمييز يفتح مجالًا لخلطٍ لا نهاية له، ويذهب هيرش إلى أن هذا المزلق قد وقع فيه جادامر ولاهوتيو الهرمنيوطيقا الجديدة. إن «المعنى» Bedeutung، بلغة إميليو بِتي، يجب أن يبقى بمعزلٍ عن «الدلالة» Bedeutsamkeit وإلا انفرط فقه اللغة وتفسخ ولم يعد بالإمكان الحصول على نتائج موضوعية وصادقة، وهذا التمييز هو أمر أساسي ويتوقف عليه تماسك فقه اللغة وإمكان الموضوعية.

يقول هيرش إن غرض الهرمنيوطيقا ليس العثور على «دلالة» الفقرة بالنسبة لنا اليوم، بل تبيان معناها اللفظي نفسه، فالهرمنيوطيقا هي ذلك الفرع الفيلولوجي المختص بوضع القواعد التي يمكن بها استخلاص المعنى اللفظي للفقرة على نحوٍ موضوعي محدد، ويرى هيرش أن جادامر وأتباع بلتمان قد ارتكبوا خطأً مضاعفًا: فهم أولًا قد انشغلوا بأمورٍ لا صلة لها بالمهمة الحقيقية للهرمنيوطيقا، وهم فضلًا عن ذلك قد تبنوا موقفًا فلسفيًّا بلغ من الغلو والشطط إلى حد التشكيك في إمكان الوصول إلى معنًى قابلٍ للتحديد الموضوعي.

ويمضي هيرش في تبيان حجته فيقول إنه إذا كان معنى الفقرة (أي المعنى اللفظي) متغيرًا لما عاد هناك معيارٌ ثابت نعرف به ما إذا كان تفسير الفقرة يمضي على نحوٍ صحيح، فما لم يميز المرء «الحذاء الزجاجي» للمعنى اللفظي الأصلي الذي كان يعنيه المؤلف، فلن يكون ثمة سبيلٌ نميز به «سندريللا» من بقية الفتيات! يذكرنا ذلك باعتراض بِتي على تأويلية جادامر: أن جادامر لا يقدم مبدءًا معياريًّا راسخًا يمكن أن نحدد به المعنى «الصحيح» للفقرة تحديدًا صائبًا، لقد جعل هيرش المعنى اللفظي الذي عناه المؤلف وقصده وانتواه هو المقياس وهو المحك وهو المعيار، بل إنه يمضي أبعد من ذلك فيصف المعنى اللفظي بأنه ثابتٌ لا يتغير، وبأنه محددٌ وقابل للاستعادة، وفيما يلي فقرة مقتبسة من كتاب هيرش تلقي الضوء على منطقه الخاص في هذه المسألة وتكشف شيئًا من النكهة الأرسطية في عرضه:
لذا عندما أقول بأن المعنى اللفظي شيءٌ محددٌ فإنني أعني أنه كيانٌ وأنه في هويةٍ مع ذاته، وأعني فضلًا عن ذلك أنه كيانٌ يبقى دائمًا هو نفسه من لحظةٍ إلى اللحظة التالية، أي إنه ثابت لا يتغير، والحق أن هذه المعايير متضمنة منذ البداية في مطلبنا الخاص بأن يكون المعنى اللفظي قابلًا للاستعادة والتكرار وأن يكون دائمًا هو نفس الشيء في مختلف أفعال التأويل، المعنى اللفظي إذن هو ما هو وليس أي شيء آخر، وهو دائمًا نفس الشيء، هذا ما أعنيه بكلمة «التحديد» (الذي يتحلى به المعنى اللفظي).٥
الهرمنيوطيقا هنا تأخذ على عاتقها مهمة تزويدنا بتبريرٍ نظري لهذا «التحديد» الذي يتحلى به موضوع التأويل، ومهمة تقديم معايير يمكن بها فهم ذلك المعنى الواحد الثابت المحدد، وبالطبع تشمل المهمة أيضًا أن تقول لنا الهرمنيوطيقا على أي أساسٍ يقع اختيارنا على معنى دون آخر، تلك هي مسألة «الصحة/الصواب» validity. إن الهرمنيوطيقا التي لا تتعرض لقضية الصواب هي في نظر هيرش ليست هيرمنيوطيقا بل أي شيء آخر، وهو، شأنه في ذلك شأن بِتي، يعترض على إغفال التيار الهيدجري في الهرمنيوطيقا أو تجنبه لمسألة «الصواب» التي بدونها لا يكون هناك، ببساطة، علمٌ للتأويل ولا منهجٌ للوصول إلى التأويلات الصحيحة.

أما الزعم القائل بأن الهرمنيوطيقا يجب أن تتعامل مع «دلالة» النص بالنسبة لنا اليوم ومع البُنى أو الآليات التي يصبح بها المعنى اللفظي ذا دلالة خاصة بنا، فهو زعم مرفوض من جانب هيرش؛ لأنه يرى أن هذا الأمر يدخل في مجال النقد الأدبي ويقع داخل نطاق حقول أخرى غير الهرمنيوطيقا، فالهرمنيوطيقا بمعناها الصارم القديم هي «ذلك الجهد الفيلولوجي المتواضع الذي يرمي إلى الوقوف على المعنى الذي عناه المؤلف وقصد إليه»، هذا هو «الأساس السليم الأوحد للنقد» غير أنه ليس نقدًا، إنه تأويل، ولا بأس بأن تفيد الهرمنيوطيقا من التحليل المنطقي والسيرة الذاتية وحتى حساب الاحتمالات (لتحديد التفسير الأكثر احتمالًا من بين عديدٍ من التفسيرات الممكنة) إلا أنها تظل في جوهرها «فقه لغة»، ورغم ذلك، وحتى مع هذا التقليص من نطاق الهرمنيوطيقا، فإنها تظل مبحثًا أساسيًّا يعلن المبادئ العامة لتفسير أي وثيقة مكتوبة سواء كانت وثيقةً قانونية أو دينية أو أدبية، أو حتى في فن الطهي!

والآن ماذا ترى في هذا التعريف للهرمنيوطيقا بأنها ذلك الجهد المتواضع، والأساسي رغم ذلك، لوضع القواعد التي تحدد المعنى اللفظي للفقرة؟ إن أكثر ما يلفت النظر فيه هو ما يحذفه ويتخلى عنه: الهرمنيوطيقا ليست معنيةً بالعملية الذاتية للفهم كما ينادي شلايرماخر ودلتاي، ولا بعقد صلةٍ بين معنًى مفهومٍ وبين الزمن الحاضر (نطاق النقد)، بل معنية بمشكلة الحكم أو الفصل فيما بين معانٍ مفهومةٍ أصلًا من أجل الوقوف على التفسير الصحيح من بين تفسيرات أخرى ممكنة، إنها إرشاد لفقيه اللغة الذي عليه أن يحدد من بين احتمالات عديدة ما هو المعنى الأكثر احتمالًا للفقرة.

مشكلة الهرمنيوطيقا إذن، من وجهة نظر هيرش، ليست مشكلة «ترجمة أو نقل» — أي اجتياز المسافة التاريخية التي تفصلنا مثلًا عن «العهد الجديد» كيما تبزغ دلالة النص بالنسبة لنا اليوم — وإنما مشكلة الهرمنيوطيقا ببساطة هي المشكلة الفيولولجية الخاصة بتحديد المعنى اللفظي الذي يعنيه المؤلف، ومن المؤكد أن هيرش يعرف ويعترف أن وصل النص بالزمن الحاضر هو مشكلةٌ حقيقية، غير أنه ينكر أن تكون هذه المشكلة داخلةً في حقل الهرمنيوطيقا، وهو إذ يتخذ هذا الموقف فإن عليه بالطبع أن يؤكد أن المعنى اللفظي هو شيءٌ مستقلٌّ وثابت ومحدد وبمقدور المرء أن يثبته ويبرهن عليه بيقينٍ موضوعي، مثل هذا التصور عن المعنى اللفظي يرتكز على فروضٍ فلسفية معينة بوسعنا أن نضع عليها أيدينا، وهي فروض «المذهب الواقعي» بالدرجة الأساس، أو ربما فروض هسرل في عمله المبكر «بحوث منطقية» والذي اقتبس منه هيرش قوله بأن الموضوع القصدي الواحد قد يكون محطًّا لأفعالٍ قصدية عديدة مختلفة، ويبقى الموضوع في هذه الحالة هو نفس الموضوع، فكرةً مستقلة أو ماهيةً منفصلة.

غير أننا إذا سايرنا هيرش في نظرته حتى النهاية، واختزلنا الهرمنيوطيقا إلى مجرد مشكلة فيلولوجية، لاضطررنا إلى أن نزيح جانبًا كل هذا التطور المعقد الذي أتى به فكر القرن العشرين بوصفه غير ذي صلة بعملية التعرف الفعلي على المعنى اللفظي، ولأصبحت الهرمنيوطيقا مجرد مجموعةٍ من مبادئ التفسير الفيلولوجية التي يمكن لمدرس اللغة أو رجل الدين أو القانون أن يستخدمها دون أن يكرث نفسه بتطورات القرن العشرين في فلسفة اللغة أو في الفينومينولوجيا أو الإبستمولوجيا أو الأنطولوجيا الهيدجرية، فمن ذا الذي يكترث بهيجل أو هيدجر أو جادامر إذا كان مرامه أن يجمع معلوماتٍ عن «القصد الحقيقي» أو «المعنى اللفظي الثابت» ﻟ Lycidas ملتون، ولكن ماذا عن مشكلة فهم ما يمكن أو ما يجب أن تعنيه Lycidas بالنسبة لنا اليوم؟ ذلك، في رأي هيرش، شأن الناقد الأدبي، وتلك مهمته، غير أن الناقد الأدبي بالطبع «لن يزدري» العمل التكنيكي المتواضع الذي يقوم به «المفسر» — وهو الأساس الوحيد للنقد — حتى إذا كان المفسر منصرفًا إلى المعنى النقي الأصلي الثابت فوق تغيرات الزمن وفوق التاريخ، المعنى الحقيقي المقصود بمعزلٍ عن دلالته لنا اليوم.
ولكن المشكلة الهرمنيوطيقية في حقيقة الأمر ليست مجرد مشكلة فيلولوجية، ولا يمكن بحالٍ أن تحملنا بضعة تعريفاتٍ أرسطية على أن نضرب بكل هذه التطورات الحديثة عرض الحائط، تلك التطورات التي أتت بها نظرية الفهم عند شلايرماخر ودلتاي وهيدجر وجادامر، ناهيك بتلك الإسهامات الرامية إلى تعريف الفهم التاريخي سواء داخل حقل اللاهوت أو خارجه. يزعم هيرش أن المعنى اللفظي منفصلٌ في الحقيقة عن الدلالة ما دمنا نستطيع في واقع الأمر أن نميز ما كان يعنيه المعنى بالنسبة لمؤلفه وما يعنيه بالنسبة لنا، وإلا لاستحال وجود معنى موضوعي قابل للإعادة والتكرار، هذا ما يزعمه هيرش، ولكن هل هذه حجة مقبولة؟ إن حقيقة أن الموضوع الذهني يمكن أن يُرى من زوايا عديدة لا يجعل منه شيئًا ثابتًا أبديًّا، أما الدعوى القائلة باستحالة الموضوعية إذا تخلينا عن ذلك فهي دعوى «دائرية» أي تقع في «دور منطقي» ما دامت إمكانية المعرفة الموضوعية واللاتاريخية هي ذاتها السؤال، غير أن صواب التمييز بين المعنى والدلالة يتوقف عليه صواب نظرية هيرش بأكملها عن«الصواب» Validity! ولكن هل صحيحٌ أن الفهم يعمل بالطريقة الآلية التي يفترضها هيرش؟ أو هل هذا الفصل بين المعنى والدلالة هو عملية تأملية حقًّا قامت «بعد» فعل الفهم؟ ألا يجوز أن يكون هذا الشكل من الهرمنيوطيقا هو في حقيقة الأمر نقد نصي مُقَنَّع، ميثودولوجيا للتمييز تأمليًّا بين فهمٍ وفهم آخر؟
يقينًا أن مثل هذه النظرية الهرمنيوطيقية لا تطرح، بل تفترض مسبقًا، نظريةً في كيف يحدث الفهم نفسه! (وينبغي أن تُسأل عن مدى كفايتها كنظريةٍ في الفهم)، إنها بالأحرى تبدأ بعد الفهم، وكما يلاحظ هيرش: «يبدأ فعل الفهم كتخمينٍ صائب (أو خاطئ)، وليس ثمة مناهج لوضع تخمينات (حدوس) أو قواعد لتوليد استبصارات، إنما يبدأ النشاط الميثودولوجي للتأويل عندما نبدأ في اختبار تخميناتنا ونقدها.» أو كما يقول بطريقة أكثر دقة: «يشتمل مبحث التأويل على كل من حيازة الأفكار واختبارها، ويقوم لا على منهجٍ بناء بل على منطق تحقيق.»٦ فالهرمنيوطيقا عند هيرش لم تعد هي نظرية الفهم بل منطق التحقيق، إنها النظرية التي يتسنى لنا بواسطتها أن نقول: «هذا هو ما كان يعنيه المؤلف وليس ذاك.»

لقد نجح هيرش بامتياز في تحقيق ما يصبو إليه: وهو تشييد نسق واحد للوصول إلى المعاني القابلة للتحقيق الموضوعي، نجح ولكن بأية تكلفة؟ أولًا: لكي يجعل المعنى محددًا فقد ذهب إلى أن المعيار أو المحك يجب دائمًا أن يكون هو مقصد المؤلف، وثانيًا: لكي يجعل هذا المعنى موضوعيًّا فلا بد أن يكون ثابتًا وقابلًا للإعادة، ومن ثم فقد ذهب إلى أن المعنى اللفظي، من حيث هو معنى، هو دائمًا وأبدًا نفس الشيء، ولا شأن له بالمعنى بالنسبة لنا كما نجده في عملية الفهم، ولكن هل هذه الدعاوى مما يمكن قبوله؟ إن كثيرًا منها يرتكز على فروض إبستمولوجية أرسطية بالدرجة الأساس، وعلى نظريةٍ للمعنى يتوجب تبريرها هي ذاتها على أسسٍ فلسفية.

ترى هل أسهمت حقًّا إعادة هيرش لتعريف الهرمنيوطيقا كمنطقٍ للتحقيق في فهم المشكلة الهرمنيوطيقية في اتساعها وتعقدها؟ أو تراها بسطت المشكلة تبسيطًا مفرطًا؟ يرى إيبلنج Ebeling أن «موضوع الهرمنيوطيقا هو حدث الكلمة من حيث هو حدث»، وبذلك تُوغِل الهرمنيوطيقا عميقًا إلى السؤال عن الواقع وعن طبيعة مشاركتنا في اللغة، فماذا حدث لهذه الصيغة من المشكلة الهرمنيوطيقية؟ هي يمكن أن تُترك لمجال آخر من مجالات البحث، مثل فلسفة اللغة؟ إن البساطة التي يتغافل بها هيرش عن متضمنات نظرية الفهم وفلسفة اللغة لتشير بأن التخصيص الضيق الذي يقترحه للهرمنيوطيقا يفتقر إلى الحكمة، وكم تتقلص مشكلة الهرمنيوطيقا وتضيق في مجال اللاهوت مثلًا لو أنها قنعت بمجرد كشف المعنى اللفظي المحتمل للمؤلف! غير أن السؤال يطرح نفسه للتو عن طبيعة المعنى عند القديس بولس مثلًا: هل كان القديس بولس يحاول أن يوصل فهمًا ذاتيًّا جديدًا، أم ماذا؟ هل يمكن أن نجد معايير الحكم في هذا الأمر عند القديس بولس نفسه؟ وإذا زعمنا أن مثل هذه المعايير موجودة فعلًا، فعلى أي أساس يمكننا أن نقرر ما إذا كانت هذه المعايير صحيحة؟ وها نحن قد عدنا أدراجنا إلى الحاضر مرة ثانية، وإن هذه النقطة بالتحديد هي التي تستوجب أن نبرزها ونؤكدها: فحتى المعايير الخاصة بالموضوعية والمعايير اللازمة للموضوعية هي مصنوعة من القماشة التاريخية للحاضر الذي نعيشه. ذلك بعضٌ مما تحمله مشكلة الهرمنيوطيقا من تعقد، ذلك التعقد الذي يتجاهله التعريف الضيق للهرمنيوطيقا ويحثنا دون أن ندري على تجاهله.

هكذا يمضي النزاع في مجال الهرمنيوطيقا، فعلى أحد الجانبين هناك المدافعون عن الموضوعية والتحقق الذين ينظرون إلى الهرمنيوطيقا على أنها المصدر النظري لمعايير التحقيق، وعلى الجانب الآخر هناك الفينومينولوجيون الذين يرصدون حدث الفهم رصدًا فينومينولوجيًّا، ويؤكدون على الطابع التاريخي لهذا «الحدث»، وبالتالي على قصور كل دعاوى «المعرفة الموضوعية» و«الصواب الموضوعي».

١  محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، الطبعة الثانية، ١٩٧٧م، ص١٢٣.
٢  Collingwood, R. G. The Idea of History. Oxford: Clarendon Press, 1946, p. 218.
٣  Richard E. Palmer, Hermeneutics, p. 55.
٤  Ibid., p. 58.
٥  Hirsch, E. D., JR, Validity of Interpretation. New Haven: Yale University Press, 1967. VII 46.
٦  Validity of Interpretation. p. 207.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤